Preview unequal

التبادل اللامتكافئ للعمل في الاقتصاد العالمي

أنقر/ي هنا لتنزيل الوقة كنسخة PDF

 

ملخّص تنفيذي

يرى الباحثون أنّ الأمم الغنية تعيش من الاستيلاء على عمل بقية العالم وموارده عبر تبادل غير متكافئ في التجارة الدولية والسلاسل السلعية العالمية. نقيّم هذه المسألة تجريبياً بقياس تدفّقات ساعات العمل المستهلكة في إنتاج السلع في الاقتصاد العالمي بين عامي 1995 و2021، آخذين بالحسبان مستويات المهارة والقطاعات والأجور. ونجد أنه في العام 2021، استولت اقتصادات الشمال العالمي على 826 مليار ساعة صافية من العمل من الجنوب العالمي، على جميع مستويات المهارة والقطاعات. وبلغت قيمة أجور العمل الصافي المستولى عليه نحو 16.9 تريليون يورو بأسعار دول الشمال، مع أخذ مستوى المهارة بالحسبان. يضاعف هذا الاستيلاء تقريباً العمل المتاح لاستهلاك  دول الشمال، لكنه يستنزف القدرة الإنتاجية في دول الجنوب، والتي كان يمكن أن تُستخدم لتلبية الاحتياجات البشرية المحلية وفي التنمية. ومن المفهوم أن التبادل غير المتكافئ مدفوعٌ في جزءٍ منه بتفاوتات منهجية في الأجور. فالأجور في الجنوب أقل بنسبة 87% إلى 95% من الأجور في الشمال بالنسبة إلى العمل ذي المهارة المكافئة. وفي حين يساهم العمّال في دول الجنوب بنحو 90% من العمل الذي يمدّ الاقتصاد العالمي، فإنهم لا يحصلون إلا على 21% من الدخل العالمي.

مقدِّمة 

يرى باحثو الاقتصاد السياسي الدولي أن النمو وتراكم رأس المال في دول «المركز» الغنية في الشمال العالمي يعتمد على الاستيلاء على القيمة - عمل وموارد وسلع - من «أطراف» الجنوب العالمي و«أشباه أطرافه». وفي الاقتصاد العالمي المعاصر، يحصل هذا الاستيلاء في جزء كبير منه من خلال ما عرّفه الباحثون بأنه «تبادل غير متكافئ» في التجارة الدولية. ووصفت الأدبيات في هذا الحقل كيف تستفيد دول المركز وشركاته من نفوذها الجيوسياسي والتجاري كي تضغط الأجور والأسعار والأرباح في الجنوب العالمي، سواء على مستوى الاقتصادات الوطنية أو ضمن سلاسل السلع العالمية (التي تمثّل أكثر من 70% من التجارة)، إذ تنخفض الأسعار في الجنوب العالمي بصورة منهجيّة مقارنة بالأسعار في الشمال العالمي. وتجبر التفاوتات في الأسعار دولَ الجنوب ومنتجيها على أن يصدّروا سنوياً إلى الشمال العالمي المزيد من العمل والموارد على شكل سلع تجارية، كي تسدّد ثمن وارداتها، ما يتيح لاقتصادات الشمال العاملي الاستيلاء على قيمة صافية تعود بالمنفعة على رأس المال والمستهلكين في الشمال.

من المفهوم أن ديناميات التبادل غير المتكافئ تكثفت في ثمانينيات القرن العشرين وتسعينياته مع فرض برامج التكيّف الهيكلي في جميع أنحاء الجنوب العالمي. فقد خفّضت برامج التكيّف الهيكلي قيمة العملات الجنوبية، وقلّصت التوظيف العام وأزالت حمايات العمّال والبيئة، الأمر الذي فرض ضغوطاً هبوطية على الأجور والأسعار. كما أعاقت السياسات الصناعية والاستثمار الذي تقوده الدولة في التنمية التكنولوجية، وأجبرت الحكومات في الجنوب العالمي على إعطاء الأولوية للإنتاج «الموجّه نحو التصدير» في القطاعات شديدة التنافسية، وفي مواقع خاضعة ضمن سلاسل السلع العالمية. وفي الوقت نفسه، حوّلت الشركات الرائدة في دول المركز الإنتاج الصناعي إلى الجنوب العالمي كي تستفيد من أجورٍ وتكاليف إنتاج أرخص، في حين تستفيد من سيطرتها ضمن سلاسل السلع العالمية للتضييق على أجور المنتجين في الجنوب وأرباحهم. وزادت هذه التدخّلات القوة الشرائية النسبية للشمال أكثر فأكثر على حساب عمل الجنوب وسلعه.

سعت دراسات عدّة إلى تكميم حجم الاستيلاء الحاصل عبر التبادل غير المتكافئ تكميماً غير مباشر، من خلال ضبط أحجام التبادل التجاري النقدية وفقاً للتفاوت بين الشمال والجنوب من حيث الأجور أو الأسعار العامة. واستخدمت أبحاثٌ أحدثُ نماذجَ المدخلات-المخرجات متعدّدة المناطق الممتدة بيئياً التي تمكّننا من تتبع تدفقات الموارد في الاستهلاك النهائي لكل بلد. وتبيّن هذه الدراسات تجريبيّاً أن اقتصادات المركز تعتمد على الاستيلاء على العمل والموارد من الجنوب العالمي. ولكن لم تحلّل هذه الأبحاث إلى الآن، بشكل مباشر، ديناميات الأسعار المرتبطة بوقت العمل المستهلك في التبادل التجاري الشمالي-الجنوبي. ولم تتمكّن أيضاً من الإجابة عن أسئلة بشأن الحدّ الذي قد تغدو عنده تفاوتات الأجر بين الشمال والجنوب، والتبادل غير المتكافئ بينهما، أثراً من آثار الاختلافات في نوع العمل المؤدّى من حيث مستوى المهارة أو القطاع. على سبيل المثال، إن كانت تفاوتات الأجر ناجمة عن أن الجنوب يتاجر بعمل ذي مهارة متدنية مقابل عمل عالي المهارة، أو ببضائع أولية مقابل بضائع ثانوية.

في هذه الدراسة، نستخدم نموذج المدخلات-المخرجات متعددة المناطق الممتدة بيئياً لتتبع تدفقات ساعات العمل بين الشمال والجنوب، آخذين في الحسبان مباشرةً وللمرّة الأولى القطاعات والأجور ومستويات المهارة (كما تعرّفها منظمة العمل الدولية (ILO). وهذا يمكّننا من تحديد حجم الاستيلاء على العمل من خلال التبادل غير المتكافئ من حيث وقت العمل المادي، مع تمثيله أيضاً من حيث قيمة الأجر، بطريقة تأخذ في الاعتبار تركيب مستوى مهارة العمل المجسّد في التبادل التجاري بين الشمال والجنوب. ويقارب تصنيفنا الخاص بالشمال العالمي قائمة صندوق النقد الدولي «للاقتصادات المتقدمة»، في حين يضمّ الجنوب جميع الاقتصادات الناشئة والنامية. وجميع الوحدات النقدية هي باليورو الثابت لعام 2005، مع التصحيح لمراعاة التضخم، ممثلاً بأسعار الصرف السوقية، الأمر المناسب للمقارنات الدولية بين قوى الدخول الشرائية في الاقتصاد العالمي.

