معاينة الديمقراطية الخفية

الديمقراطية الخفية

  • مراجعة لكتاب بيار روزانفالون «المؤسسات غير المرئية» الذي يعيد تعريف الديمقراطية من جذورها. فالدساتير والانتخابات لا تكفي وحدها لضمان الحياة المشتركة، بل تحتاج الديمقراطية إلى بنى خفية تؤسس شرعيتها وتمنحها الحياة: الثقة، والسلطة الأخلاقية، والشرعية. وهذه الركائز هي نتاج تفاعلات اجتماعية تنشأ من العلاقات والرموز والعادات اليومية. وعندما تضعف، تتحول الديمقراطية إلى قشرة فارغة تُمارس بالقانون لا بالاعتراف، وتُهددها الشعبويات والانقسامات.

يبدو أن الديمقراطية، كما نعيشها اليوم، لم تعد تجد في مؤسساتها الرسمية ما يكفي من ضمانات للحياة المشتركة، ولا ما يؤمّن لها شرعيتها في زمن تتنامى فيه الشعبويات وتتراجع فيه الثقة العمومية. هذه هي الفكرة الأساسية التي يدافع عنها بيار روزانفالون في كتابه الأخير Les institutions invisibles. في هذا العمل الجديد، يقترح المؤرخ والمفكر الفرنسي إعادة توجيه النظر نحو البنى غير المرئية التي تؤطر حياتنا السياسية والاجتماعية، تلك التي لا نصادفها في نصوص الدستور ولا في أجهزة الدولة، لكنها مع ذلك تؤدي أدواراً لا غنى عنها في إنتاج الثقة، تثبيت الشرعية، وصناعة السلطة الأخلاقية.

منذ الصفحات الأولى، يعلن روزانفالون هدفه المزدوج: من جهة، «كسر السحر» الذي يجعلنا أسرى تصوّر قانوني صلب للسياسة، ومن جهة ثانية، إعادة إدماج «الحياة» في التفكير الديمقراطي من خلال ما يسميه بـ «المؤسسات غير المرئية». هذه الأخيرة، والتي يحددها بثلاثة عناصر محورية – الثقة، والسلطة الأخلاقية، والشرعية – لا تُعرّف بوصفها أجهزة قائمة بذاتها، وإنما باعتبارها عوامل اندماج وتعاون وضبط اجتماعي تتكون بفعل التفاعلات والعلاقات القائمة بين الأفراد والجماعات. إنّها ليست «مؤسسات مُنشِئة» تضع القواعد مسبقاً، بل «مؤسسات ناتجة» تولد من قلب الممارسات الاجتماعية، وتتحول مع الزمن إلى دعائم لا غنى عنها لأي حياة سياسية مستقرة.

لكن ماذا يعني أن نصف الثقة أو الشرعية بأنهما «مؤسسات»؟ يجيب روزانفالون بأنّ استخدام هذا المفهوم ليس بريئاً، فهو يرمي إلى منح هذه العناصر موقعاً تأسيسياً يعادل موقع البرلمان أو القضاء أو الحكومة، حتى وإن لم تكن مرئية بالمعنى المادي. هي مؤسسات لأنها تؤدي الوظائف ذاتها: الدمج، الضبط، والتوجيه. وهي «غير مرئية» لأنها لا تستند إلى قوانين مكتوبة ولا إلى أجهزة رسمية، بل إلى عادات راسخة، توقعات متبادلة، ورؤى جمعية. من هنا يقترب روزانفالون من تقليد فلسفي–سوسيولوجي يعود إلى برغسون، حين يؤكد أن الغاية هي الإمساك بالجوانب السائلة والمرنة من الواقع، تلك التي تفلت من الصرامة القانونية والتحليل العقلاني الصرف.

بهذا المعنى، يتخذ الكتاب بعداً إشكالياً يتجاوز التنظير السياسي الضيق. فالديمقراطية لا يمكنها أن تنتج «العيش المشترك» إلا إذا توفرت حدّ أدنى من الثقة بين الأفراد في مؤسساتهم، ومن سلطة أخلاقية قادرة على توجيههم، ومن شرعية تجعلهم يقبلون بالقرارات حتى وإن خالفت مصالحهم المباشرة. غياب هذه «المؤسسات غير المرئية»، كما يحذر المؤلف، لا يقود فقط إلى أزمة سياسية، بل يفضي إلى حالة أعمق من «الأنومي» (فوضى القيم) حيث تغيب إمكانات إنتاج زمن اجتماعي مشترك.

