Preview صراعات المياه

صراعات المياه

نعيش في عالم من التطرّفات الخطيرة والمميتة. تحطّم موجات الحرّ أرقاماً قياسية، كما نشهد جفافاً شديداً، وأعاصير قوّية وفيضانات مفاجئة غير مسبوقة. ما من مكان على الأرض في منأى عن غضب التغيّر المناخي الذي يسبّبه الإنسان، وبالفعل تواجه المياه العذبة ضغوط هذا الواقع الجديد. يتعرّض أكثر من نصف بحيرات العالم وثلثا أنهاره للجفاف، ما يهدّد الأنظمة البيئية والأراضي الزراعية وإمدادات مياه الشرب. ومن المرجّح أن يؤدّي تناقص الموارد إلى صراع بل ربما إلى حرب شاملة.

تشير التقديرات في العام 2023 إلى أن ما يزيد عن 3 مليارات نسمة، أو أكثر من 37% من البشرية، يواجهون نقصاً حقيقياً في المياه، وهي أزمة من المتوقع أن تتفاقم في العقود المقبلة

حذّرت دراسة نشرت في مجلّة Global Environmental Change في العام 2018 من أن «التنافس على موارد المياه المحدودة هو أحد المخاوف الرئيسة في العقود المقبلة». و«على الرغم من أن قضايا المياه وحدها لم تكن السبب الوحيد للحرب في الماضي، فإن التوترات بشأن إدارة المياه العذبة واستخدامها تمثّل أحد المخاوف الرئيسة في العلاقات السياسية بين الدول، وقد تؤدي إلى تفاقم التوترات القائمة وعدم الاستقرار الإقليمي والاضطرابات الاجتماعية».

الوضع أكثر من خطير. في العام 2023، تشير التقديرات إلى أن ما يزيد عن 3 مليارات نسمة، أو أكثر من 37% من البشرية، يواجهون نقصاً حقيقياً في المياه، وهي أزمة من المتوقع أن تتفاقم في العقود المقبلة. ومن المفارقات أنه يجري بناء السدود الضخمة - أكثر من 3 آلاف سدّ - بوتيرة غير مسبوقة على المستوى العالمي، وهي تحتاج لتدفقات نهرية كبيرة في حين أن المياه تتناقص. فضلاً عن ذلك، يجري بناء 500 سد في مناطق محمية قانونياً مثل المتنزهات الوطنية ومحميات الحياة البرية. وتطرح مبرّرات لهذه الأفعال كما زعمت الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) التابعة للأمم المتحدة قبل بضع سنوات، على اعتبار أن مشاريع مماثلة قد تساعد في مكافحة تغيّر المناخ عبر الحد من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بالتوازي مع توفير الكهرباء لمن هم في أمس الحاجة إليها.

وكتبت الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ في العام 2018: «تبقى [الطاقة الكهرمائية] أكبر مصدر للطاقة المتجددة في قطاع الكهرباء. وتشير الأدلة إلى أن «استمرار إمكانية نشر هذه الطاقة بمستويات مرتفعة نسبياً على مدى السنوات العشرين المقبلة، إذ يجب أن تبقي الطاقة الكهرمائية مصدراً جذاباً للطاقة المتجددة في سياق سيناريوهات التخفيف العالمي للغازات الدفيئة».

أقرَّت الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيّر المناخ بأن حالات الجفاف المتواصلة تؤثر في تدفق المياه، وأنّ تغير المناخ يؤدّي إلى تفاقم الأمور على نحو لا يمكن التنبؤ به. لكن، لا يزال خبراء المناخ في الهيئة يؤكدون أنّ الطاقة الكهرمائية يمكن أن تشكل جزءاً جوهرياً من تحول الطاقة العالمي، ويزعمون أن سداً كهربائياً واحداً يمكن أن ينتج طاقة لا نهاية لها. وفي الوقت نفسه، تمتلك مصادر الطاقة المتجددة الأخرى، مثل طاقة الرياح والطاقة الشمسية، حدوداً مرتبطة بالطقس وأشعة الشمس.

ثغرة في المنطق الداعي إلى بناء السدود

مهما تكن النوايا حسنة، أصبح من الواضح الآن أن هناك ثغرة في تقدير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيّر المناخ. أولًا، تشير الأبحاث الحديثة إلى أنّ السدود التي تعمل بالطاقة الكهرمائية يمكن أن تخلق كمية مثيرة للقلق من انبعاث غازات الدفيئة المسبّبة لتغير المناخ. وتطلق النباتات المتعفنة في قاع هذه الخزانات، لا سيما في المناخات الحارة (كما هي الحال في معظم أنحاء أفريقيا)، كميات كبيرة من غاز الميثان إلى الغلاف الجوي، وهو غاز مدمر من غازات الدفيئة.

