Preview الدولة التنموية الكهربائية

الدولة التنموية الكهربائية

في أواخر سبعينيات القرن العشرين، أغرقت السيارات اليابانية الأسواق الغربية بماركات لم تكن مألوفة في حينه، مثل تويوتا وداتسن وهوندا. وجمعها بين جودة المنتَج الرفيعة واستهلاكه الفعال للوقود وسعره المنخفض، جعل هذه الماركات تحظى بشعبية كبيرة في الولايات المتحدة وأوروبا في أعقاب الصدمة النفطية التي حدثت في سبعينيات القرن العشرين، الأمر الذي أسفر عن انخفاض الحصة السوقية للصانعين المحليين وشكاوى من المنافسة غير العادلة أعرب عنها رجال الأعمال والنقابات التجارية.

سرعان ما ولّدت «الصدمة اليابانية» سياسة حمائية ردّاً عليها. تفاوضت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة على حصص استيراد طوعية مع اليابان للحد من الضغوط التنافسية المفروضة على صناعات السيارات في البلدين، وتبنت الدول الأوروبية تدابير مماثلة. لكنّ هذه لم تكن سوى الخطوة الأولى في تحول أعمق للصناعة الغربية. ففي سعيها اليائس لإيجاد سبل لاستعادة القدرة التنافسية الدولية وقمع الاضطرابات العمالية المحلية المتفاقمة، بدأت الشركات في قطاع السيارات العالمي وسواه تحذو حذو منافسيها اليابانيين. وأصبحت «طريقة تويوتا» التي شرحها مهندسها الصناعي الرائد تايتشي أونو كتاباً لا بد أن يقرأه أي مدير صناعي جاد، في حين بدأت كليات إدارة الأعمال في شمال الأطلسي تدرّس طرائق كايزن وكانبان في الإنتاج «في الوقت المناسب». وساهم هذا التحوّل الثقافي الذي يوصف أحياناً بأنه جزء من عملية «يَيْبَنَة» أوسع، في الحثّ على تبني ما أطلق عليه علماء الاجتماع استراتيجيات الإدارة ما بعد الفوردية التي ركزت على المرونة وخفض التكاليف، ورفضت في الوقت نفسه نماذج الإنتاج المتكاملة رأسياً التي اتّبعها قادة صناعة السيارات الأميركية والأوروبية في خمسينيات القرن العشرين.

تواجه صناعة السيارات العالمية اليوم، بعد مضي خمسين عاماً على «الصدمة اليابانية»، اضطراباً أشمل بكثير، يمكن أن نسميه «صدمة المركبة الكهربائية الصينية

تواجه صناعة السيارات العالمية اليوم، بعد مضي خمسين عاماً على «الصدمة اليابانية»، اضطراباً أشمل بكثير، يمكن أن نسميه «صدمة المركبة الكهربائية الصينية». فحتى وقت قريب، كانت صناعة السيارات الصينية تعاني النبذ باعتبارها نسخة رديئة من النماذج الغربية أو اليابانية. لكنها حققت منذ ذلك الوقت إنجازات ملحوظة في الجودة وقدرة السعر التنافسية في قسم المركبات الكهربائية الاستراتيجي: في العام 2023، تخطى العملاق الصيني BYD تيسلا باعتباره المنتِج الأكبر للسيارات الكهربائية بثلاثة ملايين سيارة طاقة جديدة1 . وفي ذلك العام، نما تصدير الصين لهذه السيارات بنسبة 64%. وبتضافر مبيعات جيدة لمحركات الاحتراق الداخلي مع طلب روسي أثارته العقوبات الغربية، تفوقت الصين على اليابان باعتبارها أكبر مصدّر للسيارات في العالم إجمالاً.

مبيعات المركبة الكهربائية ربع السنوية (2018-2023)

أمّا الطريقة التي سترد بها الحكومات الغربية على المنافسة، في صناعة لطالما عُدَّت اختباراً للبراعة الاقتصادية، فهي مسألة ذات أهمية رئيسة في القرن الحادي والعشرين. ففي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على السواء، أُدينَ صعود المركبات الكهربائية الصينية على أنه نتيجة لممارسات غير عادلة. وفي إعلان أورسولا فون دير لاين في أيلول/سبتمبر الماضي عن تحقيق مدعوم حكومياً بخصوص المركبات الكهربائية الصينية، أكّدت أن القدرة التنافسية لهذه الأخيرة ناجمة عن «تلاعب سوقي». وتعهّد جو بايدن بالمثل بأن يمنع المركبات الكهربائية الصينية من «إغراق أسواقنا»، ووصف دونالد ترمب أثر السيارات الكهربائية الصينية بأنّه «حمام دم» اقتصادي.