القانون يحدد الصلاحيات ويؤطر العلاقات، لكنه لا يضمن بحد ذاته أن يثق المواطنون في ممثليهم، أو أن يشعروا بشرعية القرارات العامة، أو أن يُعترف للسلطة بمكانتها الأخلاقية

يتوزّع الكتاب على ثلاث محطات كبرى: أولاً، يعيد رسم تاريخ المفاهيم الثلاثة، من التجربة الرومانية مع مفهوم auctoritas إلى تنظيرات روسو ورانسيير، مروراً بالفكر المسيحي الوسيط وفلاسفة الأنوار. ثانياً، يبين كيف أنّ هذه المؤسسات غير المرئية تتغذّى من آليات عملية تجعل العالم قابلاً للقياس والمقارنة: النقود، المقاييس، اللغة المشتركة، والرموز الجمعية. وثالثاً، يتناول ما أسماه بـ «تفكيك» هذه المؤسسات في العالم المعاصر، حيث أُزيحت الثقة لصالح أنظمة تقنية في إدارة المخاطر (التأمين، السوق، البلوكشين...)، وتراجعت السلطة الأخلاقية لصالح سلطة القانون المجرد أو العقلانية التقنية.

المؤسسات غير المرئية: بين القانون والحياة الديمقراطية

في المؤسسات غير المرئية (2024)، يذهب بيار روزانفالون إلى أن القانون، على الرغم من مركزيته في تعريف الديمقراطية الحديثة، ليس سوى جزء من المعادلة. فالنصوص الدستورية، كما يقول، «لا تكفي لتأسيس الحياة الديمقراطية» (ص. 17). القانون يحدد الصلاحيات ويؤطر العلاقات، لكنه لا يضمن بحد ذاته أن يثق المواطنون في ممثليهم، أو أن يشعروا بشرعية القرارات العامة، أو أن يُعترف للسلطة بمكانتها الأخلاقية. ما يمنح الديمقراطية قوتها الحقيقية، حسب المؤلف، هو ما يسميه «المؤسسات غير المرئية» التي تتجسد في الثقة، والسلطة الأخلاقية، والشرعية (ص. 21).

هذه المؤسسات غير المرئية هي، بتعبير روزانفالون، «عوامل للاندماج والتعاون والضبط التي تشكّل العالم الاجتماعي» (ص. 25). أي أنها تؤدي وظائف أساسية تشبه المؤسسات القانونية، لكنها لا تستند إلى قوانين مكتوبة أو أجهزة رسمية. فالثقة، مثلاً، هي ما يربط المواطنين بممثليهم، والسلطة الأخلاقية هي ما يمنح القيادة معناها، أما الشرعية فهي ما يجعل القرار مقبولاً حتى في حال الاختلاف معه. وبذلك فهي تشكّل شرطاً مكملاً، بل سابقاً، لفاعلية القوانين نفسها.

يستحضر روزانفالون تاريخ الفكر السياسي ليؤكد أن الديمقراطيات لم تُبنَ فقط على القانون والممارسات الانتخابية، بل أيضاً على هذا الرصيد اللامرئي من الاعتراف والثقة. ففي تحليله للحقبة الرومانية، يميز بين السلطة الأخلاقية باعتبارها سلطة نابعة من الاعتراف الاجتماعي، والسلطة القانونية باعتبارها سلطة إكراه (ص. 64). الأولى، بحسبه، هي التي تؤمن استقرار النظام وتمنحه قابلية للقبول، في حين أن الثانية تبقى عرضة للرفض أو التمرد. القانون وحده لا يكفي، لأنه قد يُطاع قسراً من دون أن يُحترم أو يُعاش كجزء من «العقد الاجتماعي».

لكن روزانفالون يذهب أبعد من ذلك حين يؤكد أن غياب هذه المؤسسات غير المرئية يقود إلى ما يسميه «فوضى ديمقراطية» (ص. 112)، أي انهيار المرجعيات المشتركة وغياب الثقة المتبادلة، ما يحوّل الديمقراطية إلى مجرد قشرة شكلية قابلة للانهيار. فالأزمة السياسية لا تبدأ بتعطيل القوانين بل بتآكل الروابط التي تجعلها قابلة للحياة. ومن هنا تحذيره المتكرر من أنّ الديمقراطيات المعاصرة «مهددة بأن تنحلّ من داخلها» (ص. 13) حين تفقد ثقة مواطنيها وتفشل في تجديد شرعيتها.