لا يبقى الميثان في الغلاف الجوي إلّا عشر سنوات، في حين يبقى ثاني أكسيد الكربون قروناً عدّة، لكن مساهمة الميثان في ظاهرة الاحتباس الحراري، في خلال 20 عاماً، تزيد بنحو 3 أضعاف على مساهمة ثاني أكسيد الكربون

يوضح فريد بيرس من صحيفة الإندبندنت أنّ «معظم هذه النباتات كانت ستتعفن في جميع الأحوال. لكن التحلل، من دون الخزانات، يحصل في الغلاف الجوي أو في الأنهار أو البحيرات الغنية بالأكسجين، ووجود الأكسجين يضمن أنّ يشكّل الكربون الموجود في النباتات ثاني أكسيد الكربون. لكن كثيراً من الخزانات، لا سيما في المناطق الاستوائية، لا يحتوي إلا على القليل من الأكسجين. وفي مثل هذه الظروف اللاهوائية، تولّد النباتات المتعفنة غاز الميثان بدلاً من ثاني أكسيد الكربون ».

وعلى الرغم من أن ثاني أكسيد الكربون يلحق أضراراً جسيمة بالمناخ أيضاً، فإنّ انبعاثات غاز الميثان تبقى أسوأ بكثير على المدى القصير.

تقول بريدجيت ديمر من كلية فانكوفر للبيئة التابعة لجامعة ولاية واشنطن، والمؤلفة الرئيسة لدراسةٍ كثيراً ما يُستشهَد بها عن انبعاثات غازات الدفيئة من الخزانات: «نقدّر أنّ السدود تُطلق ميثان بما يزيد بمقدار 25% مقارنة بالتقديرات السابقة. لا يبقى الميثان في الغلاف الجوي إلّا عشر سنوات، في حين يبقى ثاني أكسيد الكربون قروناً عدّة، لكن مساهمة الميثان في ظاهرة الاحتباس الحراري، في خلال 20 عاماً، تزيد بنحو 3 أضعاف على مساهمة ثاني أكسيد الكربون».

ليست هذه بالمشكلة الوحيدة التي تواجهها السدود في القرن الحادي والعشرين. في الوقت الحالي، يُعَد التمويل الصيني المحرك العالمي الأكثر أهمية لبناء طاقة كهرومائية جديدة. موّلت الصين إنشاء ما لا يقل عن 330 سداً في 74 بلداً. ولكلّ مشروع من هذه المشاريع مشكلاته البيئية الخاصة. وأولى هذه المشكلات أن ارتفاع حرارة الكوكب - كان العام الماضي هو الأكثر حرارة في تاريخ البشرية، وكان كانون الثاني/ يناير 2024 الأكثر سخونة على الإطلاق بالمقارنة مع بقية الأعوام - يجعل كثيراً من هذه الاستثمارات محل شكّ متزايد. على سبيل المثال، في عالمنا الذي يزداد سخونة يترك الجفاف في الإكوادور آثاراً على تشغيل سدّ أمالوزا الواقع على نهر بوت ويؤمّن 60% من كهرباء البلاد. يعمل هذا السد بنسبة 40% من قدرته نتيجة تضاؤل ​​تدفق النهر. وبالمثل، تقلّبت مستويات المياه في خزان سدّ كاريبا الواقع بين زامبيا وزيمبابوي في أفريقيا الجنوبية، ما أضعف قدرته على إنتاج مقدار ثابت من الطاقة.

يقول جاك ليزلي في Yale E360: «في السنوات الأخيرة، تسبّب الجفاف الشديد الناجم عن تغيّر المناخ في انخفاض الخزانات في القارات الخمس إلى ما دون المستويات اللازمة للحفاظ على إنتاج الطاقة الكهرمائية، ومن المحتمل أن يزداد الأمر سوءاً مع تفاقم تغير المناخ».

حتى في الولايات المتحدة، تشكل استمرارية الطاقة الكهرمائية مصدر قلق متزايد. وعلى سبيل المثال، فقد تركت سنوات من الجفاف أثرها في سد هوفر على نهر كولورادو. ويواصل منسوب المياه في خزانه، أي بحيرة ميد، الانخفاض، ما يثير المخاوف من أن أيامها أصبحت معدودة. وينطبق الأمر نفسه على سد غلين كانيون، الذي أقيم على نهر كولورادو وشكّل بحيرة باول. ومع جفاف نهر كولورادو، قد يفقد غلين كانيون أيضاً قدرته على إنتاج الكهرباء.

