معاينة فرانشيسكا ألبانيزي

اقتصاد العقوبات
لماذا تستهدف الولايات المتحدة فرانشيسكا ألبانيزي؟

في التاسع من تموز/يوليو 2025، أضحت المقررة الخاصة للأمم المتحدة فرانشيسكا ألبانيزي الهدف الأحدث للعقوبات الأحادية الأميركية. وظهرت موجة محقة من الغضب إزاء خطوة إدارة ترامب غير المسبوقة، داخل الولايات المتحدة وخارجها حول العالم، بما في ذلك من جانب الأمم المتحدة ومقررين خاصين آخرين.

تنتهك هذه العقوبات القانون الدولي، لكنّها تستند إلى قانون أميركي بعينه، وتحديداً أمر العقوبات الصادر عن إدارة ترامب في شباط/فبراير 2025 ضد المحكمة الجنائية الدولية. بيد أنّ قرار الحكومة الأميركية بمعاقبة ألبانيزي يتجاوز المحكمة الجنائية الدولية والمسوغات الأمنية القومية التي استند إليها ذلك الأمر، ويهدف قبل كل شيء إلى حماية مصالح الولايات المتحدة الاقتصادية وأرباح شركاتها، بعدما طالها التهديد نتيجة تقرير ألبانيزي الأخير.

هذه الجوانب من العقوبات على ألبانيزي ليست حالة شاذة، بل تمثل عناصر ظلّت طويلاً محتجبة في سياسة العقوبات الأحادية للولايات المتحدة. لطالما كانت هذه العقوبات الأحادية (لا سيما حين تلجأ إليها الولايات المتحدة) أدوات للقوة الاستعمارية والإمبراطورية، وحرباً بوسائل أخرى، وانتهاكاً لحقوق الإنسان للمتأثرين بها، وعديمة الفاعلية وسلبية. لكن كما يظهر من العقوبات المفروضة على ألبانيزي، تظل هذه القائمة من الدوافع المشينة والنتائج التعسفية والإخفاقات النظامية ناقصة. فحين يتعلق الأمر بالحكومة الأميركية، تُستعمل العقوبات الأحادية أيضاً لصون مصالح الدولة الاقتصادية وأهدافها، بما فيها مصالح شركاتها.

يستعرض هذا المقال بعض المصالح الاقتصادية والشركاتية المدعومة عبر برامج العقوبات الأميركية، بما فيها العقوبات المفروضة على فرانشيسكا ألبانيزي. وهذه العقوبات الموجَّهة ضد خبيرة حقوق إنسان تهدّد أعمالها هيمنة الولايات المتحدة الاقتصادية وسمعة وأرباح شركات أميركية كبرى لعلها أنصع مثال على الأهداف الاقتصادية والشركاتية الملازمة لسياسة العقوبات الأميركية.

المصالح الاقتصادية والعقوبات الأميركية

لا ترمي العقوبات الاقتصادية، بحسب الرؤية التقليدية، إلى تعزيز مصالح الدولة الفارضة أو تحقيق أهداف اقتصادية، من قبيل الحصول على تنازلات تجارية أو فرض حماية تجارية. بل تُعد أدوات للسياسة الخارجية والأمن الوطني، يُستعاض بها عن العمل العسكري بالإكراه الاقتصادي لتحقيق غايات سياسية. والغرض منها الضغط على الأطراف المستهدفة لتغيير أنشطتها أو سياساتها القائمة، أو معاقبتها على تلك الأنشطة أو السياسات، أو ردعها منذ البداية عن اتخاذ هذه الأنشطة أو السياسات.

لطالما كانت هذه الرؤية للعقوبات الاقتصادية بوصفها سياسية بحتة رؤية إشكالية. فالعقوبات تتعلق أيضاً، ولا مفر من ذلك، بالسياسات الاقتصادية. وحتى حين استخدامها لتحقيق أهداف سياسية، تدخل الاعتبارات الاقتصادية في صميم القرار بشأن أي عقوبات تُفرَض وعلى مَن.

قرار الحكومة الأميركية بمعاقبة ألبانيزي يتجاوز المحكمة الجنائية الدولية، ويهدف قبل كل شيء إلى حماية مصالح الولايات المتحدة الاقتصادية وأرباح شركاتها

فالعقوبات، على سبيل المثال، قد تترك آثاراً اقتصادية سلبية على المستهلكين والشركات في الدولة الفارضة. فعادةً تمنع العقوبات الأميركية مواطني الولايات المتحدة من الانخراط في التجارة والمعاملات الاقتصادية مع الدول والأفراد الأجانب المعاقبين. وقد يحول ذلك دون وصول هؤلاء الأشخاص إلى السلع والخدمات التي يحتاجون إليها أو يعتمدون عليها. أما العقوبات الثانوية (وهي التي تحظر على حكومات أخرى، وكذلك على رعايا دول ثالثة خارج الدولة الفارضة، التعامل مع الكيانات والأشخاص الخاضعين للعقوبات) فقد تسفر أيضاً عن عواقب اقتصادية سلبية على تلك الأطراف الثالثة.

