الماء والطاقة واحترار الكوكب
الكلفة الحقيقية للذكاء الاصطناعي
فلنَعُد إلى تشرين الثاني/نوفمبر 2022. لا شك أنّك سمعت آنذاك عن تطبيق يُدعى شات جي پي تي، وقد صدر في الثلاثين من ذلك الشهر. فما إنْ طُرِح حتى غدا الذكاء الاصطناعي التوليدي حاضراً في كل مكان، مهيمناً على الأحاديث، متصدّراً للعناوين، مُثاراً في المجالس ووسائل التواصل. وقد أسهبت الصحافة في التكهّن بما قد يعنيه شات جي پي تي، وإلامَ عساه يُفضي من إعادة صياغة للمجتمع. أمّا المدير التنفيذي لشركة أوپن أي آي، سام ألتمان، فقد راح يُغرّد مباهياً بسرعة انتشاره، وكأنّ سرعة التبنّي برهانٌ بحدّ ذاتها على أنّ تحوّلاً جللاً قد انطلق. ومع الضجيج المتعاظم من المنابر التقنية وصفحات التواصل، بدا وكأنّ المرء مدفوعٌ دفعاً إلى تجربته، لا لشيء إلا ليتبيّن سرّ هذه الضوضاء.
وقد اقترن هذا الإطلاق بسرديّة عامة عريضة مفادها أنّ العالم على أعتاب التغيير. وأنّ شيئاً أعظم آخذٌ في التشكّل، شيءٌ قد يكون ذا نفع عظيم، لكنّه يُثير في الوقت نفسه قلقاً عميقاً.
لقد صوّر دعاةُ الذكاء الاصطناعي التوليدي هذا الحدث على أنّه قفزةٌ في الذكاء الإنساني الجماعي. ووعدوا بموجة من المساعدين الآليين، يختصّ كلّ منهم بميدان من الميادين - بوت للهندسة المعمارية وبوت للعلوم والقائمة تطول. وزعموا أنّ هذه الأدوات ستُحدث ثورة في قطاعات بأكملها، وربما تحل محل العامل البشري في طريقها. ولم يغفلوا عن تزيين خطابهم بواجهة برّاقة: إذ أكّدوا أنّ الذكاء الاصطناعي سيوسّع إلى حدّ بعيد من إمكان الوصول إلى التعليم والرعاية الصحّية. غير أنّ الصراحة تقتضي القول إنّهم حين تحدّثوا عن أناس يذهبون إلى «الأطبّاء الآليين» لم يقصدوا أنفسهم، بل قصدوا بذلك الآخرين.
يسخّر عمالقة التكنولوجيا رساميلهم لتنفيذ رؤيتهم الخاصّة للمستقبل - رؤية قوامها توسيع نطاق الذكاء الاصطناعي، وتعظيم القدرة الحاسوبية، ونشر هذه المنظومة على مستوى العالم بأسره.
لغرض جمع البيانات، شيّدت الشركات بنية رقابية هائلة، تلتقط المعلومات في الخفاء من كل زاوية تقريباً من حياتنا الرقمية
قد تحمل هذه التكنولوجيا بعض النتائج الإيجابية، غير أنّ شبح الضرر الجسيم يحوم فوقها. والسردية التي تُساق لنا تنحو إلى القول: لا بُدّ من تطوير الذكاء الاصطناعي، وإنْ كان في ذلك ما قد يُفضي إلى تدمير العالم. بل قد يُفضي إلى فناء البشرية ذاتها. إنّ هذا المزيج من التهويل الممزوج بالتحذير من المخاطر الوجودية لا يقتصر أثرُه على تشكيل الرأي العام، بل يتعدّاه إلى كيفية تناول الإعلامُ لقضية الذكاء الاصطناعي، وإلى كيفية اتخاذ المؤسّساتُ لموقفها حياله.
تستفيد صناعة التكنولوجيا من هذه الأحاديث الضخمة المليئة بالتكهّنات. فهي تريد إبقاءنا مشغولين بالتفكير في القوة التي قد يكتسبها الذكاء الاصطناعي يوماً ما، بدلاً من النظر في كيفية استخدامه الفعلي في اللحظة الراهنة. فالأيسر لها أن تُوجّه الأنظار نحو المستقبل، لا إلى الآثار الحقيقية الحاصلة في الحاضر.
ولهذا يكتسي فهم أسس هذه التقنية أهميّة بالغة: من أين جاءت، وما حقيقتها، ولماذا تبدو فجأة وكأنّها موجودة في كل مكان.
