Preview كلفة الحرب على مصر: نقص المناعة مصدراً للأزمات

كلفة الحرب على مصر
نقص المناعة مصدر للأزمات

مع بدء حرب الإبادة على غزّة في 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، لم تبدُ هناك تأثيرات اقتصادية عميقة على مصر. وعلى الرغم من المخاوف من تأثر مرور السفن في قناة السويس نتيجة نشاط حركة «أنصار الله» اليمنية في البحر الأحمر وبعض الآثار المتوقعة على السياحة، إلا أن الدور المصري في المنطقة، وأهمية وساطتها في الصراع، جعلا مساندة مصر ودعمها من القوى الإقليمية والعالمية يتغلبان على الآثار المحتملة للحرب، وبالفعل تحوّل الدعم إلى خطوات فعلية من صندوق النقد والاتحاد الأوروبي والإمارات العربية المتحدة.

لم تنجح آليات الدعم التي حصلت عليها مصر في تخفيف آثار الحرب فحسب، بل أيضاً في ضبط سوق الصرف بعد الفوضى التي تسبّب بها نقص النقد الأجنبي في الربع الأول من العام الجاري، نتيجة تزايد مستحقات الدين الخارجي، كما ساهمت في رفع احتياطي النقد الأجنبي وتحسين الاستيراد الذي عانى من شحّ النقد الأجنبي خصوصاً فيما يتعلق بمستلزمات الإنتاج.

إيرادات قناة السويس

ولكن مع استمرار حرب الإبادة وغياب احتمالات التوصل لاتفاق هدنة في الأفق، زال تأثير المسكنات وبرزت النتائج المباشرة للحرب وباتت أكثر حضوراً وتأثيراً على مصر، التي أصبح لها مصلحة أكيدة في توقف قريب لتلك الحرب لوقف نزيف الخسائر الاقتصادية.

التأثير الأول والأسرع للحرب كان على قناة السويس، إذ أجبرت العمليات في البحر الأحمر الكثير من السفن على تحويل مساراتها للالتفاف حول أفريقيا. وعلى الرغم من أن قناة السويس لا تعد هي المورد الأكبر للنقد الأجنبي في مصر، لكنها تدر نحو 9 مليارات دولار سنوياً، وتعد من أكثر موارد النقد الأجنبي استقراراً.

ومع تصاعد الحرب بدأت إيرادات قناة السويس في التراجع، وتراوحت خسائرها بحسب التصريحات الإعلامية للمسؤولين المصريين بين 40% و60%، ويتضح حجم الخسائر التي منيت بها إيرادات القناة من بيانات موقع شركة (CEIC) لبيانات الاقتصاد الكلي، التي تشير إلى تحقيق قناة السويس في أيار/مايو 2024 إيرادات بلغت 337.8 مليون دولار مقابل 948 مليون دولار في أيار/مايو 2023.

يعكس هذا التراجع الحاد في إيرادات قناة السويس فشل الجهود الدولية أيضاً، لاسيما الجهود الأميركية والبريطانية في تأمين المرور في قناة السويس التي تعدّ الطريق البحري الأسرع بين آسيا وأوروبا. والحوادث التي تعطّل المرور في قناة السويس، قد تقع من وقت لآخر، مثل حادث سفينة «إيفرغرين» الذي وقع قبل عامين أو الأحوال الجوية غير المواتية، لكن امتداد تراجع المرور في قناة السويس لشهور متتالية من تشرين الأول/أكتوبر الماضي حتى الآن، من دون وجود أفق واضح لاستعادة القناة لمعدلات المرور المعتادة، هو ما يفاقم هذا الأثر ويجعل توقف الحرب مسألة هامة لمصر.