من زاوية أخرى، يشدّد المؤلف على أن هذه المؤسسات غير المرئية لا تُعطى مرة واحدة، بل هي نتاج تفاعل دائم. فهي «مؤسسات ناتجة» وليست «مؤسسات مُنشِئة» (ص. 29): أي أنها تولد من قلب الممارسات والعلاقات، لا من قرارات فوقية أو قوانين جاهزة. لذلك فهي هشّة وتحتاج إلى صيانة مستمرة عبر سياسات التمثيل، وفضاءات النقاش العمومي، وممارسات الاعتراف المتبادل. القانون هنا ليس بديلاً عنها بل وعاءً يترجمها.

ولعل ما يميز أطروحة روزانفالون أنّها تنقل النقاش من النصوص إلى الحياة، من القانون إلى المجتمع، من الشكل إلى الجوهر. الديمقراطية، في تصوره، ليست فقط احتراماً لدستور، بل هي أيضاً «عملية بناء جماعي عقلاني للعالم المشترك» (ص. 187). أي أنها مشروع دائم لإنتاج مشترك سياسي–اجتماعي يُبنى بقدر ما يتجدّد. القوانين إذن ضرورة، لكنها تظل خاوية ما لم تُدعَم بمناخ من الثقة والشرعية والسلطة الأخلاقية.

من هذا المنطلق، نفهم أنّ العلاقة بين القانون والحياة الديمقراطية هي علاقة تكامل لا يمكن اختزالها في جانب واحد. فالقانون يمنح الديمقراطية هيكلها، لكن المؤسسات غير المرئية هي التي تمنحها حياتها. وإذا غابت هذه الأخيرة، يتحول القانون إلى نص بارد، يُمارس بالقوة أو بالعُرف، لكنه يفتقد القدرة على أن يُعاش كإطار جامع. عندها تصبح الديمقراطية، كما يحذر روزانفالون، «نظاماً هشاً أمام الشعبويات والانحرافات الاستبدادية» (ص. 203)

الثقة والسلطة والشرعية: ركائز خفية للمشترك السياسي

يبيّن بيار روزانفالون في المؤسسات غير المرئية أنّ الديمقراطية لا يمكن اختزالها في ما هو مكتوب من قوانين أو ما هو قائم من مؤسسات مرئية، بل تقوم على «بنيات حية» تتغذى باستمرار من طبيعة التفاعلات الاجتماعية والسياسية. هذه البنيات، المتمثلة في الثقة والسلطة والشرعية، ليست كيانات قائمة بذاتها، وإنما «تُنتَج من خلال أنماط العلاقات بين الأفراد والجماعات، وكذلك من خلال علاقة هؤلاء بالمؤسسات التي تحكمهم» (Rosanvallon, 2024, p. 312). وهي بهذا المعنى عرضة للتقوية أو التهشيم تبعاً للسياق الاجتماعي والثقافي والسياسي، الأمر الذي يجعل القوانين، مهما بلغت دقتها، عاجزة عن أداء وظيفتها إذا لم توضع في بيئة تُعزز الروابط الخفية التي تمنحها الفعالية.

يشير المؤلف إلى أنّ مصير هذه المؤسسات يتحدد من خلال ثلاثة مستويات متكاملة. المستوى الأول هو ما يسميه «الأدوات أو الآليات المساعدة»، وهي كل ما يسهم في تقليص اللايقين في التعاملات، مثل قواعد التجارة، والتزامات الشفافية المالية، والمعايير الموحدة، واللغة المشتركة، والتداول النقدي. هذه الوسائط تبدو تقنية، لكنها «تجعل العالم قابلاً للقياس، وبالتالي أكثر قابلية للإدراك والسيطرة من قبل البشر» (p. 317). حين وضع سولون في أثينا إصلاحاته المتعلقة بالوزن والقياس، كان في الواقع يعيد تأسيس فضاء من الشفافية السياسية، بحيث يصبح ممكناً بناء الثقة بين المواطنين. وحين تبنت فرنسا الثورية النظام المتري، كان ذلك أكثر من مجرد إجراء إداري، إذ ارتبط بمطلب توحيد الأمة وتعزيز السيادة الوطنية. بذلك تتحول المعايير والأدوات إلى وسائط سياسية تُنتج الثقة وتدعم الشرعية، لكن المؤلف ينبّه إلى أنها قد تنقلب إلى نقيضها إذا فقدت وظيفتها الاجتماعية وتحولت إلى مجرد بيروقراطية خانقة (p. 323).