فلماذا، في تشرين الثاني/نوفمبر 2022، برز روبوت محادثة مثل شات جي پي تي وهيمن فجأة على النقاشات التقنية؟ أرى 3 أسباب رئيسة. أولها: القدرة الحوسبية المركزية. ففي العام 2006 شرعت شركة أمازون في إنشاء مخازن سحابية مركزية ضخمة للحوسبة، ما نسمّيه اليوم مراكز البيانات. تخيّل مستودعاً تجارياً هائلاً، لكنه مكتظّ بالخوادم بدل الطرود. هذه المنشآت العملاقة تتطلّب كمّاً هائلاً من الطاقة والقدرة التشغيلية. وعلى مدى العقدين الأخيرين تمدّدت بسرعة، وأصبحت ركناً أساساً من البنية التحتية التي يقوم عليها الإنترنت والمنصّات الرقمية التي نستخدمها يومياً.
ولماذا نشهد انفجار أدوات الذكاء الاصطناعي الآن تحديداً؟ نعم، هذه الأدوات تحتاج إلى قدرة حوسبية مركزية، لكنها تحتاج كذلك إلى كمّيات هائلة من البيانات. فالشركات تجمع مقادير ضخمة من المعلومات من الشبكة المفتوحة وما وراءها، وتغذّي بها هذه النماذج. والنتيجة؟ أدوات تبدو أقدر من نسخها السابقة، لا بفضل سحر ما، بل لأنّها مشغَّلة بموارد أعظم من البيانات والحوسبة.
ومن هنا تتضح مركزية جمع البيانات. فهذا الجمع يمثّل الوقود لا للذكاء الاصطناعي التوليدي فحسب، بل للإعلانات الموجّهة وسائر الأنظمة أيضاً. ولغرض جمع البيانات، شيّدت الشركات بنية رقابية هائلة، تلتقط المعلومات في الخفاء من كل زاوية تقريباً من حياتنا الرقمية.
ويبقى لدينا عنصر ثالث: المال. إذ يتطلّب بناء هكذا بنية تحتية وتوسيع نطاقها مقادير طائلة من رأس المال. فشركات مثل أوپن أي آي، على سبيل المثال، يُقال إنّها تخسر مليارات الدولارات سنوياً في المدى القصير، وهي تراهن على أنّ هذه الأدوات ستغدو مربحة على المدى البعيد.
بوسع هذه الشركات أن تتحمّل تلك المجازفة لأنّها مدعومة من بعض أكبر وأثمن الشركات في العالم. تضخّ عمالقة التكنولوجيا هذه رساميلها في سبيل تحقيق رؤيتها الخاصة للمستقبل، رؤية تقوم على توسيع نطاق الذكاء الاصطناعي، وزيادة القدرة الحاسوبية، ونشرها على مستوى عالمي.
كيف تبدو هذه البُنى التحتية في حقيقتها؟
نحن نتحدّث عادة عن «السحابة» وكأنّها كيان لا مادّي، بيانات عائمة في الفضاء. لكنّ الواقع أنّ كل هذه البيانات تستقرّ في منشآت فيزيائية هائلة الحجم تتطلّب مقادير ضخمة من الطاقة والمياه لتعمل.
وتمثل مراكز البيانات فائقة الضخامة (Hyper-scale data centers) نقلة نوعية تتجاوز مراكز البيانات التقليدية التي وُجدت لعقود. فهذه المنشآت أضخم بمراحل، سواء في حجمها أو في أثرها. وهي في نمو سريع.
في العام 2018 كان يوجد قرابة 430 مركز للبيانات فائقة الضخامة حول العالم. وبحلول 2020 قفز الرقم إلى 597. وبنهاية 2024 تضاعف تقريباً ليصل إلى 1,136. وبحسب مجموعة ساينرجي ريسيرتش، يوجد حالياً 504 منشأة إضافية قيد الإنشاء أو في مرحلة التخطيط، مدفوعة في معظمها بارتفاع الطلب على بنية الذكاء الاصطناعي التوليدي.
ويقع نحو 40% إلى 50% من هذه المراكز في الولايات المتحدة، مع تسارع النمو الدولي، خصوصاً في الصين. أما الثلاثة الكبار (أمازون ومايكروسوفت وغوغل) فتمتلك وحدها ما يقارب نصفها.