بسبب تضاؤل ​​الموارد المائية، تغدو أزمة الطاقة الكهرمائية العالمية بؤرة ملتهبة في أفريقيا الشمالية، إذ يمكن أن يؤدي إنشاء سد عملاق إلى حرب إقليمية وما هو أسوأ من ذلك.

أزمة على النيل

نهر النيل هو شريان الحياة في شمال شرق أفريقيا، يتدفق عبر 11 دولة قبل أن يصب في البحر الأبيض المتوسط. يبلغ طوله 6,650 كيلومتراً، وقد يكون أطول نهر على وجه الأرض. ومنذ آلاف السنين، تروي مياهه، التي تتدفق في مجرى متعرج عبر غابات خضراء وصحارى جافة، الأراضي الزراعية وتوفر مياه الشرب لملايين البشر. يعيش ما يقرب من 95% من سكان مصر البالغ عددهم 109 ملايين نسمة على مساحة بضع كيلومترات حول نهر النيل. ويمكن القول إنّ أهم مورد طبيعي في أفريقيا هو الآن في قلب النزاع الجيوسياسي بين مصر وإثيوبيا والسودان، ما جعل هذه البلدان على شفا صراع عسكري.

والسد الكبير الذي يُبنى على طول النيل الأزرق، الرافد الرئيس للنهر، يقلب الوضعَ القائم في المنطقة التي لطالما شكلت مصر البلد البارزة فيها. ومن المقرر أن يصبح سد النهضة الإثيوبي الكبير (GERD) واحداً من أكبر السدود الكهرمائية في العالم، إذ يمتد على أكثر من 1,700 متر ويبلغ ارتفاعه 145 متراً، ما سوف يثير إعجاب كُثُر واستياء كُثُر.

يفتقر نحو 45% من جميع الإثيوبيين إلى الطاقة المنتظمة، ويَعِد سد النهضة بإنتاج ما يصل إلى 5.15 غيغاواط من الكهرباء. ولوضع ذلك في نصابه الصحيح، فإنّ غيغاواط واحد يكفي لتزويد 876 ألف أسرة سنوياً في الولايات المتحدة بالطاقة

لا شك أنّ إثيوبيا تحتاج إلى الكهرباء التي سينتجها سد النهضة. يفتقر نحو 45% من جميع الإثيوبيين إلى الطاقة المنتظمة، ويَعِد سد النهضة بإنتاج ما يصل إلى 5.15 غيغاواط من الكهرباء. ولوضع ذلك في نصابه الصحيح، فإنّ غيغاواط واحد يكفي لتزويد 876 ألف أسرة سنوياً في الولايات المتحدة بالطاقة. بدأ بناء السد في العام 2011، واكتمل نحو 90% منه في آب/أغسطس الماضي حين بدأ ينتج الطاقة الكهربائية. وفي المجمل، من المتوقّع أن تفوق تكلفة سد النهضة 5 مليارات دولار، ما يجعله أكبر مشروع للبنية التحتية نفّذته إثيوبيا على الإطلاق وأكبر سدّ في القارة الأفريقية.

لن يوفّر السدّ طاقة يمكن الاعتماد عليها في إثيوبيا فحسب، بل يعِد أيضاً بتحول ثقافي يرحب به كثيرون. تقول فلسان آبدي من وزارة المرأة والطفل والشباب في إثيوبيا: «نحن الأمهات اللواتي ولدن في الظلام، والفتيات اللواتي يجلبن الحطب للنار بدلاً من الذهاب إلى المدرسة - انتظرن سنوات طويلة، بل قروناً- ليتحقق ذلك. وعندما نقول إن إثيوبيا ستكون منارة للازدهار، فإن الأمر يبدأ هنا».

في حين قد تنظر غالبية الإثيوبيين إلى السد من منظور إيجابي، فإنّ دولتي المصب، مصر والسودان (المتورطة في حرب أهلية مدمرة)، لم تُستشارا على الإطلاق، ويشعر المسؤولون فيهما بالاستياء. سوف يحتوي الخزان الضخم خلف الجدار الإسمنتي الضخم لسد النهضة على 74 مليار متر مكعب من المياه. وهذا يعني أن إثيوبيا سوف تتمتع بسيطرة كبيرة على تدفق نهر النيل، ما يمنح قادتها القدرة على تحديد كمية المياه التي سوف يحصل عليها كل من المصريين والسودانيين. يبقى أن النيل الأزرق يوفّر 59% من إمداد المياه العذبة في مصر.

