Preview الضريبة المؤجلة على الأرباح من البورصة

الضريبة المؤجلة على الأرباح من البورصة:
الفقراء يدفعون والأغنياء معفيون

فرّرت الحكومة المصرية تأجيل تطبيق ضريبة الأرباح الرأسمالية على التعاملات في البورصة المصرية إلى شهر آذار/مارس 2025. بهذا التأجيل تكون الحكومة المصرية استغرقت عشر سنوات كاملة في محاولة تطبيق هذه الضريبة واستمرت في تأجيلها من دون أن تتمكّن من تطبيقها منذ صدور قانون بها في العام 2014.

إن ضريبة الأرباح الرأسمالية على البورصة من المفترض أن تطبّق على المكاسب الناتجة عن تداول أسهم البورصة، وتستهدف الفارق بين سعري البيع والشراء في حالة تحقيق ربح من بيع الأسهم. ارتبط صدور قانون ضريبة الأرباح الرأسمالية على البورصة وتأجيل تطبيقه المتتالي بالسياق السياسي والاجتماعي. فقد تقرّرت الضريبة في العام 2014 بنسبة 10% على الأرباح الناتجة عن بيع الأسهم، وكانت التقديرات الأولية لحصيلة الضريبة تراوح بين 8 و10 مليارات جنيه سنوياً.

أتى صدور قانون ضريبة الأرباح الرأسمالية كجزء من حزمة سياسات اجتماعية واقتصادية تم إقرارها في ذلك الوقت، وتضمّنت كذلك ضريبة استثنائية على الدخل تطبّق على ما يزيد عن مليون جنيه سنوياً بنسبة 5%، ليرتفع الحد الأقصى للضريبة على الدخل إلى 30%، وإقرار حدّ أدنى للأجور بقيمة 1,200 جنيه شهرياً، وهو المطلب الذي رفعه العمّال قبل سنوات من إقراره، وفرض حد أقصى للأجر الشامل بواقع 35 مثل الحد الأدنى للأجور، وهو ما كان مُقرّراً تطبيقه على العاملين بالحكومة والقطاع العام. 

تقرّرت الضريبة في العام 2014 بنسبة 10% على الأرباح الناتجة عن بيع الأسهم، وكانت التقديرات الأولية لحصيلة الضريبة تراوح بين 8 و10 مليارات جنيه سنوياً

هذه الحزمة من الإجراءات الاجتماعية والاقتصادية، والتي بدت أكثر انحيازاً للطبقات الفقيرة، وأكثر استجابة للمطالبة بتصحيح السياسات الضريبية، كانت مدفوعة بحركة اجتماعية نشطة، وزخم ثوري لم يكن قد انقطع بعد. على سبيل المثال، هذه الحزمة من الضرائب التي أقرّت على أرباح البورصة والدخل في نيسان/أبريل 2014، سبقتها موجة إضرابات عمّالية واسعة النطاق احتجاجاً على الطريقة التي تم بها تطبيق الحد الأدنى للأجور.

صدر قرار رفع الحد الأدنى للأجور في خريف 2013 على أن يتمّ تطبيقه بدءاً من العام 2014. وكانت هذه أكبر موجة من الاحتجاجات العمّالية تواجهها السلطة الجديدة التي تشكّلت عقب الإطاحة بالرئيس الأسبق محمد مرسي في حزيران/يونيو 2013، وبدا انعكاس هذا الصعود في الحركة العمّالية والاجتماعية واضحاً على الخطاب الاجتماعي للسلطة وقتها. وعلى الرغم من التراجع الملحوظ في الزخم الثوري الذي تفجّر منذ العام 2011، إلّا أن تأثير الثورة لم يكن قد انقطع تماماً، خصوصاً أن السلطة الجديدة أصرّت على أنها امتداد لثورة يناير لدعم شرعيّتها، وأن انقلاب 30 حزيران/يونيو موجة ثورة مكمّلة لثورة يناير.

ما يؤكّد ارتباط تلك الإجراءات الضريبية بالظرف الجماهيري هو تراجع السلطة عنها مع تراجع الظرف الجماهيري. ومع محاصرة الحركة العمّالية وقمع النشاط السياسي في تلك الفترة، بدأت الحركة في الانكماش تدريجياً، وفي الوقت نفسه بدأ التراجع عن الإجراءات التي بدت مُنحازة للفقراء. فتم وقف تحصيل الضريبة الاستثنائية على الدخول العليا في العام 2015 بعد عام واحد من تطبيقها بدلاً من ثلاث سنوات. وتوالى استثناء فئات وقطاعات من الحد الأقصى للأجور حتى أصبح بلا قيمة فعلية.

