Preview palestinian prisoners

حرب إسرائيل على الأسرى الفلسطينيين

منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 والأوضاع في المعتقلات الإسرائيلية تشبه الحصار والحرب الانتقامية على سكان غزة. لكن تصعيد التعدي على الأسرى الفلسطينيين بدأ قبل ذلك بحوالي العام. 

في كانون الأول/ديسمبر 2022، أصبح إيتمار بن غفير، زعيم حزب عوتسما يهوديت اليميني المتطرف والمعادي للعرب، وزيراً للأمن القومي، وصارت له السيطرة على الشرطة ومصلحة السجون الإسرائيلية.

صرّح بن غفير قائلاً: «من أهم أهدافي جعل ظروف الإرهابيين في السجون أسوأ، وتقليص حقوقهم إلى الحدّ الأدنى المطلوب قانونياً». بدأ بعدها على الفور بتطبيق الكثير من الإجراءات القاسية لتقليص موارد الأسرى المحدودة أصلاً وزيادة معاناتهم. فحدّد في شباط/فبراير 2023 مدّة الاستحمام بأربع دقائق لا أكثر، وظهر على تيك توك ملوِّحاً بقطعة من الخبز أمام الكاميرا يتفاخر بإغلاق المخابز التي كان يديرها الأسرى في معتقل كتسيعوت ونفحة. وفي آب/أغسطس من العام نفسه، أعلن أكثر من 1,000 أسير، أي خُمس الأسرى آنذاك، إضراباً عن الطعام احتجاجاً على أوضاعهم المتدهورة. وردّ بن غفير بتقليص الزيارات العائلية إلى مرّة واحدة كلّ شهرين.

وحين بدأت الحرب في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، تدهورت معاملة الأسرى بتسارع شديد. وعلى غرار الحصار الإسرائيلي على غزة، حدَّت مصلحة السجون الإسرائيلية بشدّة من الوصول إلى الماء والكهرباء. وخفضت الحصص الغذائية إلى «الحدّ الأدنى». وهو ما يرقى، مع إغلاق الكنتينات داخل المعتقلات، إلى سياسة تجويع.1  شنّ الجنود والحرس هجمات على المجمّعات، واعتدوا على الأسرى وأطلقوا الرصاص المطاطي والغاز المسيل للدموع. وداهموا الزنازين وصادروا معظم ما فيها، بما في ذلك الرسائل والكتب والأدوية وأجهزة الراديو. نُقِل الكثير من الأسرى إلى العزل، في حين حُشِر آخرون في زنازين لا تتسع سوى لخمسة أو ستة أشخاص، وأصبحت الآن تضمّ 12 أسيراً أو أكثر.

منعت مصلحة السجون كلّياً زيارة مراقبي اللجنة الدولية للصليب الأحمر وأهل الأسير. وصارت المكالمات مع الأقارب مستحيلة، وعُلِّقَ تواصل المحامين مع موكليهم لأشهر، واليوم عليه قيود شديدة. وبالنتيجة عُزِل الأسرى عن التواصل مع العالم الخارجي. أعادت هذه الخلطة من الوحشية والحرمان ومنع التواصل إنتاج ظروف الأسر أيام العقد الأول من الاحتلال الإسرائيلي لغزة والضفّة الغربية حين كانت المعتقلات مقرّات لا تخضع لأي رقابة أو قانون.

تخلّى المحقِّقون عن استخدام «الضغط البدني المُعتدل» – أي أساليب التعذيب بالمصطلح الإسرائيلي – لصالح أشكال العنف البدني الأقسى، بما فيها الضرب والتقييد المطول في أوضاع مؤلمة والخنق والاعتداء الجنسي.2  عمّ العنف الوحشي جميع المعتقلات ومراكز الاحتجاز. ومنذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، لقي ما لا يقل عن 60 فلسطينياً حتفهم أو قُتلوا أثناء وجودهم في الحجز الإسرائيلي، وهذه الأرقام لا تشمل الفلسطينيين من غزّة الذين لم تتأكّد وفاتهم في المنشآت العسكرية بعد.

تأجّجت الحرب داخل المعتقلات الإسرائيلية نتيجة حملات الاعتقال المتصاعدة عبر فلسطين التاريخية. في 6 تشرين الأول/أكتوبر 2023، كانت المعتقلات الإسرائيلية تحتجز 5,200 فلسطيني. ومنذ ذلك الحين، قفزت هذه الأعداد قفزة كبيرة. فقد احتجزت إسرائيل أكثر من 10,000 عامل ومريض من غزّة كانوا فيها بشكل قانوني في 7 تشرين الأول/أكتوبر. وبحسب تقرير صدر في تموز/يوليو 2024 عن المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان: «تفيد التقديرات بإطلاق سراح 3,200 منهم ونقلهم إلى غزة في تشرين الثاني/نوفمبر 2023، بينما نُقِل 6,441 إلى [مرافق احتجاز] في الضفة الغربية المحتلة، ولا يزال حوالي 1,000 منهم مجهولي المصير».

منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، لقي ما لا يقل عن 60 فلسطينياً حتفهم أو قُتلوا أثناء وجودهم في الحجز الإسرائيلي، وهذه الأرقام لا تشمل الفلسطينيين من غزّة الذين لم تتأكّد وفاتهم في المنشآت العسكرية بعد

وفي سياق الغزو البرّي، احتُجِزَ الآلاف في عمليات اعتقال جماعية عشوائية طالت عاملين في المجال الإنساني ونساء وأطفال ومعوقين وكبار سن، ونُقِلوا خارج قطاع غزّة المحتل. كما أفادت منظّمة الصحة العالمية ووكالات مراقبة أخرى باحتجاز ما لا يقل عن 310 من العاملين في الرعاية الصحية والمرضى ومرافقيهم من المستشفيات والعيادات حين هاجمت القوات الإسرائيلية تلك المنشآت. اعتُقِل عدنان البرش، رئيس قسم العظام في مستشفى الشفاء، في أثناء عمله في مستشفى العودة، وعُذِّبَ حتى الموت في 19 نيسان/أبريل.