في العام 2022، استهلكت مراكز البيانات، إلى جانب بنية التشفير والذكاء الاصطناعي، نحو 460 تيراواط ساعي من الكهرباء على مستوى العالم، أي ما يعادل تقريباً إجمالي استهلاك فرنسا من الطاقة
ومع تضاعف هذه المنشآت، تتضاعف المخاوف في المجتمعات التي تُبنى فيها. يستهلك مركز بيانات واحد موارد معتبرة، ولكن إنْ شُيّد 5 أو 10 في المنطقة ذاتها، يصبح العبء على منظومات الطاقة والمياه المحلية أمراً لا يمكن تجاهله.
حول العالم، بدأت مجتمعاتٌ أكثر فأكثر في المقاومة، ولأسباب وجيهة. فمراكز البيانات فائقة الضخامة، كتلك التابعة لغوغل، تستهلك في المتوسط نحو 550,000 غالون من المياه يوميّاً، أي ما يقارب 200 مليون غالون سنويّاً، يُستخدم معظمها في التبريد. فكما يسخن الحاسوب المحمول عند الاستخدام الكثيف، كذلك تولّد هذه المنشآت العملاقة التي تضم عشرات الآلاف من الخوادم العاملة باستمرار كميات هائلة من الحرارة. وللتخلّص من تلك الحرارة، يُعتمد على أنظمة المياه والتكييف للحفاظ على البرودة.
بين عامَي 2022 و2023 ارتفع استهلاك غوغل للمياه عبر مراكز بياناتها بنسبة 20%، وقفز عند مايكروسوفت بنسبة 34%. وكان ذلك قبل أن يكتسب الذكاء الاصطناعي التوليدي زخمه الحقيقي، ما يجعل من المؤكد أنّ هذه الأرقام قد ازدادت منذ ذلك الحين.
وفي سعيها وراء خفض التكاليف، شرعت كثير من الشركات في بناء مراكز بيانات فائقة الضخامة في مناطق نائية أو قاحلة مثل أريزونا أو بعض مناطق إسبانيا حيث المياه شحيحة أصلاً. توفّر هذه المناطق في الغالب وصولاً أكبر إلى الطاقة المتجدّدة، ما يمكّن الشركات من تسويق هذه المنشآت على أنّها «خضراء»، لكن الحقيقة أنّ هذا التحوّل يُلقي بمزيد من الضغط على موارد مائية هشة أصلاً.
التالي، بطبيعة الحال، هو استهلاك الطاقة. فعلى المستوى العالمي، تمثّل مراكز البيانات حاليّاً ما يقارب 2%–3% من إجمالي استهلاك الطاقة. أمّا في الولايات المتحدة، فيقترب الرقم من 5%، نظراً لتمركز العدد الأكبر من هذه المراكز فيها، مع توقّعٍ بارتفاع هذا الطلب أكثر فأكثر. ففي العام 2022، استهلكت مراكز البيانات، إلى جانب بنية التشفير والذكاء الاصطناعي، نحو 460 تيراواط ساعي من الكهرباء على مستوى العالم، أي ما يعادل تقريباً إجمالي استهلاك فرنسا من الطاقة. وبحلول العام 2026، تتوقّع الوكالة الدولية للطاقة تضاعف هذا الرقم إلى أكثر من 1,050 تيراواط ساعي، أي ما يعادل الاستهلاك السنوي الكلي للطاقة في اليابان. وهذه قفزة هائلة في بضع سنوات.
وتقف إيرلندا في الصفوف الأمامية لهذه الأزمة. إذ يذهب حاليّاً 21% من إجمالي الكهرباء في إيرلندا إلى مراكز البيانات. وفي فصل الشتاء، يضع ذلك ضغطاً شديداً على شبكة الكهرباء، يصل أحياناً إلى إطلاق تنبيهات عامة تحذّر السكان من ضرورة خفض استهلاك الطاقة أو مواجهة انقطاعات محتملة. وقد زاد ذلك من الضغوط لتمديد الحظر المؤقت المفروض على إنشاء مراكز بيانات جديدة في دبلن. لكن معاناة إيرلندا ليست سوى قمة جبل الجليد؛ فتوترات مماثلة بدأت تطفو في مجتمعات مختلفة حول العالم.
فإلى أين نحن ماضون؟ لقد بدأ الذكاء الاصطناعي التوليدي بالإقلاع فعليّاً في أواخر 2022، ولم يتباطأ زخمه منذ ذلك الحين. وفي أواخر 2024، صرّح سام ألتمان، المدير التنفيذي لشركة أوپن أي آي، لوكالة بلومبرغ في منتدى دافوس الاقتصادي العالمي: «نحن بحاجة إلى طاقة أكثر بكثير مما كنّا نظن من قبل. نحن لا نقدّر بعدُ حجم المتطلبات الطاقية لهذه التكنولوجيا». وأردف إنّ العالم قد يجد نفسه مضطراً قريباً إلى تبنّي الهندسة الجيولوجية كحلّ مؤقت للتداعيات المناخية، ما لم يتحقق تقدّم في مجال الطاقة النووية. بعبارة أخرى، نحن نمضي قُدماً في مسار الذكاء الاصطناعي، مهما بلغت كلفته الطاقية؛ وإذا ما أثقل كاهل الكوكب، فعلينا ببساطة أن نُهندس طريقنا للخروج من الأزمة.
