
كيف يحلّل J.P.Morgan خطط توزيع الخسائر المصرفية في لبنان وتأثيراتها على سندات اليوروبوندز؟
الترتيبات التي اتخذها مصرف لبنان والبنوك التجارية في السنوات الست الماضية، بما في ذلك عمليات قصّ الشعر غير النظامية للودائع والحيل المحاسبية في ميزانية البنك المركزي، أسفرت عن تخفيض تقديرات حجم خسائر القطاع المصرفي في لبنان. ووفق تحليل لشركة الخدمات المالية J.P. Morgan، يجري الاعتراف الآن بخسائر مُحققة في الجهاز المصرفي اللبناني تتراوح ما بين 50 مليار و55 مليار دولار، أي أقل بنسبة 30% تقريباً من التقديرات السابقة (75 مليار دولار) التي أعقبت انهيار المصارف في خريف العام 2019. يقوم هذا التحليل بتتبع الخطط المسرّبة لإطفاء هذه الخسائر، وكيفية توزيعها بين الدولة وأصحاب الودائع وتأثيراتها على إعادة هيكلة سندات دين الحكومة اللبنانية بالعملات الأجنبية (يوروبوندرز) البالغة نحو 45.6 مليار دولار. ويخلص إلى أن الخطط الحالية تحاول التوفيق بين ضغوط المصرفيين للحصول على إنقاذ حكومي، أي استخدام المال العام لإنقاذ ما يمكن من مصارفهم والودائع المترتبة عليها، وتحفّظات صندوق النقد الدولي على أي توسّع في الإنفاق العام وزيادة الحاجات التمويلية لا يأخذ بالحسبان شروط استدامة خدمة الديون القائمة، بعد إعادة هيكلتها، وخدمة الديون الجديدة التي سيوفرها الصندوق مباشرة أو بغطاء منه.
يُستنتج من هذا التحليل أن المعادلة القائمة اليوم، التي تحكم الخطط المتداولة، تجاوزت مرحلة الصراع على توزيع الخسائر، فقد جرى الإقرار بنقل جزء من خسائر المصارف ومصرف لبنان إلى الدولة، أي عموم السكان، ولكن هناك قدرة محدّدة للدولة لا يمكن تجاوزها، إذ أن شطب 65% من سندات اليوروبوندز، أو أقل من 30 مليار دولار، يُبقي سندات بقيمة 16 مليار دولار واجبة السداد، بالإضافة الى خدمة قرض جديد بقيمة 3 مليارات دولار ستحصل عليه الدولة من صندوق النقد الدولي في سياق إعادة هيكلة الدين العام، وقروض غير مُحدّدة سيضطر لبنان لعقدها من أجل تمويل إعادة الإعمار، وبالتالي لا تبقى سوى مساحة ضيقة لتمويل حاجات الدولة السنوية والمساهمة في إنقاذ المصارف والودائع، فكلما ارتفعت مساهمة الدولة في خطط استرداد الودائع ستنخفض نسبة استرداد اليوروبوندز في خطط إعادة الهيكلة، والعكس صحيح، وفي الحالتين يدفع سكان لبنان أثماناً باهظة بسبب التقشّف الذي تفرضه هذه الخطط من أجل تأمين أكبر عملية إنقاذ للمصرفيين والدائنين معاً.
ينطلق تحليل الشركة المالية الأميركية (J.P. Morgan)، التي سبق لها أن شاركت في إصدارات الحكومة اللبنانية من سندات الدين (آخرها في العام 2017)، من أن السلطات اللبنانية تعمل بجدّية على إيجاد تسوية مع المصارف ومصرف لبنان لمعالجة الخسائر المُحققة في الجهاز المصرفي، أو ما يُسمّى الفجوة المالية، بغية التوصّل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي في الأشهر القليلة المقبلة. فبعد إقرار قانونين من أصل 3 قوانين أساسية كان الصندوق يطلب من البرلمان إقرارها قبل بدء المفاوضات (وهما قانون «السرية المصرفية» وقانون «تنظيم المصارف»)، تقوم السلطات حالياً بإعداد «قانون الفجوة المالية» المخصّص لمعالجة خسائر القطاع المصرفي وموازنة حسابات مصرف لبنان. لم يُنشر النص الرسمي للقانون، حتى الآن، لكن بحسب J.P. Morgan، يمكن استخراج خلاصات عدّة من النسخات المُسرّبة، عن الاتجاه الذي تسلكه السلطات اللبنانية لمعالجة الجزء الأكبر من الخسائر، إذ يبدو أن السلطات اللبنانية أقرّت بحتمية فرض اقتطاع كبير على ودائع المودعين. ومن المتوّقع أن تصدر مسودة عن القانون قبل أو بالتزامن مع انعقاد الاجتماعات السنوية لصندوق النقد الدولي في تشرين الأول/أكتوبر المقبل، تمهيداً لتوقيع اتفاق جديد على مستوى الموظّفين في خلال الربع الأول من العام 2026 على قرض بقيمة 3 مليارات دولار يمتدّ على 4 سنوات.
