تضحيات أقل للأغنياء يعني تقشّفاً أكثر للجميع
«لا يجوز عقد قرض عمومي ولا تعهّد يترتّب عليه إنفاق من مال الخزانة إلّا بموجب قانون».
المادة 88 من الدستور اللبناني
فجأة، ظهرت قروض جديدة بالعملة الأجنبية على الحكومة اللبنانية، تمّ تسجيلها، للمرّة الأولى، في ميزانية مصرف لبنان المنشورة في 15 شباط/ فبراير 2023، وبلغت قيمتها نحو 16.5 مليار دولار. هكذا، بسحر ساحرٍ، تمّت تعبئة خانة فارغة منذ سنوات بعيدة، تحمل عنوان «قروض للقطاع العام»، بمبلغ ضخمٍ دفعة واحدة، يساوي أكثر من 80% من الناتج المحلّي الإجمالي المُقدّر لعام 2022، ويمثّل زيادة بنسبة 40% على الديون الحكومية القائمة بالعملة الأجنبية في نهاية 2022.
هذه القروض لم يُجزْها قانون، ولم تتضمّنها أي موازنة عامّة، ولم يردْ ذكرها في أي بيانات أو وثائق ذات طابع رسمي، ولم يكن لها وجود في أي حساب للدَّيْن العام في أي وقتٍ من الأوقات، ومن أي جهةٍ من الجهات المحلّية والخارجية، بما فيها مصرف لبنان نفسه!
سوف نحاول في هذا التحقيق البحث عن حكاية تذهب حبكتُها أبعد من اعتبار ما جرى مجرّد تلاعب محاسبي في ميزانية مصرف لبنان، لا يقدِّم ولا يؤخِّر في الواقع المأزوم أصلاً، وأبعد من اعتبار السحر الأسود الذي يمارسه البنك المركزي مجرّد عرض بهلواني لم يعدْ يسلّي أحداً.
تنطلق حكايتنا من فرضية تقول إنّ الذين يديرون «النظام» يدركون، على مضضٍ، أن شكلاً من إلغاء الديون العامّة والخاصّة لا مفرّ منه وهو أمر واقع. وبالتالي، يدور جانب من الصراع الحقيقي على الشكل الذي سوف يتّخذه الإلغاء: فكلّما نجح الأغنياء بتقليل تضحياتهم سوف يعني ذلك تقشّفاً أكثر على الجميع، والعكس هو الصحيح.
يعرف الفاعلون جميعهم، ومنهم مصرف لبنان والمصارف وسائر الدائنين وعلى رأسهم المودعين، أنّ الدولة اللبنانية ليست قادرة على خدمة ديونها القديمة بالعملات الأجنبية، أو الجزء الأكبر منها. وبالتالي، يصبح السؤال: ما الذي رمى إليه حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بخطوته الأخيرة؟ وماذا تعني إضافة ديونٍ جديدة على ديون قديمة هالكة وغير قابلة للسداد على المدى المنظور؟
إنّ إضافة 16.5 مليار دولار إلى الديون الحكومية بالعملات الأجنبية يرفعها إلى أكثر من 57.3 مليار دولار، بالإضافة إلى 92 تريليون و147 مليار ليرة ديوناً بالعملة المحلّية (وفق آخر إحصاءات مُتاحة في تشرين الثاني/أكتوبر 2022). ما يعني أن الديون الخارجية المُترتبة على الدولة (من دون الديون المُترتبة على مصرف لبنان) باتت تشكّل أكثر من 285% من الناتج المحلّي الإجمالي، وهذه النسبة تضع لبنان في المراتب الأولى لأعلى المديونيات الخارجية في العالم. كما تجعل خدمة الدَّيْن (تسديد الأقساط والفوائد) مستحيلة في ظروف لبنان. لذلك، نفترض أنّ زيادة الديون الحكومية في ميزانية مصرف لبنان هدفها فرض أمرٍ واقع، عبر تحميل جزء أكبر من الخسائر المُحقّقة في الجهاز المصرفي للدولة، ونقل نحو 28% من الخسائر الظاهرة في ميزانية مصرف لبنان إلى الموازنة العامّة، تمهيداً لإدراجها في إعادة هيكلة الديون الحكومية وتكبير حجم الديون التي سوف تلتزم الحكومة بمواصلة خدمتها على حساب جميع السكّان، الذين سوف يضطرون لسنواتٍ طويلة مُقبلة إلى تسديد المزيد من الضرائب والتخلّي عن المزيد من الأصول العامّة والخضوع للمزيد من التقشّف في الإنفاق العام على الصحّة والتعليم والخدمات العامة والبنية التحتية.
الليرة كوحدة حساب احتيالية
في 15 شباط/ فبراير الماضي، نشر مصرف لبنان كعادته بيانه الموجز نصف الشهري عن ميزانيته العمومية المؤقّتة. وكان قد سبق ذلك، في الأول من الشهر نفسه، تطبيق قرار اتخذه حاكم مصرف لبنان رياض سلامة يقضي باحتساب أرقام هذه الميزانية على سعر صرف الليرة اللبنانية في مقابل الدولار الأميركي يبلغ 15 الليرة بدلاً من 1507.5 ليرات، أي خفض السعر الرسمي الثابت لليرة بنسبة 90% دفعة واحدة، بعد ربع قرنٍ من اعتماده، وبعد أكثر من 3 سنوات ونصف السنة على انهياره في منتصف العام 2019، وبعد بلوغ السعر في سوق التداولات الحقيقية (مطلع آذار/ مارس 2023) نحو 90 ألف ليرة للدولار الواحد، أي أكثر بست مرّات من السعر الرسمي الجديد، وأكثر بستين مرّة من السعر القديم.
طبعاً، لا يشكّل سعر صرف الليرة الجديد سوى أقلّ من 17% من السعر المتداول في السوق الحقيقية. وبالتالي، لم يكن متوقّعاً أن يكون له تأثير مباشر على التضخّم والأسعار والأجور، ما عدا في مجال اعتماد هذا السعر من قبل الحكومة في استيفاء بعض الرسوم والضرائب على الاستيراد والاستهلاك (تمّ رفعه مطلع هذا الشهر من 15 ألف ليرة إلى 45 ألف ليرة)، واعتماده أيضاً للسحب (ضمن سقوف متدنّية) من الودائع بالعملات الأجنبية التي كانت قائمة في المصارف قبل تشرين الأول/أكتوبر 2019، وفقاً لشروط التعميمين 151 (من 8 آلاف ليرة إلى 15 ألف ليرة) و158 (من 12 ألف ليرة إلى 15 ألف ليرة)، بالإضافة إلى اعتماده في تسديد بعض القروض بالعملات الأجنبية الممنوحة من المصارف إلى زبائنها… ما عدا ذلك، لم يعد لسعر صرف الليرة المُعتمد «رسمياً» من قبل مصرف لبنان أي وظيفة، سوى الوظيفة «المحاسبية»، كوحدة حساب لا أكثر لميزانيات الجهاز المصرفي والمطلوبات المُتبادلة بين مصرف لبنان والمصارف وبين المصارف وزبائنها.