في الضفة الغربية، اعتُقِل أكثر من 9,000 فلسطيني بين تشرين الأول/أكتوبر وبداية حزيران/يونيو 2024. أما داخل الخط الأخضر، فاعتُقِل 200 مواطن فلسطيني، معظمهم بناءً على شبهات «التحريض على الإرهاب» و«التعاطف مع المنظمات الإرهابية» بسبب تعبيرهم عن معارضة الحرب وإدانتهم للخسائر البشرية الناجمة عنها.

أفادت منظمة هموكيد الإسرائيلية لحقوق الإنسان والمساعدة القانونية أنّه في آب/أغسطس 2024 اعتُقِلَ 9,881 فلسطينياً إمّا بصفة «أسرى أمنيين» – أي مَن أُدين أو يخضع للتحقيق أو ينتظر المحاكمة – أو «محتجزين أمنيين» احتُجِزوا تعسفياً من دون توجيه تهم. كما يُحتجز 1,584 فلسطيني من غزة في عزلة تامة. وتفيد مؤسسة الضمير لدعم الأسرى وحقوق الإنسان بأنّ من بين الأسرى 250 طفلاً و86 امرأة و12 عضواً في المجلس التشريعي الفلسطيني.

في الوقت الحالي، ومع استمرار حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة وإزهاقها عشرات آلاف الأرواح وازدياد الهجمات العسكرية واعتداءات المستوطنين المدعومة من الدولة في الضفّة الغربية، زادت مستويات العنف والتجريد من الإنسانية التي يرتكبها الجنود الإسرائيليون وموظّفو الأمن وموظّفو مصلحة السجون الإسرائيلية ضدّ المحتجزين والأسرى، لتتوسّع هذه الحرب الساخنة إلى داخل المعتقلات.  

شهادات عن التعذيب

مَن أُطلِق سراحه في الأشهر الأخيرة، خرج ناحل الجسم وبكدمات وندوب غائرة نتيجة تقييده بشدة. تعطينا شهادات هؤلاء لمحة عن عمق المأساة.

عمر عساف، 74 عاماً، اعتُقل في رام الله في تشرين الأول/أكتوبر 2023 واحتُجز تعسفياً لمدة 6 أشهر في معتقل عوفر في الضفة الغربية. حين أُفرج عنه في نيسان/أبريل، نُشرت له صورة على وسائل التواصل الاجتماعي قبل الاعتقال وبعده، وظهر في صورة «ما بعد اعتقاله» فاقداً 60 رطلاً وشائب اللحية. ووصف عساف في تجمّع لاستقباله الفارق بين ما عاناه في خلال فترات أسره السابقة على مدى الأربعة عقود الماضية والظروف الحالية بقوله: «وضع المعتقلات الإسرائيلية اليوم غير مسبوق».3

مُعزز عبيّات، 37 عاماً، أُفرج عنه في تموز/يوليو 2024 بعد 9 أشهر من الاعتقال التعسفي. يظهر عبيّات في مقطع فيديو متداول على الإنترنت في حالة هزيلة لدرجة عجز معها عن المشي خارج المعتقل بلا مساعدة، وقد كان في السابق لاعب كمال أجسام قوي البنية. تبدو ذراعه اليمنى وساقه مشلولة أو مكسورة، تنطبع على وجهه علامات الجوع واضحة. يتحدّث إلى الكاميرا قائلاً: «في 4 كانون الأول/ديسمبر، تعرّضت لعملية قتل في سجن عوفر. رقص ع جثتي بن غفير. الوضع سيئ جداً جداً. نحن منموت كل يوم». ويقول في مقطع آخر سجّل في المستشفى الذي نُقل إليه: «سجن النقب هو كسجن غوانتانامو. نتعرّض للقتل والضرب والجوع والفقر والمرض. يوجد 2,000 أسير بأمراض مزمنة، بأمراض قوية جداً، وضعهم سيئ جداً. لهم الله». ويضيف: «أنا فارقتهم، ليه ما متنا مع بعض؟»

حُرِمَ الأسرى ممن هم بحاجة إلى رعاية طبية – سواء بسبب إصابات جديدة أو أمراض مزمنة – من الوصول إلى العيادات داخل المعتقلات والمستشفيات الخارجية، وبالمثل مُنِعَت الأدوية والعلاجات الموصوفة عمن يحتاج إليها. تفاقم هذه التطورات سياسة الإهمال الطبّي التي تمارسها مصلحة السجون الإسرائيلية والأطباء المتواطئون. قال شخص من الضفّة الغربية، أفرِج عنه في حزيران/يونيو من معتقل رامون: «يبدو أنّ الأوامر تقضي باستدعاء السجّان بعد موت الأسير».4  ومن بين الكثير من الأمثلة المأساوية على الإهمال الطبي لدينا مثال عرفات حمدان، 25 عاماً، مصاب بالسكري، استغاث رفاقه بالسجّانين ليقدموا له الأنسولين أو حتى ملعقة من السكر بلا جدوى. بعد يومين من اعتقاله، تعرّض للضرب ووضع تحت الشمس مع كيس على رأسه لساعات عدّة قبل أن يفارق الحياة.