والواقع أن المياه العذبة في مصر تغدو أكثر ندرة منذ فترة طويلة. ولذلك أخذت قيادة البلاد تهديد سد النهضة على محمل الجد لسنوات. ففي العام 2012، على سبيل المثال، حصلت ويكيليكس على رسائل إلكترونية داخلية من شركة «الاستخبارات العالمية» ستراتفور تكشف أن مصر والسودان كانتا تفكّران منذ ذلك الوقت في توجيه القوات الخاصة المصرية لتدمير السد، الذي كان لا يزال في مراحل البناء الأولى. ونُقل عن مصدر مصري رفيع المستوى قوله «[نحن] نناقش تعاوناً عسكرياً مع السودان». وعلى الرغم من أنّ مثل هذا الهجوم المباشر لم يحدث، فقد ادّعت ستراتفور أنّ مصر قد تقدّم الدعم لـ «جماعات مسلحة تقاتل بالوكالة ضد إثيوبيا» (كما فعلت في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته) في حال وصلت الدبلوماسية إلى طريق مسدود.

من المؤسف أنّ المفاوضات الأخيرة أخفقت في تسكين العداء بشأن سد النهضة. وفي نيسان/أبريل الماضي، ردّ المصريون الغاضبون على عدم إحراز أي تقدم ملموس بإجراء مناورة عسكرية لمدة ثلاثة أيام مع السودان في قاعدة بحرية في البحر الأحمر هدفت إلى إخافة المسؤولين الإثيوبيين. وحذّر وزير الخارجية المصري سامح شكري من أنّ «كل الخيارات مطروحة ولدى مصر إمكاناتها».

تبدو إثيوبيا غير مبالية بمثل هذه التهديدات العسكرية، وتخطّط للانتهاء من بناء السد، زاعمة أنه سيوفر الطاقة التي يحتاجها الإثيوبيون الفقراء الأشد الحاجة ويحدّ من البصمة الكربونية الإجمالية للبلاد. وأكدت السفارة الإثيوبية في واشنطن أنّ «[سد النهضة] يمثل مشروعاً اجتماعياً واقتصادياً مستداماً لإثيوبيا: استبدال الوقود الأحفوري وتقليل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون».

لكنَّ سد النهضة يبقى مشكلة كبرى، لا لأنه قد يؤدي إلى حرب دموية في منطقة تعاني أصلاً من اضطرابات مرعبة فحسب، بل لأن امتلاء خزانه الضخم سوف يغطي مساحة مذهلة تبلغ 1,874 كيلومتراً مربعاً، ما يجعله يفوق ثلاثة أرباع حجم بحيرة سولت ليك (Salt Lake) الكبرى في ولاية يوتا (بعد أن بدأت في الانحسار).

من المؤسف أن سد النهضة لم يخضع مطلقاً لتقييم مناسب للأثر البيئي على الرغم من أن إجراء تقييم كهذا أمرٌ مطلوب قانوناً. لم يُجْرَ أي تقييم للأثر البيئي على الإطلاق لأن الحكومة الإثيوبية المعروفة بفسادها كانت تعلم أن النتائج لن تكون مرضية، وهي غير مستعدة للسماح لأي عقبة بأن تعيق بناء السدّ، ما أصبح أكثر وضوحاً عندما بدأ إجبار ما يزيد عن 20,000 من السكان الأصليين في جوموز وبيرتا على ترك منازلهم لإفساح المجال أمام السد الهائل.

ثَبُت أن الوقوف علناً في معارضة بناء السد أمرٌ محفوف بالمخاطر. فقد تعرّض موظّفو منظمة الأنهار الدولية، وهي منظّمة غير ربحية تدافع عن المعرضين للخطر بسبب السدود، للمضايقات وتلقوا تهديدات بالقتل رداً على معارضتهم. وسُجن الصحافي الإثيوبي البارز ريوت أليمو، المنتقد لبناء السد ولأفعال الحكومة بشأنه، لأكثر من أربع سنوات بموجب قوانين مكافحة الإرهاب الصارمة.