لكن ما يكمن وراء هذه التعليقات التحريضية هو تحوّلٌ صناعي لا يقل أهمية عن ذلك الذي شهدته شركات صناعة السيارات اليابانية في ثمانينيات القرن العشرين. فصعود صناعة المركبات الكهربائية الصينية لم ينجم عن الدعم الحكومي السخي فحسب، بل عن تغييرات عميقة في الاستراتيجية والتنظيم أيضاً، لا سيما عن إعادة إحياء مميزة للتكامل الرأسي: على مستوى المؤسسة المفردة والمستوى الوطني على السواء. وتتجسد هذه المقاربة على أكمل وجه في BYD التي سعت إلى أن تبسط سيطرتها على جميع جوانب سلسلة القيمة تقريباً: من تكنولوجيا البطارية - اختصاصها الأول الأساسي - إلى الرقائق الإلكترونية، بل والتوسع باتجاه تملّك مناجم ليثيوم وسفن حاملة للسيارات. علاوةً على ذلك، استفادت الشركة، باستغلالها اليد العاملة الأرخص بكثير في الصين مقارنةً ببلدان كاليابان وألمانيا والولايات المتحدة، من جيش هائل من عمال المصانع، مع عملية إنتاج أشد كثافة بكثير من منافسيها من حيث العمل. وسمحت هذه المقاربة ما بعد الفوردية لـ BYD بخفض التكاليف، في الوقت الذي كانت تنسّق ابتكار مكونات رئيسية مختلفة وتسرّعها في طورٍ محوريّ من تطوّر هذه الصناعة. كما مكّنت هذه المقاربة الشركة من أن تخفف من عدم اليقين المتعلق بالتشغيل، وأن تعالج النقص في العوامل المُدخَلة والخدمات المتنوعة، مثل النقص المستمر في الرقائق منذ العام 2020.

بالتوازي مع ذلك، كانت الحكومة الصينية تدفع إلى تكامل رأسي على المستوى الوطني، حريصة على أن يبقى 80% من سلسلة القيمة الخاصة بالمركبات الكهربائية ضمن حدود البلد عبر خطة «صُنع في الصين 2025» التي تهدف إلى الحدّ من آثار العراقيل، وتهيئة الظروف لتعزيز التفوق التكنولوجي والحفاظ عليه. وفي حين يُرجَّح أن يتبدّل هذا النموذج بتطور علاقات العمل، فإنّ هذا التحوّل نحو «إعادة التكامل» و«الاستدخال» ينطوي على دروس مهمة عن مستقبل التنظيم الاقتصادي والسياسة الصناعية.

ليس هذا المعدن القلوي بالنادر في القشرة الأرضية. لكنّ قلّة فحسب من الأماكن حول العالم هي التي تتمتع بدرجة من التركيز كافية لجعل استخراج الليثيوم مجدياً اقتصادياً، مع كون تشيلي والأرجنتين وأستراليا الدولَ الأكثر حظاً

ثورة المركبة الكهربائية

اشتُهر عن منظّر الإدراة الأميركي بيتر دْرَكر أنّه سمّى صناعة السيارات «صناعة الصناعات»؛ طوال قرن، مثّل تصنيع السيارة الاختبار الحاسم للتنمية الصناعية بسبب تعقيد العوامل المُدخَلة، وطيف الصناعات المتممة أو المُلحَقة، وارتفاع متطلبات رأس المال والمعرفة. فالسيارات تعتمد على قطاعات المناجم والكيماويات والصلب والإلكترونيات، وعلى جيوش من الفنيين وعمال الإنتاج، وعلى آلات ومصانع باهظة. وتوجد حواجز ضخمة بين إنتاج السيارات ودخوله المنافسة، ومخاطر استثمارية كبرى؛ ولهذا السبب لا يسع سوى عدد قليل من البلدان أن تحصل على عضوية في هذا النادي الحصري لتصنيع السيارات. وتظهر هذه التحديات بشكل أشد وضوحاً مع المركبات الكهربائية.