يَصعُب الحصول على تفاصيل عن أوضاع الأسرى بسبب حظر التواصل المفروض من سلطات الاحتلال. تسمح السلطات لفرد واحد من عائلة الأسير بحضور جلسات المحكمة، ويحضرها الأسرى عبر تقنية الاتصال المرئي. غدت هذه الجلسات الوسيلة الوحيدة للعائلات للتواصل مع أحبائها، وإنْ لبضع دقائق. في خلال جلسة في المحكمة العسكرية في عوفر في 27 آذار/مارس 2024، شرع أحد الأسرى يخبر القاضي عن تعرّضه للضرب المبرح على يد وحدة الناشون المسؤولة عن نقل الأسرى بين المعتقلات والمحاكم. قال: «كنت أحاول حماية رأسي حين انهالوا علينا بالضرب»، قبل أن يسكته حارس صرخ في وجهه. وصف أسير آخر المعاملة العنيفة التي تلقاها في أثناء نقله بأنّها «استمرار للتعذيب الاستجوابي بوسائل أخرى».5

لا تستهدف حرب إسرائيل داخل معتقلاتها الأسرى من تشرين الأول/أكتوبر الفائت، بل طالت بالمثل الأسرى القدامى، بسياسة الانتقام المتمثلة في تصعيد العنف والحرمان غير الإنساني. في 21 كانون الأول/ديسمبر 2023، سأل ثائر أبو عصب، الأسير في معتقل كيتزيعوت منذ 18 عاماً، سجّاناً عما إذا كان هناك وقف لإطلاق النار. أجابه السجّان: «سأريك». بعد ذلك، دخل 19 سجّاناً إلى زنزانة أبو عصب وانهالوا عليه بالضرب بالهراوات الحديدية حتى الموت.

سأل ثائر أبو عصب، الأسير في معتقل كيتزيعوت منذ 18 عاماً، سجّاناً عما إذا كان هناك وقف لإطلاق النار. أجابه السجّان: «سأريك». بعد ذلك، دخل 19 سجّاناً إلى زنزانة أبو عصب وانهالوا عليه بالضرب بالهراوات الحديدية حتى الموت

عانى مروان البرغوثي، وهو شخصية سياسية شعبية قضى 24 عاماً في الأسر، من خلع في كتفه لم يُعالج، بعدما جرّه الجنود ويداه مكبّلتان خلف ظهره إلى زنزانة انفرادية تعرّض فيها للضرب حتى فقد وعيه. وقد أفاد محاميه إيغال دوتان بأنّ البرغوثي «يعاني من صعوبة في الرؤية من عينه اليمنى نتيجةً لأحد الاعتداءات». وأضاف دوتان أيضاً عن فقدان البرغوثي الكبير للوزن: «لن تتمكّن من التعرف إليه إذا قارنت مظهره الحالي بالصور المنتشرة له». في كانون الأول/ديسمبر، بعد نقل البرغوثي إلى معتقل أيالون «سُحِل عارياً على الأرض أمام الأسرى الآخرين».

أما وليد دقة، فلسطيني يحظى بالتقدير لكتاباته الأدبية والفلسفية الاجتماعية، فقد حُكِم عليه بـ38 عاماً من السجن. في العام 2022، تم تشخيصه بسرطان نادر يستدعي زراعة نقي العظام. توفي وليد في المعتقل في 7 نيسان/أبريل 2024، بعدما رفضت مصلحة السجون الإسرائيلية تأمين الرعاية الطبية له، ورفضت المحاكم طلبات عائلته للإفراج الرحيم عنه في أيامه الأخيرة. أما جثمانه، حاله حال الكثير من جثامين الأسرى. لا تزال سلطات الاحتلال تحتجزه لتجعل منه أداة محتملة للمساومة.

التقى المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان مع نحو 100 فلسطيني من غزّة كانوا قد اعتُقلوا ثم أُفرج عنهم، من بينهم 22 امرأة و4 أطفال و17 مسنّاً. وفي تقرير صدر في أيار/مايو 2024، أشار المرصد إلى تعرض الأسرى لأشكال متنوّعة من المعاملة القاسية وغير الإنسانية والمُهينة والعقوبات خارج نطاق القانون، كالتفتيش العاري والإجبار على التعرّي وتكسير العظام والأسنان والدوس والبصق والتبول عليهم ومعاقبتهم على أداء الصلاة وتهديدهم بالاغتصاب والقتل.

أصدرت منظمة بتسيلم تقريراً في آب/أغسطس يتضمّن شهادات من 55 فلسطينياً أُفرج عنهم. وتطابقت قائمة الفظائع مع ما ورد في تقرير المرصد الأورومتوسطي. خلصت بتسيلم في تقريرها إلى أنّ المعتقلات ومرافق الاحتجاز الإسرائيلية، «حيث يُحكَم على كل أسير عمداً بالمعاناة والألم الفظيعين والمتواصلين، تعمل فعلياً عمل مخيّمات تعذيب».

التعذيب والعواقب

سَيْلٌ من الصور ومقاطع الفيديو التقطها جنود إسرائيليون وانتشرت على تطبيق تلغرام ومنصّات التواصل الاجتماعي الأخرى منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، أكّد صحة روايات الفلسطينيين عن التعذيب وسوء المعاملة.

بعض الصور الأفظع نشرتها مصادر إسرائيلية تُظهِر أسرى عراة أو شبه عراة، موثوقي الأيدي ومعصوبي الأعين، يُسحَلون على الحصى ويُداسون ويركلون على رؤوسهم وأعضائهم التناسلية. إنّ إقدام الجنود على نشر هذه الصور التي تظهرهم وهم يهينون الفلسطينيين ويعتدون عليهم بوحشية يعزّز العنف الأهوج الذي يطبع هذه الفترة. كما أنّ تداول صور كهذه يمثِّل صورة من صور «التعذيب الإرهابي»، أي إظهار التعذيب للعلن لترهيب المجتمع المستهدف. في هذه الحالة، تُستخدم الصور المروعة لتهديد جميع الفلسطينيين بأنّ المقاومة ليست فحسب بلا طائل، بل يُعاقب عليها بأقسى الإجراءات، بما فيها التسبّب بالعاهات والموت.