نصل إلى استنتاجات رئيسة عدّة: (1) نجد أن عمل الإنتاج في الاقتصاد العالمي، عبر جميع مستويات المهارة وجميع القطاعات، يجري في الجنوب العالمي في الأغلب الأعم (بمعدّل ​​90-91%)، لكن عائدات الإنتاج تُجنى بشكل غير متناسب في الشمال العالمي. (2) استولى الشمال  على صافي 826 مليار ساعة من العمل من الجنوب العالمي في العام 2021 (من صافي التبادل التجاري، بعبارة أخرى). يحدث هذا الاستيلاء عبر جميع فئات المهارات والقطاعات، بما في ذلك استيلاء على العمل ذي المهارة العالية. (3) بلغت قيمة أجور العمل المستولى عليه بشكل صافٍ نحو 16.9 تريليون يورو في العام 2021، ممثلة بأجور الشمال مع مراعاة مستوى المهارة. ومن حيث قيمة الأجور، ازداد استنزاف العمل من الجنوب بأكثر من الضعف منذ العام 1995. (4) زادت فجوات الأجور بين الشمال والجنوب بشكل كبير في خلال الفترة الممتدّة بين عامي 1995 و2021، عبر جميع فئات المهارات والقطاعات، على الرغم من تحسن طفيف في الموقع النسبي للجنوب. إن الأجور في الجنوب أقل بنسبة 87-95% من الأجور في الشمال مقابل العمل الذي يتطلب المهارة نفسها، وأقل بنسبة 83-98% مقابل العمل الذي يتطلب المهارة المكافئة داخل القطاع نفسه. (5) انخفضت حصة العمال من الناتج المحلي الإجمالي بشكل عام في خلال هذه الفترة، بنحو 1.3 نقطة مئوية في الشمال العالمي و1.6 نقطة مئوية في الجنوب العالمي.

النتائج

المساهمات في الإنتاج العالمي

نجد أنه في العام 2021، وهو العام الأخير للبيانات، صُرِف 9.6 تريليون ساعة عمل في الإنتاج للاقتصاد العالمي. من هذا المجموع، ساهم الجنوب العالمي بنسبة 90% (الرسم البياني 1). وساهم الجنوب بغالبية العمل عبر جميع مستويات المهارة: إذ ساهم بـ 76% من العمل الذي يقتضي مهارة عالية، و91% من العمل الذي يقتضي مهارة متوسطة، و96% من العمل الذي يتطلب مهارة متدنية. وفي العام نفسه، صُرِف 2.1 تريليون ساعة عمل في إنتاج سلع تجارية دولية (يشير استخدامنا لمصطلح «سلع تجارية» في هذه الورقة إلى كلّ من السلع والخدمات). وتشبه المساهمة النسبية بين الشمال والجنوب في إنتاج السلع التجارية تلك المساهمة في إجمالي الإنتاج، حيث يساهم الجنوب بنسبة 91% من إجمالي العمل (73% من إجمالي العمل الذي يقتضي مهارة عالية، و93% من العمل متوسط المهارة، و96% من إجمالي العمل ذي المهارة المتدنية). يُلاحظ أن الأرقام الأخيرة بَخْسة، نظراً إلى أن معظم دول الجنوب العالمي مجمعة في مناطق محدّدة ولا تُمثَّل التجارة في داخل هذه المناطق.

jason hickel figure 01

ازدادت مساهمة الجنوب في إجمالي الإنتاج العالمي بشكل مطّرد في خلال الفترة الممتدة بين عامي 1995 و2021، عبر فئات المهارة جميعها. وحدث أكبر ازدياد في فئة المهارة العالية، إذ ازدادت مساهمة الجنوب في الإنتاج ذي المهارة العالية من 66% من الإجمالي العالمي في العام 1995 (1.9 مرة أكثر من الشمال) إلى 76% في العام 2021 (3.2 مرة أكثر من الشمال). في الواقع، يساهم الجنوب الآن بقدر أكبر من العمل ذي المهارة العالية في الاقتصاد العالمي (1,124 مليار ساعة في العام 2021) مقارنة بالمساهمات في العمل ذي المهارات العالية والمتوسطة والمنخفضة في الشمال العالمي مجتمعة (971 مليار ساعة في العام 2021). ويساهم الجنوب أيضاً في الغالبية العظمى من العمل عبر جميع مجموعات القطاعات المجمّعة، بما في ذلك الزراعة (99%)، والتعدين (99%)، والتصنيع (93%)، والخدمات (80%) وغيرها من القطاعات (89%).

على الرغم من مساهمة الجنوب بنسبة 90-91% من إجمالي العمل الذي يدخل في الإنتاج العالمي وإنتاج السلع التجارية في العام 2021، بما في ذلك غالبية العمل ذي المهارة العالية، إلا أن الجنوب العالمي حصل على أقل من النصف (44%) من الدخل العالمي، وحصل العمال الجنوبيون على 21% فقط من الدخل العالمي في ذلك العام. بعبارة أخرى، في حين يجري الإنتاج العالمي بغالبية ساحقة في الجنوب العالمي، تجنى العائدات بشكل غير متناسب في الشمال العالمي، ما يشير إلى سيطرة غير متناسبة على المنتج العالمي.

يبين الجدول 1 أن إجمالي عدد العمال المستخدمين وإجمالي عدد ساعات العمل قد ازداد في الشمال والجنوب على السواء بين عامي 1995 و2021، مع كون الازدياد أكبر بكثير في الجنوب العالمي. توضح الأسطر الأخيرة عدداً من النقاط اللافتة. أولاً، نرى أن العمّال في الجنوب العالمي يقدّمون بشكل متّسق قدراً أكبر من العمل بالنسبة إلى كل عامل مقارنة بالشمال، وبهوامش واسعة. وفي السنة الأخيرة من البيانات، عمل العمّال الجنوبيون بمعدل يزيد على ​​466 ساعة عن نظرائهم الشماليين (ما يزيد على 26%). ثانياً، نرى أنه في الشمال، قلّ وقت العمل لكل عامل بنسبة 7% في خلال هذه الفترة، في حين ازداد في الجنوب بنسبة 1%. وبقدر ما ساهم ازدياد وقت العمل في النمو الاقتصادي العالمي على مدى السنوات الخمس والعشرين الماضية، فقد تحمّلت الغالبية العظمى من سكّان الجنوب العالمي هذا العبء.