مثل غيرها من التقنيات الخضراء، كالألواح الشمسية، ليست السيارات الكهربائية جديدة تماماً. ففي مطلع القرن العشرين، كانت بعض السيارات الأولى تعمل ببطاريات الرصاص الحمضية الأوّليّة؛ وكان ثلث السيارات في نيويورك في العام 1900 كهربائياً. وبمرور الوقت، تفوّقت المركبات التي تعمل بالبنزين على المركبات الكهربائية نظراً إلى مداها وسرعتها الأكبر، فضلاً عن انخفاض تكاليف تشغيلها بسبب رخص النفط ووفرته. لكن هذا التوازن تغيّر إلى حد كبير في السنوات الأخيرة. فإلى جانب تباهي المركبات الكهربائية بأداء أكثر رياضية (على عكس التصورات الشائعة)، تتصف بتكاليف تشغيل أقل، وتكاليف صيانة وإصلاح أقل، وراحة أكبر في الاستخدام اليومي، وضوضاء أقل. ويثير التوفير في تكاليف التشغيل الإعجاب بشكل خاص، فمن المتوقع أن تؤدي المركبات الكهربائية التي يُعاد شحنها إلى «تقليل تكاليف الطاقة لمركبة من المركبات بنسبة 50% إلى 80% حتى العام 2030، مقارنة بمركبة مماثلة تعمل بالبنزين». وبطبيعة الحال، ومع تطور التكنولوجيا والبنية التحتية، تظل هناك عيوب كبيرة تتمثل في ارتفاع التكاليف الأولية، والمدى المحدود، وأوقات الشحن الطويلة، وفي كثير من البلدان، ندرة نقاط إعادة الشحن.

البطاريات الكهربائية هي ما يصفه الاقتصاديون المتخصصون في الابتكار بأنّه «التكنولوجيا التمكينية» للمركبات الكهربائية، لكنها أيضاً عنق زجاجتها البنيوي. قدمت بطارية أيونات الليثيوم التي اختُرعت في العام 1991 بديلاً أصغر حجماً وأكثر قدرة لسابقتها من النيكل والكادميوم لتشغيل جميع أنواع المنتجات التي تعمل بالبطاريات والتي لم يكن من الممكن تصورها من قبل: من الهواتف الذكية إلى الأجهزة اللوحية، والمكانس الكهربائية الروبوتية، وما يُسمى «وسائل النقل الخفيفة» من الدراجات الكهربائية والسكوترات. لكن تطبيقها على السيارات يعد بأكثر التبعات ثورية. فمنذ اختراع بطارية أيونات الليثيوم، تضاعفت كثافتها الطاقية ثلاث مرات، في حين انخفضت تكلفتها لكل كيلوواط بنسبة تتعدى 90%. ولذلك، يمكن للتكنولوجيا ذاتها التي دعمت هواتف نوكيا وموتورولا في تسعينيات القرن العشرين أن تغذّي الآن السيارات وحتى الباصات. علاوةً على ذلك، من شأن تحسينات عبر متغيّر فوسفات الحديد والليثيوم الذي تستخدمه بالفعل BYD في بطارياتها الرفيعة كالنصل، وتحوّلٍ في بطاريات أيونات الليثيوم من الكهارل السائلة إلى الصلبة، أن تزيد بشكل كبير من السعة وتؤمّن شحناً أسرع.

تفسّر مركزية تكنولوجيا البطاريات في قطاع السيارات الكهربائية أيضاً الأهمية المنسوبة إلى بناء ما يسمى «مصانع غيغا» وهي منشآت تصنيع ضخمة يمكنها إنتاج بطاريات يبلغ إجمالي تخزينها مليارات عدة من الواط الساعي. لماذا أصبح الوصول إلى الليثيوم الآن أمراً بالغ الاستراتيجية. ليس هذا المعدن القلوي بالنادر في القشرة الأرضية. لكنّ قلّة فحسب من الأماكن حول العالم هي التي تتمتع بدرجة من التركيز كافية لجعل استخراج الليثيوم مجدياً اقتصادياً، مع كون تشيلي والأرجنتين وأستراليا الدولَ الأكثر حظاً. ولضمان أمن قدرتها على التوريد، تدخل بعض شركات السيارات الكهربائية الآن في أعمال التنقيب عن الليثيوم مباشرة، إما كمساهمة أو كمالكة وحيدة.