طيلة الفترة الماضية، أدار البنك المركزي سلسلة طويلة من أسعار الصرف المُتعددة لليرة، لقد ابتكر سعر صرف لكلّ سلعة أو خدمة تقريباً، استعمل الفوضى في التسعير و«عمل العمايل» وفق التعبير اللبناني الدارج، «يلي بينعمل ويلي ما بينعمل». لذلك، عندما أعلن رياض سلامة في 21 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، في مقابلته مع قناة «الحرّة»، أن مصرف لبنان سوف يبدأ التعامل مع الأسواق بسعر صرف جديد (15 ألف ليرة) اعتباراً من أول شباط/ فبراير 2023، لم يُقلق إعلانه أحداً سوى المصرفيين.
كانت ميزانية البنك المركزي وميزانيات المصارف لا تزال مُحتسبة على السعر القديم، أي 1507.50 ليرة للدولار الواحد، وتختفي تحت هذا السعر خسائر كبيرة مُتراكمة في مطلوبات الجهاز المصرفي (مصرف لبنان والمصارف) وموجوداته بالعملات الأجنبية، ولا سيّما خسائر رأس المال والتوظيفات المُتبادلة بين مصرف لبنان والمصارف.
على سبيل المثال، كانت الميزانية المُجمّعة للمصارف التجارية في لبنان في نهاية العام 2022 لا تزال تحتسب رساميل أساسية وتكميلية بقيمة 27 ألف و568 مليار ليرة، أي ما يعادل 18.3 مليار دولار على سعر الصرف القديم. ولا تعلن المصارف في ميزانياتها الحصّة المُحرَّرة بالعملات الأجنبية من رساميلها والحصّة المُحرَّرة بالليرة، ويوجد تضارب في المعلومات المتداولة عبر وسائل الإعلام، لذلك يُصعب تحديد الخسائر التي سوف تظهر في ميزانيات المصارف مع احتساب سعر الصرف الجديد. إلّا أنّ المُحلِّل الاقتصادي في بنك بيبلوس نسيب غبريل عمد في حديث إلى «الجزيرة نت» إلى إجراء حسابٍ بسيط، جاءت نتيجته «إن قيمة رساميل المصارف على سعر 1507 ليرات، كانت تبلغ نحو 16 مليار و400 مليون دولار (وفق إحصاءات شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، واللافت أنها ارتفعت بمقدار 1.9 مليار دولار في الشهر التالي)، وأصبحت تساوي الآن نحو مليار و600 مليون دولار على سعر 15 ألف ليرة للدولار، أي أن المصارف سوف تخسر نحو 15 مليار دولار من قيمة رساميلها».
لا يشكّل سعر صرف الليرة الجديد سوى أقلّ من 17% من السعر المتداول في السوق الحقيقية. وبالتالي، لم يكن متوقّعاً أن يكون له تأثير مباشر على التضخّم والأسعار والأجور
طبعاً، هذا الحساب مُضلِّل، إذ أن التدقيق في ميزانيّات المصارف، واحتساب الخسائر قبل زيادة سعر الصرف، وتطبيق القوانين والأنظمة والتعاميم والمعايير المحاسبية المرعية الإجراء يجعل رساميل الجهاز المصرفي برمّتها سلبية، أي أن مالكي الأسهم خسروا بالفعل كلّ رساميلهم الموظّفة في المصارف وباتوا مدينين لمصارفهم.
وذكرت صحيفة «الأخبار» في أحد تقاريرها أن لجنة الرقابة على المصارف أجرت اختبارَ ضغط لقياس قدرة المصارف على تحمّل سعر الصرف الجديد، وخلص الاختبار إلى «أن الخسائر الفورية في المصارف ستأكل القسم الأكبر من الرساميل (الاختبار يعالج الميزانية بكاملها من موجودات مقابل التزامات. الودائع ومراكز القطع المدينة هي التزامات، والقروض والأصول الأخرى هي موجودات)، إذ ستتدنّى قيمة الرساميل من 16 مليار دولار (عند إجراء الاختبار) إلى نحو 3 مليارات دولار»، وأوضحت الصحيفة أن «هذه النتيجة تشمل الميزانية المُجمّعة للمصارف، لكن عندما يجري التدقيق بكلّ مصرف على حدة، يتبيّن أن غالبية المصارف سيكون لديها رساميل سلبية، مقابل قلّة من المصارف استطاعت تجاوز هذا الاختبار، وإن بصعوبة بالغة أيضاً».
إذاً، المصارف مُفلسة في الواقع، ولكن رفع سعر صرف الليرة لاحتساب ميزانيّاتها يكشف إفلاسها المحاسبي، ويرتِّب أموراً كثيرة يجدر التعامل معها على عجل. هذا ما حصل عند رفع سعر الصرف من 1507.50 ليرة إلى 15 ألف ليرة، فكيف لو جرى احتساب الميزانيّات على السعر في السوق الحقيقية الذي بلغ أكثر من 90 ألف ليرة للدولار في مطلع آذار/ مارس 2023؟ إذا اعتمدنا طريقة المُحلِّل المصرفي نسيب غبريل (مثلاً) سوف نحصل على نتيجة مفادها أن رساميل المصارف لم تعد تساوي سوى 275 مليون دولار في مقابل مطلوبات عليها، ولا سيّما الودائع، تتجاوز 96 مليار دولار، أي ما نسبته 0.2% فقط من هذه المطلوبات، من دون احتساب المطلوبات الأخرى بالدولار والمطلوبات بالليرة كلّها، ما يعني أن المصارف خسرت أموالها الخاصة، ولا يمكن الاحتفاظ بأي منها في الميزانيات إلّا عبر الاحتيال المحاسبي القائم على تحميل الدولة (بما فيها مصرف لبنان) قسماً كبيراً جدّاً من الخسائر. بمعنى أكثر وضوحاً، كلّ دولار سوف يحتفظ به المصرفيين في رساميلهم لن يكون إلّا عبر نقل الخسائر إلى السكّان جميعهم، فلكي ننقذهم علينا أن ندفع جميعنا بتفاوتٍ. وكلّما هبطنا على الهرم الطبقي، من الرأس إلى القاعدة، سوف يزداد الدفع ثقلاً ووجعاً.