jason hickel figure 02

التبادل غير المتكافئ للعمل

يؤكد تحليلنا وجود نسقٍ راسخ  ومستمر من التبادل غير المتكافئ بين شمال العالم وجنوبه. في العام 2021، استورد الشمال العالمي 906 مليار ساعة من العمل المبذول في الجنوب، في حين صدّر في المقابل 80 مليار ساعة فقط (بنسبة 11:1). وفي المتوسط، في ​​خلال تلك الفترة، استورد الشمال من العمل في الجنوب ما يزيد بمقدار 15 مرة عن ما صدّره في المقابل. وبعبارة أخرى، يستولي الشمال استيلاءً صافياً على كميات كبيرة من العمل من الجنوب. ويحصل هذا الاستيلاء الصافي في جميع فئات المهارة، بما في ذلك العمل الذي يتطلّب مهارة عالية. وفي المتوسط، يستورد الشمال من العمل ذي المهارة العالية من الجنوب 4 أضعاف ما يصدره، بالإضافة إلى 17 ضعفاً من العمل متوسّط المهارة، و29 ضعفاً من العمل ذي المهارة المتدنية. ويبيّن الرسم البياني 2 صادرات الجنوب العالمي ووارداته من العمل في خلال الفترة الممتدّة بين عامي 1995 و2021.

jason hickel figure 03

لا يُفسّر التبادل غير المتكافئ للعمل الموصوف أعلاه بالاختلافات القطاعية. لقد وجدنا أن الشمال العالمي يستورد كميات كبيرة من العمل من الجنوب في جميع مستويات المهارة عبر القطاعات الخمسة جميعها. وسطياً، استورد الشمال عملاً زراعياً يزيد بـ 120 مرة على صادراته منه، و110 مرات بالنسبة إلى العمل التعديني، و11 مرة بالنسبة إلى العمل التصنيعي، و6 مرات بالنسبة إلى العمل الخدمي. بعبارة أخرى، ليس صحيحاً أنَّ مستوردات الشمال الصافية من العمل في الإنتاج الأولي من الجنوب قليلة في حين أنَّ صادراته الصافية من العمل في الإنتاج الثانوي والثالثي أكبر. على العكس من ذلك، يعتمد الشمال العالمي على استيلاء صافٍ على العمل من الجنوب في جميع القطاعات، بما في ذلك التصنيع والخدمات. ولا يوجد قطاع يصدّر فيه الشمال العمل إلى الجنوب. 

تُظهر النتائج الممثلة بحسب تسلسلها الزمني أنّ وضع الجنوب العالمي تدهور بين عامي 1995 و2005، مع ازدياد نسبة التبادل بين الجنوب والشمال من 17:1 بين عامي 1995 و1997 إلى 21:1 بين عامي 2003 و2005. وفي خلال هذه الفترة التي اتسمت بسياسات التكيّف الهيكلي الجائرة التي طُبّقت خلال ثمانينيات القرن العشرين وتسعينياته، اضطرت اقتصادات الجنوب إلى زيادة صادراتها من العمل بنسبة 24% من أجل الحفاظ على الكمية نفسها من الواردات من الشمال. وتحسّن وضع الجنوب على مدى العقد التالي (2005-2015)، إذ خُفّفت سياسات التكيّف الأكثر شراسة، بالتوازي مع انطلاق طفرة أسعار السلع، وانخفاض نسبة التبادل إلى 10:1. وكان هذا التحسن مدفوعاً في الغالب بتحسن موقع الصين. ومع ذلك، توقفت التحسينات منذ العام 2015، وجرى شيء من النكوص.

يبيّن الرسمان البيانيان 3 و4 إجمالي كمية العمل التي استولى عليها الشمال في خلال هذه الفترة، بحسب مستوى المهارة والقطاع على التوالي. ويستولي الشمال على العمل عبر جميع مستويات المهارة وجميع القطاعات. ومن الجدير بالذكر أن الاستيلاء في القطاعين الثانوي والثالثي (التصنيع والخدمات) بات الآن أكبر مما كان عليه في القطاعات الأولية (الزراعة والتعدين)، وبالفعل كانت هذه هي الحال بالنسبة إلى معظم الفترة المشمولة.

jason hickel figure 04
jason hickel figure 05

ازداد إجمالي صافي الاستيلاء من العام 1995 ليصل إلى ذروةٍ في العام 2005 قبل أن ينخفض في ​​خلال العقد الممتدّ بين عامي 2005 و2015. ونجد أن الانخفاض في خلال هذا العقد يتوافق مع تحسّنٍ في أجور الجنوب إزاء أجور الشمال. لكن توقف هذا التحسن في العام 2015 واستقرّت نسب الأجور. ازداد الاستيلاء في السنوات التي تلت ذلك، مدفوعاً بازدياد حجم التبادل التجاري. وفي العام 2021، بلغ إجمالي صافي الاستيلاء 826 مليار ساعة. هذه الأرقام أكبر بكثير مما وجدته الدراسات السابقة. يمثل صافي التدفقات من الصين إلى الشمال ما يقرب من سدس إجمالي صافي التدفقات الجنوبية-الشمالية. تجدر الإشارة هنا إلى أن التدفق الصافي للعمل من الجنوب إلى الشمال لا «يُدفع ثمنه» بتدفق صافٍ معاكس للأرض أو الطاقة أو المواد، بل على العكس من ذلك، تجري التدفقات الصافية الكبيرة من الجنوب إلى الشمال عبر جميع فئات المدخلات.

نجد أن هذا النسق من صافي الاستيلاء يؤدّي دوراً رئيساً في استهلاك الشمال (الرسم البياني 5). ففي أي عام معين، يستهلك الشمال ما يقرب من ضعف العمل الذي يقدمه، وذلك بفضل الاستيلاء من خلال التبادل غير المتكافئ. وفي العام 2021، شكّل صافي العمل المستولى عليه 46% من إجمالي استهلاك العمل في الشمال. ويبيّن الرسم البياني 5 أيضاً أن اقتصادات الشمال العالمي باتت متّكلةً بشكل متزايد على العمل ذي المهارة المتدنية الذي يجري الاستيلاء على غالبيته العظمى من الجنوب العالمي (71% في العام 2021).

jason hickel figure 06

في حين تتكوّن غالبية صافي استيلاء الشمال على العمل في الجنوب من عمل متوسط المهارة، فإن صافي الاستيلاء على العمل ذي المهارة العالية يشكّل سمة مهمة لاقتصادات الشمال. ونجد أن اقتصادات الشمال العالمي تستولي على قدر من العمل ذي المهارة العالية من الجنوب العالمي (52 مليار ساعة في العام 2021) أكبر مما تحصل عليه وتستهلكه عبر التبادل التجاري بين دول الشمال (31 مليار ساعة في عام 2021).