عمدت سلطات الاحتلال، بغية إدارة الرسائل المتعلّقة بأوضاع المعتقلات وإشباع الرغبات المحلّية في إسرائيل بمزيد من الأدلة على الانتقام من الفلسطينيين، إلى السماح لبعض الصحافيين بالدخول إلى المعتقلات. في مقطع بثته القناة 14 الإسرائيلية في 2 شباط/فبراير 2024، يظهر ضابط في مصلحة السجون الإسرائيلية وهو يصف بكل بساطة المعاملة المسيئة التي يتعرّض لها الأسرى في المنشأة. وبينما تستعرض الكاميرا صفوفاً من الأسرى الجالسين على الأرضية الخرسانية في ساحة المعتقل مطأطئي الرأس، يعلّق الضابط قائلاً: «لدينا 150 سجيناً هنا. لا يتحرك أحد منهم... إلا بعد حصوله على إذن من المشرف المناوب». يعلّق المراسل أثناء تجوّله في زنازين عدّة مكتظة بالأسرى المقيدين: «ما ترونه الآن هو روتينهم اليومي. أيام التساهل ولّت».

ظهرت صور ومقاطع فيديو توضح تعرّض الفلسطينيين للتعذيب والإساءة في وسائل الإعلام الأجنبية. وقد أثارت هذه المواد الإدانة والاحتجاج، ما شكّل مصدر قلق وإزعاج للمسؤولين الإسرائيليين الذين قد يواجهون تهديداً من الأدلة المادية على التعذيب في المستقبل

بثت القناة 13 تقريراً في 18 شباط/فبراير يبدأ بمشهد لجنود مدجّجين بالسلاح يرتدون بالاكلافا صحبة كلب، يدخلون زنزانة بينما يُصرخ أحدهم قائلاً: «الرأس على الأرض!». يظهر في مشهد آخر جناح يشير إليه المراسل بـ«جناح سرّي» يُجبر فيه الأسرى على الركوع في وضع الجنين مع تقييد الأيدي والأرجل طوال الوقت. يعلّق المراسل على أغنية وطنية تُسمع في الخلفية: «هذه الأغنية 'Am yisrael chai' تُسمع في الجناح دوماً وبلا توقف. تزعم إدارة السجن أنّ الهدف منها تعزيز معنويات عناصرها. لكن من الواضح أنّها جزء آخر من الحرب النفسية على السجناء».

كما ظهرت صور ومقاطع فيديو توضح تعرّض الفلسطينيين للتعذيب والإساءة في وسائل الإعلام الأجنبية. وقد أثارت هذه المواد الإدانة والاحتجاج، ما شكّل مصدر قلق وإزعاج للمسؤولين الإسرائيليين الذين قد يواجهون تهديداً من الأدلة المادية على التعذيب في المستقبل. في 26 حزيران/يونيو، أرسل رونين بار، مدير جهاز الشاباك (وكالة الاستخبارات الداخلية الإسرائيلية)، رسالة تحذيرية إلى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وبن غفير، مفادها أنّ الوضع في المعتقلات «قنبلة موقوتة قد تهدّد كبار المسؤولين الإسرائيليين في الخارج وتعرضهم لمحاكمات دولية». وأوضح قائلاً: «إسرائيل تواجه صعوبة في التصدي للمزاعم ضدها، والكثير منها له أساس».

من سيء إلى أسوأ

لطالما كانت ظروف أسر الفلسطيني بالغة الوحشية والسوء والتعذيب سمتين لا تغيب عن نظام السجن الإسرائيلي.

عقب احتلال أجزاء من فلسطين التاريخية في العام 1967، صار التعذيب جزءاً أساسياً من استراتيجيات إسرائيل الثلاثية للتحكم من خلال العقاب، إلى جانب الاعتقال والمحاكمة أو الاحتجاز بلا محاكمة. وبسبب نقص الأدلة الأخرى، تعتمد المحاكم العسكرية الإسرائيلية على اعترافات الفلسطينيين لتأمين الإدانات. يجسِّد استخدام العنف والإكراه لانتزاع أقوال تدين الأسير في الإجراءات القانونية أحد ركائز عمليات الاستجواب وجزءاً جوهرياً من نظام عقيدة السجن الإسرائيلية.

على مدار عقدين من الزمن، دأبت إسرائيل على إنكار مزاعم التعذيب ووصفتها بالدعاية المعادية والأكاذيب. لكن تغيّر هذا في العام 1987 مع تقرير لجنة لاندو، وهي لجنة تحقيق أنشأتها الدولة للنظر في الانتهاكات المحتملة لجهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك). أقرّت لجنة لاندو باتهامات سوء المعاملة المنهجي، لكنها أيّدت زعم الشاباك بأنّ الأساليب العنيفة والقسرية كانت ضرورية لمواجهة «النشاط الإرهابي المعادي». وُسِّع تعريف هذا النشاط ليشمل علاوة على أعمال العنف، المطالبة بالحقوق الوطنية الفلسطينية أو أي مقاومة للاحتلال، ولو بالكلام. أوصت اللجنة بأن تسمح الحكومة بهذه الأساليب لإعفاء عملاء الشاباك من الكذب على القضاة العسكريين حين يطعن محامو الدفاع على اعترافات المتهمين بأنّها انتُزعت بالقوة. وبهذه التوصيات، أصبحت إسرائيل أول دولة في العالم تُعلن علناً حقها في استخدام التعذيب، وإنْ كان ذلك من خلال تجميل الأساليب المصرّح بها بمصطلح «استخدام معتدل للضغط الجسدي». وفي العام 2002، تبنّت الحكومة الأميركية تبريرات مماثلة في محاولة لشرعنة برنامج التعذيب الخاص بها في إطار «الحرب على الإرهاب».

في أوائل التسعينيات، واستجابة لزيادة الرقابة والتقارير من قِبل منظمات حقوق الإنسان، تحوّل جهاز الشاباك عن استخدام أساليب التعذيب التي تترك علامات جسدية، كالضرب والصدمات الكهربائية، إلى ما يسمى «التقنيات النظيفة» من قبيل إجبار الأسير على اتخاذ أوضاع مؤلمة لفترات طويلة والعزل والحرمان من النوم والهزّ العنيف والاحتجاز في مساحات شديدة البرودة أو الحرارة. ومع أن هذه الأساليب لا تقل قسوة عن التعذيب التقليدي، إلا أنها لا تترك علامات واضحة على الجسد، ليغدو إنكار استخدامها أسهل وبالتالي تجنّب المساءلة. في الواقع، حافظت إسرائيل على سجل شبه مثالي في الإفلات من العقاب فيما يتعلق بالتعذيب. ومن بين 1,450 شكوى تعذيب قُدمت إلى وزارة العدل بين العامين 2001 و2022، لم تسفر إلّا ثلاث منها عن فتح تحقيقات جنائية لكن من دون توجيه اتهامات.

