خدمات الكهرباء والمياه
بنيوية الواسطة وتجذّرها في لبنان
ما يشكّل حقاً بديهي – كالحصول على خدمات المياه والكهرباء – أصبح يعدّ في لبنان رفاهية. من الأمثلة البارزة تجربة جنوب أفريقيا، التي ضمنت منذ العام 1996، في إطار سياسة «مياه أساسية مجانية» (Free Basic Water)، لكل أسرة كمية مياه أساسية مجانية شهرياً (Republic of South Africa, 1996)، بالتوازي مع ذلك، ذهبت المحكمة الهندية العليا في تفسيرها للمادة 21 من الدستور، التي تنص على «الحق في الحياة والحرية الشخصية»، لتشمل الحق في بيئة نظيفة وصحية بما في ذلك توفير الماء والكهرباء (Supreme Court of India, 1996). على المنوال نفسه، أطلقت البرازيل بدورها برنامجاً يهدف إلى إيصال الطاقة للمناطق النائية في الأمازون، من خلال استخدام الطاقة المتجددة كالطاقة الشمسية (Oliveira, et al., 2024 p. 12). في المقابل، لا يزال اللبنانيون يعانون للحصول على أبسط مقومات العيش، ما يحوّل حقوقاً أساسية كالحصول على خدمات المياه والكهرباء إلى امتياز هشّ يصعب ضمانه.
انطلاقاً من هذه المقارنة مع بعض التجارب الدولية، تبرز الحاجة إلى معاينة الواقع اللبناني من خلال المعطيات الميدانية. فقد أجرينا مسحاً شمل 530 مواطناً ومواطنة موزّعين على المحافظات اللبنانية المختلفة، بهدف قياس إدراكهم لحقوقهم وتجاربهم مع خدمات المياه والكهرباء، إضافة إلى المعوقات التي يواجهونها. توزّعت العينة على الشكل الآتي: جبل لبنان (33%)، بيروت (13%)، بعلبك–الهرمل (13%)، النبطية (12.1%)، عكار (7.7%)، الجنوب (5.7%)، الشمال (7%)، والبقاع (6.5%). وعلى الرغم من أن هذه العينة ليست ممثلة إحصائياً، غير أنها توفّر مؤشرات أولية كاشفة عن الهشاشة في حصول الناس على الخدمات العامة، وتحديداً في قطاعي الكهرباء والمياه، إذ تحوّلت تلك الخدمات من حقوق بديهية في دول أخرى إلى مكتسبات يصعب ضمانها في لبنان. وتكشف الأرقام عن مفارقة صارخة في المصادر الذي يعتمد عليها مستجيبي العينة لحصولهم على الكهرباء والمياه. والواقع، يعتمد 19.8% فقط من المستطلعين على مؤسسة كهرباء لبنان حصرياً، بينما يلجأ ثلثا العينة إلى مصادر رسمية وخاصة للحصول على الكهرباء، ويلجأ ما نسبته 14.20% بالكامل على البدائل الخاصة. أما المياه، فالأمر ليس أفضل بكثير، إذ تصل المياه عبر المؤسسات العامة إلى 37.9% من المواطنين فقط، فيما يعتمد 32% على بدائل وحلول خاصة (آبار خاصة وشراء صهاريج المياه وغيرها)، ويلجأ 30.20% إلى خليط بين الاثنين معاً. تعكس هذه البيانات الفعالية المحدودة للخدمات العامة في توفير الكهرباء بالمقارنة مع المياه، كما تظهر آليات تكيّف الناس مع نقص الكهرباء والمياه عبر اللجوء إلى مصادر خاصة، ما يعكس واقعاً اقتصادياً واجتماعياً معقداً يفرض الاعتماد على الذات والخيارات غير الرسمية. لا تعكس هذه الأرقام الخلل التقني فقط، إنما يمكن القول بأنها صدمة اجتماعية تؤكد أن ما يُفترض أن يكون حقاً عام أصبح امتيازاً هشّاً، وأن الدولة فقدت موقعها كضامن أول لأبسط مقومات العيش.