أما ضريبة الأرباح الرأسمالية على البورصة فقد استمرّت محاولات تطبيقها عشر سنوات كاملة من دون جدوى. ففي أيار/مايو من العام 2015، قرّرت الحكومة تأجيل تطبيق ضريبة الأرباح الرأسمالية لعامين. ولم يكن ذلك التأجيل الأخير، فقد قررت الحكومة مجدداً في العام 2017 تأجيل تطبيق الضريبة لثلاث سنوات أخرى، ليصبح مجموع سنوات التأجيل خمس سنوات. ومع الوصول لمحطة وباء كورونا قبل انتهاء التأجيل الثاني، أصبح هناك سبباً أكثر واقعية للتأجيل مجدداً، وبحجّة الوباء تأجّل تطبيقها لمدة عامين أخرين، بالإضافة إلى تخفيضها من 10% إلى 5%، وعادت الحكومة للتأجيل مرّة أخرى في العام 2022، مؤكدة عزمها تطبيق الضريبة في العام 2023 وبدء تحصيلها في العام 2024 من دون تأجيل جديد. ولكن عزم الحكومة لم يصمد أمام المستثمرين فاضطرت مجدداً لتأجيل تطبيقها حتى العام 2025. 

هذه الحزمة من الضرائب التي أقرّت على أرباح البورصة والدخل في نيسان/أبريل 2014، سبقتها موجة إضرابات عمّالية واسعة النطاق احتجاجاً على الطريقة التي تم بها تطبيق الحد الأدنى للأجور

اتسمت قرارات الحكومة بالمرونة الشديدة عندما تعلّقت قراراتها بالضرائب على الأغنياء، سواء ضريبة الأرباح الرأسمالية، التي تؤدّي دوراً هاماً في السيطرة على المضاربات في البورصة وترشد معاملات المستثمرين، عدا عن أهمّيتها حصيلتها لخزانة الدولة، أو الضريبة الاستثنائية على الدخول العليا، التي تراجعت عنها بعد عام واحد من تطبيقها، وحتى الحد الأقصى للأجور الذي جرى محوه تقريباً عبر الاستثناءات.

لم تتمتع قرارات الحكومة بالمرونة نفسها عندما تعلّق الأمر بالضرائب على الفقراء. لقد شهدت الفترة بين عامي 2014 و2024 تحولاً لافتاً في تركيبة الضرائب في مصر. و بينما اتسمت الإجراءات الضريبية التي عزمت عليها الدولة تجاه الأغنياء بالمرونة، كانت إجراءاتها الضريبية الموجّهة إلى الفقراء أكثر حسماً. ففي نهاية العام 2016، وبالتزامن مع إبرام اتفاقية قرض مع صندوق النقد الدولي بدأت الحكومة في تطبيق ضريبة القيمة المضافة على السلع والخدمات بنسبة 14%، وهي الضريبة التي ساهمت على نحو فوري في رفع معدّلات التضخّم إلى مستويات قياسية وقتها، لم تعد تلك المستويات قياسية بعد الطفرات التي شهدها التضخّم في مصر لاحقاً. وكان تطبيق تلك الضريبة متزامناً أيضاً مع تحرير أسعار الوقود وبعض الخدمات، ومع تحرير سعر الصرف، ما أدّى إلى آثار مركبة على معدلات التضخم. ومن أهم سمات ضريبة القيمة المضافة أنها لا تميز بين الأغنياء والفقراء، وهي بالأساس ضريبة على الاستهلاك وليس على الدخل، وعلى الرغم من التفاوت في الاستهلاك بين الطبقات الفقيرة والغنية، تتحمّل الطبقات الفقيرة العبء الأكبر من تمويل تلك الضريبة لأنه حتى مع معدلات الاستهلاك المتواضعة يصبح الحجم الكلّي لاستهلاك غالبية السكان أكبر من استهلاك الشرائح الغنية المحدودة.

اللافت هنا أن تأجيل تطبيق ضريبة الأرباح الرأسمالية على البورصة جاء عقب بدء تطبيق ضريبة القيمة المضافة، وكانت الضريبتان معاً ضمن وصايا صندوق النقد الدولي لإتمام الاتفاق، ولكن اختارت الحكومة الالتزام بوصية الصندوق فيما يتعلّق بالضريبة غير المباشرة وإلغاء الدعم وتحرير سعر الصرف والتشديد النقدي، ولكنها خالفته في تطبيق ضريبة الأغنياء، وعلى ما يبدو أن صندوق النقد متسامح في مثل تلك المخالفات.