تبديد قلق المصرفيين
سارع حاكم مصرف لبنان إلى تبديد قلق المصرفيين من خسارة رساميلهم كاملة، وأصدر التعميم الوسيط رقم 659 في 20 كانون الثاني/ يناير 2023، أي عشية تطبيق سعر الصرف الجديد. فسمح للمصارف بتصفية مراكز القطع المدينة المفتوحة كما هي قائمة في 31/12/2022، وذلك تدريجياً، على مدى 5 سنوات (2023-2027)، وبمعدّل 20% كلّ سنة. وهذه المراكز بالعملات الأجنبية هي بمثابة دَيْن على رأس المال، أي أنها تؤخذ من الأموال الخاصة للمصارف في حال تجاوزت النسب المفروضة في تعاميم مصرف لبنان السابقة، ولم تجرِ تصفيتها ضمن المهل المُحدّدة. ووفق التقديرات المتداولة في الإعلام، قد تكون مراكز القطع المدينة المفتوحة في المصارف مكشوفة بأكثر من 8 مليارات دولار، وهذا وحده كفيل بشطب كلّ الرساميل المصرفية قبل احتساب الخسائر الأكبر الناتجة عن الفجوة المُتعاظمة بين المطلوبات والموجودات. وبالتالي تسكير هذه المراكز على 5 سنوات لا يهدف سوى لتفادي احتسابها كلّها دفعة واحدة وكسب بعض الوقت الإضافي لإنكار الإفلاس الواقع بالفعل.
لم يكتفِ حاكم البنك المركزي بهذا الإجراء، بل سمح التعميم المذكور أيضاً بإعادة تخمين موجودات المصارف العقارية وغير العقارية بالدولار على أساس سعر منصّة صيرفة المُعلن في 31 كانون الأول/ديسمبر من كلّ سنة وعلى مدى 5 سنوات أيضاً (بلغ السعر 38 ألف ليرة للدولار في 31/12/2022)، وأجاز احتساب 50% من ربح التخمين ضمن الأموال الخاصة أو الرساميل الأساسية للمصارف. بمعنى أوضح، أعطى مصرف لبنان فرصة للمصارف الزومبي كي تستكمل محاولاتها لإنقاذ ما أمكن من رساميل أصحابها والمحافظة على سيطرتهم على القطاع المصرفي. فوفق الميزانية المُجمّعة للمصارف التجارية في لبنان في نهاية 2022، تبلغ تخمينات الممتلكات الملموسة وغير الملموسة (وهي تمثّل الجزء الأكبر من الأصول القابلة لإعادة التخمين) نحو 20 تريليون و690 مليار ليرة (على سعر 1507.5 ليرات للدولار)، وبالتالي سترتفع هذه التخمينات إلى 520 تريليون و600 مليار ليرة (على سعر منصّة صيرفة في 31/12/2022)، وهذه الزيادة سوف تنتج فقط عن اعتماد سعر صيرفة، من دون احتساب فارق أسعار الأصول المُعاد تخمينها، إذ أن بعض الاصول العقارية لا تزال مُخمّنة على أسعار العقارات قبل سنوات طويلة تفادياً لتسديد الضرائب على ربح إعادة التخمين (ضرائب التحسين). ولا تقتصر الملاحظة على هذا الجانب، بل بلغت الوقاحة أن يتم اعتماد سعرين لصرف الليرة في ميزانيات المصارف واحد (15 ألف ليرة) لجميع بنود الميزانيات، وآخر (سعر صيرفة الذي بلغ في 2/3/2023 نحو 70 ألف ليرة) مُخصّص لإعادة تخمين الأصول العقارية وغير العقارية في الميزانيّات نفسها. علماً أن هناك أسعار صرف أخرى اعتباطية وغير واضحة في الميزانيّات يتمّ اعتمادها في بعض العمليّات والتعاملات بين المصارف ومصرف لبنان وبين المصارف وزبائنها.
كانت الميزانية المُجمّعة للمصارف التجارية في لبنان في نهاية العام 2022 لا تزال تحتسب رساميل أساسية وتكميلية بقيمة 27 ألف و568 مليار ليرة، أي ما يعادل 18.3 مليار دولار على سعر الصرف القديم
فما علاقة كلّ ذلك بالظهور الفجائي لقروض بقيمة 16.5 مليار دولار سجّلها مصرف لبنان في ميزانيته كموجودات لديه ومطلوبات على الحكومة؟
إن منح المصارف 5 سنوات للتصفية التدريجية لمراكز القطع المدينة المفتوحة وإعادة تخمين أصولها العقارية واستثماراتها المختلفة على الأسعار الجديدة وعلى سعر صرف منصّة صيرفة في نهاية كلّ عام، لن ينتج عنه سوى طمس بعض الخسائر في الأموال الخاصّة أو الرساميل، وبالتالي إعطاء ذريعة إضافية لتفادي إعلان الإفلاس المحاسبي فوراً، أقلّه في السنوات الخمس المقبلة، ولكن ماذا سيحصل في هذه السنوات؟ وكيف سيتم التعامل مع الخسائر الواقعة بالفعل؟ فالدفاتر أو الميزانيات هي الخيال، والخيال يبقى خيالاً ولا يتحوّل إلى حقيقة إلّا إذا اقتنع الناس بأنه حقيقة وليس خيالاً.
حجّتان لإنكار الإفلاس المصرفي
لقد استمر إنكار الإفلاس المصرفي طيلة السنوات الثلاث الماضية، انطلاقاً من حجّتين رئيستين: أن الخسائر مُحقّقة في الدولة لا في المصارف، وبالتالي يجدر تنفيذ إجراءات الإفلاس على الدولة وليس على المصارف، فإمّا ان تجد الدولة طريقة لمعاودة دفع ديونها بالعملات الأجنبية، وإمّا الحجز على أصولها وموجوداتها ودخلها، كما يحصل مع أي شركة من القطاع الخاصّ تتوقّف عن دفع ديونها. أمّا الحجّة الأخرى، فتستند إلى أن المصارف لم تتوقّف كلّياً عن الدفع لدائنيها، ومنهم مالكي الودائع، فهي تسدِّد الكثير من الالتزامات الخارجية والودائع الائتمانية والتحويلات الاستنسابية، وما زالت تفتح الاعتمادات التجارية، وتدير حسابات بالعملات الأجنبية حرّة من أي قيود تُسمّى حسابات «الفريش دولار» التي تكوّنت بعد إقفال المصارف لمدّة ثلاثة أسابيع في أواخر تشرين الأول/ أكتوبر 2019، وكذلك تدير تصفية أجزاء من الودائع التي تكوّنت سابقاً، عبر قصّة شعر مُعتبرة، تزداد فداحة كلّما اتسعت الهوّة بين سعر الدولار الملموس (الدولار النقدي/ بنكنوت) وسعر الدولار الوهمي (الدولار المصرفي/ ودائع وائتمان وأوراق مالية). وفي هاتين الحجّتين لإنكار الإفلاس، يلعب سعر صرف الليرة المُعتمد رسمياً من مصرف لبنان، فضلاً عن إجراءات محاسبية كثيرة ومُعقّدة، دوراً بارزاً في طمس معالم الإفلاس في ميزانيّات الجهاز المصرفي، وجعلها مُنفصلة كلّياً عن الواقع، خيالية، وغير قابلة للاستخدام من النواحي المحاسبية والقانونية. لنتذكّر ما ورد أعلاه عن أن ميزانيات المصارف كانت في نهاية العام 2022، ما تزال تتضمّن رساميل بقيمة 18.3 مليار دولار على سعر الصرف السابق المُعتمد (1507.5 ليرات للدولار)، في حين أن مالكي الودائع عاجزين عن التصرّف بملكيّاتهم.