استمدّ الصناعيون الغربيون الإلهام من التصنيع المرن الذي حققته الشركات اليابانية مثل تويوتا التي اعتمدت على شبكة من الموردين الخارجيين والعمالة المؤقتة لامتصاص صدمات السوق، محققة بذلك أرباحاً جانبية من إنتاج المكونات

هنري فورد الجديد

ولّد صعود صناعة السيّارات الصينية ما يقدّر بنحو 140 ماركة تجارية مختلفة للسيارات الكهربائية، لكن القليل منها فحسب هو الذي يبلغ مرتبة BYD من حيث الحجم والمقدار، إذ تجاوزت شركة تيسلا في العام 2023 كأكبر منتج للسيارات الكهربائية في العالم. تأسّست الشركة في شنغن في العام 1995 على يد وانغ شوانفو، وهو يتيم من منطقة آنهوي الريفية الفقيرة درس الكيمياء وعلوم المواد. تشبه عمليات الشركة، شبهاً شديداً ومتعدّد الجوانب، إحياءً كهربائياً لمنطق الإنتاج الضخم الفوردي، بعملية إنتاج كثيفة العمل، وجيش ضخم من عمّال المصانع، وطرائق تايلورية في التنظيم العلمي للإنتاج.

تردّد BYD، في المقام الأول، أصداء التركيز الفوردي على التكامل الرأسي. فكما استحوذ فورد على مناجم الحديد والفحم لإنتاج الفولاذ؛ وعلى مزارع المطاط في البرازيل لإنتاج الإطارات (قبل أن يقضي اختراع الفَلْكَنَة أو تقسية المطاط على الحاجة إلى المطاط الطبيعي)؛ وعلى مناجم رمل السيليكا الأبيض لإنتاج زجاج السيارات الأمامي والنوافذ والمرايا؛ وحتى على الغابات لبناء الأجزاء الخشبية للسيارة، اتجهت شركة BYD للتحكم في إنتاج خلايا البطارية وتجميعها؛ وتصنيع مجموعة توليد الطاقة الكهربائية؛ وأنصاف النواقل والوحدات الإلكترونية؛ والآن حتى استخراج الليثيوم. كما تصنع أيضاً محاور سياراتها، وناقل الحركة، وقمرات القيادة، والمكابح، وأجهزة التعليق «محلياً». وتماماً مثل المصانع الفوردية العملاقة في هايلاند بارك وريفر روج، قامت شركة BYD ببناء منشآت صناعية ضخمة لإنتاج البطاريات والمكوّنات الضرورية الأخرى، ولتجميع السيارات. تقع أربعة منها في شنغن، مسقط رأس شركة BYD، وعشرون في أماكن أخرى في أنحاء الصين، في حين يُبنى عديد من المصانع الجديدة في الخارج، من المجر إلى البرازيل.

في النصف الأول من القرن العشرين، مكّن التكامل الرأسي شركة فورد وغيرها من الشركات من خفض التكاليف الوسيطة، والتحكّم بالإنتاج، وتنسيق الابتكار عبر مراحل التصنيع المختلفة، من تدابير توريد المطاط والصلب إلى توحيد قطع الغيار والمورّدين. وأمّنت الإنتاجية العالية والأجور المرتفعة في سوقٍ احتكاري للقلّة أرباحاً مستقرة في بيئة اقتصادية كلية نزّاعة إلى التوسع، أي في العصر الذهبي للفوردية، بين نهاية الحرب العالمية الثانية ونهاية ستينيات القرن العشرين. وكشفت أزمة النفط في سبعينيات القرن العشرين عن جمود هذا النموذج الصناعي، في الوقت الذي جعل تضخّم الأجور والطلب على مركبات أكثر كفاءة شركات صناعة السيارات الأميركية غير تنافسية. عندئذٍ استمدّ الصناعيون الغربيون الإلهام من التصنيع المرن الذي حققته الشركات اليابانية مثل تويوتا التي اعتمدت على شبكة من الموردين الخارجيين والعمالة المؤقتة لامتصاص صدمات السوق، محققة بذلك أرباحاً جانبية من إنتاج المكونات. وقام مصنّعو السيارات اليابانية بتقسيم خط التجميع إلى جزر إنتاج تديرها فرق معنية بالجودة، واستمالت النقابات نحو أهداف الشركة. وآلَ هذا المنطق في تنظيم الأعمال إلى ضبطٍ أكثر كفاءة للقوى العاملة وتفكيك النقابات العمّالية التي انهارت قدرتها على المساومة حين لم تعد قادرة على التهديد بوقف العمل عبر مراحل الإنتاج.

