معاينة كيف اخترع كيف اخترع مصرف لبنان فوائض دفترية في ميزان المدفوعات من سعر الليرة وسعر الذهب؟

كيف اخترع مصرف لبنان فوائض دفترية في ميزان المدفوعات من سعر الليرة وسعر الذهب؟

يعلن مصرف لبنان المركزي عن فائض كبير في ميزان المدفوعات اللبناني، بلغ  8.9 مليار دولار أميركي في الأشهر السبعة الاولى من هذا العام (حتى نهاية تموز/ يوليو 2025)، بالإضافة إلى فائض بقيمة 6.4 مليار دولار في العام الماضي بأكمله، وفائض بقيمة 2.2 مليار دولار في العام 2023. أي ما مجموعه 17.5 مليار دولار كسبها الاقتصاد اللبناني من الخارج في أقل من 3 سنوات.

هل هذا صحيح؟ هل عاد لبنان بالفعل إلى تحقيق فوائض في ميزان المدفوعات بعد 12 سنة من العجوزات المتتالية بين عامي 2011 و2022؟

في الواقع، هذا غير صحيح جملة وتفصيلاً، ليس لأن أرقام مصرف لبنان لا تعكس الحصيلة الحقيقية لميزان المدفوعات، بل لأن الطريقة التي يعتمدها لاحتساب هذه الأرقام تسمح له بالتلاعب بالحقيقة. وهو يفعل ذلك باستمرار، فعلها سابقاً ويفعلها اليوم. 

فيما يلي 3 توضيحات ضرورية تساعد في فهم الدوافع وراء التلاعب بأرقام ميزان المدفوعات.

كيف اخترع كيف اخترع مصرف لبنان فوائض دفترية في ميزان المدفوعات من سعر الليرة وسعر الذهب؟

1. ماذا يعني «ميزان المدفوعات»؟ ولماذا هو مؤشّر مهم؟

يقيس ميزان المدفوعات الحصيلة النهائية لمجمل معاملات المقيمين في البلد مع غير المقيمين فيه، أي مع الخارج، في فترة زمنية معينة، كل شهر أو كل سنة. بتعبير آخر، يرصد ميزان المدفوعات مجمل الأموال (بأي عملة كانت) التي تدخل إلى البلد والتي تخرج منه (لأي غرض كان سواء للتجارة أو خدمة الديون الأجنبية أو التحويلات أو الاستثمار أو تدفّقات النقد والذهب أو هروب الرساميل والودائع... إلخ). فاذا سجّل فائضاً فهذا يعني أن الأموال التي دخلت إلى البلد كانت أكثر من الأموال التي خرجت منه، والعكس إذا سجّل عجزاً. 

إذاً، ميزان المدفوعات يجب أن يعكس الحصيلة النهائية للمعاملات التي جرت بالفعل بين لبنان والخارج، وترتّب عليها مدفوعات حقيقية بأي شكل كانت. وهذا مهم لإدارة السياسات ومواجهة المخاطر، فالعجز الكبير والمتواصل في ميزان المدفوعات يستنزف الاحتياطات بالعملات الأجنبية ويضغط على سعر صرف العملة المحلية، وهو ما يحصل في لبنان منذ العام 2011، وساهم في الانهيار في خريف العام 2019.

وفق طريقة حساب مصرف لبنان، بقي ميزان المدفوعات اللبناني يسجّل فوائض سنوية (ما عدا في سنوات قليلة مُتفرّقة)، بلغ مجموعها التراكمي بين عامي 1990 و2010 (20 سنة) نحو 28.6 مليار دولار، ما عدّ في السابق بمثابة العجيبة التي يقوم بها النموذج الاقتصادي اللبناني. انقلبت الآية اعتباراً من العام 2011 لأسباب كثيرة، بنيوية وظرفية، إذ بدأت الرساميل والودائع الكبيرة بالهروب من لبنان، بالتزامن مع استمرار تزايد الاستيراد وارتفاع خدمة الديون الخارجية، بما فيها ودائع غير المقيمين وتوظيفات المضاربين، فضلاً عن تباطؤ النمو الاقتصادي وانكماشه اعتباراً من العام 2018  وتدهور التنافسية إلى مستويات متدنّية جدّاً. ما أسفر عن عجز سنوي متراكم في ميزان المدفوعات للمرّة الأولى في تاريخ لبنان منذ الاستقلال، وبلغ مجموعه التراكمي بين عامي 2011 و2022 نحو 34.5 مليار دولار. أي أن العجز المتراكم في العقد الأخير استنزف كلّ الفوائض المُحقّقة في العقدين اللذين سبقاه وأكثر، وشكّل مصدراً مهماً من مصادر الازمة القائمة في لبنان، وجعله مدمناً على الدولار.

2. ما هي الطريقة التي يعتمدها مصرف لبنان لاحتساب ميزان المدفوعات؟

يرصد مصرف لبنان ميزان المدفوعات عبر رصد التغيّرات في صافي الأصول الأجنبية لدى البنك المركزي والبنوك والمؤسسات المالية الأخرى، أي عبر قياس ارتفاع أو انخفاض قيمة موجودات الجهاز المصرفي بالعملات الأجنبية، سواء كانت نقداً أو ودائع أو سندات أو ذهباً أو أي شيء يمكن أن يصنّفه أصولاً أجنبية.