قيمة التملّك عبر التبادل غير المتكافئ من حيث الأجر

كما أشارت دراسات سابقة، فإنه نظراً إلى كون الأجور والأسعار نتاج لقوة المساومة في الاقتصاد العالمي (بالإضافة إلى مستوى التسليع، ومدى تركّز الاحتكارات، وما إلى ذلك)، فضلاً عن ديناميات العرض والطلب، فمن غير الممكن تحديد قيمة نقدية «حقيقية» للعمل. أقصى ما يمكننا القيام به هو تمثيل العمل من حيث الأجور السائدة التي تختبرها عناصر مختلفة في الاقتصاد العالمي الرأسمالي الحالي كنقطة مرجعية بحتة. وترى دراسات سابقة عن التبادل غير المتكافئ، بما في ذلك دراسات لسمير أمين، أن صافي الاستيلاء على العمل المُستتر من الجنوب العالمي يجب أن يُمثّل من حيث الأجور السائدة في الشمال. بمعنى آخر، من وجهة نظر العمّال والمنتجين الشماليين. وهذه هي المقاربة التي نتّبعها هنا.

أولاً، حدّدنا مقياساً لصافي وقت العمل المستولى عليه لكل مستوى من المهارة لكل عام. ثم ضربنا صافي وقت العمل المستولى عليه بالأجور التي يتلقّاها العمّال الشماليون مقابل العمل من مستوى المهارة نفسه الذي يُقدّم في إنتاج السلع التجارية (متجاهلين السلع المنتجة للاستهلاك المحلي النهائي). وهكذا يُقارن العمل بالمثل: على سبيل المثال، تُقدّر الكمّية المستولى عليها من العمل ذي المهارة المتدنية بالأجر الشمالي للعمل ذي المهارة المتدنية، وتُقدّر الكمّية المخصّصة من العمل ذي المهارة العالية بالأجر الشمالي للعمل عالي المهارة. وبهذه الطريقة، حسبنا قيمة أجر العمل المستولى عليه بطريقة تجيب عن الأسئلة التي طال أمدها عن مدى تأثر ذلك بتكوين مستوى المهارة في التبادل.

تُظهِر نتائجنا أنه في العام 2021، بلغت قيمة أجر العمل المستولى عليه من الجنوب 16.9 تريليون يورو، بسعر اليورو الثابت لعام 2005 (الرسم البياني 6). بعبارة أخرى، لو كان على العمّال في دول الشمال أن يقوموا محلياً بالعمل المستولى عليه، لكانت التكلفة 16.9 تريليون يورو من حيث الأجور. يُظهر التسلسل الزمني أن قيمة أجور الاستيلاء تجاورت الضعف منذ العام 1995. إذ وقعت زيادات كبيرة في أواخر تسعينيات القرن العشرين، واصلت مساراً تصاعدياً بدأ في فترة التكيّف الهيكلي النيوليبرالي في ثمانينياته. ولقد استقر الاستيلاء منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين إلى العام 2015، ومنذ ذلك الحين، ازداد أكثر فأكثر. وفي خلال الفترة الممتدّة بين عامي 1995 و2021، بلغ إجمالي قيمة أجور العمل المستولى عليه بشكل صافٍ 310 تريليون يورو.

jason hickel figure 07

للتحقق من صحة النتائج، حسبنا أيضاً قيمة أجر العمل المستولى عليه صافياً باستخدام الأجور الشمالية لكل مستوى مهارة في القطاع المعني. بعبارة أخرى، قمنا بتقييم الكمّية المستولى عليها بشكل صافٍ من العمل ذي المهارة العالية في قطاع الخدمات بالأجر الشمالي للعمل عالي المهارة في قطاع الخدمات، إلخ. ولا تنخفض النتائج إلا بصورة طفيفة، 14.2 تريليون يورو في العام 2021. يتمثل ضعف هذه المقاربة في أنها تسلّم بوجود تفاوتات أجرٍ كبيرة بين القطاعات ضمن الشمال العالمي، حتى عند التصحيح وفقاً للمهارة، الأمر الذي يعود بدرجة كبيرة إلى الأجور المنخفضة للغاية في الزراعة التي تصل إلى 2 أو 3 يورو في الساعة. ولكن، من المفيد مع ذلك إثبات أن النطاق الواسع لقيمة العمل المستولى عليه بشكل صافٍ من حيث الأجر لا يمكن تفسيره بالاختلافات القطاعية.

اتجاهات الأجور

نجد أن فجوة الأجور بين الشمال والجنوب كبيرة وكانت آخذةً بالتزايد بمرور الوقت بالنسبة إلى جميع فئات مستوى المهارة (الرسم البياني 7). وهنا مرة أخرى، لا نقيّم سوى العمل المعني بإنتاج السلع التجارية. تقلّ الأجور الجنوبية بنسبة 87% إلى 95% عن الأجور الشمالية عند مستوى المهارة نفسه، أي للعمل المتساوي على النحو الذي حدّدته منظمة العمل الدولية. فالأجور في الجنوب أقل بنسبة 87% للعمل ذي المهارة العالية، وأقل بنسبة 93% للعمل متوسط المهارة، وأقل بنسبة 95% للعمل ذي المهارة المتدنية. ويُمعن انعدام التكافؤ في الشدّة إلى الحدّ الذي يحصل عنده العمل ذي المهارة العالية في الجنوب العالمي على ما هو أقل بنسبة 68% من العمل ذي المهارة المنخفضة في الشمال العالمي. بعبارة أخرى، يتمكّن العمّال في الشمال العالمي، مقابل كل ساعة عمل في مستوى مهارة معين، أن يستهلكوا بين 8 إلى 19 ضعفاً من المنتج العالمي مقارنة بالعمال في الجنوب العالمي (8 أضعاف للعمل عالي المهارة، و14 ضعفاً للعمل متوسط المهارة، و19 ضعفاً للعمل متدني المهارة).

jason hickel figure 08

لا تضاهي مكاسب الأجور في الجنوب مكاسب الأجور في الشمال من حيث القيمة المطلقة. ارتفع متوسط ​​الأجر في الجنوب من 0.46 يورو إلى 1.62 يورو في الساعة (بزيادة قدرها 1.16 يورو)، في حين ارتفع متوسط ​​الأجر في الشمال من 12.60 يورو إلى 24.95 يورو في الساعة (بزيادة قدرها 12.35 يورو). وتضاعفت الأجور في الشمال العالمي 11 مرة مقارنة بالأجور في الجنوب العالمي. ما من «لحاق» يحدث؛ بل على العكس من ذلك، تباعد شديد.