الواسطة من خيار فردي إلى ممارسة بنيوية
يتعدّى الأمر الحق بالحصول على الخدمات، ليطال نوعية تلك الخدمات، كلفتها وجودتها. فقد وصف نصف المستجيبين للمسح (خدمات الكهرباء 54.9%، والمياه 50.7%) بأنها مرهقة وبيروقراطية، فيما اعتبر 27.9% أن الكهرباء مكلفة و21.6% أن المياه كذلك. أما نسبة من وجدوا أن الخدمة «سهلة وواضحة» فبقيت هامشية (13% للكهرباء و12.6% للمياه). وعلى الرغم من هذه الرداءة في الخدمة وارتفاع كلفتها، لم يقرّ سوى 4.2% من المستطلَعين بأنهم لجؤوا إلى الواسطة للحصول على الكهرباء و6.1% للمياه، ما قد يوحي للوهلة الأولى أن الواسطة ليست ظاهرة متفشية. إلا أنّ الملاحظة المعاشة مقرونة بالقراءة السوسيولوجية لهذه النتائج قد تكشف بأن الصورة الأولية قد تكون مضللة.
فمن خلال تقاطع المعطيات الميدانية، يظهر كيف تحوّلت الواسطة من حلّ استثنائي إلى ممارسة يومية مطبّعة، إلى درجة أن كثيراً من المواطنين لم يعودوا يدركونها كخيار مستقل يستحق التصريح به. بهذا المعنى نتساءل كيف تحوّلت الواسطة من سلوك ظرفي إلى ممارسة بنيوية مستبطَنة (habitus) بالمعنى البورديوي، أي جزء من الحياة اليومية يُمارَس ويعاد إنتاجه من دون وعي الأفراد الكامل بها أو إدراكها كممارسة خارجة عن المألوف؟
في سياق الإجابة عن هذا التساؤل تكتسب المعطيات أهمية خاصّة، إذ تكشف عن آراء وسلوكيات بالغة الدلالة عن البنية الزبائنية للعلاقات بين المواطن والدولة في لبنان. فعلى الرغم من النسبة الضئيلة التي عبرّت عن لجوئها إلى الواسطة كسبيل ضروري للحصول على الخدمة، ما قد يوحي بأن الاعتماد عليها أمراً غير سائد، إلا أن هذه النتيجة لا تعكس بدقّة واقع الأمر. فقد اعتبر 51.7% من المستطلَعين أن اللجوء إلى الوسيط أو الزعيم يحسم الأمر بالكامل، بينما رأى 24% أن هذا اللجوء لا يؤثر، في حين عبّر 24.3% عن عدم معرفتهم بمدى تأثيره.
فقد تحولت الواسطة بالمعنى الذي يستخدمه بورديو (1986) إلى عادة اجتماعية مستبطَنة (habitus)، أي أصبحت ممارسة متجذرة في البناء الاجتماعي لا نعيها بحيث يتعذّر الإفصاح عنها بشكل ملموس على الرغم من أنها تتجلّى بشكل واضح في الممارسة العملية كما في إدراك الأفراد لآليات الوصول إلى حقوقهم. من هنا تمثّل النتائج دليلاً ملموساً إلى ما نشير له، أي أنها تدلّل على الطابع البنيوي للزبائنية في لبنان، إذ لم تعد استثناءً بل آلية مؤسِّسة لتنظيم العلاقة بين المواطن والدولة.
هشاشة الدولة والواسطة المستبطنة
تعكس هذه النتائج على المستوى السوسيولوجي 3 ملامح أساسية. الملمح الأول، يشير إلى طغيان الزبائنية كآلية بديلة لتحصيل الحق، إذ يدرك نصف المستطلعين بأن الحقوق العامة لا تُحصّل إلا عبر وسيط، ما يدل على تراجع المواطنة القانونية لصالح مواطنة مشروطة قائمة إما على العلاقات الشخصية أو على شبكات الولاء السياسي والطائفي. الملمح الثاني، يظهر التوزّع بين من يرى أن الواسطة حاسمة ومن يعتبرها غير مؤثرة ومن يجهل أثرها، هشاشة الثقة بالقواعد القانونية وغياب المعيار الواحد للحصول الحق في الخدمة العامة. وهو ما ينطبق مع ما أسماه ميغدال (1998) بـ«الدولة الضعيفة» التي تفقد احتكارها لأدوات الضبط وتترك المجال لشبكات غير رسمية لملء الفراغ. أما الملمح الثالث فيرينا كيف أن الزعيم أو الوسيط يصبح حارساً ضرورياً بين المواطن والدولة الأمر الذي يمنحه قوة رمزية كونه «ضامن للحماية» من جهة، وقوة مؤسساتية باعتباره «بديل عن الدولة ومؤسساتها» من جهة أخرى.