لم يظهر تفسير رسمي لتراجع إنتاج حقل ظهر، وتباينت التفسيرات التي تناولتها وسائل الإعلام، بين الانخفاض الطبيعي لإنتاج الحقل نتيجة انخفاض الضغط به جراء السحب، وتسرّب المياه إلى داخل الحقل، والتوسّع في سحب الغاز من الحقل

الأثر الثاني على مصر نتيجة استمرار الحرب أكثر درامية، وهو نقص إمدادات الغاز الغاز الطبيعي. والواقع أن قضية الغاز في مصر اتخذت منحى غاية في التعقيد. بعد اكتشاف حقل ظهر العملاق في البحر المتوسط في العام 2015 وتبيّن أنه يضمّ احتياطات غاز ضخمة، ارتفع سقف التوقعات تجاه توافر مصدر غني للطاقة في مصر. ومع بدء إنتاج الحقل في العام 2017 وارتفاع معدلات الإنتاج لاحقاً لتصل إلى أكثر من 2.7 مليار متر مكعب يومياً، بدأت المساعي المصرية لبناء تحالف إقليمي لإنتاج الغاز الطبيعي والتجارة به، لتصبح مصر مركزاً إقليمياً لتجارة الغاز، لا تعتمد على قدرتها الإنتاجية من الغاز فقط، ولكن أيضاً على وجود محطات إسالة الغاز في دمياط وإدكو على ساحل المتوسط. كان الطموح المصري أن يتحوّل ساحلها على المتوسط إلى مركز لاستقبال الغاز من دول المنطقة المنتجة للغاز، وضمنها إسرائيل، لتسييله وتصديره إلى أوروبا.

لم تستمر هذه الطموحات كثيراً، إذ تراجع الإنتاج في حقل ظهر العملاق في منتصف العام 2022، ولم يعد يحقق فائضاً للتصدير. ولم يظهر تفسير رسمي لتراجع إنتاج حقل ظهر، وتباينت التفسيرات التي تناولتها وسائل الإعلام، بين الانخفاض الطبيعي لإنتاج الحقل نتيجة انخفاض الضغط به جراء السحب، وتسرّب المياه إلى داخل الحقل، والتوسّع في سحب الغاز من الحقل، وعدم سداد مستحقات الشركات الأجنبية.

بغض النظر عن التفسيرات الرسمية وغير الرسمية فإن الواقع الذي تحقق بالفعل هو تراجع إنتاج الغاز، وقد تزامن مع أزمة في توفير النقد الأجنبي، بل وتسبّب فيها أيضاً بسبب تراجع قدرة مصر على تصدير الغاز. عندها بدأت الحكومة في خطط ترشيد الكهرباء لتوفير الغاز للتصدير وبالتالي تأمين  النقد الأجنبي، وهو ما انعكس انقطاعاً للتيار الكهربائي بشكل منهجي وخفض كميات الغاز الموجهة إلى الشركات كثيفة الاستهلاك للغاز مثل شركات الأسمدة والكيماويات.

مع بدء عملية طوفان الأقصى وما تبعها من حرب إبادة صهيونية في غزة، توقف ضخّ الغاز الإسرائيلي إلى مصر، والذي بلغ قبل بدء الحرب 0.9 مليار متر مكعب يومياً، وهو ما انعكس مباشرة في انقطاع الكهرباء لفترات أطول ووقف تزويد المصانع بالغاز وتوقفها، فضلاً عن توقف قدرة مصر عن التصدير بالكامل.

على الرغم من استئناف ضخّ الغاز من إسرائيل إلى مصر تدريجياً من تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، استمرت أزمة توفير الغاز لمحطات الكهرباء والمصانع، وتراوحت صعوداً وهبوطاً، لا أنها لم تنته، وعلى الرغم مما تناقلته وسائل إعلام محلية وعالمية عن زيادة واردات مصر من الغاز الإسرائيلي عن مستويات ما قبل الحرب لتصل لحوالي 1.1 مليار متر مكعب يومياً، إلا أن هذه الزيادة ليست كافية، خصوصاً مع بدء موسم الصيف وارتفاع درجات الحرارة وما يصاحبه من زيادة استهلاك محطات الكهرباء للغاز وزيادة استهلاك الكهرباء، وهو ما انعكس في زيادة ساعات انقطاع الكهرباء إلى ثلاث ساعات يومياً وتزيد عن ذلك في بعض المناطق، بالإضافة لتوالي توقف شركات الأسمدة والكيماويات عن العمل بسبب نقص الغاز.