تشير هذه النتائج إلى أنّ العمال في الجنوب العالمي الذين يتقاضون متوسّط أجر يبلغ ​​1.62 يورو في الساعة، يؤدون الغالبية العظمى (90%) من العمل الذي ينتج للاقتصاد العالمي، والغالبية العظمى (91%) من العمل الذي ينتج السلع التجارية، وما يقرب من نصف (46%) العمل الذي يدعم النمو والاستهلاك في الشمال العالمي (صافي التبادل التجاري). يتّسم الاقتصاد العالمي في الغالب الأعم بنظام عمل رخيص.

لا تُفسّر هذه الفجوات في الأجر بالاختلافات القطاعية. تظهر نتائجنا فجوات واسعة ومتنامية في الأجور بين الشمال والجنوب على جميع مستويات المهارة في جميع القطاعات التي قمنا بتحليلها. وفي الزراعة، تقل الأجور في الجنوب العالمي بنسبة 85% إلى 91% عن الأجور في الشمال العالمي لأي مستوى مهارة معين. وفي قطاع التعدين، الأجور في الجنوب أقل بنسبة 93% إلى 98%. وفي التصنيع، أقل بنسبة 89% إلى 94%. وفي الخدمات، أقل بنسبة 83% إلى 90%. 

على الرغم من اتساع الفجوات في الأجور، كان ثمة انخفاض في التفاوت النسبي بين الشمال والجنوب. واعتباراً من العام 2021، كان متوسط ​​الأجر في الجنوب العالمي أقل بنسبة 94% من متوسط ​​الأجر في الشمال العالمي. وهو تحسّن طفيف عن 96% في العام 1995 (الرسم البياني 8). وطرأت تحسّنات على وضع الجنوب في خلال الفترة الممتدّة بين عامي 2005 و2015. وتوقفت منذ ذلك الحين، بل وتراجعت إلى حد ما.

الرسم البياني 8: أجور الجنوب كنسبة من أجور الشمال بحسب مستوى المهارة

حصة العمل من الناتج المحلي الإجمالي

نجد أن العمل، على مستوى العالم، تلقّى، في المتوسط، 51.6% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي في خلال فترة الخمس سنوات الأخيرة التي ترصدها الدراسة (2017-2021). بعبارة أخرى، لا يحصل العمّال إلا على نصف القيمة المُنْتَجَة في الاقتصاد العالمي (ممثلة في الأسعار ومدرجة في حسابات الناتج المحلي الإجمالي) على شكل أجور. وكما يظهر الرسم البياني 9، يمثل هذا تناقصاً عن أواخر التسعينيات (1995-1999)، حين بلغ متوسط ​​حصة العمل في الناتج المحلي الإجمالي 54.7%. ويشير هذا إلى أن وضع العمل إزاء رأس المال قد تردّى في خلال الفترة المذكورة.

jason hickel figure 10

تقلّ حصة عمّال الجنوب من الناتج المحلي الإجمالي للجنوب بشكل ملحوظ عن المعدل ​​العالمي، وتبلع ​​47.5% في خلال الفترة الممتدّة بين عامي 2017 و2021، في حين أن حصة عمال الشمال من الناتج المحلي الإجمالي للشمال أعلى، بمعدل ​​54.7% في خلال الفترة نفسها. وهذا يدل على أن الطبقات العاملة الجنوبية أضعف إزاء رأس المال الوطني من الطبقات العاملة الشمالية. وفي الحالتين، تردّى وضع العمل منذ أواخر تسعينيات القرن العشرين: بمقدار 1.3 نقطة مئوية في الجنوب و1.6 نقطة مئوية في الشمال.

مناقشة

تظهر نتائج هذه الدراسة حصول تحويلات صافية كبيرة للعمل الممارس في الجنوب العالمي إلى الشمال العالمي من خلال التبادل غير المتكافئ في التجارة الدولية وسلاسل التوريد العالمية، عبر جميع مستويات المهارة وجميع القطاعات، ما وصل إلى إجمالي 826 مليار ساعة عمل في العام 2021. وتوضح هذه النتائج سمات عدة مهمة للاقتصاد العالمي. أولها، من الواضح أن اقتصادات الشمال تعتمد إلى حدّ بعيد على استيلاء صاف من الجنوب العالمي. ويشكّل العمل المستولى عليه بشكل صافٍ ما يقرب من نصف إجمالي العمل الذي يزوّد الاستهلاك في الشمال العالمي بالبضائع والخدمات. بعبارة أخرى، تضاعف هذه الدينامية الكمية الإجمالية للعمل المتاح لدى اقتصادات الشمال العالمي والتي تُديم مستوياتها المرتفعة من الاستهلاك والثروة، وتعزّز نموها الاقتصادي. تُلْحَقُ 826 مليار ساعة إضافية من العمل في الجنوب العالمي إلحاقاً فاعلاً بالاقتصادات الشمالية على هيئة «عمّال شبحيين» غير مرئيين.

بالنظر إلى هذه الدينامية، يغدو من الواضح أن نموذج التنمية في الشمال لا يمكن تعميمه، لأنه يعتمد على الاستيلاء من أماكن أخرى. وعلاوة على ذلك، من غير المرجح أن يمكن الحفاظ على مستويات الشمال الحالية من الاستهلاك الكلي في ظل ظروف تبادل تجاري عادلة. فمن أجل الإبقاء على الاستهلاك الحالي، سوف يحتاج سكان الشمال إلى رفع ساعات عملهم بشكل كبير (مع تخصيص المزيد من الأراضي المحلية والمواد والطاقة للإنتاج)، وهو ما سيكون صعب التحقيق اجتماعياً وسياسياً. ومن المعقول أن يفضل البشر بدلاً من ذلك أن يتخلّوا عن بعض أنواع الإنتاج (على سبيل المثال، إنتاج السلع لاستهلاك النخبة) أو التحوّل إلى أشكال الإمداد التي تتطلّب عملاً أقل (مثل النقل العام بدلاً من السيارات الخاصة).

تشير نتائجنا أيضاً إلى أن الجنوب العالمي قد اسُتنزف منه كمّ كبير من القدرة الإنتاجية من خلال التبادل غير المتكافئ. يُستنزف 9% إلى 16% من إجمالي قدرته الإنتاجية، من حيث العمل، في أي سنة معينة. ويعادل 826 مليار ساعة في العام 2021 عملَ 369 مليون عامل، بافتراض 2,236 ساعة لكل عامل سنوياً، وهو متوسط ​​الجنوب العالمي كما هو موضح في الجدول 1. وهذا أكثر من إجمالي القوة العاملة في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مجتمعين. ومن الممكن تعبئة هذا الكم من العمل لإنتاج السكن والطعام المغذي للمجتمعات المحلية في داخل الجنوب العالمي، أو لبناء المستشفيات والمدارس وتزويدها بالموظفين، وبالتالي تلبية الاحتياجات البشرية المحلية وتحقيق الأهداف الإنمائية الضرورية؛ ولكن بدلاً من ذلك - وبسبب اعتصار العمل والمنتجين في الجنوب العالمي، وبسبب القيود المفروضة على قدرة الدول الجنوبية على تطوير سيادة اقتصادية أكبر - يستولى على هذا الكم من العمل لكي يُنتِج ضمن سلاسل التوريد العالمية التي تخدم النمو والاستهلاك والتراكم في الشمال.