اعترضت لجنة مناهضة التعذيب في إسرائيل ومنظمات حقوقية إسرائيلية أخرى على سماح الحكومة باستخدام التعذيب ورفعت دعاوى قضائية أمام المحكمة العليا. في العام 1999، قضت المحكمة العليا في قضية اللجنة ومن معها ضدّ دولة إسرائيل بأنّ بعض أساليب التحقيق غير قانونية بموجب القانونين الإسرائيلي والدولي، ومنها التقييد المؤلم والإبقاء المطول في وضعيات الضغط الجسدي التي لم تحظرها المحكمة سابقاً. وقد حظرت المحكمة الاستخدام المتكرّر لهذه الأساليب، لكنّها تضمنت ثغرة تسمح باستخدام الإكراه والعنف إذا «ظنَّت السلطات الأمنية أنّ المشتبه به يخفي معلومات من شأنها منع تهديد وشيك لحياة المدنيين»، أو ما يُعرف بسيناريو «القنبلة الموقوتة».6

إسرائيل أول دولة في العالم تُعلن علناً حقها في استخدام التعذيب، وإنْ كان ذلك من خلال تجميل الأساليب المصرّح بها بمصطلح «استخدام معتدل للضغط الجسدي»

بيد أنّ قرار المحكمة العليا التاريخي لم يوقف استخدام التعذيب ضدّ الفلسطينيين. لكن أحداثاً وتطورات أخرى غيّرت من مركزية الاستجواب في استراتيجيات السيطرة والعقاب الإسرائيلية. منذ العام 1988، انخرط الجنود في عمليات قتل مستهدف للفلسطينيين المشتبه بهم، لكن كانت الحكومة تنفي هذا الأمر بحكم عدم قانونيته. انتهت سياسة التنفيذ والإنكار هذه في تشرين الثاني/نوفمبر 2000 حين أصبحت إسرائيل مرة أخرى أول دولة في العالم تعلن علناً حقها في تنفيذ الإعدامات خارج نطاق القانون. بدأت الولايات المتحدة بتنفيذ عمليات القتل المستهدف في العام 2002 واتبعت المنطق الإسرائيلي في مذكرة صدرت العام 2010 لتبرير هذا السلوك قانونياً. ومع قتل المشتبه بهم الفلسطينيين بدلاً من القبض عليهم تراجعت أهمية الاعتقال والاستجواب والمحاكمة.

في العام 2002، أصدرت إسرائيل قانون المقاتلين غير الشرعيين. واكتسب هذا المفهوم، وإنْ لم يكن بالجديد، شهرة دولية في تشرين الثاني/نوفمبر 2001 حين أصدر الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش أمراً تنفيذياً يقضي باعتبار أي شخص تحتجزه الولايات المتّحدة في إطار «الحرب على الإرهاب مقاتلاً عدائياً غير شرعي». ويتعارض هذا التصنيف مع قوانين الحرب (أي اتفاقيات جنيف لعام 1949) القاضية بأنّ كل شخص إما مقاتل أو مدني. وكان الهدف من استخدام هذا التصنيف الجديد تسهيل الاحتجاز السرّي، أما الهدف الخفي فكان تمكين استخدام أساليب استجواب محظورة ومجرّمة. وبموجب القانون الإسرائيلي السالف الذكر، يمكن تطبيق تصنيف «المقاتل غير الشرعي» على أي شخص شارك مباشرة أو غير مباشرة في أعمال عدائية ضد دولة إسرائيل، ولا يحق له حالة أسير حرب (في تقليد لتفسيرات الولايات المتحدة الخاطئة لاتفاقيات جنيف). طُبِّق هذا التصنيف بالأساس على العرب الأجانب ممن كانوا بالفعل محتجزين سراً، في عزلة، ويتعرّضون للتعذيب في إسرائيل.

في 18 كانون الأول/ديسمبر 2023، عدّل الكنيست قانون المقاتلين غير الشرعيين لتوسيع نطاق الاحتجاز السرّي، وبات بإمكان الجيش احتجاز الأفراد لمدة تصل إلى 45 يوماً من دون الحاجة إلى مذكرة توقيف أو أي رقابة قضائية. وبموجب التعديل الجديد، يمكن منع الأسير من الوصول إلى محامٍ لمدة تصل إلى 75 يوماً بناءً على أمر من المسؤول عن تنفيذ القانون في المعتقل، ويمكن للمحاكم تمديد فترة الاحتجاز ومنع الوصول إلى محامٍ لمدة تصل إلى 180 يوماً. وكما في «الحرب على الإرهاب» في الولايات المتحدة، فإنّ إبقاء الأفراد في عزلة يتيح لإسرائيل التغطية على ممارسة التعذيب.

في حالة فلسطينيي غزة، جعلت مصلحة السجون الإسرائيلية من المستحيل مقابلة محامٍ حتى في الحالات التي يحق لهم فيها بذلك. وكما أوضح قدورة فارس رئيس هيئة شؤون الأسرى والمحرّرين: «تطلب السلطات الإسرائيلية الحصول على نسخة ورقية من التوكيل المباشر للمحامي، موقعاً من أقارب الأسير في غزة، وهذا أمر مستحيل فالمحامي لا يمكنه الوصول إلى غزة، وعائلات الأسرى لا يمكنها دخول إسرائيل. زد على ذلك أنّ التوكيل المرسل عبر واتساب أو البريد الإلكتروني لا تقبله السلطات الإسرائيلية، وبالتالي لا يُسمح للأسرى بالحصول على التمثيل القانوني».

