
كيف تقصف اسرائيل المدنيين العزل كأنهم كلّهم جنودا على الجبهة؟
كل جرح يروي حكاية عن الضحية والجاني معًا. لكن جراح الغزّاويين تحمل حكاية أشدّ قتامة تخصّ البشرية جمعاء، وتعرّي من دون رتوش مزاعم النظام الدولي القائم على القواعد، ولا سيما قواعد الحرب والقانون الانساني. فبعد سلسلة واسعة من الادلة الدامغة على ارتكاب اسرائيل الابادة الجماعية في قطاع غزّة، أظهر مسح جديد بالعيّنة ان الاصابات التي يتعرّض لها المدنيين الفلسطينيين تتماثل مع الاصابات التي يتعرض لها الجنود في ميادين القتال، وهذا يعني ان آلة الحرب الاسرائيلية تعاملت مع المدنيين العزّل في مساكنهم وملاجئهم على أنّهم كلّهم جنود على الخطوط الأمامية.
حللّت دراسة مسحية للعاملين في مجال الرعاية الصحية أنماط اصابات الحرب في غزة، من خلال مسح استعادي للسجلات التي وثّقها أطباء دوليون خدموا في القطاع في هذه الحرب. جرى اعتماد هذه المنهجية، اي استعادة ما سجّله الاطباء، لأنّ إسرائيل دمّرت النظام الصحي في القطاع، وأزالت سجلات المرضى والأرشيفات الرقمية وبنى المستشفيات بالكامل. فأصبحت دفاتر الأطباء آخر شواهد توثّق الجرائم التي ارتُكبت بحق الفلسطينيين.
تكشف الإصابات الموثقة في غزة عن «النمط المدني القتالي» الجديد من الصدمات الحربية، وهو نمط إصابات مدنيين لا يمكن تمييزه عن إصابات الجنود في المعارك. هذا التحوّل يرتبط بالاستخدام المنهجي للمتفجرات العسكرية في المناطق الحضرية المكتظة. ومع تدمير أنظمة المراقبة وانهيار القانون الإنساني، ينطلق هذا العنف من دون ضوابط أو مساءلة.
بين آب/أغسطس 2024 وشباط/فبراير 2025، وثّق أطباء دوليون في غزة أكثر من 23,700 إصابة رضّية. ما يميز هذه الجروح ليس عددها الهائل، بل طبيعتها، اذ بيّن المسح انها تشبه الإصابات المسجّلة في كتب الطب العسكري عن ظروف وحالات اصابات الجنود على جبهات القتال، لكن المصابين في غزّة هم مدنيين، أطفالًا وأمهات وشبّان ومسنين.
ما هي ابرز النتائج التي توصلت اليها الدراسة؟
اولا- كانت المتفجرات، لا الأسلحة النارية، هي المحدد الأبرز
فمن بين نحو 7,000 إصابة مرتبطة بالأسلحة، شكّلت المتفجرات ثلثي الحالات تقريبًا (66.6%، أي 4,635 إصابة)، فيما مثّلت الأعيرة النارية 33.4% (2,325 إصابة). تتطابق هذه الأرقام مع إحصاءات مناطق القتال مثل العراق وأفغانستان، حيث واجه الجنود الأميركيون إصابات يغلب عليها أثر المتفجرات، لكن في غزة كان المدنيون هم الضحايا. وقد توزعت إصابات المتفجرات على كامل الجسد: الرأس (1,289 حالة/ 27.8%)، الأطراف السفلية (777 حالة/ 16.8%)، الصدر (650 حالة/ 14%)، البطن (675 حالة/ 14.6%)، والأطراف العلوية (663 حالة/ 14.3%).
أما الإصابات بالرصاص فكانت أكثر تمركزًا، حيث طالت الأطراف السفلية بنسبة كبيرة (526 حالة/ 22.6%) والعليا (363 حالة/ 15.6%). تركّز الإصابات النارية المصحوبة برضوض متعددة يشير إلى تكتيكات متعمدة: إطلاق النار على الحشود، استهداف المدنيين الفارّين، أو الجمع بين إطلاق النار والقصف بهدف القتل الجماعي أو إحداث عجز دائم.
ثانيا- تعدد الاصابات ظاهرة مألوفة في غزّة
يعدّ تعدُّد الإصابات السمة المميزة لطب المعارك. ولكن في غزّة، افاد أكثر من 70% من الأطباء أن مرضاهم من المدنيين يعانون من جروح تمتد إلى أكثر من منطقة تشريحية واحدة. كانت هذه الصور المتعددة الإصابات متوقعة لدى الجنود المعرضين لعبوات ناسفة، أما في غزة فقد ظهرت في اماكن مدنية تفتقر إلى الجراحة التخصصية ومخزون الدم وخدمات التأهيل.
ثالثا- سجّلت الحروق قفزة غير مسبوقة
بلغت 4,348 حالة حروق (18.3% من جميع الإصابات الرضّية)، لتصبح النوع الأكثر شيوعًا من الإصابات، متجاوزة النسب المسجلة في الحروب السابقة (≤11%). ما يقارب الثلث من هذه الحروق كان حروقًا عميقة تصل إلى العضل والعظم، ما يتسق مع استخدام ذخائر حارقة مثل الفوسفور الأبيض والمتفجرات الحرارية التي تلتهم الأوكسجين وتفجر كرات نارية في الأماكن المغلقة. في سوريا خلّفت البراميل المتفجرة والأسلحة الحرارية مشهدًا مشابهًا من الحروق، لكن نسب غزة تجاوزت كل الصراعات التي سبقت.