سارت عملية التلزيم الخارجي جنباً إلى جنب مع نقل جزء كبير من سلسلة القيمة إلى الخارج حيث البلدان ذات تكاليف الأجور المنخفضة. يقول الاقتصادي رافائيل شيابيني: «منذ نهاية الثمانينيات، قامت شركات صناعة السيارات في أوروبا واليابان والولايات المتحدة، مثل جنرال موتورز وفورد وتويوتا وهوندا وفولكسفاغن وأودي وديملر كرايسلر، بتلزيم خارجي لبلدان ناشئة بحصة متزايدة من إنتاج السيارات كي تستفيد من انخفاض تكاليف الإنتاج». وأدى هذا إلى «تقسيم دولي للعمل»، أو بعبارة أكثر سلبية، إلى «تشظي دولي»، أي على وجه التحديد وضعٌ تتخصّص فيه بلدان مختلفة بمراحل معيّنة من سلسلة الإمداد حيث تتمتّع بأفضلية تنافسية. وفي حين كانت نيّة مصنّعي السيارات تحسين الجودة وخفض التكاليف، جعلهم هذا التحوّل أيضاً عرضةً لتعطّل سلسلة الإمداد، الأمر الذي يغدو خطراً متنامياً في هذه الأوقات غير المستقرّة.

عودة التكامل الرأسي

أصبح ضعف سلاسل الإمداد العالمية في أعقاب الوباء وفي سياق المنافسة الأمنية المتزايدة أكثر وضوحاً من أي وقت مضى. وترتّب على ذلك تسلّلُ لغة «النقل إلى الداخل» و«داخلياً» إلى النقاشات السياسية. وفي هذا الصدد، تقدّم شركة BYD مثالاً رائعاً على «إعادة الاستدخال» المعاصر للإنتاج الوطني وعلاقته بالاتجاه الأوسع للسياسات الصناعية الجديدة. وتتبع الشركة البنية النموذجية للتكتل المتكامل رأسياً، حيث تسيطر الشركة المركزية على العديد من الشركات التابعة: BYD Auto، إلكترونيات BYD، BYD  لأنصاف النواقل، BYD لحلول النقل العابر، وBYD FinDreams (الذراع المسؤولة عن إنتاج البطاريات ومكوّنات السيارات المختلفة). وفي حين أن التكامل الرأسي شائع لدى شركات المركبات الكهربائية المنافسة الأخرى، مثل تيسلا، حقّقت BYD درجة تكامل أكبر بكثير من شركة ماسك التي تشتري حوالى 90% من بطارياتها من شركات مثل باناسونيك وCATL.

يعدّ إنتاج البطاريات هو النشاط الأساس الأصلي لشركة BYD، ما ضمن كفاءة عالية في إنتاج العنصر الأكثر أهمية وربما الأكثر ابتكاراً في المركبات الكهربائية. وتتحكم الشركة أيضاً، من خلال الشركة التابعة لها BYD لأنصاف النواقل، في إنتاج الرقائق الإلكترونية التي أثبتت أنها مزية مهمة خلال النقص في الرقائق الإلكترونية بعد العام 2020 بسبب الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة. كما تنتج شركة شوانفو الأجزاء المعدنية والبلاستيكية الخاصة بها، واشترت حصصاً في الشركة المستخرجة للّيثيوم الرائدة في الصين Shengxin Lithium Group، وتتسوّق من أجل المناجمَ في البرازيل. وبذلك حققت شركة BYD سيطرة لا مثيل لها على دورة إنتاجها: وفقاً للشركة، فالإطارات والنوافذ فحسب مُلزّمة خارجياً. وأبرز تقرير في «نيويورك تايمز» (New York Times) أنه في أثناء تصنيع سيارة سيدان سيل ذات الباب الخلفي، تُنتج BYD داخلياً نحو ثلاثة أرباع المكوّنات جميعها، مقارنةً بثلثٍ واحدٍ فقط لدى سيارة فولكسفاغن الكهربائية المماثلة، ما يمنحها تقدماً بنسبة 35% من حيث التكلفة.