من المفهوم أن التبادل غير المتكافئ مدفوع في جزء منه بالفجوات الكبيرة في الأجور بين الشمال والجنوب. نجد أن الأجور في الجنوب العالمي أقل بنسبة 87% إلى 95% من الأجور في الشمال العالمي عن العمل الذي تتساوى فيه المهارات. ويقرّ تحليلنا بنقاشات آخرين (مثل روي ماورو ماريني، وسمير أمين، وأريغي إيمانويل، وغيرهم) بأنه لا يمكن تفسير هذه الفجوات في الأجور بالاختلافات القطاعية، إذ إنها تسود جميع قطاعات الاقتصاد: أجور العمال في الجنوب العالمي هي أقل بنسبة 83% إلى 98% عن العمل الذي تتساوى فيه المهارات في القطاع نفسه. وبالقيمة المطلقة، اتّسعت هذه الفجوات في الأجور كثيراً مع مرور الوقت، عبر جميع مستويات المهارة وجميع القطاعات، ما يشير إلى زيادة مطردة في التفاوت المطلق في الدخل بين الشمال والجنوب، على الرغم من بعض التحسن في الوضع النسبي للجنوب في خلال الفترة الممتدّة بين عامي 2005 و2015. جرى هذا، على الرغم من أن زيادة مطردة كانت تحدث في التصنيع الصناعي باعتباره حصة من إجمالي الإنتاج في (والصادرات من) الجنوب العالمي في خلال الفترة المدروسة. نستنتج أنه في حين يساهم العمال في الجنوب العالمي في الجزء الأكبر (90% إلى 91%) من العمل الذي يدعم الاقتصاد العالمي، لا يحصلون إلا على 21% فقط من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. وتُجنى عوائد الإنتاج بشكل غير متناسب في الشمال العالمي.

من المثير للاهتمام أن نلاحظ أن نتائجنا التي تصف اعتماد الشمال على العمل الماهر من الجنوب تؤكد تصريحات أدلى بها الرؤساء التنفيذيون لشركات كبرى، زعموا فيها أن الكم اللازم من العمل في الهندسة عالية المهارة لدعم إنتاجهم غير متوفرة في دول المركز، ما يوجب أن يُنجَز هذا الإنتاج في الخارج. وأشار ستيف جوبز، الرئيس التنفيذي السابق لشركة آبل، إلى أن شركته تحتاج 30 ألف مهندس؛ وعلى حد تعبيره، «لا يمكنك العثور على هذا العدد الكبير من الموظفين في أميركا لتوظيفهم». وأشار الرئيس التنفيذي الحالي تيم كوك إلى أن إنتاج شركة آبل يعتمد على كم كبير من العمل عالي المهارة في الصين في الهندسة المتقدمة والأدوات والابتكار: «في الولايات المتحدة، من الممكن أن تعقد اجتماعاً لمهندسي الأدوات، ولست متأكداً من قدرتنا على ملء القاعة. في الصين، يمكنك ملء الكثير من ملاعب كرة القدم». ولا يحصل العمل ذي المهارة العالية في الجنوب العالمي إلا على نسبة ضئيلة مما يحصل عليه في الشمال، على الرغم من حقيقة مفادها أن الشركات الشمالية لا تستطيع أن تؤدي وظيفتها من دونه.

تظهر دراستنا أنه لا يمكن تفسير فجوات الأجور بين الشمال والجنوب والتبادل غير المتكافئ للعمل بمستوى المهارة أو بالاختلافات القطاعية، إذ تبقى الديناميتان كلتاهما في جميع مستويات المهارة وضمن جميع القطاعات. ومع ذلك، قد يعود قدرٌ من التبادل غير المتكافئ إلى اختلافات الإنتاجية (إذا ما كان العمّال في الجنوب ينتجون مخرجات أقل في الساعة من العمّال في الشمال). ويُنظر أحياناً إلى التبادل غير المتكافئ على أنه تحويل صافٍ لفروق الإنتاجية. ليس من السهل تقييم ذلك تجريبياً. إذ تقيس المقاييس المعيارية للإنتاجية الناتج من حيث الدخل أو الناتج المحلي الإجمالي لكل شخص مستخدَم، وهي مقاييس للأسعار ولا تكشف شيئاً عن الناتج المادي. ولا يمكن استخدام مثل هذه المقاييس لأغراضنا: فهي تخبرنا أن الأجور والأسعار في الجنوب أقل من الأجور والأسعار في الشمال، ولكن هذا بالضبط ما يحتاج إلى تفسير. ترى الأبحاث المتعلّقة بالتبادل غير المتكافئ أن الأسعار هي نتيجة اختلال في موازين القوى (بين العمل ورأس المال، والموردين والشركات الرائدة، والأطراف والمركز)، ولذلك، لا يمكن اعتبارها وصفاً دقيقاً للقيمة. فإذا قُلّصت الأجور والأسعار في الجنوب، فسوف يبدو أن «الإنتاجية» في الجنوب تتدهور حتى لو لم يكن ثمة تغيير في المخرجات المادي الفعلي. ويتطلب تقييم ديناميات الإنتاجية بشكل صحيح قياس الإنتاج المادي عبر صناعات تقبل المقارنة.

هنالك أسباب عدة تجعلنا نعتقد أن الاختلافات في الإنتاجية المادية لا يمكن أن تفسّر الفجوات الكبيرة في الأجور بين الشمال والجنوب والتبادل غير المتكافئ التي نلاحظها. أولاً، في حالة الصناعات التصديرية (بدلاً من قطاعات الكفاف وغير المتداولة)، تؤدَّى غالبية الإنتاج في الجنوب بتقنيات حديثة، وغالباً باستخدام تكنولوجيات يوفرها رأس المال الدولي. ولقد وُجد أن العمّال في هذه الصناعات ينتجون مخرجات مادية أكبر أو تساوي، في الساعة، مخرجات نظرائهم الشماليين. ويتميز الإنتاج الجنوبي أيضاً بكثافة أكبر في العمل، حيث يخضع العمّال لأنظمة مراقبة صارمة مصممة لتعظيم الإنتاج إلى الحد الذي قد يتعارض مع تنظيمات العمل في المركز. ثانياً، في الحالات التي تشتغل فيها صناعات التصدير الجنوبية فعلاً بتقنيات أقل كفاءة، فإن الفروق في الإنتاجية لا تمثل سوى جزءاً صغيراً من فجوة الأجور بين الشمال والجنوب وصافي الاستيلاء على وقت العمل. والحقيقة الرئيسة هي أن الشركات الشمالية تختار استخدام العمل الجنوبي ليس لأن الأجور أرخص في الساعة فحسب، بل لأن الأجور أرخص لكل وحدة من المخرجات المادية. ويحدث النقل إلى الخارج بالضبط لأن الفرق في الأجور بين الشمال والجنوب أكبر من أي فرق في الإنتاجية المادية. ثالثاً، لا يمكن مقارنة الإنتاجيات المادية مقارنة ذات معنى إلا من حيث مهام ومنتجات متطابقة. وبالنسبة إلى الكثير من الصناعات وفئات المنتجات، لا يوجد إنتاج جنوبي يقابله نظير في الشمال، لأنه لا يمكن أن يحدث هناك أو لا يحدث هناك (كما هي الحال في القهوة والكولتان والهواتف الذكية والأزياء السريعة، الخ). وفي مثل هذه الحالات، لا يمكن أن تُقارن الإنتاجيات ولا يمكنها تفسير التفاوت في الأجور والتبادل غير المتكافئ.