أما المستوى الثاني، فهو «المتخيلات المكوِّنة» (imaginaires constituants). يتعلق الأمر هنا بالأطر الرمزية والذهنية التي تمنح المجتمع صورته عن ذاته وتجعله قادراً على إدراك نفسه كوحدة سياسية وأخلاقية. يكتب روزانفالون: «لا توجد مجتمعات من دون منظومات من المعتقدات والرموز والطقوس التي تمنح للعيش المشترك معناه» (p. 331). من الدين المدني في روما القديمة إلى الأديان السياسية الحديثة، مروراً بالموروثات القومية، نجد أن هذه المتخيلات أسهمت في إنتاج فضاءات من الثقة وإرساء شرعية للسلطة. وهنا يلتقي المؤلف مع مقاربة إميل دوركايم الذي رأى في الدين أساساً للتماسك الاجتماعي، ومع ماكس فيبر الذي أبرز دور الاعتقاد في نشوء أنماط اقتصادية وسياسية جديدة، لكنه يتجاوزهما عبر القول إنّ «المتخيلات ليست مجرد انعكاس ثقافي، بل هي مكوّن تأسيسي للمشترك السياسي» (p. 335). من دون هذه الرموز الجامعة، تصبح السلطة محض إكراه، وتنهار إمكانية بناء شرعية مقبولة اجتماعياً.

فالمؤسسات الرسمية، مهما بلغت قوتها، تبقى هشة إذا لم تستند إلى شبكة ثقة متبادلة، وسلطة أخلاقية مقبولة، وشرعية معترف بها اجتماعياً

أما المستوى الثالث، فهو ما يصفه بـ«الأدلة أو البداهات المشتركة» (évidences partagées). وهي شبكة القناعات الضمنية التي تشكل الخلفية الثقافية والأخلاقية للتفاعلات. يكتب روزانفالون: «البداهات المشتركة هي ما يسمح للنقاش أن يكون ممكناً وللتوافق أن يتحقق، فهي تؤطر المعنى قبل أن تؤطر القرار» (p. 344). فإذا غابت هذه الخلفية، يصبح كل فعل أو قول موضع شك، وتنهار إمكانيات الاتفاق. ومن هنا يقترح المؤلف توسيع الثنائية التي وضعها مونتسكيو بين «القوانين والعادات» إلى ثالوث جديد: القانون، والعادة، والمؤسسات غير المرئية (p. 350). بهذا المعنى، لا يمكن فهم التعقيد الاجتماعي عبر القوانين المكتوبة أو الممارسات المتوارثة وحدها، بل من خلال التفاعل المستمر بين هذه المستويات الثلاثة.

الأفق الذي يرسمه روزانفالون من خلال هذا التحليل هو أنّ تجديد الديمقراطية لا يكون بمجرد إصلاح القوانين أو تعديل الإجراءات الانتخابية، بل يتطلب إعادة بناء الركائز غير المرئية التي تجعل هذه القوانين قابلة للحياة. فالمؤسسات الرسمية، مهما بلغت قوتها، تبقى هشة إذا لم تستند إلى شبكة ثقة متبادلة، وسلطة أخلاقية مقبولة، وشرعية معترف بها اجتماعياً. هذه العناصر لا تُعطى دفعة واحدة، بل «يجب أن تُصان وتُعاد صياغتها باستمرار، فهي مثل الكائنات الحية تتغذى أو تذبل بحسب ما يمدها به الوسط الاجتماعي» (p. 357). ولهذا فهي عرضة دوماً للهشاشة: إذا أُهملت، تفككت؛ وإذا استُثمر فيها عبر أدوات عادلة، ومتخيلات جامعة، وبداهات مشتركة، فإنها تتحول إلى مصدر قوة واستقرار.