تنشط BYD أيضاً بشكل متزايد في الجزء المتعلّق بـ«ما بعد التنفيذ» من صناعة السيارات، أي المبيعات والخدمة. ودخلت مؤخراً قطاع الشحن من خلال BYD Explorer 1، وهي سفينة شحن وتفريغ بالدحرجة قادرة على نقل 5,000 سيارة، ويُتوقع أن تكون الأولى في أسطول متوسّع، ما يضمن تحكم BYD بصورة أفضل بتوصيل منتجاتها. ومثل النموذج الفوردي، تُعد استراتيجية BYD المتكاملة رأسياً كثيفة العمل. ولقد تضاعف موظفو الشركة بظرف عامين فقط، ليبلغ 57,000 عامل في العام 2023 (أقل بقليل من 670 ألف عامل في فولكسفاغن، وأكثر بكثير من 370 ألف عامل في تويوتا). وخلافاً للنموذج الياباني ذي الإنتاج المؤتمت للغاية والذي يتضمّن آلات باهظة الثمن، لطالما اعتمدت BYD بدلاً من ذلك على يد عاملة يدوية رخيصة نسبياً تؤدّي ما لا يُحصى من المهام الصغيرة. وحتى الآن، أثبت هذا النوع من «كثافة رأس المال» الأقل أنه وصفة ممتازة لتوسيع العوائد والأرباح؛ إلا أن هذا قد يتغيّر بارتفاع تكاليف العمل بسبب المنافسة بين شركات السيارات.

إجمالي الأصول وعدد الموظّفين لدى كبار مصنّعي السيارات (2023)

التعلّم من سياسة الصين الصناعية

يبقى نجاح شركة BYD نتاج سياسة صناعية مستدامة. فعلى الرغم من أن جهودها طويلة الأمد الرامية إلى تحقيق «تنمية مكثفة» في صناعة السيارات انتهت مراراً بخيبات الأمل، تمكّنت في نهاية المطاف من استغلال ما أسماه ألكسندر جيرشنكرون «ميزة التأخّر». فمن خلال الاستفادة من دروس دول أخرى في شرق آسيا مثل اليابان وكوريا، سعت الصين وراء سياسات تنموية دولتية للانتقال من التصنيع ذي الجودة المتدنية إلى التصنيع عالي الجودة، مع إيلاء «التكنولوجيات الخضراء» أهمية خاصة.

كان أول ذِكر سياسي لمركبات الطاقة الجديدة في الخطة الخمسية العاشرة (2001-2005). لكنها لم «تُصنَّف كصناعة استراتيجية ناشئة، إلى جانب الطاقة الشمسية وطاقة الرياح»، إلا في أعقاب الأزمة المالية بين عامي 2007-2008. ومثّل إطلاق خطة Sصنع في الصين 2025» في العام 2015، والتي أعلنها شي جين بينغ ورئيس الوزراء لي كه تشيانغ نقطة تحوّل مهمّة في السياسة الصناعية للمركبات الكهربائية. إذ أعلنت الخطة أنّ «التصنيع هو جوهر الاقتصاد الوطني، والجذر الذي تقوم عليه الدولة، وأداة الإنعاش الوطني، والأساس لبلد قوي». وظهرت السيارات الكهربائية ضمن القطاعات العشرة الرئيسة التي تُعتبر محورية لنجاح البلاد في المستقبل، إلى جانب الدارات المتكاملة ومعدات الطيران والمواد الجديدة. والجدير بالذكر أن الخطة أوصت بأن تكون الصين مصدر 80% من جميع المدخلات الضرورية لصناعة السيارات الكهربائية لضمان درجة عالية من «الاستقلال» في إنتاج المركبات الكهربائية. وساهم هذا الدفع باتجاه المصادر المحلية تلك المساهمة الكبيرة في تشكيل استراتيجيات الإنتاج التي تنفذها الشركات المحلية.