هذا الانحياز في السياسة الضريبية انعكس في الحصيلة الإجمالية للضرائب، والتي شهدت تغييراً ملحوظاً منذ العام 2014 حتى الآن، ففي العام المالي 2013/2014 كانت حصيلة الضرائب على السلع والخدمات 91,867 مليار جنيه بنسبة 35.3% من إجمالي الضرائب، وكانت الضرائب على الدخول والأرباح والمكاسب الرأسمالية 120.925 مليار جنيه بنسبة 46.5% من إجمالي الضرائب، أي أن الضرائب المباشرة التي تطبّق حسب مستوى الدخل كانت نسبتها أعلى من الضرائب غير المباشرة التي تتجاهل التفاوت في الدخل.

اختارت الحكومة الالتزام بوصية الصندوق فيما يتعلّق بالضريبة غير المباشرة وإلغاء الدعم وتحرير سعر الصرف والتشديد النقدي، ولكنها خالفته في تطبيق ضريبة الأغنياء، وعلى ما يبدو أن صندوق النقد متسامح في مثل تلك المخالفات

في العام المالي الجاري أصبحت الضرائب على السلع والخدمات 664 مليار جنيه بنسبة 43.4% من إجمالي الضرائب، بينما الضرائب على الدخول والأرباح والمكاسب الرأسمالية بلغت 594 مليار جنيه بنسبة 38.8%. أي أن الضرائب غير المباشرة تجاوز وزنها الضرائب المباشرة.

وفي مشروع موازنة العام المقبل 2024/2025 بلغت الضرائب على السلع والخدمات 828 مليار جنيه بنسبة 40% من إجمالي الضرائب، بينما بلغت ضرائب الدخل والأرباح والمكاسب الرأسمالية 782.2 مليار جنيه بنسبة 39%، وعلى الرغم من التراجع الظاهر في الفجوة بين الضرائب المباشرة وغير المباشرة في مشروع موازنة العام المقبل، هناك نقطتان يجب وضعهما في الاعتبار، الأولى أن الضرائب غير المباشرة هي ضرائب مؤكدة التحصيل لأنها تضاف على قيمة السلعة مباشرة ولا يمكن التهرب منها، بعكس الضرائب المباشرة، فيما عدا الضرائب على الرواتب والأجور والتي تحصل من المنبع. والملاحظة الثانية هي أن الضرائب غير المباشرة قابلة للزيادة في خلال العام المالي نتيجة معدلات التضخم. لذلك، إن الفجوة التي يبدو أنها ضاقت في مشروع الموازنة قد تعود للاتساع في الحساب الختامي.

وقد يكون المثال الأوضح لانحياز الحكومة في سياستها الضريبية هو الطريقة التي تعاملت بها مع وباء كورونا. ففي مواجهة الوباء، قرّرت الحكومة تأجيل تطبيق ضريبة الأرباح الرأسمالية وخفضها بنسبة النصف، وفي الوقت نفسه قرّرت تأجيل الضريبة العقارية على المنشآت الصناعية والسياحية، وقرّرت خفض أسعار الغاز والكهرباء للشركات والمصانع ضمن حزمة دعم موسّعة للمستثمرين ورجال الأعمال. ولكن لم تبادر الحكومة إلى وقف تحصيل ضريبة القيمة المضافة أو حتى تخفيضها لدعم المواطنين في مواجهة الوباء، في الوقت الذي أظهرت فيه التقارير الرسمية تضرّر النسبة الأكبر من الأسر المصرية جراء الوباء وضعف القدرات الاستهلاكية. وبدلاً من ذلك، فرضت الحكومة ضريبة جديدة على كافة العاملين بأجر بنسبة 1% من الأجر، وعلى أصحاب المعاشات بنسبة 0.5% من قيمة المعاش تحت اسم ضريبة كورونا لمجابهة الوباء.

لا يكشف قرار الحكومة بتأجيل تطبيق ضريبة الأرباح الرأسمالية لعام آخر أي جديد، فانحيازات الحكومة الاقتصادية أظهرتها كل خطواتها، ولم تجتهد الحكومة حتى في تجميلها. ولكن هذا القرار لا يؤكّد انحياز الحكومة فقط، بل ارتباط إصدار قانون الضريبة على الأرباح الرأسمالية في البورصة بالحراك السياسي والاجتماعي، والتراجع عنه مع تراجع ذلك الحراك، ما يعني أن أي تغيّر في بيانات الموازنة العامة لن يكون إلا انعكاساً لتغييرات أخرى تجري على الأرض.