بذلك يصبح المؤسسات غير المرئية أكثر من تحليل نظري للحاضر، فهو يقدم بوصلة فكرية لمستقبل الديمقراطية. إذ يقترح أن ننظر إليها لا كآلية انتخابية أو نظام قانوني، بل كمشروع دائم لإنتاج الثقة وصيانة الشرعية وتجديد السلطة الأخلاقية. وهو يذكّر بأنّ مواجهة الشعبويات المعاصرة، التي تتغذى من انهيار هذه الركائز، لن تكون ممكنة عبر إصلاحات شكلية، بل عبر إعادة بناء ما هو غير مرئي. بهذا يصبح ما لا يُرى أكثر أهمية من النصوص المكتوبة، لأنّه وحده يضمن للسياسة أن تبقى مشروعاً مشتركاً قابلاً للحياة.

ما لا يُرى يحكم ما يُرى: الديمقراطية كرهان على الخفاء

يكشف كتاب المؤسسات غير المرئية لبيار روزانفالون عن حقيقة مفصلية: أنّ مصير الديمقراطية لا يتوقف على دساتيرها المكتوبة ولا على انتظام آلياتها الانتخابية، بل على ما يغيب عن الأنظار ويعمل في صمت داخل النسيج الاجتماعي. فالثقة، والسلطة الأخلاقية، والشرعية ليست عناصر ثانوية، بل هي الشرط الحاسم الذي يضمن بقاء القوانين فعّالة والمؤسسات قادرة على إنتاج مشترك سياسي. هذه الأطروحة تجعل من الديمقراطية مشروعاً هشاً بطبيعته، لأنها لا تُبنى دفعة واحدة، بل تتغذى باستمرار من الوسط الذي تحتضنه. وهو ما يفسّر أنّ الديمقراطيات، مثلما يذكر المؤلف في استعادة تاريخية، ليست خالدة، بل قابلة للتآكل والاندثار إذا تراجعت ركائزها غير المرئية.

إنّ التحدي الأساسي الذي يطرحه الكتاب يكمن في أن الديمقراطية، لكي تظل قابلة للحياة، يجب أن تُدار لا فقط على مستوى المؤسسات الظاهرة، بل أيضاً على مستوى البنيات الخفية التي تضمن استمرارها. وهنا يقدّم روزانفالون ثلاث مستويات متكاملة لإدراك هذا الرهان. الأول هو الأدوات والآليات التي تقلّص من اللايقين وتتيح بناء الثقة، بدءاً من توحيد المقاييس ووصولاً إلى أنظمة الشفافية المالية والرقابة المستقلة. الثاني هو المتخيلات المكوِّنة، أي الرموز والمعتقدات والطقوس التي تسمح للمجتمع بأن يتعرف على نفسه كوحدة متماسكة، من الدين المدني في روما إلى السرديات القومية الحديثة. أما الثالث فهو البداهات المشتركة، وهي القناعات الضمنية التي تُرسّخ إطاراً للنقاش وتفتح أفقاً للتوافق، فتجعل من السياسة ممكناً ومن الاعتراف المتبادل حقيقة يومية.

ما يبدو ثانوياً أو غامضاً هو في الحقيقة جوهري. فالمؤسسات غير المرئية ليست هامشية ولا تجريدية، بل هي مركز الثقل الذي يحدد مصير النظم السياسيةبهذا المعنى، يدعونا الكتاب إلى أن نعيد تعريف الديمقراطية لا باعتبارها مجرد آلية انتخابية، بل فضاءً لإنتاج الثقة وتجديد الشرعية وممارسة السلطة كاعتراف لا كإكراه. فالأزمات المعاصرة التي تهزّ الديمقراطيات الغربية – من تراجع نسب المشاركة إلى صعود الشعبويات – ليست سوى أعراض لفقدان هذه الركائز. الشعبويون، كما يوضح المؤلف، ينجحون لأنهم يستغلون انهيار الثقة وانفصال السلطة عن المجتمع وتآكل الشرعية، فيقدّمون أنفسهم كبديل يعيد «صوت الشعب» إلى السياسة. لكن ما يغيب عن هذا الوعد هو أنّ الأزمة ليست تقنية بل بنيوية: من دون مؤسسات غير مرئية متينة، ستظل الديمقراطية عرضة للهشاشة مهما تغيرت الوجوه أو أُصلحت القوانين.