تنامي النفوذ الصيني على المستوى الدولي وفي أفريقيا - حيث تمتلك مشاريع بنية تحتية ضخمة في 35 دولة أفريقية - هو أمر بالغ الأهمية لفهم أحدث نسخة من الجغرافيا السياسية الإمبريالية في العالم

حروب المياه الكهربائية

في حين تسببّ سد النهضة بصراع محفوف بالمخاطر، فإن له أيضاً تداعيات دولية. فالصين التي أدّت مثل هذا الدور المحوري في تمويل مشاريع الطاقة الكهرمائية على مستوى العالم في هذه السنوات، قدّمت 1.2 مليار دولار لمساعدة الإثيوبيين في بناء خطوط نقل من السد إلى البلدات المجاورة. ونظراً إلى أن الصين تستثمر بكثافة في مصر أيضاً، فهي فتحتل موقعاً ملائماً إذا ما أراد أي بلد من البلدين المساعدة في تجاوز نزاع سد النهضة.

يرى محللون عسكريون في الولايات المتحدة إنّ انخراط الصين في موضوع السد هو جزء من سياسة تهدف إلى وضع الولايات المتحدة في وضع غير ملائم في السباق لاستغلال المعادن الأرضية النادرة الوفيرة في أفريقيا، بدءاً من مناجم الكوبالت في الكونغو وصولاً إلى رواسب الليثيوم الضخمة في إثيوبيا. ضخّت الصين، «أكبر دائن» في العالم، الأموال إلى أفريقيا بالفعل. واعتباراً من العام 2021، كانت أكبر دائن في تلك القارة، إذ تستحوز على 20% من إجمالي ديونها. وتنامي النفوذ الصيني على المستوى الدولي وفي أفريقيا - حيث تمتلك مشاريع بنية تحتية ضخمة في 35 دولة أفريقية - هو أمر بالغ الأهمية لفهم أحدث نسخة من الجغرافيا السياسية الإمبريالية في العالم.

ترتبط معظم مشاريع الصين الأفريقية بـ«مبادرة الحزام والطريق» التي أطلقتها بكين، وهو برنامج هذا القرن لتمويل صفقات البنية التحتية عبر أوراسيا وأفريقيا. لكنّ علاقات الصين الاقتصادية مع أفريقيا بدأت مع سعي الزعيم الصيني ماو تسي تونغ في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي إلى إقامة تحالف «أفروآسيوي» من شأنه أن يتحدّى الإمبريالية الغربية.

بعد عقود عديدة، أصبحت فكرة تحالف كهذا ثانوية بين رغبات الصين الاقتصادية العالمية التي، شأنها شأن عديد من المشاريع الإمبراطورية السابقة في أفريقيا، لها جوانب سلبية كبيرة بالنسبة لأولئك الذين هم في الطرف المتلقي. تحتاج البلدان النامية رأس المال أشدّ الحاجة، ما يجعلها على استعداد لأن تقبل شروط الصين وأحكامها الصارمة، حتى لو كانت تمثل أحدث نسخة من الاستعمار القديم والاستعمار الجديد الذي ركز على السيطرة على موارد القارة الغنية. ويصدق هذا بالتأكيد في حالة استثمارات الصين في الطاقة الكهرمائية في أماكن مثل سد بوي في غانا وسد نهر الكونغو في جمهورية الكونغو، حيث تُسدّد قروضاً بمليارات الدولارات مقابل النفط الخام من الكونغو ومحاصيل الكاكاو في غانا.

في العام 2020، تدخلت الولايات المتحدة متأخرة في نزاع سد النهضة، وهددت بوقف 130 مليون دولار من المساعدات الموجّهة لجهود إثيوبيا في مكافحة الإرهاب. اعتقد الإثيوبيون أن الأمر مرتبط بالجدال حول السد، كما فعلوا حين وجهت إدارة بايدن، في حزيران/يونيو 2023، الوكالة الأميركية للتنمية الدولية بوقف جميع المساعدات الغذائية للبلاد (ما يزيد عن 2 مليار دولار)، بزعم أنها لا تصل إلى الإثيوبيين، لتقوم بعكس ذلك تماماً بعد أشهر.

يجب أن يكون النزاع على سد إثيوبيا الضخم تحذيراً مما يخبّئه المستقبل لكوكب أكثر حرارة وجفافاً، حيث تجفّ الأنهار التي تغذّي سدوداً مثل سد النهضة، في حين تواصل القوى العظمى تنافسها على المواقع، على أمل السيطرة على ما تبقى من موارد العالم. لن تساعد الطاقة الكهرمائية في حل أزمة المناخ، لكن مشاريع سدود جديدة قد تؤدي إلى حروب على شيء واحد أساسي لبقائنا: النّفاذ إلى مياه عذبة نظيفة.

نُشر هذا المقال في Tom Dispatch في 18 شباط/فبراير 2024، وتُرجِم وأعيد نشره في موقع «صفر» بموافقة مسبقة من الجهة الناشرة.