قد لا تحدد هذه النتائج دائماً مسار السياسة الأميركية في فرض العقوبات، لكنها تفعل ذلك أحياناً. وقد اتضح هذا جلياً في العقوبات الغربية ضد روسيا. فعلى الرغم من أنّ الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يفرضان منذ غزو روسيا لأوكرانيا في العام 2014 عقوبات قاسية على قطاع الطاقة الروسي، فإنّ تلك العقوبات - حتى وقت قريب - «لم تمس قدرة روسيا على الحفاظ على الإنتاج القائم في المنبع وإمداد الأسواق العالمية». بعبارة أخرى، صُمِّمَت العقوبات الأميركية والأوروبية لدرء العواقب الاقتصادية الكارثية التي كانت ستنجم عن فرض عقوبات على مصادر الطاقة الروسية والتي كانت ستمس أوروبا وبقية العالم.

علاوة على ذلك، تنعكس الاعتبارات «الاقتصادية» في العقوبات الأميركية فوائدَ اقتصادية داخلية محتملة، من قبيل حماية الصناعات المحلية ونقل الثروة إلى الولايات المتحدة. على سبيل المثال، جاءت المجموعة الأولى من العقوبات الأميركية المفروضة على إيران في تشرين الثاني/نوفمبر 1979 (قيل إنّها رد على أزمة الرهائن) في الأساس لحماية المصارف الأميركية من سحب إيران أصولها من تلك المؤسسات. وبالمثل، في تسعينيات القرن الماضي، فضّلَ نواب من الولايات الأميركية المنتجة للنفط تشديد العقوبات على العراق خوفاً من أن ينافس النفط العراقي صناعة النفط الأميركية من جملة أسباب أخرى.

ينطوي نقل الثروة بفعل العقوبات على فوائد غير مباشرة تجنيها المصارف الأميركية التي تحتفظ بأصول خاضعة للعقوبات. فقد أشارت إحدى المحاكم إلى أنّ الأصول المجمدة «الهاجعة في خزائن المصارف» يمكن توظيفها «في استخدامات مفيدة» تجني أرباحاً للبنك. كما أنّ قوانين فيدرالية عدة جعلت هذه الأصول متاحة لفئات معينة من المدعين الخاصين داخل الولايات المتحدة. بموجب تلك القوانين، يستطيع المدعون حجز بعض الأصول المعاقَبة (وقد تصل قيمتها إلى مليارات الدولارات) لتنفيذ أحكام قضائية قائمة. وبهذا، يتمكن هؤلاء المدعون ومحاموهم من الاستيلاء على أصول لا يمكن حجزها عادةً، عائدة لدول وكيانات وأشخاص خاضعين للعقوبات، ونقل تلك الثروة عملياً إلى الولايات المتحدة.

لكن أكثر أشكال العقوبات فجاجة واتساعاً المستخدمة في نقل الثروة إلى الولايات المتحدة وتعزيز مصالحها الاقتصادية نجده ربما في سياسات الرسوم الجمركية لإدارة ترامب. فهذه الرسوم تستند إلى «قانون سلطات الطوارئ الاقتصادية الدولية». صدر هذا القانون في العام 1977 وهو القلب النابض لنظام العقوبات الأميركي، ويمنح رئيس الولايات المتحدة سلطة واسعة لتنظيم مجموعة من المعاملات الاقتصادية بعد إعلان حالة طوارئ وطنية. مستنداً إلى تلك الصلاحيات الواسعة، لجأ ترامب، للمرة الأولى في التاريخ، إلى فرض رسوم على معظم الشركاء التجاريين للولايات المتحدة.

ظهرت المجموعة الأولى من هذه الرسوم في الأول من شباط/فبراير 2025، حين أصدر ترامب أوامر تنفيذية عدة تستهدف المكسيك وكندا والصين، وفرض رسوماً على بضائع تلك البلدان. وفي حين تستند هذه الرسوم إلى مخاوف أمنية قومية تطال «الهجرة غير القانونية» وتهريب المخدرات، فإنّها تحقق أيضاً الفوائد الاقتصادية التقليدية المرتبطة بسياسات الرسوم، أي جلب عائدات للخزينة الأميركية، وهو هدف واضح لسياسة الإدارة.