رابعا- إصابات الأطراف وبترها شكّلت نمطًا مدمرًا آخر
شكّلت إصابات الأطراف السفلية 17.9% من مجموع الحالات (4,258 إصابة)، والعليا 14.9% (3,534 إصابة). وفي غياب جراحة الأوعية، لم يكن هناك خيار سوى البتر. في أوكرانيا أُجريت آلاف عمليات البتر خلال حصارات المدفعية، لكن كانت هناك أطراف صناعية وشبكات تأهيل. أما في غزة، فالبتر يعني عجزًا دائمًا بلا أفق لإعادة التأهيل.
خامسا- إصابات الرأس كانت بارزة أيضًا
أكثر من 2,300 حالة (9.7%) شملت إصابات دماغية منتشرة أو نافذة. في طب المعارك، هذه الإصابات متوقعة لدى الجنود المزوّدين بخوذ قرب مناطق الانفجار؛ أما في غزة فقد أصابت مدنيين عزلًا، بلا اي حماية او دعم او اسعاف.
إخفاء الجريمة
إنّ تدمير النظام الصحي في غزة لم يقتل الأرواح فقط، بل محا أيضًا الأدلة على جرائم إسرائيل. فقد طُمست مع المستشفيات التي تحوّلت إلى أنقاض، السجلات الورقية والملفات الرقمية، لتُباد قاعدة بيانات المرضى جنبًا إلى جنب مع الضحايا، ماحيةً بذلك أي سجل منهجي للإصابات. ومع انقطاع الاتصال وتطبيق أدوات المراقبة الطارئة التابعة لمنظمة الصحة العالمية بشكل متقطع، خلق العدوان نقصا في البيانات الطبية.
حتى دراسة BMJ اضطرت إلى اعتماد أساليب بديلة، إذ اعتمدت على دفاتر يومية لأطباء دوليين أعادوا لاحقًا بناء الحالات من الذاكرة. وهكذا تصبح الإحصاءات نفسها جزءًا من القصة: شذرات أنقذت من التعتيم. إنّها سياسة إسرائيلية مقصودة لتدمير الأدلّة وإخفاء الجريمة. فعندما تُمحى السجلات، تختفي معها الأرقام التي تثبت حجم الأذى المدني. كان التعتيم منهجيًا ليضمن إفلات إسرائيل من العقاب، فلا يبقى سوى الأجساد الفلسطينية كشاهد وحيد.
انهيار حدود القانون الدولي
يرتكز القانون الإنساني الدولي على مبدأ التمييز: يمكن استهداف المقاتلين الفاعلين، لكن يجب حماية المدنيين. في غزة، انهار هذا المبدأ تمامًا. جعل الاستخدام المنهجي للمتفجرات عالية القدرة في المناطق المكتظة بالسكان كل فصل بين المقاتل والمدني مستحيلاً. وقد طبّقت إسرائيل المعيار الفضفاض نفسه في هجومها بالبيجر على مقاتلين لبنانيين خارج الخدمة ومدنيين معًا.
أصبحت المستشفيات، المحمية بشكل صريح بموجب اتفاقيات جنيف، هي نفسها أهدافًا مباشرة: فحتى أيار/مايو 2025، قُتل أكثر من 1,500 من الكوادر الصحية الفلسطينية ودُمّرت عشرات المستشفيات. هذه الهجمات لا تقتل مباشرة فحسب، بل تحرم الجرحى من حقهم القانوني في الرعاية الطبية وتطمس الأدلة على جرائم الحرب الإسرائيلية.
إذا كانت الإبادة الجماعية في الحرب العالمية الثانية قد أنشأت الإطار القانوني لحماية المدنيين، فإن الإبادة الجماعية في غزة قد نسفته.
لم يحمِ القانون الإنساني المدنيين في غزة
على مدى عامين، أُطلقت أكثر الأسلحة تطورًا وتدميرًا في الحروب المفتوحة بشكل منهجي ضد سكان محاصرين من المدنيين، من دون أي مساءلة. والأدلة منقوشة في أجسادهم: حروق تلتهم أطرافًا كاملة، إصابات في الرأس من متفجرات عالية القدرة، وبتر مفروض بسبب غياب الرعاية الجراحية. إنّها نتيجة متعمدة لتكنولوجيا عسكرية استُخدمت في فضاءات لا يملك المدنيون فيها أي مهرب.
تُظهر دراسة BMJ أنّ مدنيي غزة باتوا يحملون جروح الجنود. لكن على عكس المقاتلين، فهم عُزّل، غير محميين، ومحرومون من المستشفيات العاملة أو أنظمة إعادة التأهيل. إصاباتهم برهان على أنّ ساحة المعركة في غزة لم تكن يومًا خطوط الجبهة، بل نسيج الحياة المدنية نفسه.
إنّ الإبادة في غزة تكتب فصلًا جديدًا في تاريخ الحروب، فصلًا يُعتبر فيه كلّ مدنيّ مقاتل.