تفترض هذه الطريقة أن معظم المعاملات المالية بين المقيمين وغير المقيمين تمرّ عبر الجهاز المصرفي، ويمكن رصدها عبر رصد قيمة أصوله الأجنبية (أي الأصول بالعملات الأجنبية)، ولكن في ظروف لبنان، لا يوجد رصد للأشكال والوسائل والطرق المختلفة التي تسلكها حركة التجارة والأموال عبر الحدود، وبالتالي لا تعكس هذه الطريقة سوى التغيّرات الدفترية في ميزانيات البنك المركزي والبنوك والمؤسسات المالية، بما فيها التغيّرات التي لا تنطوي على أي عمليات فعلية.

يمكن بسهولة ملاحظة أن ثلاثة أرباع فوائض ميزان المدفوعات التي تظهر في أرقام مصرف لبنان مصدرها تغيّر سعر الصرف المعتمد في احتساب الارقام من 1507.5 ليرات إلى 15 ألف ليرة وإلى 89 ألف و500 ليرة حالياً، وتغيّر سعر الذهب في الأسواق العالمية من نحو 1800 دولار إلى أكثر من 3600 دولار للأونصة. أي أن فوائض المليارات في ميزان المدفوعات التي يعلنها مصرف لبنان لم تتحقّق في الواقع وإنما على الدفاتر.

3. كيف يحصل التلاعب بالأرقام؟ 

اعتباراً من كانون الثاني/يناير 2024، بدأ مصرف لبنان يحتسب ضمن صافي أصوله الأجنبية فوارق سعر الذهب المحققة في ميزانيته بسبب ارتفاع أسعار الذهب في الأسواق العالمية في الفترة المحددة، وبالتالي، باتت فروقات أسعار الذهب تظهر في ميزان المدفوعات كما لو أن قيمتها تحققت بالفعل، في حين أن القانون يحظّر بيع أصول مصرف لبنان الذهبية. 

بهذه الطريقة، ازدادت الأصول الأجنبية لدى مصرف لبنان نحو 13.4 مليار دولار منذ تطبيق هذا التعديل على طريقة الحساب، منها 11.7 مليار دولار جاءت من فروقات أسعار الذهب في الأسواق العالمية منذ أول العام 2024 حتى آخر شهر تموز/ يوليو 2025، أي أن أكثر من 76% من مجمل الفوائض التي تزعم أرقام مصرف لبنان تحقيقها في ميزان المدفوعات هي مجرد أرقام تحركت بتحرّك الأسعار من دون أن يكون لها أي انعكاس فعلي على ميزان المدفوعات، طالما أن مصرف لبنان ليس بمقدوره التصرّف بالذهب «إلّا بقانون يصدر عن مجلس النواب».

وفق تقرير بنك «عودة» للفصل الثاني من العام 2025، إذا تم استبعاد تغيّرات سعر الصرف وسعر الذهب، أي التعامل معهما كسعرين ثابتين لم يتغيرا، فان ميزان المدفوعات يكون قد سجل فوائض بقيمة 400 مليون دولار في العام 2023، و1.4 مليار في العام 2024، و1.9 مليار دولار في الاشهر الخمسة الأولى من هذا العام. أي أن الفائض الحقيقي في هذه الفترة هو 3.7 مليار دولار، وليس 17.5 مليار دولار كما يظهر في أرقام مصرف لبنان.

طبعاً، اعتمد قسم الأبحاث في بنك «عودة» الطريقة نفسها التي كان مصرف لبنان يعتمدها قبل التعديل الأخير في كانون الثاني/ يناير 2024، وبالتالي هي أيضاً لا تعكس الحركة الفعلية عبر الحدود، ولكنها تعكس ارتفاع قيمة الأصول الأجنبية المسجّلة في ميزانيات الجهاز المصرفي، وهي بمعظمها نتجت من مشتريات البنك المركزي والبنوك للدولار وزيادة ودائع الفريش دولار والتوظيفات المنتجة في الخارج.

4. لماذا هذا مهم؟

لا يوجد مبرر لإدراج فروقات أسعار الذهب كما لو أنها «دخل» محقق بالعملات الأجنبية إلا في سياق التحضير لمدّ اليد على الذهب. هناك عمل جار لتحضير الأرضية لإصدار قانون يجيز لمصرف لبنان التصرّف بجزء من احتياطي الذهب. الفكرة التي يجري تسويقها ترمي إلى تثبيت قيمة معينة للاحتياطي الذهبي والإجازة لمصرف لبنان بالتصرّف بالذهب ضمن هامش الأسعار الذي يفوق هذه القيمة.

يحتفظ لبنان في البنك المركزي بنحو 9.2 ملايين أونصة من الذهب. تقدّر قيمتها الآن بأكثر من 33 مليار دولار بالأسعار الجارية، إلا أن ثلث هذا الاحتياطي موجود في لبنان وتحت سيطرة الدولة اللبنانية، أمّا الثلثين فهما تحت سيطرة الولايات المتحدة، ولا يمكن تحريكهما إلا بمشيئتها. وفي سياق ترويج المبررات للتصرّف بجزء من الاحتياطي، يشير تقرير بنك «عودة» نفسه إلى أن لبنان يمتلك حالياً أعلى نسبة من احتياطيات الذهب إلى الناتج المحلي الإجمالي في العالم، وهي تقارب 100% في مقابل متوسط عالمي يناهز 4%.