ولا تزال المطلوبات بالعملات الأجنبية (ولا سيّما الودائع) والموجودات (ولا سيّما التسليفات) مقوّمة بالليرة على السعر القديم، فضلاً عن أن تعاميم مصرف لبنان علّقت العمل بالكثير من المعايير المحاسبية التي لم تعد تظهر في الميزانيات. وبالتالي يوجد إقرار واسع وراسخ لدى الجميع (تقريباً) أن ميزانيات مصرف لبنان والمصارف التجارية لا تعكس وضعية الجهاز المصرفي بأي شكل من الأشكال، وأنها تنطوي على حيلٍ وطلاسم لا يمكن تفكيكها بسهولة، ولا سيّما ميزانية مصرف لبنان التي تُعدّ المدخل الرئيسي لقراءة هذه الوضعيّة وتحليلها، إذ لا يزال البنك المركزي يرفض الإفصاح عن حساباته الحقيقية، أو التدقيق فيها، ويرفض تصنيف مطلوباته وموجوداته وفقاً للعملة المُسجّلة بها، ويُصرّ على ممارسة «الشعوذة» التي تسمح له بتصنيف الخسائر المُتراكمة في السابق كأرباحٍ متحقّقة في المستقبل (بوصفها أصولاً مُدرّة للدخل الآتي). وهنا تكمن العلاقة التي نبحث عنها في حكايتنا عن ظهور الديون الحكومية في ميزانية مصرف لبنان، أي تعظيم المطلوبات بالعملة الأجنبية على الدولة، والاحتفاظ بأكبر قدر منها عند إجراء إعادة الهيكلة، وبالتالي ضمان حصّة من دخل الدولة وأصولها لتوزيعها على المصارف على مدى سنوات طويلة مقبلة. تماماً، كما كان يحصل في الثلاثين سنة الماضية، إذ أن خدمة الديون الحكومية كانت تستأثر وحدها بنصف إيرادات الموازنة العامّة، وكانت باب الإنفاق الأكبر وليس باب الأجور والرواتب كما يُشاع، وكانت هي المصدر الأهم لأرباح المصرفيين ومراكمة رساميلهم والمصدر الأهم لتكديس الودائع في الحسابات المصرفية لحفنة من الأفراد.
وفق ميزانية مصرف لبنان في 31/1/2023، أي آخر ميزانية مُحتسبة على سعر الصرف القديم، بلغت المطلوبات عليه للمصارف (ودائع القطاع المالي) نحو 160 تريليون و849 مليار ليرة، أكثر من 80% منها بالعملات الأجنبية، وارتفعت هذه المطلوبات إلى 1351 تريليون و394 مليار ليرة، أي تضاعفت ثماني مرّات عند احتسابها على سعر الصرف الجديد في 15/2/2023 وازدادت بقيمة 1190 تريليون و545 مليار ليرة، أي ما يعادل 80 مليار دولار تقريباً على سعر 15 ألف ليرة.
ولكن ميزانية مصرف لبنان لا تتضمّن موجودات بالعملات الأجنبية يمكن أن تغطّي هذه القفزة الكبيرة في المطلوبات، ما عدا موجودات الذهب والعملات الأجنبية التي ارتفعت من 49 تريليون و77 مليار ليرة على سعر 1507.5 ليرات للدولار، إلى 467 تريليون و118 مليار ليرة على سعر 15 الف، أي ما يعادل 31.7 مليار دولار.
كلّ دولار سوف يحتفظ به المصرفيين في رساميلهم لن يكون إلّا عبر نقل الخسائر إلى السكّان جميعهم، فلكي ننقذهم علينا أن ندفع جميعنا بتفاوتٍ. وكلّما هبطنا على الهرم الطبقي، من الرأس إلى القاعدة، سوف يزداد الدفع ثقلاً ووجعاً
بمعزل عن الشكوك العميقة بصحّة هذه الموجودات، إذ أن موجودات الذهب مقيّمة بأقل من 17 مليار دولار، وموجودات العملات الأجنبية الصافية من التزامات مصرف لبنان الخارجية لا تتجاوز 8.6 مليار دولار، أي أن الموجودات الفعلية للذهب والعملات الأجنبية لا تتجاوز 25.6 مليار دولار، في حين أن الفجوة بين هذه الموجودات وبين المطلوبات بالعملات الأجنبية لصالح المصارف وحدها تبلغ 884 تريليون و276 مليار ليرة، وفق ما تظهره ميزانية مصرف لبنان، أي نحو 60 مليار دولار على سعر 15 ألف ليرة.
ماذا فعل البنك المركزي؟ استحدث ببساطة خانتين ضمن أصوله لردم هذه الفجوة؛ أدرج ضمن الخانة الأولى قروضاً مُترتبة على القطاع العام لصالحه بقيمة 16.5 مليار دولار، وهي مُضافة إلى سندات خزينة بالليرة يحملها مصرف لبنان بقيمة 68 تريليون ليرة تقريباً. فيما أدرج في الخانة الثانية أصولاً جديدة لصالحه بقيمة 36.5 مليار دولار يقول إنّها ناجمة عن إعادة «تقييم سعر الصرف». وهو ما أجمع الخبراء على وصفه بـ «الخدع المحاسبية»، وهي ليست ممارسات جديدة على مصرف لبنان، الذي درج على ابتكار ألاعيب محاسبية منذ عقود لإخفاء عمليّاته والنتائج المُترتبة عنها، ولكنّها المرّة الأولى التي تبدو بـهذه الفجاجة. وهكذا اخترع أصولاً له بقيمة 53 مليار دولار، بالإضافة إلى أصول متفرقة لتغطية الفجوة كلّها، كما لو أن الأمر يعتمد على كفاءة الآلة الحاسبة أو قدرة برنامج الإكسيل.