تسعى الحكومة اللبنانية الى الخضوع لبرنامج تمويل مشروط مع صندوق النقد الدولي، يمكّنها من إعادة هيكلة الدين العام ودعم ميزان المدفوعات، ولكن الصندوق يشترط عليها أن تبيّن ذمّتها المالية مسبقاً، أي أن تثبت له أن بمقدورها تسديد قروضه وجميع الاستحقاقات التي ستُفضي إليها إعادة الهيكلة.
كما يسعى الصندوق إلى تقليل أي مشاركة مالية للحكومة بإنقاذ المصارف، ما يعني توسيع الاقتطاعات من الودائع وإعادة هيكلة أعمق للقطاع المصرفي، إلا أن البنوك تسعى للحصول على بعض الإنقاذ الحكومي. لذلك يتبنّى تحليل J.P. Morgan، بشكل متحفّظ، حلاً وسطاً ينطوي على مزيج من الإنقاذ الحكومي وتوزيع الخسائر على المودعين. ولو أنه يعتقد بأن الحكومة لا تملك حيزاً مالياً كافياً لدعم المصرف المركزي، وأن إعادة هيكلة أوسع عبر الاقتطاعات من الودائع تبدو الخيار الأجدى.
أولاً - خسائر مصرف لبنان
يقدّر J.P. Morgan خسائر مصرف لبنان بنحو 48 مليار دولار، من ضمنها 45 مليار دولار ناتجة عن خسائر العمليات المالية السابقة، أو ما يُعرف بالهندسات المالية، وهي مُسجلة في جانب الأصول بدلاً من إظهارها كرأسمال سلبي، لا سيما في بنود مثل قروض القطاع العام (16.5 مليار دولار) وتعديلات تقييم سعر الصرف (27 مليار دولار) وعمليات مؤجلة (2 مليار دولار)، فضلاً عن 3 مليار دولار خسائر متوقعة بعد إعادة هيكلة سندات اليوروبوندز التي يحملها مصرف لبنان.
94 مليار دولار هي قيمة المطلوبات، أو الديون المتوجبة، على مصرف لبنان، من ضمنها 79 مليار دولار ودائع للمصارف بالعملات الأجنبية، أي 84% من مجمل المطلوبات. ولكن مصرف لبنان لا يملك في المقابل أصولاً كافية، سوى 11.5 مليار دولار احتياطي بالعملات الأجنبية. في حين أن احتياطي الذهب الذي يقدّر حالياً بنحو 30.5 مليار ممنوع التصرّف به بأي شكل من الأشكال إلا بقانون يصدر عن مجلس النواب. ومع احتساب الاحتياطين فهما لا يغطيان سوى 45% من مجمل المطلوبات، أمام بقية الأصول التي يمتلكها البنك المركزي فهي عبارة عن خسائر كان يخفيها مصرف لبنان منذ سنوات طويلة، تحت بنود وهمية.
ثانياً - كيف ستجري تصفية الخسائر؟
وفق تحليل J.P. Morgan، يدور الخلاف الأساسي حالياً على كيفية التعامل مع خسائر تكبّدها مصرف لبنان من عملياته السابقة، إلا أنه سجّلها ضمن بند «قروض القطاع العام»، الذي ظهر فجأة في ميزانيته المنشورة في 15 شباط/ فبراير 2023، وبلغت قيمة هذه القروض نحو 16.5 مليار دولار. هكذا، ببساطة شديدة تم ترتيب دين على الدولة بالعملة الأجنبية بعدما كانت قد سدّدته سابقاً بالعملة اللبنانية إلى مصرف لبنان.
حتى الآن، لا تعترف الحكومة رسمياً بأي ديون بالعملات الأجنبية لصالح مصرف لبنان، سوى 5 مليارات دولار من سندات اليوروبوندز. وبحسب J.P. Morgan إن الاعتراف الكامل بهذه «القروض» سيعني ضربة لاستدامة ميزانية الدولة خصوصاً أنها تشكّل نحو 55% من الناتج المحلي الإجمالي، أمّا شطبها بالكامل بحسب اقتراح صندوق النقد، فيعني شطب ما يوازيها من الودائع.
