الأمن الغذائي في لبنان: قلق متزايد
تعبّر التطوّرات في أسعار الغذاء عن مؤشّرات مُقلقة في ما يتعلّق بقدرة شريحة واسعة من السكّان على تلبية حاجاتها الأساسية. وفي حين شكّلت مسألة الأمن الغذائي مثار قلق في لبنان منذ الأزمة الاقتصادية في العام 2019، باتت اليوم أكثر جدّية في ظل العدوان الإسرائيلي وتداعياته سواء على أسعار الشحن والاستيراد إلى لبنان وكذلك القدرة المحلّية على الزراعة والإنتاج. وبحسب تقرير رصد الأسواق الذي يصدر شهرياً عن برنامج الأغذية العالمي، يوجد الكثير من المؤشّرات التي تبيّن أن الآتي قد لا يكون أفضل ممّا سبق فيما يتعلّق بالقدرة على تأمين الحاجات الغذائية.
ارتفاع أسعار الغذاء كنمط مستمرّ
شهدت أسعار الغذاء ارتفاعات مُتتالية في خلال الأشهر التي سبقت تصعيد العدوان الإسرائيلي، واستمرّت على المنحى نفسه في شهر أيلول/سبتمبر الماضي. وبحسب إدارة الإحصاء المركزي، ارتفعت أسعار الغذاء بنسبة 0.94% في أيلول/سبتمبر 2024 بالمقارنة مع ما كانت عليه قبل شهر في آب/أغسطس 2024، وبنسبة 19.68% بالمقارنة مع ما كانت عليه في أيلول/سبتمبر من العام 2023، ويأتي ذلك على الرغم من استقرار سعر الصرف منذ أكثر من عام وتراجع معدّل التضخم العام.
من الواضح أن هذا الواقع يلقي أعباءً إضافية على السكّان لتأمين حاجاتهم الغذائية، والذي يعيش 44% منه تحت خطّ الفقر ويعاني 79% منهم من الفقر المتعدد الأبعاد بحسب البنك الدولي. ويرجّح أن تضعف هذه القدرة أكثر نتيجة استمرار الحرب الحالية، إذ تبيّن المؤشّرات المُستقاة من مسوحات أجراها برنامج الأغذية العالمي في المحافظات اللبنانية كافة أن هذه الأسعار استمرّت في الارتفاع في خلال تشرين الأول/أكتوبر الماضي أيضاً.
في ضوء تصاعد الأعمال العدائية في منتصف أيلول/سبتمبر 2024، أجرى برنامج الأغذية العالمي أربعة مسوحات أسبوعية لمحلات البيع بالتجزئة من أجل رصد تطوّر الأسعار والمخزون، في الفترة الممتدّة من 25 أيلول/سبتمبر إلى 17 تشرين الأول/أكتوبر 2024، وتبيّن أن هناك اتجاه تصاعدي في الأسعار، إذ أفادت جميع مؤسّسات البيع بالتجزئة في كل من بعلبك-الهرمل وعكار والشمال والضاحية الجنوبية لبيروت عن ارتفاع في الأسعار لديها، في مقابل 96% في البقاع و90% في بيروت و82% في جبل لبنان. والواقع أن تكلفة سلة الغذاء للفرد الواحد ارتفعت من 36.2 دولاراً في الأسبوع الثاني من أيلول/سبتمبر إلى 37.4 دولاراً في الأسبوع الثاني من تشرين الأول/أكتوبر، وكانت الحبوب والبقول وخصوصاً الخبز، المحرّك الرئيس لزيادة تكلفة سلة الغذاء.
أيضاً تبيّن هذه المسوحات عوامل أخرى ضاغطة قد تؤثر على أسعار الغذاء والقدرة على الوصول إليه في الأشهر المقبلة في ظل استمرار الحرب. إذ تظهر التقييمات تراجع نسبة مؤسّسات البيع بالتجزئة العاملة، ولا سيما في المحافظات المتضرّرة بالعدوان، ما يعني حكماً ارتفاع الضغط على المؤسّسات الموجودة في المناطق غير المتضرّرة والتي تستقبل اليوم النسبة الأكبر من النازحين. على سبيل المثال، في الضاحية الجنوبية لبيروت لا يزال 31% من المؤسسات تعمل فقط، في مقابل 18% في النبطية و44% في الجنوب و25% في بعلبك الهرمل.