لا يحتاج ربط أزمة الغاز في مصر بالحرب في غزة لكثير من الجهد، فرئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي نفسه حاول تفسير أزمة انقطاع الكهرباء لساعات طويلة في مؤتمر صحافي، وبرر ذلك بنقص الغاز نتيجة توقف واردات الغاز من «إحدى دول الجوار».

تحوّل الغاز في مصر من مصدر للنقد الأجنبي عبر التصدير إلى أحد أوجه استنزافه. تتسم قضية الغاز في مصر بدرامية عالية، فمن الاكتفاء الذاتي والتصدير والطموح بالتحوّل إلي مركز إقليمي لإنتاج وتجارة الغاز، إلى نقص حاد في الإمدادات لا يعالجه الاستيراد إلا جزئياً

لم يكن أمام الحكومة المصرية الكثير من الخيارات لتوفير الغاز، فاضطرت للتعاقد على استيراد شحنات غاز مسال لسد النقص، واستئجار وحدة تغويز عائمة لتحويل الشحنات السائلة إلى غاز يغذّي الشبكة القومية في مصر.

هكذا تحوّل الغاز في مصر من مصدر للنقد الأجنبي عبر التصدير إلى أحد أوجه استنزافه. تتسم قضية الغاز في مصر بدرامية عالية، فمن الاكتفاء الذاتي والتصدير والطموح بالتحوّل إلي مركز إقليمي لإنتاج وتجارة الغاز، إلى نقص حاد في الإمدادات لا يعالجه الاستيراد إلا جزئياً. وهكذا أيضاً تحولت حرب الإبادة الصهيونية في غزة مع الوقت إلى كابوس حقيقي لمصر.

وعلى الرغم من أن بداية الحرب لم توحِ بعواقب وخيمة على مصر، خصوصاً مع صمود قطاع السياحة أمام الأحداث، وتدفق الدعم والمساعدات، إلا أن امتداد تلك الحرب أنتج تآكلاً كبيراً في أكثر موارد النقد الأجنبي استقرار، وأدت إلى نقص حاد في إمدادات الغاز لمصر، بعد تراجع قدراتها الإنتاجية محلياً، وهو ما نقلها من دولة مصدرة إلى دولة مستوردة.

تراكم آثار الحرب تجعل مصر صاحبة المصلحة الأولى في توقفها والتوصل إلى أي تسوية كانت.

ولكن هذه الرغبة المصرية الأكيدة لا تدعمها أدوات تأثير وازنة. على الرغم من الدور المصري كوسيط بين أطراف الصراع، إلا أن احتياج مصر الشديد للغاز من إسرائيل، يجعل أدوات الضغط المصرية المحتملة شبه معدومة على إسرائيل. ومع إحكام الحصار الإسرائيلي على غزة ومنعها دخول أي مساعدات وسيطرتها على معبر رفح، لا تملك مصر فعلياً ما تقدمه لغزة حتى على المستوى الإنساني، وهو ما يفقدها أيضاً قدرتها على التأثير.

الحرب التي تفجرت ليست سوى حلقة جديدة من حلقات تأثر الاقتصاد المصري بالمتغيرات الخارجية. من كورونا، إلى اضطراب سلاسل التوريد، إلى لحرب الروسية الأوكرانية، وصولاً إلى حرب غزة، يبدو الاقتصاد المصري شديد الحساسية لأي متغير، كذلك تبدو أدوات مواجهة تلك الأزمات محدودة دائماً. 

والحقيقة أن التقاط المريض للعدوى بشكل متكرر يعني ببساطة أن الأزمة الأصلية في مناعته تجاه العدوى، فالعدوى موجودة دائماً. وهذا ما يبدو أنه ينطبق على الاقتصاد المصري، إذ على الرغم من أن كل العوامل الخارجية التي أثرت فيه كانت حقيقية ومؤثرة فعلاً، إلا أن أهم ما كشفته هو ضعف مناعة هذا الاقتصاد أمام أي متغير. ومع تجاهل هذا الضعف تتحول تلك العوامل من أسباب للأزمة إلى مبررات لها.