Preview اسرائيل ميزانية

هل تستطيع إسرائيل الاستمرار في تمويل حربها؟

لا يخفى على أحد كمية الأموال الهائلة التي تضطر دولة ما إلى إنفاقها لخوض الحرب، وقد تصل الأكلاف إلى عشرات أو مئات مليارات الدولارات لتجهيز الجنود وتأمين أجورهم، وتجهيز الثكنات والمواقع والأسلحة الهجومية والدفاعية ومخزونات الذخائر والعتاد الحربي، وتحصين الملاجىء والمرافق الحيوية كالمطارات والمرافئ ومخازن القمح ومنشآت الطاقة والكهرباء ومؤسسات مياه الشرب والصرف الصحي، فضلاً عن توفير الغذاء والسكن والطاقة وإغاثة المصابين وإيواء النازحين الهاربين من مناطق الصراع الساخنة وتعويضهم عن الأضرار اللاحقة بهم.

في أيار/مايو 2024، توقّع محافظ البنك المركزي الإسرائيلي أن تكلّف الحرب الاسرائيلية على قطاع غزة 253 مليار شيكل (67 مليار دولار) في الأعوام من 2023 إلى 2025. وكحال أي دولة في حرب، لجأت إسرائيل للاستدانة لسد هذه الأكلاف الباهظة، متوجّهة إلى الدائنين المحليين والأجانب والدول الأخرى، لكنها طبعاً لا تستطيع الاستدانة من دون سقف، ويجب أيضاً أن تبرهن للدائنين الحاليين أو المستقبليين ولشركات التصنيف الائتماني أنها قادرة على ردّ الدين مع فوائده المستحقّة في الوقت المتفق عليه.

لكن، كيف لإسرائيل أو أي دولة أن تبرهن للدائنين جدارتها في رد الدين؟ أحد ضمانات ذلك هو ضبط ما يسمى «العجز في الموازنة»، فقبل بداية عام معيّن تقوم الحكومة برسم موزانتها للعام المقبل،  وتحتاج إلى تصديق البرلمان، فالموازنة هي بمثابة خريطة طريق لتخصيص الموارد واتخاذ القرارات، وضمان استخدام الأموال العامة بفعالية وكفاءة. باختصار، عند تحديد الموازنة تقوم الحكومة بتقدير إجمالي نفقاتها المتوقعة في خلال العام المقبل وإجمالي الإيرادات كذلك، فإن كانت النفقات أكبر من الإيرادات عنى ذلك أن هناك «عجزاً متوقعاً في الموازنة»، وبالتالي هناك مخاطر العجز عن تسديد الديون، وإن كان العكس، فأن ذلك يعني «فائضاً في الموازنة»، ومع أفول العام تحتسب الحكومة «العجز الحقيقي»، أي الذي حدث بالفعل مقارنة مع ما توقعته في بداية العام.

ميزانية اسرائيل

من فائض الموازنة إلى العجز الهائل

في العام 2022، لم تشهد إسرائيل عجزاً حقيقياً في الموازنة بل فائضاً بنحو 2.85 مليار دولار، أو ما يعادل 0.6% من الناتج المحلي الإجمالي السنوي، وكانت أول مرة تحقق فيه إسرائيل فائضاً في موازنتها منذ العام 1987، إلا أن الحرب التي تشنّها إسرائيل منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، فضلاً عن متغيرات أخرى، قد عكست هذا المسار، ومع أفول العام 2023، تبيّن أن عجز الموازنة الإسرائيلية الحقيقي ساوى نحو 21 مليار دولار، أو ما يوازي 4.2% من الناتج المحلي الإجمالي لإسرائيل في العام نفسه. لكن  ديون إسرائيل بقيت ضمن سقف 62% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما يقل كثيراً عن المتوسط ​​في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وهي مجموعة تضم إسرائيل إلى جانب بلدان غنية في أميركا الشمالية وأوروبا، ما أعطى وزارة المالية الإسرائيلية متنفّساً للمزيد من الاستدانة، ومجالاً للعمل ضمن سقف عجز أكبر عند تحديد موازنة العام 2024.