ارتفاع قيمة سلّة الغذاء
يؤدّى تضخم أسعار الغذاء حكماً إلى ارتفاع كلفة سلّة الغذاء التي تحتاجها أسرة مقيمة في لبنان سواء لتلبية حاجاتها الأساسية بانتظام أو تأمين الحدّ الأدنى من الحاجات الأساسية للبقاء على قيد الحياة. وبالفعل ارتفعت كلفة سلّة البقاء على قيد الحياة بنسبة 11%، وكلفة الحدّ الأدنى من الإنفاق على الحاجات الأساسية بنسبة 6% في خلال عام واحد. ويبيّن تقرير رصد الأسواق الصادر عن برنامج الأغذية العالمي أن كلفة سلّة الغذاء اللازمة للبقاء على قيد الحياة لأسرة مكوّنة من 5 أفراد بلغت 178 دولاراً للغذاء في آب/أغسطس الماضي، أما كلفة سلّة الحدّ الأدنى من الإنفاق لتلبية الحاجات الغذائية للأسرة فقد بلغ 238 دولاراً في خلال الفترة نفسها.
ويعود ارتفاع أسعار سلة الغذاء للفرد في خلال شهر آب/أغسطس الماضي إلى ارتفاع أسعار الحبوب، ولا سيما القمح في أعقاب استنفاد مخزون القمح المدعوم من البنك الدولي في المخابز، وزيادة أسعار ربطات الخبز من قبل وزارة الاقتصاد والتجارة بنسبة 60% في عام واحد. أيضاً يعتبر ارتفاع أسعار الدواجن بنسبة 62%، وكذلك الخضروات والفاكهة بنسب تتراوح بين 14% و20%، من العوامل المؤثرة في ارتفاع أسعار المواد الغذائية، ويعود السبب إلى توقف الكثير من مزارع الدجاج الموجودة في الجنوب عن العمل، وتضرّر مساحات زراعية بالعدوان الإسرائيلي. إن استمرار العدوان الإسرائيلي يرجّح استمرار هذا المنحى في خلال الفترة المقبلة.
المساعدات لا تلبّي الحاجات
أمام هذا الواقع يبقى حضور الدولة اللبنانية هزيلاً في ابتكار الحلول لتحصين المجتمع إزاء الحرب وحمايته من المصائب التي تعصف به. يقتصر دور الدولة على تقديم مساعدات نقدية لبعض للأسر المصنّفة فقيرة حصراً، ومع ذلك لا تغطي قيمة المساعدات المالية الحاجات الدنيا حتى. وتقلّ فعالية هذه المساعدات مع استمرار تضخّم الأسعار.
يتلقى المستفيدون من برنامج أمان الوطني نحو 20 دولاراً شهرياً للشخص الواحد لتلبية احتياجاتهم الغذائية، أي ما مجموعه 100 دولاراً لأسرة من 5 أفراد، وبحسب برنامج الأغذية العالمي، لم تغطِ هذه المساعدات النقدية المخصّصة للغذاء في شهر آب/أغسطس الماضي أكثر من 56% من الاحتياجات الدنيا لتأمين الغذاء من أجل البقاء على قيد الحياة، بانخفاض عن 61% في آب/أغسطس 2023.
وتزداد الأمور سوءاً بالنسبة إلى اللاجئين السوريين، خصوصاً أن قيمة المساعدات التي يتلقونها هي أقل بكثير، وتقدّر بنحو 15 دولاراً للشخص الواحد أو ما مجموعه 75 دولاراً لأسرة من 5 أشخاص. وقد غطّت هذه المساعدة النقدية 42% فقط من الحاجات الدنيا للبقاء على قيد الحياة في آب/أغسطس الماضي، بانخفاض عن 61% في آب/أغسطس 2023.
الجدير بالذكر أن وزارة الشؤون الاجتماعية حوّلت نحو 20,5 مليون دولار كمساعدات مالية لنحو 176,722 أسرة في لبنان في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، بمعدّل 116 دولاراً للأسرة الواحدة، وهو يعتبر أقل بنحو 62 دولاراً عن كلفة الحدّ الأدنى من الغذاء للبقاء على قيد الحياة، كما هي مقدّرة في آب/أغسطس الماضي والتي يرجح أن تكون قد ارتفعت منذ ذلك الحين.