وبعد شهرين، في الثاني من نيسان/أبريل، أصدرت الإدارة أمراً تنفيذياً جديداً يستند إلى القانون ذاته، لفرض رسم «تبادلي» نسبي قدره 10% على جميع الواردات إلى الولايات المتحدة، مع استثناءات معينة، وفرض رسوم أعلى على الواردات القادمة من نحو 60 بلداً والاتحاد الأوروبي. وإلى جانب توليد العائدات للحكومة، تهدف هذه الرسوم «التبادلية» صراحة إلى معالجة المخاوف الاقتصادية الأميركية الأكبر، أعني معالجة «العجز التجاري السلعي الكبير والمزمن». وفي التاسع من نيسان/أبريل، علَّقت الإدارة معظم الرسوم الأعلى الخاصة بالدول لمدة 90 يوماً، لكنها أبقت على رسم الـ10% على معظم الواردات. ثم مددت الإدارة هذا الرسم حتى الأول من آب/أغسطس 2025 في 7 تموز/يوليو.

على الرغم من حكم محكمتين على الأقل حتى الآن بعدم جواز الاستناد إلى هذا القانون لفرض الرسوم الجمركية المعنية، فإنّ تنفيذ الحكمين توقف، وظلت الرسوم بالتالي قائمة. وسواء صدّقت المحاكم في النهاية على هذه الرسوم أو لم تفعل، فإنّ استخدام إدارة ترامب للقانون في صياغة السياسة الاقتصادية يوضح كيف تُستعمل سلطات العقوبات الأميركية لتحقيق مصالح الولايات المتحدة الاقتصادية. لقد أشار بعض الباحثين إلى أنّ صياغة القانون الفضفاضة قد تشمل الرسوم الجمركية، وتركت إحدى المحكمتين الباب مفتوحاً أمام إمكانية استخدام القانون لفرض رسوم محدودة مستقبلاً.

مصالح الشركات والعقوبات على ألبانيزي

تستند العقوبات المفروضة على فرانشيسكا ألبانيزي إلى هذا الإرث من حماية المصالح الاقتصادية والشركاتية للولايات المتحدة. فقد هدّد عمل ألبانيزي تلك المصالح مباشرة حين نشرت في 30 حزيران/يونيو 2025 تقريراً بعنوان «من اقتصاد الاحتلال إلى اقتصاد الإبادة». يوضح التقرير، الصادر عن ألبانيزي بصفتها مقررة خاصة، كيف أنّ فاعلين من القطاع الخاص جنوا أرباحاً وساهموا وتواطأوا في الاحتلال الإسرائيلي ونظام الفصل العنصري والاستعمار الاستيطاني والإبادة بحق الشعب الفلسطيني. ويذكر التقرير أسماء شركات أميركية بارزة مثل «لوكهيد مارتن» و«آي بي إم» و«مايكروسوفت» و«أمازون» و«ألفابت» (الشركة الأم لغوغل) و«إير بي إن بي» و«بلاك روك» و«فانغارد» و«بلانتير». ويدعو التقرير إلى محاسبة هذه الشركات على أرباحها غير المشروعة، بما في ذلك عبر تحقيقات وملاحقات جنائية لتلك الكيانات ومديريها أمام المحكمة الجنائية الدولية والمحاكم الوطنية.

ينطوي نقل الثروة بفعل العقوبات على فوائد غير مباشرة تجنيها المصارف الأميركية التي تحتفظ بأصول خاضعة للعقوبات. فالأصول المجمدة يمكن توظيفها «في استخدامات مفيدة» تجني أرباحاً للبنك

كان بوسع إدارة ترامب فرض العقوبات على ألبانيزي حين فرضت العقوبات على المحكمة الجنائية الدولية أو في أي وقت لاحق، لكنّها لم تفعل ذلك إلّا بعد نشر التقرير. وإلى جانب هذا التوقيت المريب، فإنّ تصريحات عدد من المسؤولين الأميركيين، بما فيها إعلان وزير الخارجية ماركو روبيو للعقوبات ورسالة خاصة من الممثلة الأميركية المؤقتة لدى الأمم المتحدة دوروثيا شيا إلى الأمين العام أنطونيو غوتيريش، تجعل من الصعب إنكار الصلة الوثيقة بين تقرير ألبانيزي والعقوبات المفروضة عليها.

أشار روبيو ضمنياً، في إعلانه العقوبات، إلى تقرير ألبانيزي حين ذكر الرسائل التي وجهتها إلى شركات أميركية بعينها تخطرها بانتهاكها للقانون الدولي وتتيح لها فرصة الرد قبل صدور التقرير. وصف روبيو تلك التحركات بأنّها «حرب اقتصادية» تهدد «المصالح الوطنية والسيادة» للولايات المتحدة. وقد تضمنت رسالة شيا الموجهة إلى غوتيريش في 20 حزيران/يونيو حججاً مشابهة؛ إذ أشارت إلى رسائل ألبانيزي إلى شركات أميركية، ووصفتها بأنّها «من أبرز الشركات الأميركية في مجالات التكنولوجيا والخدمات المالية والتصنيع والضيافة». وزعمت، كما فعل روبيو، أنّ «هذه الرسائل تشكّل حملة غير مقبولة من الحرب السياسية والاقتصادية على الاقتصاد الأميركي والعالمي». وقد اختتمت رسالتها بالتهديد باتخاذ «إجراءات شديدة رداً على... مخالفة [ألبانيزي]»، إذا لم تتخذ الأمم المتحدة خطوات بحقها.