وافقت إسرائيل على ميزانية 2024 في العام 2023، لكن حرب غزة هزت مالية الحكومة، ما تطلب إجراء تغييرات في الميزانية ورصد إنفاق إضافي. تم تعزيز الإنفاق بمقدار 70 مليار شيكل من الميزانية الأصلية، حيث ذهب 55 مليار شيكل إلى الجيش و15 مليار لتمويل الاحتياجات المدنية، وتوقّعت الميزانية الجديدة عجزاً بنسبة 6.6% من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2024، مقارنة بـ2.25% ما قبل الحرب، وكانت النتيجة أن إسرائيل سوف تعاني من ثاني أكبر عجز في العالم الغربي بعد الولايات المتحدة، وخمسة أضعاف متوسط العجز ​​في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وفقاً لعرض أعده كبير الاقتصاديين في وزارة المالية شموئيل أبرامزون لمجلس الوزراء.

بالنسبة إلى كثيرين، كانت ميزانية 2024 مخيّبة لآمال الإسرائيليين: فهي لم تتضمن محرّكات للنمو، أو إصلاحات اقتصادية، أو خطة منظمة للخروج من الأزمة، واعتُبر أن الإدارة الخاطئة في الحكومة ستجعل التعافي الاقتصادي يحتاج إلى فترة طويلة الأمد، قسم من حاملي هذا الرأي يعتقد بأن إسرائيل تستطيع أن تتحمل العبء الثقيل المتمثل في الحرب لمرة واحدة، ولكن الزيادة الدائمة في العبء الدفاعي سوف تستلزم رفع الضرائب، وخفض الخدمات التعليمية والصحية والرعاية الاجتماعية والبنية الأساسية، أو العجز والديون العامة. ومن الممكن أن تؤدي السياسة الخاطئة إلى خلق ظاهرة التباطؤ أو الانكماش طويلة الأمد.

مع الوقت بدا أن هذا الرأي أكثر ترجيحاً من موقف ممثلي وزارة المالية، الذين قالوا مراراً وتكراراً إنه من غير المتوقع أن ينمو العجز، لكن تطميناتهم لا يبدو أنها في محلها، فقد بلغت نسبة العجز في الموازنة إلى الناتج المحلي الإجمالي 8.3% في آب/أغسطس، وارتفاعاً من 7.6% في حزيران/يونيو، هذا ولا زال هناك أشهر ثلاثة قبل نهاية العام، فمع استمرار الحرب تبيّن أن هدف الجيش الإسرائيلي بتفكيك القدرات العسكرية والحكومية لحماس، تتطلب جهداً عسكرياً مكثفاً ومستمراً، وقد زادت التكاليف المرتبطة بتعبئة الاحتياطي، والذخيرة، والوقود، والغذاء، واستهلاك قطع الغيار، فضلاً عن التآكل والتلف في الأدوات والإمدادات.

ما يجعل الأمور الأكثر سوءاً للمالية العامة الإسرائيلية هو وجود بتسلئيل سموتريتش في وزارة المالية، وهو مستوطن في الضفة الغربية ينتمي حزبه إلى أقصى اليمين في إسرائيل. سموتريتش لم يكف عن التطمين المفرط حول قدرته على ضبط عجز الموازنة، بل وصل به الأمر أن يتبجّح بأنه «مستعد للمراهنة على زجاجة ويسكي» إن تجاوز عجز الموازنة 6.6%. 