تشير هذه النتائج بالمجمل إلى أن اللجوء إلى الوسيط ليس ممارسة ظرفية بل بنية مستبطَنة في الحياة اليومية، تتجاوز الوعي الفردي إلى مستوى إعادة إنتاج النظام الاجتماعي والسياسي نفسه. فهي تكشف أن ما يبدو «حقاً» في القوانين يصبح في الواقع اللبناني مكسباً هشاً مشروطاً بالانتماءات والشبكات الزبائنية.
تتفاقم هذه الإشكالية أكثر عند الوقوف على الأسباب التي قدمها المستطلعون لتبرير لجوئهم إلى الواسطة في سعيهم لحصولهم على خدمتي المياه والكهرباء، إذ كشفت عن أبعاد مختلفة لاستبطان الواسطة كممارسة يومية في لبنان. برّرت النسبة الأكبر من المستطلَعين لجوئها إلى الواسطة للحصول على الخدمة بكونها تسهّل الأمور (51.4% للكهرباء و26.9% للمياه)، ما يشير إلى أنّ الواسطة لم تعد تُفهم كخيار استثنائي أو خرق للقواعد، بل كآلية «طبيعية» لتبسيط الإجراءات، أي كجزء من المنطق العملي (practical logic)، الذي يحكم سلوك الأفراد في تفاعلهم مع مؤسسات الدولة. وهنا تتضح بجلاء فكرة الاستبطان (habitus) التي تجعل من الواسطة ممارسة تلقائية لا تتطلّب تفكيراً أو تبريراً خاصاً.
أما من علّل لجوئه بالقول إنّ الإجراءات معقدة ( 18.9% للكهرباء و16.4% للمياه)، فهذا يسلّط الضوء على البعد البنيوي الآخر: البيروقراطية المرهقة، التي لا تدفع المواطن فقط نحو البحث عن حلول بديلة، بل تعيد إنتاج شرعية الواسطة باعتبارها السبيل «الأكثر واقعية وسهولة» لتجاوز العوائق بأشكالها المتنوعة. بكلمات أخرى، لا تضعف هشاشة المؤسسات ثقة المواطن بالدولة فقط، بل تساهم أيضاً في إعادة إنتاج الممارسات الزبائنية.
أما الفئة التي أجابت بأنّها تلجأ إلى الواسطة «لأن الجميع يفعل ذلك» (20.9% للمياه و13.5% للكهرباء)، فهي تكشف الطابع الجماعي والمعياري لهذه الممارسة. لم تعد الواسطة مرتبطة بحسابات فردية، بل باتت جزءاً من الثقافة الاجتماعية السائدة، التي يطبعها منطق «التطبيع الاجتماعي»، أي تحويلها إلى سلوك جماعي يتعزز بفعل التقليد والضغط الاجتماعي، فتصبح ممارسة متكررة يعاد إنتاجها بشكل دوري من دون وعينا الكامل بها أو مجرد التفكير في بدائلها.
يتعزّز هذا المنحى أعلاه ويكتسب صلابته بتدني ثقة الناس بالقانون، فقد بينت لنا النتائج أن 57.2% من المستجيبين لا يثقون بالقانون كضامن لهم للحصول على الخدمات، بينما 30% منهم يثقون به «إلى حد ما»، وتدّنت نسبة من يثقون بالقانون ثقة كاملة إلى 12.8% فقط. يدلّ ذلك على اهتزاز ثقة الناس باللجوء إلى القانون لتحصيل الحقوق من جهة، كما يدلّ على الانفصال الجلي بين النصوص القانونية التي تَعِد بحقوق أساسية والواقع الموضوعي الذي يؤشر على حرمان المواطنين منها، إذ لم يعد القانون إطاراً فعّالاً للمطالبة بالحقوق، بل غدا إطاراً فارغاً، فيما تحلّ الواسطة والزبائنية كآلية عملية بديلة.