أسرار الدولة وجرائمها

حوِّل جزء من معسكر سدي تيمان العسكري في صحراء النقب إلى مركز احتجاز بعد بدء الحرب. وقد وُصِفَ بأنّه «موقع سري» لأنّه، بالإضافة إلى حظر دخول المراقبين المستقلين إليه، تظل هوية الأسرى وطريقة معاملتهم فيه سراً من أسرار الدولة. وبالمثل حوِّلَت أجزاء من قاعدتين عسكريتين أخريين في الضفة الغربية، هما عنتوت وعوفر، إلى مواقع احتجاز سرّية.

لكن حجاب السرّية حول معسكر سدي تيمان انكشف في نيسان/أبريل مع نشر صحيفة هآرتس تقريراً عن رسالة أرسلها طبيب يعمل في المعسكر إلى أعضاء الحكومة الإسرائيلية. كتب الطبيب في الرسالة: «في هذا الأسبوع وحده، بُتِرَت ساقا أسيرين بسبب إصابات ناجمة عن الأصفاد، وهذا أمر يتكرّر باستمرار مع الأسف... أكتب لأحذّركم من أنّ العمليات في المعسكر لا تتوافق مع أي من الأقسام المتعلقة بالصحة في قانون احتجاز المقاتلين غير القانونيين».

يضمّ القسم الآخر من المنشأة مستشفى ميدانياً يُربط فيه الجرحى الفلسطينيون في الأسرة معصوبي الأعين عراة ومجبرين على قضاء حاجتهم في الحفاضات

بعد شهر، نشرت شبكة سي أن أن تحقيقاً فاضحاً عن معسكر سدي تيمان استناداً إلى شهادات 3 جنود مُسرّبين و12 فلسطينياً من غزة أُفرِج عنهم مؤخراً. أفاد المُسرّبون بأنّ جزءاً من منشأة الاحتجاز يحتوي على هنكار كبير محاط بأسلاك شائكة، حيث يُقيّد الفلسطينيون معصوبي الأعين في أوضاع مُجهدة لمدة تصل إلى 16 ساعة يومياً. يُكبّل الأسرى الذين يتحدّثون أو ينامون أو حتى يتحرّكون بالأسوار في وضعية الوقوف مع رفع أيديهم فوق رؤوسهم. وفي الليل، تُطلَق الكلاب داخل زنزانات الأسرى بينما تُلقى القنابل الصوتية. يضمّ القسم الآخر من المنشأة مستشفى ميدانياً يُربط فيه الجرحى الفلسطينيون في الأسرة معصوبي الأعين عراة ومجبرين على قضاء حاجتهم في الحفاضات. وذكرت الشبكة أنّ «الأطباء بتروا في بعض الحالات أطراف الأسرى بسبب الإصابات الناتجة عن التقييد المستمر؛ كما أُجريت العمليات الطبية أحياناً بيد طواقم طبية غير مؤهلة، ما أكسب المنشأة سمعة بأنّها جنة للمتدربين، والهواء هناك يغص برائحة جروح تُرِكت تلتهب».

لا يأتي قرار الأطباء الإسرائيليين بإجراء العمليات الطبية على الأسرى بلا تخدير من واقع نقص الموارد، كما هو الحال مع الأطباء في غزة، بل هو خيار يتماشى مع طبيعة الحرب الانتقامية وغير القانونية. قال أحد المصادر للشبكة : «طُلب مني تعلّم كيفية إجراء بعض العمليات الطبية على المرضى، على الرغم من أنّها خارج نطاق خبرتي». 

كان خالد محاجنة أول محامٍ يسمح له الجيش بزيارة سدي تيمان. توجّه إلى المنشأة في 19 حزيران/يونيو للقاء محمد عرب، الصحافي في قناة العربي الذي اعتقله الاحتلال في آذار/مارس أثناء تغطيته للهجوم الإسرائيلي على مستشفى الشفاء. وفي مقابلة مع موقع +972، قال محاجنة: «الوضع هناك أفظع مما سمعناه عن أبو غريب وغوانتانامو».

حق بالاغتصاب؟

بعد ظهور الكثير من الشهادات والأدلة المادية الوفيرة على حالات الاغتصاب والتعذيب والقتل المنهجي للأسرى، أوعزت اللواء يفعاط تومر يروشالمي، المدعية العامة العسكرية، في تموز/يوليو 2024 بالتحقيق في جريمة اغتصاب جماعي ارتكبها 9 جنود في سدي تيمان. فقد وقع اعتداء على فلسطيني من غزّة يُشتبه في كونه عضواً في وحدة النخبة في حماس، بلغ من الفظاعة حدّ التسبب بتمزق في الأمعاء وتهتك في فتحة الشرج وكسور في الأضلاع وتلف في الرئة. (وثقت كاميرات المراقبة الاعتداء). نُقل المعتدى عليه في حالة حرجة إلى مستشفى قريب حيث تطلّبت حالته إجراء عملية جراحية. أعرب الدكتور يوئيل دونشين، الطبيب المشرف على علاج المعتدى عليه، لصحيفة هآرتس عن صدمته من أنّ سجّاناً إسرائيلياً يمكنه ارتكاب هكذا فعل. وقال: «إذا ظنت الدولة وأعضاء الكنيست أنّ الإساءة إلى السجناء بلا قيد أو شرط، فعليهم قتلهم بأنفسهم، كما فعل النازيون من قبل، أو إغلاق المستشفيات... إذا كان الإبقاء على المستشفيات للدفاع فحسب عن أنفسنا في لاهاي، فهذا ليس بالأمر الجيد».