ما يجعل مقاربة روزانفالون مثيرة هو أنه لا يكتفي بالتشخيص، بل يقترح إعادة بناء السياسة على مستوى أعمق. فكما يذكّرنا، القوانين يمكن تعديلها، لكن ما لم تتجدد الأدوات والمعايير والرموز والبداهات التي تغذيها، فإنها تظل حبراً على ورق. الديمقراطية، بهذا المعنى، ليست هندسة مؤسسية فقط، بل هي «عمل دائم على بناء العالم المشترك» (p. 187). إنها مشروع مفتوح يتطلب صيانة مستمرة، أقرب إلى رعاية كائن حي منه إلى إدارة جهاز تقني. وهذا التصور يمنح الفكر السياسي بعداً جديداً، إذ يحوّل الأنظار من الهياكل الصلبة إلى النسيج الخفي الذي يمنحها الحياة.

من هنا، فإن ما يفتحه الكتاب من أفق يتجاوز إطار النقد إلى صياغة بوصلة فكرية للمستقبل. فإذا كان الخطر الأكبر اليوم هو انزلاق الديمقراطيات نحو التفكك الداخلي بفعل انهيار الثقة وتراجع الشرعية وفقدان السلطة الأخلاقية، فإن الردّ لا يكون بمزيد من الإجراءات الشكلية، بل بعمل طويل الأمد على إعادة بناء ما لا يُرى. وهذا العمل يتطلب ثلاث جبهات مترابطة: أولاً، تعزيز الأدوات العادلة والشفافة التي تقلل من اللايقين في التفاعلات الاجتماعية والاقتصادية؛ ثانياً، بلورة متخيلات ورموز جامعة تسمح للمجتمع بأن يتعرف على نفسه ككل موحد؛ ثالثاً، ترسيخ بداهات مشتركة تتيح النقاش وتفتح أفق التوافق.

إنّ قوة الكتاب تكمن في أنه يذكّرنا بأن ما يبدو ثانوياً أو غامضاً هو في الحقيقة جوهري. فالمؤسسات غير المرئية ليست هامشية ولا تجريدية، بل هي مركز الثقل الذي يحدد مصير النظم السياسية. ومن هنا تأتي جرأة أطروحة روزانفالون: فهي تضع على عاتق الفكر السياسي مهمة صعبة لكنها ضرورية، هي التفكير في ما لا يُرى، وإيجاد السبل لصيانته وتجديده. هذا النداء لا يخص الغرب وحده، بل يكتسب راهنية خاصة في كل المجتمعات التي تعيش أزمات تمثيل وشرعية وثقة، ومنها المجتمعات العربية حيث يظهر الخلل بين نصوص دستورية متقدمة وواقع سياسي هشّ.

وليس هذا الطرح معزولاً عن مسار المؤلف الفكري. ففي La Légitimité démocratique (2008)، كان روزانفالون قد أبرز الحاجة إلى أشكال جديدة من الشرعية تتجاوز التفويض الانتخابي، عبر مبادئ مثل الحياد والانعكاسية والقرب. أما في Le Parlement des invisibles (2014)، فقد سلط الضوء على أزمة التمثيل، وكيف أنّ قطاعات واسعة من المواطنين تشعر بأنّها غير مرئية وغير معترف بها، الأمر الذي يقوض أساس الشرعية. وفي Les institutions invisibles، يبدو وكأن هذه الخيوط تتجمع: الشرعية الجديدة لا يمكن أن تُبنى إلا إذا أعيدت الثقة وصيغت رموز جامعة وتُرسّخت بداهات مشتركة. بهذا يصبح الكتاب امتداداً طبيعياً لمشروعه الأوسع حول إعادة تأسيس الديمقراطية، لكنه يذهب أبعد حين يجعل من «ما لا يُرى» مركز التفكير.

في النهاية، يمكن القول إنّ المؤسسات غير المرئية يفتح أمامنا أفقاً للتفكير في الديمقراطية بما هي أكثر من جهاز قانوني. إنها عملية معقدة تُبنى عبر تفاعلات يومية، وتُصان عبر رموز وبداهات، وتُختبر باستمرار في مواجهة الأزمات. وما يميز هذه الرؤية أنها تُخرج السياسة من أسر المرئي والمؤسسي لتعيدها إلى عمقها الخفي، حيث تُصاغ المعاني المشتركة وتُبنى إمكانيات المستقبل. بذلك يصبح ما لا يُرى – الثقة، السلطة، الشرعية – هو ما يحكم في النهاية مصير ما يُرى: القوانين، الانتخابات، والدساتير. ومن يتجاهل هذه الحقيقة، يترك الديمقراطية عرضة للانهيار من الداخل.