الدين نفسه يُسدَّد مرّتين
كالعادة، ساد الصمت المريب على جبهة السلطات المسؤولة عن الدَّيْن، لم يصدر أي موقف أو توضيح عن وزارة المال (المسؤولة مباشرة)، ولا عن رئاسة مجلس الوزراء، ولا عن مجلس النواب (السلطة الرقابية وصاحبة الصلاحية بإجازة الاقتراض)، ولا عن لجنة المال والموازنة النيابية التي يُفترض أنّها تحبّ لعبة «تقصّي الحقائق» لصالح المصارف لا الصالح العام، ولا ديوان المحاسبة الذي تقع عليه مسؤوليّة مراقبة الحسابات المالية للدولة. في حين ذهبت التعليقات وردود الأفعال إلى التركيز على التلاعب المحاسبي، الذي اعتاد رياض سلامة القيام بها لتمويه ميزانية البنك المركزي وطمس الخسائر الفعلية، وتقديمه على أنه لا يُقدّم ولا يؤخّر في الواقع.
من جهته، اكتفى مصرف لبنان بتذييل بيانه نصف الشهري (الميزانية المؤقتّة) بملاحظة طويلة، ينطبق عليها المثل القائل «فسّر بالماء بالماء»، جاء فيها أنّ المادتين 85 و 97 من قانون النقد والتسليف تنصّان على أنّ مصرف لبنان هو مصرف القطاع العام ويعمل كوكيل مالي له. وفقاً للأحكام المذكورة، واعتباراً من نهاية العام 2007، بدأ مصرف لبنان في تسديد مدفوعات نيابةً عن الحكومة اللبنانية من أصولها الاحتياطية الأجنبية: (1) مقابل ضمان نقدي بالعملة اللبنانية بسعر الصرف الرسمي الحالي البالغ 1507.5 ليرات لبنانية للدولار الواحد، والذي تتمّ تغذيته من ودائع القطاع العام؛ و(2) في مقابل سداد هذا المبلغ في مرحلة لاحقة من قبل الحكومة اللبنانية بالعملة الأجنبية نفسها. وبالتالي، فإن إجمالي ودائع القطاع العام المقيمة بالعملة المحلّية، كما في 31/1/2023، تجاوز صافي الرصيد التراكمي للمدفوعات المُسدّدة نيابة عن الحكومة اللبنانية بالعملة الأجنبية، مما مكّن مصرف لبنان من الاحتفاظ بصافي رصيد دائن في إجمالي ودائع القطاع العام وتسجيل هذه الودائع في جانب «الخصوم». وبعد زيادة سعر صرف الدولار الأميركي مقابل الليرة اللبنانية في 1/2/2023 من 1،507.5 ليرات لبنانية إلى 15,000 ليرة لبنانية للدولار، تجاوزت قيمة الرصيد التراكمي للمدفوعات بالعملة الأجنبية قيمة الضمان النقدي بالليرة، ممّا أدّى إلى صافي رصيد دائن لصالح مصرف لبنان، البالغ 16.505.030.257.27 دولار أميركي، وبالتالي تمّ عرضه في الميزانية على شكل قروض للقطاع العام على جانب «الأصول».
لا يوجد أي فصاحة في صياغة هذا التوضيح، ولا حتى أي درجة للذكاء، فما تعنيه هذه العبارات المصفوفة على شكل شرح تقني، أنّ حاكم مصرف لبنان أعطى لنفسه صلاحية مُطلقة باحتساب قروض على الدولة خلافاً للدستور والقانون، بل خلافاً للحقيقة الدامغة التي يحاول التوضيح تحويرها بلا أي جهدٍ. فالتوضيح نفسه يُقرّ ويعترف بأن الحكومة سدَّدت ثمن الدولارات بالليرة، وأنّ حاكم مصرف لبنان نفسه ردّد في أكثر من مؤتمر صحافي ومقابلة معه أن البنك المركزي أقرضها بالليرة لا بالدولار، ونفى نفياً قاطعاً أن يكون البنك المركزي قد موّل الدولة بدولارات المودعين. فكيف قلب رياض سلامة حكايته؟
يردّ وزير المال يوسف الخليل في اتصال مع «صفر» بعد نشر ميزانية مصرف لبنان بيومين: «لا أعرف. لم أكن موجوداً، ولم أدخل في التفاصيل، ولم أقرأ الميزانية بعد». نعم، وزير المال يصرّح أنه لا يعرف، وأنه غير موجود، وأنه لا يدخل بتفاصيل الديون المُكدّسة على الحكومة زوراً، وأنه لا يقرأ ميزانيات ليست صحيحة.
حسناً، لنجرّب مع وزير المال الأسبق الذي تولّى المسؤولية في قسمٍ مهمٍّ من المرحلة التي يقول سلامة أنّ القروض بالدولار تراكمت فيها على الحكومة من دون إعلان. فهل هناك قروض «غير مُعلنة» وغير صادرة بقانون - كما تفترض الأصول - منحها المصرف المركزي للدولة اللبنانية؟ ولماذا قرّر كشفها الآن؟ يردُّ علي حسن خليل، وزير المالية بين عامي 2014 و2020: «لا فكرة لديّ، عدا أنّني لا أتابع ما يحصل الآن». نعم، لقد أجاب أنه لا يتابع مثل هذه الأمور التافهة، فلماذا نزعجه بهكذا السؤال.
يلعب سعر صرف الليرة المُعتمد رسمياً من مصرف لبنان، فضلاً عن إجراءات محاسبية كثيرة ومُعقّدة، دوراً بارزاً في طمس معالم الإفلاس في ميزانيّات الجهاز المصرفيقد يبدو من إجابة «الخليلين» أنّهما ليسا مطلعين على ما قام به مصرف لبنان، لكنّ هناك العديد من الأدلّة التي تقول العكس تماماً. ففي الوثيقة الشهيرة المكتوبة بخطّ اليد التي قدّمها حاكم مصرف لبنان لرئيس الجمهورية في كانون الثاني/يناير 2020 عندما طُلِب منه إبراز أرقام المصرف المركزي، أدرج سلامة بنداً خارج الميزانية (over draft) بقيمة 15.4 مليار دولار باعتباره مطلوبات على الدولة لصالحه. وفي وثيقة أخرى، هي عبارة عن ردّ من حاكم البنك المركزي على حكومة حسان دياب في شباط/ فبراير 2020، حول الواقع الاقتصادي والمالي والنقدي والمصرفي، وفيها رأي للبنك المركزي بالإجراءات التي كانت حكومة دياب تخطِّط لاتخاذها، لا سيّما إحصاء الخسائر تمهيداً لتوزيعها. ورد ما حرفيّته: «من الجدير ذكره قيام مصرف لبنان، بناء على اتفاقية بينه وبين وزارة المالية بتسديد مستحقّات بالعملة الأجنبية مجموعها التراكمي لغاية 31 كانون الثاني 2020 حوالى 16 مليار دولار، على الوزارة تسديدها لمصرف لبنان».