تجد الصين نفسها الآن في مكان من التفوق لا يقبل الجدال في هذه الصناعة: 60% من جميع السيارات الكهربائية المنتجة في العام 2023 مصنوعة في الصين. علاوة على ذلك، تمتاز الشركات الصينية بأفضلية هائلة على المنافسين القدامى من حيث التكلفة، تقدر بنحو 25% لشركة BYD، وفقاً لبنك UBS السويسري. ومثل جميع البلدان، يتعيّن على الصين أن تستورد بعض المواد الخام، لا سيما كربونات الليثيوم من تشيلي والأرجنتين والكوبالت من الكونغو. لكنها تتحكم أيضاً بالعناصر الأساسية لتوريد المواد بالغة الأهمية: أكثر من نصف الإنتاج العالمي من الليثيوم، وأكثر من 60% من إنتاج الكوبالت، و70% من المواد الأرضية النادرة. علاوة على ذلك، تستحوذ الصناعة الصينية على أكثر من 70% من مكونات خلايا البطاريات وإنتاج خلايا البطاريات. ويقع ثلثا إنتاج البطاريات العالمي في الصين، حيث تستحوذ CATL وBYD على أكثر من 50% من المخرجات العالمية. وأثبتت هذه الجهود الرامية إلى تطوير سلسلة قيمة مستقلة ومكتفية ذاتياً إلى حد كبير أنها بعيدة النظر في توقع الاضطرابات التي تواجهها سلاسل الإمداد العالمية بسبب الأحوال الجوية القاسية والحرب والتنافس المتزايد بين القوى. والحصة الكبيرة من سلسلة قيمة السيارات الكهربائية تمنح الصين أفضلية نسبية كبيرة إزاء المنافسين، في حين توفر أيضاً الظروف اللازمة للدفاع عن التفوق في الابتكار والملكية الفكرية الذي يُرجّح أن تحقّقه الصين في السنوات المقبلة.

عزّزت الحكومة الصينية هذه التطوّرات من خلال التمويل السخي للعلوم والتكنولوجيا، كما هي الحال مع برنامج 863 الشهير. إذ كانت وزارة العلوم والتكنولوجيا، في عهد مهندس السيارات وان غانغ (2007-2018)، داعماً قوياً لقطاع السيارات الكهربائية. ومن خلال مشاريع مشتركة مثل SAIC-Volkswagen والاستحواذ على موردي السيارات الغربيين، تابعت الحكومة الصينية عمليات نقل التكنولوجيا من الشركات الأجنبية. كما قدّمت المنح أو القروض لشركات السيارات لإقامة منشآت التصنيع والحيلولة من دون الإفلاس، من بين أمور أخرى. لكن الأداة السياسية الرئيسة اتخذت شكل دعم.

تشير التقديرات إلى أن الحكومة الصينية أنفقت 60 مليار دولار على السيارات الكهربائية على شكل دعم بين عامي 2009 و2017. وكان دعم المستهلكين أكثر سخاء من الإعفاء الضريبي البالغ 7,500 دولار الذي قدّمه قانون بايدن للحدّ من التضخّم

تشير التقديرات إلى أن الحكومة الصينية أنفقت 60 مليار دولار على السيارات الكهربائية على شكل دعم بين عامي 2009 و2017. وكان دعم المستهلكين أكثر سخاء من الإعفاء الضريبي البالغ 7,500 دولار الذي قدّمه قانون بايدن للحدّ من التضخّم، مع تضافر الإعفاءات الضريبية الوطنية والإعفاءات الضريبية التي تقرّرها الحكومة المحلّية. فالسلطات المحلية الـ 23 (19 مقاطعة و4 مناطق حضرية) مسؤولة عن حوالي 70% من الإنفاق العام. وتدير هذه الحكومات المحلية سياستها الصناعية بمناصرة المنتجين المحليين من خلال المنح والائتمان الرخيص وعمليات الإنقاذ والإمداد بالأرض، ومن خلال استهداف أن يكون التوريد من مشاريع محلية (على سبيل المثال، بتزويد أسطول سيارات الأجرة المحلي بسيارات من شركة السيارات المحلية).