شهدنا مؤخّراً هزّة كبرى مصدرها الصين. لعلّك سمعت عن شركة ديپسيك التي تقوم بما تفعله شركات الذكاء الاصطناعي الأميركية، لكن بكفاءة أعلى بكثير. لقد أربك ظهورها هذا القطاع، وتسبّب بتراجع أسعار أسهم التكنولوجيا في الولايات المتحدة، وبدأ يتساءل المستثمرون عن حقيقة طفرة الذكاء الاصطناعي بالمقارنة مع ما يُروَّج لها، وهل التوسّع الهائل الذي قامت به الشركات الأميركية كان مُبرَّراً أصلاً؟ لكن بطبيعة الحال، لم يتراجعوا خطوة إلى الوراء.
مَن يملك حقّ تقرير أي نوع من التكنولوجيا علينا أن نبني؟ هل نترك تلك القرارات في أيدي شخصيات من أمثال سام ألتمان أو ساتيا ناديلا أم علينا أن نتخذها بطريقة ديمقراطية
فبعد فترة قصيرة من ظهور ديپسيك، اجتمع سام ألتمان مع الرئيس التنفيذي لشركة أوراكل، لاري إليسون، ورئيس سوفت بنك، ماسايوشي سون، في البيت الأبيض ليُعلنوا عن استثمار ضخم بقيمة 500 مليار دولار (يحمل الاسم الرمزي ستار غايت) يهدف إلى إنشاء مراكز بيانات أضخم تعمل بالطاقة النووية. وفي الأثناء، ردّ جنسن هوانغ، المدير التنفيذي لشركة إنفيديا، على كفاءة ديپسيك بالقول إنّ الكفاءة الأكبر لن تسبّب إلا بزيادة الطلب، ما سيستلزم في نهاية المطاف قدرة حاسوبية أكبر بمئة مرة. فمن وجهة نظره، النماذج الأكفأ لا تُقلّص استهلاك الموارد، بل تضاعفه.
لكن هل هذا حقّاً ما يحدث؟
بدأنا نلحظ تصدّعات خطيرة في الأساس. فقد ألغت مايكروسوفت مؤخراً عدداً من عقود إيجار مراكز البيانات، ما أثار إشارات تحذيرية لدى المستثمرين. حتى بعض القادة مثل رئيس مجلس إدارة علي بابا، جو تساي، حذّر من أنّنا ربما نعيش وسط فقاعة في بناء مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي.
لذلك، أتركك مع سؤالين أخيرين:
أولهما: مَن يملك حقّ تقرير أي نوع من التكنولوجيا علينا أن نبني؟ هل نترك تلك القرارات في أيدي شخصيات من أمثال سام ألتمان أو ساتيا ناديلا (مايكروسوفت)؟ أم علينا أن نتخذها بطريقة ديمقراطية، فنُسائل أنفسنا: هل من المنطقي استثمار كميات هائلة من المياه والطاقة والمواد في تكنولوجيات لا تزال فوائدها غامضة؟
وثانيهما: كم من القدرة الحاسوبية نحتاج حقّاً؟ هل نحتاج فعلاً إلى بناء عدد لا نهائي من مراكز البيانات لدعم طوفانٍ من أدوات الذكاء الاصطناعي ذات الاستخدامات المشكوك فيها - الأدوات التي تخدم في الأغلب أرباح شركات التكنولوجيا أكثر مما تخدم الصالح العام؟ إنّ هذه الشركات تعتمد على نموّ مستمر في الطلب على خدمات السحابة للحفاظ على أرباحها، لكن هذا لا يعني أنّ علينا أن نسايرها. والسؤال الجدير بالطرح هنا: كم نحتاج فعلاً من القدرة الحاسوبية؟ أزعم أنّها أقلّ بكثير مما يريدوننا أن نعتقد.
نُشِر هذا المقال في 3 تموز/يوليو 2025، وتُرجِم إلى العربية ونُشِر في موقع «صفر» بموافقة مُسبقة من الجهة الناشرة.