لذلك يقضي السيناريو الأقرب للواقع التفاوضي الداخلي، وفق تحليل J.P. Morgan، أن يتم شطب 9 مليارات دولار من قيمة هذه القروض على أن تدفع الدولة الجزء المتبقي منها (نحو 8 مليارات دولار) على مدى 15 عاماً ليتم تسديدها للمودعين، بالإضافة إلى ذلك، ستدفع الدولة نحو 2 مليار دولار عبر إعادة هيكلة سندات اليوروبوندز، أي أن الدولة ستتحمل ديوناً بقيمة 10 مليارات دولار للمساهمة في تمويل عملية الإنقاذ الداخلي للمصارف، ما يُبقي نحو 41 مليار دولار من المطلوبات على مصرف لبنان تحتاج إلى معالجة، وليس هناك من طريقة لذلك سوى شطبها من ودائع المصارف، التي تشكّل 90% من مجمل المطلوبات.
ثالثاً - كيف يتأثّر حاملو سندات اليوروبوندز؟
من الواضح أنه كلّما تراجع الاعتماد على الموارد العامّة في التسوية النهائية للخسائر المصرفية، كلّما ازدادت احتمالات إخضاع سندات اليوروبوندز لنسبة أقل من الهيركات، لتحقيق استدامة الدين العام وفق شروط صندوق النقد الدولي.
مع محو الدين المحلّي تقريباً بفعل التضخّم وتحرير سعر الصرف، باتت سندات اليوروبوندز (تبلغ قيمتها حوالي 45.6 مليار دولار من ضمنها 31.3 مليار أصل دين و14.3 مليار فوائد متراكمة) تمثل أكثر من 93% من الدين العام اللبناني، وهي بالتالي خط الدين الأساسي القابل لإعادة الهيكلة. لتحقيق استدامة الدين، أي تخفيض نسبته من الناتج المحلي وجعله متوافقاً مع قدرة الحكومة على سداده من دون أي تخلّف، يتوقع J.P. Morgan إجراء هيركات بنسبة 65% على أصل الدّين والفوائد المُتراكمة من سندات اليوروبوندز، على أن يتم التعامل مع القيمة المتبقية منها باستبدالها بإصدار 3 سندات جديدة مُستحقة في الأعوام 2036 و2039 و2041 بفوائد متدرجة تبدأ من 3.5% وتصل إلى 7.75%، بالإضافة إلى إصدار سند جديد بصفر فائدة يستحق في العام 2036 مع تسديد سنوي متدرّج. ومن شأن هذا السيناريو أن يخفّض نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى 82% بحلول نهاية العام 2026، مع مسار تنازلي نحو 65% بنهاية فترة التوقعات.
رابعاً - من يدفع الثمن؟
إن سعي الحكومة لإنقاذ المصرفيين والدائنين سيكون على حساب مجمل المواطنين بطبيعة الحال. يعتقد J.P. Morgan أن القدرة على تسديد ما يتبقى من سندات وودائع بعد إجراء الهيركات، يرتبط بالقدرة على الحدّ من الاحتياجات التمويلية الإجمالية للحكومة، أي ما ستنفقه فعلياً على البنية التحتية والخدمات العامة والحماية الاجتماعية والدفاع والأمن.
تدير الحكومة فائضاً أولياً بسيطاً في الموازنة العامة. والفائض الأولي هو الفارق بين الإيرادات التي تجبيها الحكومة والنفقات التي تنفقها من دون خدمة الدين، فإذا كان عاجزاً فذلك يعني أن الدولة تنفق على مواطنيها أكثر ممّا تحصله منهم، وإذا كان إيجابياً فذلك يعني أن الحكومة تحصّل ضرائب من مواطنيها أكثر مما تنفقه عليهم. بين عامي 2022 و2025، حقّق لبنان فائضاً أولياً إيجابياً بمعدل 0.2% من مجمل الناتج المحلي، إلا أن J.P. Morgan يتوقّع أن يفرض صندوق النقد فائضاً أولياً مشدّداً (باستثناء احتياجات الإعمار) على مدى البرنامج، بحيث لا تتجاوز التمويلات الحكومية الجديدة متوسط 5% من الناتج المجلي الإجمالي في خلال فترة البرنامج وأن لا تتجاوز 7% بعده، وهو ما يعني المزيد من التقشّف في الإنفاق على وظائف الدولة الاقتصادية والاجتماعية وتحميل المواطنين تبعات هذا التقشّف.