لا يبدو أن أحداً يصدّق تطمينات سموتريتش، ولا أنه سيطلب من الجيش خفض التكاليف، أو اتخاذ تدابير أخرى لكبح جماح العجز، بل لا يزال السكان المتدينون والمستوطنون، حلفاء سموتريتش، يستفيدون من المزيد من الإعانات والمساعدات لإبقاء الرجال في منازلهم، ووعد سموتريتش بتوفير 35 مليار دولار في العام المقبل، ولكنه لم يذكر من أين سيأتي أغلب هذا المبلغ. هذا ما جعل  المستثمرين غير متأكدين من قدرة إسرائيل على التعافي، فالشيكل متقلب، والبنوك الإسرائيلية تعاني من هروب رأس المال، وفق تقرير نشرته  «ايكونوميست». وتقول وكالتا فيتش وموديز إنهما قد تخفضان تصنيف إسرائيل الائتماني مرة أخرى بعد أن فعلتا ذلك مرة واحدة هذا العام. لكن يبقى السيناريو الأكثر خطورة بالنسبة لهؤلاء هو حرب مديدة مع لبنان، يرى كثيرون أنها بدأت بالفعل، ولا يبدو من تصريحات نتانياهو ولا من تصرفات إسرائيل الهمجية في لبنان ما يطمئن أن التصعيد سينحسر في أي وقت قريباً.

سيناريو التصعيد على الجبهة اللبنانية

حاول معهد دراسات الأمن الوطني إجراء توقعات كمية عن حجم الأثر على الاقتصاد الإسرائيلي في سيناريو تصعيد على جبهة الشمال حصراً من دون فتح جبهات أخرى لفترة قد تستمر لشهر. بحسب المعهد، ففي هذا السيناريو «ستكون العواقب كبيرة، وفي كلّ الحالات يعتبر هذا السيناريو غير مألوف في إسرائيل. وتقليل أضراره يعتمد على قدرة إسرائيل على اعتراض التهديدات التي قد تلحق بالمرافق الاستراتيجية والبنية التحتية».

ينظر هذا التقييم في حرب تبدأ في الربع الثالث أو الرابع من هذا العام. في أسوأ سيناريو لحرب عنيفة قد تتسبّب في أضرار بالبنية التحتية، قد ينكمش الاقتصاد الإسرائيلي بنسبة 10%. أما في أفضل السيناريوهات، بمعنى إذا تمكّنت إسرائيل من تحييد جزء كبير من التهديدات وتقليل الأضرار، فقد ينكمش الناتج المحلي الإجمالي بنحو 2%. إلى ذلك، قد يرتفع العجز المالى في العام 2024 إلى 15% بسبب ارتفاع نفقات الحرب وما يترتّب عليها من إنفاق لدعم الاحتياجات اليومية، بما في ذلك إمدادات الغذاء والنقل، والملاجئ. إن انكماش الناتج المحلي الإجمالي بالتوازي مع تضخّم الإنفاق الحكومي من شأنه أن يرفع نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى 80% أو 85%. 

التعجيل بسيناريو كهذا قد يجبر إسرائيل على فتح موازنتها للعام 2024 مرة أخرى، وإعادة تقدير النفقات والإيرادات، علماً أنها انتهت تواً وفي هذا الأسبوع من المصادقة مجدداً على الموازنة الحالية لعام 2024 في اللجنة المالية، وذلك بعد أن تم فتح الموازنة للمرة الثانية في 12 أيلول/ سبتمبر الماضي، لزيادة الإنفاق الحكومي بنحو 3.4 مليار شيكل.

لا تعدّ اعادة فتح الموازنة إجراء عادياً البتة بل تستعمله الحكومة الاسرائيلية كملاذ أخير، كونه يبعث برسالة عدم الجدية واللامسؤولية للأسواق، علماً أن اسرائيل قد تضطر إلى القيام بذلك، سواء استمرت عمليتها العسكرية الموسّعة في لبنان أم لا، والسبب المباشر في ذلك لا يتعلق بحماس أو حزب الله، بل هو في مكان آخر، ويتعلق بتأخّر تنفيذ الدعم المالي من الولايات المتحدة الأميركية.