على الرغم من أنّ رسالة شيا حفلت بادعاءات لا أساس لها، فإنّها صدقت في أمر واحد؛ فالشركات الأميركية الواردة في تقرير ألبانيزي تندرج بين «أبرز الشركات الأميركية». وقد لاحظ أحد المعلقين أنّ كثيراً من تلك الشركات تمثل «جوهرة التاج للقوة الأميركية»، وأنها «متغلغلة عميقاً في المؤسستين العسكرية والاستخبارية الأميركية، وتضخ أموالاً وفيرة لكثير من السياسيين في واشنطن». في الواقع، الشركات المذكورة في التقرير من بين الأكثر قيمة في الولايات المتحدة. فشركات التكنولوجيا مثل ألفابت وأمازون ومايكروسوفت تأتي في مقدمة الشركات الكبرى من حيث القيمة السوقية، وبلاك روك وفانغارد لاعبين هامين في قطاع الخدمات المالية الذي يسهم بدرجة كبيرة في الناتج المحلي الإجمالي الأميركي.

وتقرير ألبانيزي بكشفه كيفية مشاركة هذه الشركات في الأعمال غير القانونية والجرائم الإسرائيلية وجنيها للأرباح منها يهدّد صورة تلك الشركات وأرباحها ويضرب في صميم الهيمنة الاقتصادية الأميركية، وقد تجد تلك الشركات نفسها الآن في مواجهة حملات مقاطعة من المستهلكين بل وملاحقات قضائية في بعض النظم القضائية المحلية.

إنّ العقوبات المفروضة على فرانشيسكا ألبانيزي هجوم غير مبرر وغير شرعي وغير قانوني يستهدف ألبانيزي نفسها، والأمم المتحدة، والقانون الدولي، والعدالة والحرية للشعب الفلسطيني. لكنها في الوقت ذاته تكشف حقيقة ما تقوم به العقوبات الأحادية ومَن تفيد. فالعقوبات الأحادية بعيداً من كونها أدوات تُستخدم حصراً لصالح المصالح الوطنية والسياسات الخارجية للدول، بإمكانها أن تخدم الأهداف الاقتصادية للدول، بما فيها تعزيز أرباح الشركات وتراكمها. قد لا تظهر هذه الديناميات في جميع برامج العقوبات، لكنها بالتأكيد جزء من سياسة الولايات المتحدة.

تُستخدم العقوبات الأحادية الأميركية للحفاظ على القوة الاقتصادية العالمية لأميركا. وكما يتجلى في العقوبات المفروضة على ألبانيزي، يبدو أنّ الولايات المتحدة تفهم أنّ هذا التفوق مرتبط، في جزء منه على الأقل، بحصانة الشركات على الرغم من تواطؤها ومشاركتها في الإبادة وسائر الجرائم الدولية. بهذا المعنى، يمثّل تقرير ألبانيزي تهديداً للأمن القومي الأميركي، فهذا الأمن لطالما قام على الهيمنة الاقتصادية التي تستمد قوتها من الحرب الدائمة، والمراقبة والقمع بلا حدود، والتدمير اللامتناهي للأماكن والناس في الداخل والخارج.

ولعل هذا المثال يعكس بأبلغ صورة العفن الكامن في صميم الاقتصاد الأميركي والعقوبات الأحادية الأميركية.

نُشِر هذا المقال في 31 تموز/يوليو 2025 في The Law and Political Economy Project، وتُرجِم إلى العربية ونُشِر في موقع «صفر» بموافقة مسبقة من الجهة الناشرة. 

    علاء بريك هنيدي

    مترجم، حاصل على ماجستير في المحاسبة، وشارك في تأسيس صحيفة المتلمِّس. صدر له ترجمة كتاب ديفيد هارفي «مدخل إلى رأس المال» عن دار فواصل السورية، وكتاب جوزيف ضاهر «الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني» عن دار صفصافة المصرية، وكتاب بيتر درَكر «الابتكار وريادك الأعمال» عن دار رف السعودية، وكانت أولى ترجماته مجموعة مقالات لفلاديمير لينين عن ليف تولستوي صدرت ضمن كراس عن دار أروقة اليمنية. كما نشر ترجمات عدّة مع مواقع صحافية عربية منها مدى مصر، وإضاءات، وذات مصر، وأوان ميديا.