من الجدير بالملاحظة أنه في الحالات التي توجد فيها فروق في الإنتاجية المادية، يرجع ذلك في كثير من الأحيان إلى أنه من الأربح لرأس المال أن يستخدم أساليب أرخص وأكثر كثافة من حيث العمل بدلاً من أن يستثمر في المعدات الحديثة - لا سيما في الحالات التي يكون فيها استثمار الدولة في التطوير التكنولوجي قد قُلّص بسبب برامج التكيّف الهيكلي، أو حدث تحوّل براءات الاختراع من دون الوصول إلى التكنولوجيات الضرورية بأسعار معقولة - وذلك بالضبط لأن الأجور في الجنوب يجري إبقاؤها عمداً عند مستويات منخفضة. يوفر هذا الترتيب للمستهلكين الشماليين سلعاً أرخص ولرأس المال الشمالي مَزيداً من فضل القيمة. وفي مثل هذه الحالات، يسهّل استخدام الأساليب كثيفة العمل نقل القيمة، ويجب أن يُفهم على أنه يشكّل تبادلاً غير متكافئ. وفي ظل هذه الظروف، يضطر الجنوب إلى تخصيص عمل للإنتاج من أجل التجارة الدولي أكبر مما هو مطلوب فيما لو نُشرت التكنولوجيا بشكل أكثر عقلانية وعدالة، ولذلك تُستنزف - وتُهدر - قدرة إنتاجية بالغة الأهمية كان من الممكن تخصيصها لإنتاج السلع والخدمات الضرورية للرفاه والتنمية المحلية. 

قامت هذه الدراسة بتقييم تدفقات العمل بين المركز والأطراف. ومن الواضح أن مقاربة من هذا النوع تفيد في تحليل النظام العالمي الواسع، لكنها قد تعمّي على ديناميات مهمة أخرى. وقد يجد البحث المستقبلي أنه من المفيد استكشاف شرخ إقليمي أكثر تفصيلاً، لتقييم كيف يختلف تأثر الأطراف وأشباه الأطراف (أو البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل) بالتبادل غير المتكافئ. وسيكون من المفيد أيضاً تقييم الديناميات الطبقية، وأوجه التفاوت في داخل البلدان. ويجب أن نفهم أن التبادل غير المتكافئ تحركه في نهاية المطاف الشركات والمستثمرون الذين يسيطرون على سلاسل التوريد، والدول التي تحدّد قواعد التبادل التجاري والتمويل الدوليين، لا العمّال أو المستهلكين. وقد تشتغل أيضاً أنساق التبادل غير المتكافئ في داخل البلدان، من خلال استغلال «الأطراف في الداخل» (مثل العمل الزراعي ذي الأجور المنخفضة للغاية في المركز). أخيراً، لا يمتدّ تحليلنا إلى الديناميات الجندرية، بما في ذلك العمل المنزلي غير المدفوع أو إعادة الإنتاج الاجتماعي والتي تُعد أيضاً من مكوّنات التبادل غير المتكافئ ويجب استكشافه في الأبحاث المستقبلية.

تقترح نتائج هذه الدراسة أن استمرار الفقر والتخلف العالمي هو، إلى حد بعيد، أثرٌ من آثار الاستيلاء عبر التبادل غير المتكافئ، وهو بدوره أثر من آثار قمع الأجور أو انكماش الدخل في الأطراف. ولقد قُلّص استهلاك البشر في الجنوب العالمي بحيث أصبح العمل والموارد والسلع متاحة بسهولة أكبر كي تستولي عليها الدول والشركات الشمالية. وتساعدنا هذه الدينامية أيضاً على فهم التفاوت المتواصل بين المركز والأطراف. وفي ظل ظروف التبادل غير المتكافئ - حيث يجري الاستيلاء على الإنتاج في البلدان الفقيرة كي يُستهلك في البلدان الأغنى - يغدو تحقيق التقارب غير ممكن. تتطلب التنمية والقضاء على الفقر، وأي مسار معقول للحد من فجوة التفاوت العالمية، تحولاً في ميزان القوى بين الشمال والجنوب، بحيث يتمكن الأخير من استعادة قدراته الإنتاجية لتلبية الاحتياجات البشرية.

لتحقيق هذه الغاية، من الممكن أن تساعد الحدود الدنيا للأجور الدولية والحد الأدنى لأسعار الموارد في تخفيض التفاوت في الأسعار والحد من تحويلات القيمة. وسوف يتطلب إنهاء التبادل غير المتكافئ أيضاً الكف عن فرض شروط التكيّف الهيكلي على التمويل، وإضفاء الطابع الديمقراطي على مؤسسات الإدارة الاقتصادية العالمية، حتى تصبح حكومات الجنوب العالمي حرة في استخدام السياسات الصناعية والمالية والنقدية للسعي وراء التنمية السيادية وتقليل اعتمادها على رأس المال الشمالي. ولكن من غير المرجح أن تُمنح إصلاحات من هذا النوع من الأعلى. وسوف يتطلب الأمر نضالاً سياسياً من أجل تقرير المصير الوطني والسيادة الاقتصادية على نحو يماثل في نطاقه حركة المناهضة للاستعمار في القرن العشرين.

نُشِرت هذه الورقة في Nature في 29 تموز/يوليو 2024، وتُرجِمت إلى العربية ونُشِرت في موقع «صفر» بالاتفاق مع الكاتب. 

 

المراجع

Patnaik, U. & Patnaik, P. Capital and Imperialism: Theory, History, and the Present (Monthly Review Press, 2021).

Rodney, W. How Europe Underdeveloped Africa (Bogle-L’Ouverture, 1972).