تأخير تنفيذ الدعم المالي الأميركي 

خلال شهر نيسان/أبريل 2024، وافق الكونغرس على حزمة مساعدات أميركية لإسرائيل، بلغت قيمتها نحو 14.25 مليار دولار، لكن بسبب خلافات ونقاشات بين الأميركيين وبينهم وبين الاسرائيليين حول كيفية إنفاق الأموال،  تأخر وصول كامل هذه المساعدات، ما أثار قلقاً في إسرائيل من أن تؤدي هذه التأخيرات إلى زيادة الضغوط المالية على الحكومة الإسرائيلية في عز حربها المفتوحة.

عند إعداد ميزانية الحرب لعام 2024، اعتمدت وزارة الخزانة الإسرائيلية على 8.7 مليار دولار من المساعدات الأميركية، على الرغم من أن هذه الأموال لم يكن قد وافق عليها الكونغرس بعد. ارتكزت إسرائيل على ثلاثة عناصر في برنامج المساعدات الأميركية. المكون الأول هو برنامج المساعدات الأميركية العادية (FMF)، الذي تم بموجبه تحويل 3.5 مليار دولار. وبحسب مسؤولي الخزانة، فمن المتوقع أن يدخل هذا الجزء من المساعدات إلى الحسابات المصرفية لدولة إسرائيل في الأيام المقبلة. ومن ناحية أخرى، هناك عنصران آخران من الخطة يتأخران في الولايات المتحدة، أحدهما هو عنصر «الدفاع الجوي» الذي تبلغ قيمته 4 مليارات دولار، والذي يهدف إلى تعويض النقص في الصواريخ الاعتراضية وزيادة القوة الصاروخية. أما المكون الثاني فهو مكون نظام «ماجان أور» بمبلغ 1.2 مليار دولار مخصص لتمويل نظام اعتراض الليزر المتقدم.

تأخر المساعدات الأميركية سيجبر وزارة المالية الاسرائيلية على زيادة الإنفاق في موازنة العام الحالي، بما يتراوح بين 15 إلى 20 مليار شيكل، ما سيرفع إجمالي الإنفاق في موازنة 2024 إلى 604 مليار شيكل (نحو 163 مليار دولار)، وسيقفز العجز المحدد قانونياً إلى نحو 7.3% من الناتج المحلي الإجمالي الإسرائيلي. صحيح أن هذه مشكلة تقنية بالنسبة لإسرائيل، لكنها حساسة، وتعطي إشارة إلى الأسواق أن ممارسة فتح الميزانية بدأت تتجذر في إسرائيل، مع انتظار خروج التصنيف الائتماني لإسرائيل في الأيام القريبة.

مرّت سنة تقريباً على 7 تشرين الأول/أكتوبر، والعام 2025 أصبح على الأبواب، وأصبحت الحكومة الإسرائيلية تشعر أكثر وأكثر بفقدان سيطرتها على ضبط التمويل، بل يقال أن وزارة المالية أصبح لديها خططا لإجراء سلسلة من التغييرات الضريبية، بما في ذلك تجميد ورفع الفوائد على مدخرات التقاعد وصناديق الدراسة المتقدمة، وهي سياسات لن يكون لها أي شعبية لدى الجمهور الاسرائيلي بكل تأكيد.

لكن، سواء استطاعت إسرائيل ضبط عجز موازنتها أم لم تستطع، فإن شبح التكاليف غير المنظورة يخيّم على السجالات فيها. عندما عززت إسرائيل إنفاقها الدفاعي بشكل كبير في سبعينيات القرن العشرين لمعالجة المخاطر الأمنية التي كشفت عنها حرب العام 1973، كانت الآثار الجانبية الاقتصادية مدمرة، وفق تقييمات الاقتصاديين الإسرائيليين. والآن يشعر خبراء الاقتصاد بأن دولتهم تكرّر ذلك. فالحرب الجارية في غزة ولبنان هي الأكثر كلفة في تاريخ إسرائيل الدموي. دع عنك الأضرار الحاصلة في الشمال نتيجة الحرب مع لبنان، وتلك المستمرة عند غلاف غزة، أو الأضرار المترتبة على سحب موظفي قطاع التكنولوجيا، فخر دولة الاحتلال، إلى جيش الاحتياط.