في 29 تموز/يوليو، أُرسِلت الشرطة العسكرية إلى سدي تيمان لاعتقال 9 من جنود الاحتياط المتهمين بجريمة الاغتصاب الجماعي؛ أحدهم ضابط برتبة رائد يقود الوحدة 100 المكلفة بحراسة الأسرى في سدي تيمان ومرافق احتجاز عسكرية أخرى. كان أحد جنود الاحتياط المتهمين بارتكاب عدة إساءات جسيمة بحق الأسرى غائباً عن القاعدة في حينها. حاول جنود من الوحدة مقاومة الشرطة العسكرية لمنع الاعتقالات. وبعد مشادات وصدامات، وقفوا إلى جانب المتهمين في استعراض للتضامن. في خلال هذا الاستعصاء، اقتحم حشد من 200 إسرائيلي، بينهم أعضاء من الكنيست، القاعدة لدعم الجنود.

في أثناء اندلاع الشغب في سدي تيمان، دارت نقاشات محتدمة في الكنيست بشأن تحرّك المدعية العامة العسكرية للتحقيق مع الجنود بتهمة الاغتصاب الجماعي. قال يولي إدلشتاين، عضو الكنيست عن حزب الليكود ورئيس لجنة الشؤون الخارجية والدفاع: «لا أقبل أن تقوم الشرطة العسكرية المقنّعة بمداهمة قاعدة للجيش الإسرائيلي، ولن أسمح بحدوث هذا مرة أخرى. جنودنا ليسوا مجرمين، وهذا الاضطهاد المخزي لجنودنا غير مقبول». من جانبه، أعرب أحمد الطيبي، عضو الكنيست عن حزب حداش تعال، عن غضبه من تعليقات بعض الأعضاء قائلاً: «هل إدخال متفجرات في مستقيم شخص فعل مشروع؟» ليرد عليه عضو الليكود حانوخ ميلفيتسكي قائلاً: «إذا كان من النخبة، فكل شيء مشروع». من جانبه انبرى بن غفير إلى القول: «مشهد الشرطة العسكرية وهي تصل لاعتقال أبطالنا في سدي تيمان أقل ما يقال عنه إنّه أمر شائن. أنصح وزير الدفاع ورئيس الأركان والسلطات العسكرية بدعم الجنود والاستفادة من خدمة السجون. لقد ولّت أيام التساهل والتسامح مع الإرهابيين. لا بد أن يحصل جنودنا على الدعم الكامل».

أعرب أحمد الطيبي، عضو الكنيست عن حزب حداش تعال، عن غضبه من تعليقات بعض الأعضاء قائلاً: «هل إدخال متفجرات في مستقيم شخص فعل مشروع؟» ليرد عليه عضو الليكود حانوخ ميلفيتسكي قائلاً: «إذا كان من النخبة، فكل شيء مشروع»

بعد إخراج المشتبه بهم التسعة أخيراً من سدي تيمان، نُقِلوا إلى قاعدة بيت ليد للاستجواب. هناك، اقتحم حشد أكبر – بينهم أفراد من الوحدة 100 – القاعدة وبدأوا في التخريب احتجاجاً على اعتقال الجنود المتهمين بالاغتصاب وسوء المعاملة الجسيمة. في 31 تموز/يوليو، أُطلِق سراح اثنين من المشتبه بهم من دون توجيه أي تهمة، ولحقهم ثلاثة آخرون بعد أسبوع. في 22 آب/أغسطس، طلبت المدعية العامة العسكرية من المحكمة تمديد الإقامة الجبرية للخمسة الآخرين الذين لا يزالون قيد التحقيق. وأفادت تقارير أنّ الأسير المعتدى عليه أُعيد إلى سدي تيمان في 1 آب/أغسطس.

القانون والعقاب

إن معاملة إسرائيل للفلسطينيين قصة تتطور على مدى عقود، لكنها لم تخلُ يوماً من التجريد من الإنسانية والتمييز. فالتعذيب المنهجي وإساءة معاملة الأسرى هما جانب واحد لا غير من الممارسات الوحشية والمذلة المتجلية في كل مجالات السيطرة الإسرائيلية التي تؤثر في الفلسطينيين. وجاء تصميم المشروع السجني الإسرائيلي وتنفيذه للقضاء على الوجود الوطني الجماعي للفلسطينيين وإعادة هندسة المجتمع عبر التفتيت والقمع وردع الناس عن المشاركة في المقاومة أو حتى الطموح إلى التحرّر. في الواقع، وكما أوضح وليد دقة، توجد «سجون صغيرة» تأسر ما لا يقل عن 800 ألف فلسطيني على مدى العقود، و«السجن الكبير» المتمثل في المجتمع الفلسطيني الذي على الرغم من التفتيت الجغرافي والسياسي يظل موحّداً بتجارب الاحتلال والتمييز العنصري.7

سعت إسرائيل بطرائق لا حصر لها إلى القضاء المبرم على الأحلام الفلسطينية بالحرية والتحرير وبررت أفعالها باسم الأمن. فلا يرى الإسرائيلي غضاضة في قبول أي فعل مهما بلغت فظاعته أو عدم قانونيته ما دام يؤطر في إطار الضرورة الأمنية، وكلما زادت فظاعة الفعل طاب ذلك لليمين. لكن الحرب الحالية تؤثر في استعداد الكثير من الدول الأجنبية، ومنها دول حليفة، لقبول مبررات إسرائيل الأمنية بأنّ كل ما تنزله الحكومة بالفلسطينيين مبرّر وضروري.

أسفرت الحرب عن تحركات لتطبيق قوة القانون العقابية على إسرائيل. ففي كانون الأول/ديسمبر 2023، قدمت جنوب أفريقيا طلباً إلى محكمة العدل الدولية لرفع قضية ضد إسرائيل بتهمة الإبادة الجماعية في غزة. وفي كانون الثاني/يناير 2024، أصدرت المحكمة أمراً أولياً فيه أنّ الاتهامات وجيهة. وفي أيار/مايو، قدّم المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية طلباً لإصدار مذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت لارتكابهما جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية مرتبطة بالحرب على غزة. وبغض النظر عما قد ينتج عن هذه المبادرات القانونية الدولية، فهي تمثل خطوة مهمة في مواجهة وتحدي رواية إسرائيل التي تبرر كل شيء باسم الأمن.