يقول هنري شاوول، المستشار السابق لوزير المال في حكومة الرئيس حسّان دياب: «لطالما حاول حاكم مصرف لبنان أن يدرج هذه المبالغ ضمن موجوداته من خلال الألاعيب المحاسبية التي يقوم بها، وهو ما رفضته المؤسّسات المالية ووكالات التصنيف الدولية، وكذلك الدولة اللبنانية عبر وزراء مال سابقين، لأنها ليست أصولاً فعلية لمصرف لبنان ولا ديوناً مُترتّبة على الدولة، إذ لا يوجد أي وثيقة أو مستند يثبت وجود قرضٍ ممنوح للدولة من مصرف لبنان».
ما قاله شاوول يتقاطع مع معلومات أخرى أفادت بها مصادر شاركت في الاجتماعات التي أجريت بين اللجنة الحكومية ومصرف لبنان في العام 2020 قبل بدء المفاوضات مع صندوق النقد الدولي. تشير هذه المصادر إلى أن «سلامة سبق أن تحدّث في خلال تلك الاجتماعات عن نقل هذا المبلغ المُسجّل خارج ميزانية المصرف المركزي إلى ميزانيته باعتبارها مطلوبات بالعملات الأجنبية لصالحه يتوجّب على الدولة ردّها». وحين سُئِل عن كيفية ردّ الدولة لهذا المبلغ وهي لا تملك موارد بالعملات الأجنبية، عدا أنها كانت قد أعلنت التوقّف عن الدفع قبل فترة، فأجاب سلامة بأن «هناك صندوق سيادي مُفترض إنشاؤه، وهناك إيرادات الغاز المتوقّع تدفّقها عند بدء الاستكشاف والإنتاج، وفي الحالتين ستقوم الدولة اللبنانية بإيداع هذه المبالغ في المصرف المركزي، ويمكن عندها اقتطاع 16 مليار دولار منها لتغطية هذه المطلوبات!».
حاولنا الاتصال بحاكم المصرف المركزي مرّات عدّة، وراسلناه لإيضاح كيفية احتساب الميزانية الأخيرة وترتيب قروض على الدولة اللبنانية من دون وجود ما يثبت نشوء هكذا قروض، إلّا أنه لم يردّ، ولم نكن نتوقّع أنّ يردّ بما يُسعفنا في فهم ما يقوم به أكثر مما ورد أعلاه.
مهمّة المصرف المركزي تأمين الدولارات للدولة
يُعدُّ المصرف المركزي مصرفاً للدولة التي أنشأته، وتندرج ضمن مهامه تمويل الحكومة وتأمين العملات الأجنبية التي تحتاج إليها لتسديد نفقاتها. وبالفعل لطالما لجأت الحكومات اللبنانية إلى مصرف لبنان، منذ تأسيسه، ليؤمّن لها العملات الأجنبية لدفع مستحقّاتها، وكان المصرف المركزي يشتري هذه الدولارات من السوق مقابل الليرات التي تملكها الدولة في حسابها المفتوح لديه تحت رقم 36 على سعر الصرف المعمول به في وقت الدفع، أسوة بأي شركة أو فرد آخر. لكن في العام 2007، قرّر مصرف لبنان إنشاء حساب لمطلوبات الدولة بالعملات الأجنبية حمل الرقم 100، وأخذ يُسجّل فيه قيمة الدولارات التي تطلب الحكومة اللبنانية شراؤها، وقد بلغ رصيد هذا الحساب 16.5 مليار دولار في شباط/ فبراير 2023.
يشرح مسؤول إداري رفيع واكب تلك المرحلة «إن الدولة اللبنانية لا تتعامل إلّا بعملتها المحلّية، ولديها حساب وحيد بالليرة، وهو موجود عند المصرف المركزي ورقمه 36، وتسجّل فيه نفقاتها وإيراداتها بالليرة اللبنانية. فإذا حصّلت إيرادات بالعملات الأجنبية على شكل منح أو هبات على سبيل المثال فإنها تُدرج ضمن احتياطي العملات الأجنبية، أمّا إذا توجّب عليها تسديد نفقات بالعملات الأجنبية فإنها تلجأ إلى المصرف المركزي لتأمينها عبر شرائها من السوق بالليرات الموجودة في حسابها رقم 36». ويتابع المصدر نفسه: «بدأت المخالفات تُسجّل لناحية فتح حسابات بالعملات الأجنبية للدولة اللبنانية بعد مؤتمر باريس 2، عندما طلب وزير المال في حينه فؤاد السنيورة فتح حساب بالعملات الأجنبية متفرِّع من الحساب رقم 36 لإدراج قروض وهبات مؤتمر باريس 2، كما استُخدم لاحقاً لإيداع ضريبة الدخل المتأتية من الفوائد على الودائع المصرفية بالعملات الأجنبية. ولكن عندما استنفدت أموال باريس 2، عمد رياض سلامة في العام 2007 إلى فتح حساب لتسجيل المبالغ بالعملات الأجنبية التي يُسدِّدها عن الدولة، على الرغم من أن الدولة سبق لها أن سدَّدتها بالليرة على سعر الصرف في حينه».
«لا أعرف. لم أكن موجوداً، ولم أدخل في التفاصيل، ولم أقرأ الميزانية بعد». نعم، وزير المال يصرّح أنه لا يعرف!يجزم المسؤول الإداري أن «الدولة اشترت هذه الدولارات ودفعت ثمنها ولا يحقّ لأحد أن يطالبها بها. وفي حال لم يشتريها المصرف المركزي عندما كان سعر الصرف 1507.5 ليرات، لكي لا يحدث خضّة بالسوق نظراً لأن سياسته كانت تقضي بتثبيت سعر الصرف، ويريد الآن تحميلها مجدّداً للدولة عندما بات سعر الصرف 90 ألف ليرة، فهو أمر منافٍ للمنطق ويُصنّف كسوء إدارة مُرتبكة من قبل حاكم المصرف المركزي ويفترض أن يحاسب عليها».