Wallerstein, I. M. The Modern World-System. 1: Capitalist Agriculture and the Origins of the European World-Economy in the Sixteenth Century (Academic Press, 1975).

Pomeranz, K. The Great Divergence: China, Europe, and the Making of the Modern World Economy (Princeton Univ. Press, 2020).

Grosfoguel, R. Decolonizing post-colonial studies and paradigms of political-economy: transmodernity, decolonial thinking, and global coloniality. Transmodernity 1, 14–52 (2011).

Galeano, E. Open Veins of Latin America: Five Centuries of the Pillage of a Continent (Monthly Review Press, 1973).

Nkrumah, K. Neo-colonialism: The Last Stage of Imperialism (International Publ, 1976).

Moore, J. W. Capitalism in the Web of Life: Ecology and the Accumulation of Capital (Verso, 2015).

Amin, S. Unequal Development: An Essay on the Social Formations of Peripheral Capitalism (Monthly Review Press, 1976).

Emmanuel, A. Unequal Exchange; A Study of the Imperialism of Trade (Monthly Review Press, 1972).

Marini, R. M, & Sader, E. Dialéctica de la dependencia Vol. 22 (Ediciones Era, 1977).

Ricci, A. Global locational inequality: assessing unequal exchange effects. Environ. Plan A 54, 1323–1340 (2022).

Suwandi, I. Value Chains: The New Economic Imperialism (Monthly Review Press, 2019).

Smith, J. C. Imperialism in the Twenty-first Century: Globalization, Super-Exploitation, and Capitalism’s Final Crisis (Monthly Review Press, 2016).

Hickel, J., Sullivan, D. & Zoomkawala, H. Plunder in the post-colonial era: quantifying drain from the global South through unequal exchange, 1960–2018. New Polit. Econ. 26, 1–18 (2021).

Abouharb, M. R. & Cingranelli, D. Human Rights and Structural Adjustment (Cambridge Univ. Press, 2007).

Chang, H. Bad Samaritans: The Myth of Free Trade and the Secret History of Capitalism. (Bloomsbury Publishing, 2019).

Silva, D. F. da. Unpayable Debt (Sternberg Press, 2022).

Clelland, D. A. The core of the apple: degrees of monopoly and dark value in global commodity chains. J. World Syst. Res. 20, 82–111 (2014).

Cope, Z. The Wealth of (Some) Nations (Pluto Press, 2019).

Kohler, G. The structure of global money and world tables of unequal exchange. J. World Syst. Res. 4, 145–168 (1998).

Dorninger, C. et al. Global patterns of ecologically unequal exchange: Implications for sustainability in the 21st century. Ecol. Econ. 179, 106824 (2021).

Hickel, J., Dorninger, C., Wieland, H. & Suwandi, I. Imperialist appropriation in the world economy: drain from the global South through unequal exchange, 1990–2015. Glob. Environ. Change 73, 102467 (2022).

Pérez-Sánchez, L., Velasco-Fernández, R. & Giampietro, M. The international division of labor and embodied working time in trade for the US, the EU and China. Ecol. Econ. 180, 106909 (2021).

Leibowiz, G. Apple CEO. Tim Cook: this is the number one reason we make iPhones in China (it’s not what you think). Inc (21 December 2017).

Isaacson, W. Steve Jobs (Little, Brown, 2011).

Fischer, A. M. Beware the fallacy of productivity reductionism. Eur. J. Dev. Res 23, 521–526 (2011).

Fix, B. The trouble with human capital theory. Real World Econ. Rev. 86 15–32 (2018).

Baerresen, D. W. The Border Industrialization Program of Mexico (Health Lexington Books, 1971).

Suwandi, I., Jonna, R. J. & Foster, J. B. Global commodity chains and the new imperialism. Monthly Rev. 70 (2019).

Goldman, D. Why Apple will never bring manufacturing jobs back to the US. CNN Business (2012).

Ngai, P. & Chan, J. Global capital, the state, and Chinese workers: the Foxconn experience. Mod. China 38, 383–410 (2012).

Patnaik, P. & Patnaik, U. A Theory of Imperialism (Columbia Univ. Press, 2017).

Francis, G. & Sutcliffe, B. The Profit System: The Economics of Capitalism (Penguin, 1987).

Hickel, J. & Sullivan, D. Capitalism, global poverty, and the case for democratic socialism. Monthly Rev. 75, 99–113 (2023).

Wishart, W. R. Underdeveloping Appalachia: Toward an Environmental Sociology of Extractive Economies. PhD thesis (University of Oregon, 2014).

Ossome, L. & Sirisha, N. The Agrarian Question Of Gendered Labour in Labour Questions In The Global South (eds. Jha, P., Chambati, W. & Ossome, L.) (Palgrave Macmillan, 2021).

Dunaway, W. A. (ed.) Gendered Commodity Chains: Seeing Women’s Work and Households in Global Production (Stanford Univ. Press, 2013).

Alsamawi, A., McBain, D., Murray, J., Lenzen, M. & Wiebe, K. S. The Social Footprints of Global Trade (Springer, 2017).

Geschke, A., Malik, A., Murray, J. The Social Effects of Global Trade: Quantifying Impacts Using Multi-Regional Input-Output Analysis (Pan Stanford Publishing, 2018).

Kitzes, J. An introduction to environmentally-extended input-output analysis. Resources 2, 489–503 (2013).

Brockway, P. E., Owen, A., Brand-Correa, L. & Hardt, L. Estimation of global final-stage energy-return-on-investment for fossil fuels with comparison to renewable energy sources. Nat. Energy 4, 612–621 (2019).

Ivanova, D. & Wieland, H. Tracing carbon footprints to intermediate industries in the United Kingdom. Ecol. Econ. 214, 107996 (2023).

Miller, R. E. & Blair, P. D. Input-Output Analysis: Foundations and Extensions (Cambridge Univ. Press, 2009).

Stadler, K. et al. EXIOBASE 3: developing a time series of detailed environmentally extended multi-regional input-output tables. J. Ind. Ecol. 22, 502–515 (2018).

Stadler, K. et al. D5.3 Integrated report on EE IO related macro resource indicator time series. https://lca-net.com/files/DESIRE_D5_3_main-plus-annexes-v2.pdf (2015).

ILO. in International Standard Classification of Occupations 2008 (International Labour Office, 2012).

Gilboy, G. J. & Heginbotham, E. Chinese and Indian Strategic Behavior: Growing Power and Alarm (Cambridge Univ. Press, 2012).

Anand, S. & Segal, P. What do we know about global income inequality? J. Econ. Lit. 46, 57–94 (2008).

Arrighi, G., Silver, B. J. & Brewer, B. D. Industrial convergence, globalization, and the persistence of the North–South divide. St. Comp. Int. Dev. 38, 3–31 (2003).

Wade, R. H. Is globalization reducing poverty and inequality? World Dev. 32, 567–589 (2004).