بيد أنّ كعب أخيل الجرائم الإسرائيلية بحق الفلسطينيين قد يكون التعذيب على وجه التحديد. فالإبادة الجماعية يصعب متابعتها قضائياً بسبب متطلبات النية المعقدة في تعريفاتها. أما إثبات جرائم الحرب فيواجه تحدياته الخاصة أيضاً، فقد تُخفي «ضبابية الحرب» المسؤولية الحقيقية. أما الجرائم ضد الإنسانية فلا تتطلّب إثبات النية، ولكن النطاق الواسع والضخم لما ارتكبته إسرائيل ضد سكان غزة من قتل جماعي وتجويع وتطهير عرقي وتدمير كامل لكل مظاهر الحياة والمجتمع، قد يكون، لضخامته، حجر عثرة أمام المساءلة.

جاء تصميم المشروع السجني الإسرائيلي وتنفيذه للقضاء على الوجود الوطني الجماعي للفلسطينيين وإعادة هندسة المجتمع عبر التفتيت والقمع وردع الناس عن المشاركة في المقاومة أو حتى الطموح إلى التحرّر

وبالمقارنة مع الأشكال الأخرى للعنف السياسي والانتهاكات الإنسانية، يكمن وضوح جريمة التعذيب في أنّها ترتكب بحق أفراد تحت الاحتجاز. فالقوانين الدولية تفرض قيوداً واضحة وملزمة عالمياً على امتيازات الدولة في معاملة الأشخاص في سياقات احتجازية. علاوة على ذلك، يتمتع كل إنسان بحق مطلق في عدم التعرض للتعذيب، بلا استثناء أو تبرير. وعلى الرغم من الانتشار العالمي للتعذيب، يظل عدم قانونيته مقبولاً على نطاق واسع. في الواقع، لم تُقدِم حكومتا إسرائيل والولايات المتحدة على بذل جهود كبيرة لإعادة تفسير القانون وجعل إساءة معاملتهما للمعتقلين تبدو قانونية ولا تصنّف في باب التعذيب (كما يظهر في الإصرار الرسمي على استخدام عبارات ملتبسة من قبيل «الضغط الجسدي المعتدل» أو «تقنيات الاستجواب المحسّنة») إلّا لاعترافهما بأنّ التعذيب جريمة لا يمكن تبريرها قانونياً بأي ذريعة، بما فيها الحرب والأمن القومي والدفاع عن النفس.

إن حجم التعذيب غير المسبوق الذي يتعرض له الفلسطيني ليس سوى طريقة من بين طرائق عدة سعت بها إسرائيل إلى الانتقام من هجمات حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر. لكنّ الانتقام غير القانوني من الأسرى عبر التعذيب يُعَدّ جريمة خطيرة بموجب القانون الدولي، إذ يُحظر التعذيب تماماً تحت أي ظرف من الظروف. وقد يتعرض مرتكبوه للملاحقة القانونية في المحاكم الدولية كالمحكمة الجنائية الدولية أو في المحاكم الأجنبية على أساس الاختصاص القضائي العالمي.

بعيداً من المسائل القانونية، يظل التعذيب ممارسة شائنة وشنيعة. وكما كشفت الأحداث الأخيرة في سدي تيمان، فإنّ كشف التعذيب وعدم القدرة على إنكاره أثار نقاشاً بين الإسرائيليين لم تثره أي جريمة أخرى ضد الفلسطينيين منذ تشرين الأول/أكتوبر. وقرار المدعية العسكرية بفتح تحقيق جنائي مع بضعة جنود بتهمة الاغتصاب الجماعي أثار ردود فعل مؤيدة للاغتصاب، بما يعكس بوضوح الانقسامات حتى داخل الجيش حين يتعلق الأمر بالتعذيب. وإذا استمرت إسرائيل في الحفاظ على سجلها المثالي من الإفلات من العقاب في هذه الفترة، فقد يصبح المسؤولون عن التعذيب عرضة للعدالة الانتقامية في أماكن أخرى.

  • 1Palestine Chronicle Staff, “‘Death Penalty a Solution’ – Ben-Gvir Adamant On Overcrowding in Israeli Prisons,” The Palestine Chronicle, July 2, 2024.
  • 2“Key issues: torture and ill treatment,” Addameer.
  • 3زار باسل فرّاج عمر عساف بعد الإفراج عنه في نيسان/أبريل 2024.
  • 4التقى باسل فرّاج هذا الشخص عقب الإفراج عنه في حزيران/يونيو 2024 وطلب عدم الكشف عن هويته.
  • 5تمكّن فرّاج، ووالده أسير، من حضور جلسة في محكمة عوفر العسكرية في 27 آذار/مارس ظهر فيها عدة أسرى على الشاشات.
  • 6“Torture under Occcupation,” Addameer, September 19, 2018.
  • 7Basil Farraj and Hashem Abushama, “‘Parallel Time’: Cultural Productions from the Small Prison to the Large Prison,” Jadaliyya, March 24, 2022.

علاء بريك هنيدي

مترجم، حاصل على ماجستير في المحاسبة، وشارك في تأسيس صحيفة المتلمِّس. صدر له ترجمة كتاب ديفيد هارفي «مدخل إلى رأس المال» عن دار فواصل السورية، وكتاب جوزيف ضاهر «الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني» عن دار صفصافة المصرية، وكتاب بيتر درَكر «الابتكار وريادك الأعمال» عن دار رف السعودية، وكانت أولى ترجماته مجموعة مقالات لفلاديمير لينين عن ليف تولستوي صدرت ضمن كراس عن دار أروقة اليمنية. كما نشر ترجمات عدّة مع مواقع صحافية عربية منها مدى مصر، وإضاءات، وذات مصر، وأوان ميديا.