شرعية بديلة قائمة على الواسطة والنفوذ
بيّنت النتائج الواردة في هذه الورقة بأنّ الواسطة لم تعد مجرّد وسيلة ظرفية أو استثناءً عابراً، بل تحوّلت إلى ممارسة بنيوية مُطبَّعة يستبطنها المواطنون كآلية «طبيعية» للتعامل مع الدولة وخدماتها. ويظهر التغير انسحاب الدولة من دورها التاريخي كضامن لأبسط الضروريات المعيشية، وهو ما شرّع الباب أمام شبكات موازية، إن لم نقل بديلة، كـ«مافيات» الصهاريج ومولدات الكهرباء، لتتصدّر موقع الفاعل المركزي في إدارة الموارد. وتفهم هذه الدينامية بالإرتكاز على عمل بورديو الرائد في نظرية الممارسة (1977)، في إطار تحليله للحقل السياسي–الاجتماعي، فمؤسسات الدولة لم تعد تحتكر قواعد توزيع الموارد والشرعية، بل باتت تتناتشها قوى غير رسمية تمتلك رأس المال الاجتماعي والرمزي القادر على ضمان التوزيع التفاوتي للخدمات. وهكذا، تتحوّل الواسطة إلى أداة لإعادة إنتاج اللامساواة والتراتبية الاجتماعية، حيث يُعاد تعريف العلاقة بين المواطن والدولة ضمن منطق زبائني يقوّض المبدأ الحقوقي–القانوني للمواطنة ويُرسّخ بدلاً منه شرعية بديلة عنه قائمة على الواسطة والنفوذ.
يمكن الاستفادة من الإطار الذي قدمته (Keck وSikkink، 1998) لفهم كيف تتحوّل الخدمات أو الحقوق إلى أدوات تفاوضية تُدار عبر شبكات النفوذ، وهو ما ينطبق على فهم الواسطة في السياق اللبناني. فقد استخدم المواطن اللبناني شبكة الزعماء والوسطاء للوصول إلى الخدمات العامة، وتحولت هذه الشبكات إلى آليات تفاوضية داخلية للوصول إلى حقوق مفترضة. يعزز هذه الآليات ضعف المؤسسات الرسمية، ويجعل الواسطة ممارسة بنيوية بحيث تتحول إلى قانون بديل (informal law) يكرّس منطق الدولة الزبائنية على حساب منطق الدولة الحقوقية. وبذلك، فإن هشاشة الثقة بالأنظمة القانونية وغياب اللجوء إلى القضاء أو الإعلام لا يعكس فقط ضعف المؤسسات، بل يكشف عن بنيوية الواسطة وتجذرها في بنيان الاجتماع اللبناني.
المراجع:
Bourdieu, P. (1977). Outline of a theory of practice (R. Nice, Trans.). Cambridge University Press. https://doi.org/10.1017/CBO9780511812507
Bourdieu, P. (1986). The forms of capital. In J. Richardson (Ed.), Handbook of
Brazilian Constitution. (1988). Constituição da República Federativa do Brasil.
Keck, M. E., & Sikkink, K. (1998). Activists Beyond Borders: Advocacy Networks in International Politics. Cornell University Press. https://doi.org/10.1017/S0008423900014219 (Cambridge University Press & Assessment)
Migdal, J. S. (1988). Strong Societies and Weak States: State-Society Relations and State Capabilities in the Third World. Princeton University Press. https://doi.org/10.1515/9780691212852 (SCIRP)
Oliveira, L. G. S. de, Hernandez, A., Sedano, R., & Shenot, J. (2024, January). Roadmap for electricity access as a development driver in the Legal Amazon. Regulatory Assistance Project. https://www.raponline.org/wp-content/uploads/2024/04/rap-Oliveira-roadmap-for-electricity-access-in-the-Legal-Amazon-2024-January.pdf
Republic of South Africa. (1996). Constitution of the Republic of South Africa.
Supreme Court of India. (1996). A.P. Pollution Control Board II v. Prof. M.V. Nayudu.