كذلك، تضم الشركات الصينية التي تملكها الدولة كثيراً من شركات السيارات. ويجري التنسيق بين الشركات التي تملكها الدولة مركزياً من خلال لجنة مراقبة الأصول المملوكة للدولة وإداراتها التابعة لمجلس الدولة (SASAC)، ومن المتوقع أن تساهم في تنفيذ أهداف الحكومة. وبخلاف ذلك، فإنّ بعض شركات السيارات، مثل SAIC، وBAIC، وChery، مملوكة لسلطات المقاطعات المعروفة بدعم الصناعات الخاسرة لحماية الوظائف والقدرة التصنيعية.

من المعروف أن دعم سلطات المقاطعات السياسي «للشركات المحلية»، إلى جانب التدخلات التحفيزية من جانب الحكومة المركزية، يؤدي إلى قدرة بنيوية فائضة، كما كانت الحال في قطاع صناعة الصلب في منتصف العام 2010 عندما اضطرت الحكومة المركزية في نهاية المطاف لأن تفرض عمليات الإغلاق والتوحيد. وعلى الرغم من أن القدرة الفائضة يمكن النظر إليها باعتبارها هدراً اقتصادياً، فإنها تعمل على توليد صراع دارويني من أجل البقاء الاستثماري والابتكار التكنولوجي، ما يغذّي أبطال التصدير الذين يسعهم أن ينافسوا على المستوى الدولي. وهذا ما يخبّئه الآن قطاع السيارات الكهربائية الذي يعاني تشظياً شديداً. وسوف تصبح حرب الأسعار الأولية أكثر ضراوة مع تقليص الدعم تدريجياً واستمرار ضعف الطلب المحلي في الصين. ومع ذلك، فإنه من خلال تقديم وفورات حجم أكبر للفائزين النهائيين، غالباً ما ستجعل لحظة الحساب هذه المركبات الكهربائيةَ الصينية أكثر قدرة على المنافسة على المستوى الدولي.

يعكس تبنّي شركة BYD والحكومة الصينية على نطاق أوسع السياسة الصناعية الموجّهة من الدولة والإنتاج المتكامل رأسياً اتجاهاً ملحوظاً، وإن كان حديث الولادة، داخل الاقتصاد العالمي. وفي حين تتردّد أصداء هذا الاتجاه في انعطافة بايدن الصناعية القائمة على الدعم، لا يزال الاتحاد الأوروبي يتمسّك برؤية ما بعد فوردية وبأمل يحنّ إلى إعادة إحياء العولمة وسلاسل إمدادها الطويلة. ومن المرجّح أن يوصي التحقيق الذي يجريه الاتحاد الأوروبي في شأن المركبات الكهربائية الصينية بزيادة التعرفات على الواردات التي تمثل حالياً ثلث التعرفات الأميركية بنسبة متواضعة تبلغ 9%. وفي آذار/ مارس 2024، بدأ الاتحاد الأوروبي تسجيل المركبات الكهربائية الصينية في الجمارك، ما يعني أنه يمكن تطبيق هذه التعريفات بأثر رجعي. لكنّ التعرفات الجمركية على الواردات لن تقدم سوى قليل العزاء، من دون انعكاس أعمق على البنية المتغيّرة للإنتاج العالمي. وعلى الدول الغربية أن تدرك أنها في كثير من القطاعات مثل السيارات الكهربائية - وللمرة الأولى في التاريخ الحديث - في وضع اللحاق التكنولوجي إزاء منافس أكثر تقدّماً تعتبره أيضاً منافساً جيوسياسياً رئيساً. وبدلاً من تركيز اهتمامها على زيادة الإنفاق العسكري وإثارة المخاوف من نشوب حرب عالمية، يتعيّن على الدول الغربية أن تأخذ التحدي التكنولوجي والصناعي الذي تفرضه الصين على محمل الجد.

 

نشر هذا المقال في Phenomenal World في 11 نيسان/أبريل 2024، وتُرجم وأعيد نشره في موقع «صفر» بموجب اتفاقية تعاون مع الجهة الناشرة. 

  • 1فئة تضمّ المركبات الكهربائية التي تعمل بالبطارية (BEVs) والمركبات الكهربائية الهجينة القابلة للشحن الخارجي (PHEVs) على السواء.