يعتبر وزير الاقتصاد السابق منصور بطيش إن «المحاسبة هي عكسٌ لواقع، وترجمة لحقّ (موجودات) وواجب (مطلوبات). وبالتالي، لا علاقة للمصرف المركزي بما سيأتي مستقبلاً، عدا أن المحاسبة هي عمل آني وغير مُرتبط بافتراضات مستقبلية قد لا تحصل. فما يحصل هو تلاعب بالحقوق والواجبات، وإعادة ترتيب لخسائر المصرف المركزي وتحميل الدولة التزامات غير مُترتبة عليها بالأساس».
لا تكتفِ الميزانية المؤقّتة لمصرف لبنان بتحميل الدولة أعباءً بالعملات الأجنبية بمخالفة فاضحة لكلّ القوانين، بل تدّعي تحقيق أرباح بين ليلة وضحاها بقيمة 36.5 مليار دولار! وهو ما لا يمكن حصوله إلّا بعالم مصرف لبنان السحري تكريساً لسرديّة انتشرت منذ بداية الأزمة تدّعي بأن الخسائر والأزمة سببها فساد الدولة التي وقعت المصارف ضحيتها أيضاً، بعد أن وضعت ودائعها لدى مصرف لبنان، الذي بدوره أنفقهم على الدولة.
في الواقع، أدرج مصرف لبنان بنداً جديداً (تعديل التقييم) يُسجّل فيه أرباحاً ناتجة عن تغيير سعر الصرف إلى 15 ألف ليرة. يقول هنري شاوول إن «هذه الأرباح غير محقّقة»، ويستند في ذلك إلى «شروحات قدّمها المدقّقون في السابق، حيث أشاروا إلى أنّ ما يُسجّل كأرباح ناتجة عن إعادة تقييم الذهب أو أصول أخرى بالعملات الأجنبية، يندرج ضمن الألاعيب المحاسبية التي انتهجها مصرف لبنان، فهي ليست أصولاً، إنّما انعكاس للخسائر المُحقّقة التي يجري إخفاؤها من خلال إدراجها ضمن خانتي أصول أخرى وتعديل التقييم».
الديون كمطالبة بحصّة من دخل مستقبلي
تعرّف «الديون» عامّة على أنها «وعود» أو «مطالبة» بحصّة من ناتج العمل المستقبلي. ولذلك، كلّ حديث يتناول الآن حجم الديون السيادية ومصيرها في دولة عاجزة عن الدفع بشكل واضح ومحسوم، هو حديث عن توزيع أرباح المستقبل أكثر ممّا هو حديث عن توزيع خسائر الماضي. وهذا ما يعنيه إضافة 16.5 مليار دولار كقروض بالعملات الأجنبية على القطاع العام في ميزانية مصرف لبنان، بالإضافة إلى ما تعنيه خسائر الجهاز المصرفي كلّها.
لنعد قليلاً إلى الوراء، إلى 7 آذار/ مارس 2020، عندما قرّرت الحكومة اللبنانية تعليق سداد سندات اليوروبوندز. يومها، كانت ديون الحكومة المُتراكمة بالعملات الأجنبية قد بلغت نحو 34 مليار دولار، من ضمنها نحو 31.9 مليار دولار سندات يوروبوندز وفوائدها. وكان يُفترض أن يمهّد القرار بتعليق الدفع لجولة مفاوضات مع الدائنين من أجل إعادة هيكلة الديون. وتردّد في السجالات في حينه أن الهدف هو التوصّل إلى اتفاق مع الدائنين، بدعم من صندوق النقد الدولي، يرمي إلى تخفيض الديون بالعملات الأجنبية المُترتبة على الحكومة إلى 10 مليارات دولار وإعادة جدولة تسديدها، بما يضمن «استدامة الدين»، وفق تعبيرات صندوق النقد.
الدولة اللبنانية لا تتعامل إلّا بعملتها المحلّية، ولديها حساب وحيد بالليرة، وهو موجود عند المصرف المركزي ورقمه 36، وتسجّل فيه نفقاتها وإيراداتها بالليرة اللبنانيةولكن، ما حصل في السنوات الثلاث الماضية أن قرار تعليق سداد اليوروبوندز انسحب أيضاً إلى تعليق كلّ إجراءات إعادة الهيكلة برمّتها، فلم تنطلق جولة المفاوضات مع الدائنين. تمّ إسقاط خطّة حكومة حسان دياب التي أعدّتها وزارة المال مع الاستشاري «لازارد»، وحصلت المماطلة مع صندوق النقد الدولي، وتمّ إلقاء اللوم كلّه على الـ Default، على الرغم من أن الليرة كانت قد خسرت نحو 40% من قيمتها في مقابل الدولار عند اتخاذ القرار بتعليق دفع السندات، وكانت المصارف متوقّفة عن الدفع بالفعل منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2019، وكان هروب الودائع الكبيرة قد بدأ منذ تشرين الثاني/ نوفمبر 2017 عند اعتقال رئيس الحكومة سعد الحريري في السعودية، وكان ميزان المدفوعات يُسجِّل عجزاً تراكمياً منذ 2011، ولم تعد التدفّقات الخارجية تغطّي الحاجات التمويلية للاقتصاد اللبناني بالعملات الأجنبية، ولا سيّما الاستيراد ومدفوعات الدَّيْن الخارجي.
على عكس الاعتقاد الشائع أن الديون بالعملات الأجنبية تجمّدت منذ 3 سنوات، فهي واصلت تراكمها من دون توقّف حتّى بلغت في نهاية تشرين الأول/أكتوبر 2022 (الفترة التي تتوافر فيها الإحصاءات الرسمية) نحو 40.8 مليار دولار، أي بزيادة 6.8 مليار دولار، قبل إضافة 16.5 مليار دولار في ميزانية مصرف لبنان كقروضٍ على الحكومة.
نتجت هذه الزيادة من تراكم الفائدة غير المُسدّدة على سندات اليوروبوندز (5.5 مليارات دولار)، وتراكم فائدة إضافية على المتأخّرات (1.3 مليار دولار). فتعليق سداد اليوروبوندز لم يجمّد الفوائد طيلة الفترة الماضية و«الحسّابة» ما زالت تحسب. ليس هذا فحسب، بل تحوّلت الفوائد المـتأخّرة إلى ديون جديدة بالعملات الأجنبية يجري احتساب فائدة إضافية عليها (بمثابة غرامات تأخير)، إذ ارتفعت الفوائد المتأخّرة من 5.3 ملايين دولار في آذار/ مارس 2020، عند تعليق سداد أول استحقاق في الشهر المذكور، إلى 1.3 مليار دولار في تشرين الأول/ أكتوبر 2022.
إذا أضفنا ما أضافه رياض سلامة على الديون الحكومية في ميزانية مصرف لبنان، فإن الديون بالعملات الأجنبية باتت تبلغ 57.3 مليار دولار، بزيادة نحو 23.3 مليار دولار في ثلاث سنوات، منذ تعليق سداد سندات اليوروبوندز في آذار/ مارس 2020، أي بمتوسّط 7.7 مليار دولار سنوياً، أو نحو 650 مليون دولار كمتوسّط شهري. وهذه الزيادة أعلى بكثير من الزيادة المُحقّقة بين عامي 2018 و2019 (3.1 مليار دولار)! علماً أن الحكومة توقّفت كلّياً عن إصدار سندات دَيْن جديدة بالعملات الأجنبية في الفترة الماضية.
لنفترض (على سبيل توضيح الفكرة فقط) أن إعادة هيكلة الديون بالعملات الأجنبية ستتمّ عبر شطب 75% من أصل سندات اليوروبوندز وفوائدها. فهذا كان يعني شطب 24 مليار دولار من أصل 32 مليار دولار قائمة في نهاية شباط/ فبراير 2020، عشية قرار تعليق السداد، أي أن الحكومة كانت ستحتفظ بنحو 8 مليارات دولار من السندات وتعيد جدولتها لمعاودة تسديدها إلى الدائنين المحلّيين والأجانب. أمّا اليوم فإن سندات اليوروبوندز وفوائدها بالإضافة إلى القروض التي أضافها مصرف لبنان على القطاع العام باتت تبلغ 55.3 مليار دولار (من دون احتساب القروض الثنائية مع الدول والصناديق والمؤسّسات الدولية التي قرّرت الحكومة مواصلة دفعها من دون تخفيض أو إعادة جدولة)، ما يعني شطب 41.4 مليار دولار، إلّا أن الحكومة ستحتفظ بنحو 13.9 مليار دولار من سندات الدين والقروض بالعملات الأجنبية، أي أكثر بنحو 5.9 مليار دولار ممّا كانت ستحتفظ بها لو أعادت هيكلة ديونها فوراً منذ ثلاث سنوات، منها أكثر من 4 مليارات دولار ستنتج عن زيادة قروض القطاع العام بالعملات الأجنبية في ميزانية مصرف لبنان.
مسؤولية الدولة
تدور الحكاية إذاً حول مسؤولية الدولة، وهذا ما تفعله السرديات المسيطرة، سواء السردية التي تؤرِّخ الأزمة القائمة من لحظة تعليق تسديد سندات الدَّيْن بالعملات الأجنبية (اليوروبوندز) في آذار/ مارس 2020، أو السردية التي تتحدّث عن توزيع الخسائر بين ثلاثة أطراف: الدولة والبنك المركزي، والمصارف، ومالكي الودائع. يتمّ تقديم السردية الأولى بوصفها تشخيصاً للمرض، والثانية بوصفها العلاج، فـ: على الدولة أن تواصل الدفع لكي تبقى المصارف وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من رساميل مالكي الودائع والأسهم… وهكذا يجري تقديم «التوزيع العادل للخسائر»، بوصفه إعادة توزيع من الأسفل إلى الأعلى، فعلى الأكثرية، المتنوّعة طبقياً وطائفياً، أن تدفع قسطاً وافراً من خسائر الأقلية، مالكي الودائع والأسهم المصرفية وسندات الدَّيْن.
إذا أضفنا ما أضافه رياض سلامة على الديون الحكومية في ميزانية مصرف لبنان، فإن الديون بالعملات الأجنبية باتت تبلغ 57.3 مليار دولار، بزيادة نحو 23.3 مليار دولار في ثلاث سنوات
لا ينهمك «الخبراء» في تفسير الكيفية التي يجدر بالدولة أن تواصل بها الدفع، والمصالح التي يجدر الاهتمام بها في أثناء ذلك، ولكنّهم يغدقون بالوصفات التقنية، كما لو أنها محايدة، من تفليس الدولة كالشركات، وإلقاء الحجز على أصولها العقارية والتجارية، إلى إنشاء صندوق استرداد الودائع المموّل من المال العام (إيرادات الدولة، إيرادات الغاز المُحتمل…). وكلّها وصفات تصبّ في النهاية في سياق عامٍ يسعى إلى تحويل الأزمة القائمة إلى أزمة «ديون سيادية»، كما لو أنها لم تنفجر في المصارف المُسيطرة على نظام الائتمان والسوق المالية، وكما لو أنّ الأزمة تنحصر في تسوية حسابات بين الدائنين والمدينين، الدولة ودائنيها، والمصارف ودائنيها.
ولكن، الدولة هنا ليست مفهوماً قانونياً فحسب، وهي طرف لا يشبه الطرفين الأخرين: المصارف ومودعيها، وإنّما هي آلة من آليّات إعادة التوزيع. هنا تتخذ الدولة صفة «جيوب مواطنيها». فهم الذين سيدفعون الخسائر عن الدولة، بتفاوتٍ شديد طبعاً يعكس البنية الطبقية وتحوّلاتها.
لا توجد طريقة في الواقع تسمح بتخيّل سيناريو يمكن من خلاله الاعتقاد أن الدولة بإمكانها تسديد ديونها بالعملات الأجنبية. وبالتالي ليس هناك خيار سوى شطب هذه الديون أو تخفيضها، إمّا أن يخسر الدائنون كلّ رساميلهم وإمّا أنّ يخسروا أجزاءً منها. الخسارة وقعت بالفعل، أي أنّها تحقّقت، وأسفرت عن وجود فجوة كبيرة غير قابلة للردم عبر مواصلة الدولة الدفع.
فكيف يمكن القبول بوضع «الشعب» كلّه كطرف في توزيع الخسائر؟ وكيف يمكن القبول بالوصفات المطروحة التي تنقل الصراع من توزيع الخسائر السابقة إلى توزيع الأرباح المقبلة مُسبقاً؟ أليس هذا ما يعنيه نقل ملكيّة عامّة إلى ملكيّات خاصة ومراكمة رأس المال مُجدّداً عبر تجريد الدولة من ممتلكاتها؟ أو اقتطاع حصّة مُسبقة من إيراداتها المستقبلية، بما في ذلك إيرادات الضرائب والموارد الطبيعية وعقود الشراكة مع الدولة.
تحويل الأزمة المصرفية إلى أزمة ديون سيادية هو ما يجدر مواجهته بقوّة، ولذلك ليس مقبولاً استمرار البعض بالحديث عن تحميل الدولة خسائر المصارف، فكيف في حالة زيادة ديونها السيادية على هوى حاكم بنكها المركزي؟