Preview اقتراح قانون لإعدام صندوق الضمان

اقتراح قانون لإعدام صندوق الضمان

ليس غافلاً على أحد أن الوضع المالي للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي مأزوم. فقد كثر الحديث في العقود الثلاثة الأخيرة عن أزمات عديدة واجهها الصندوق إلى أن أصبحت وضعيّة الأزمة هي المتوقّعة. من تخفيض اشتراكات أصحاب العمل من 38.5% إلى %23.5 بين عامي 1993 و2001 والتي تسبّبت بعجزٍ دائم في صندوق المرض والأمومة، إلى لجوء إدارة الصندوق بشكل غير قانوني إلى صندوق تعويضات نهاية الخدمة لتغطية هذا العجز، ومخطّط الضمان الاختياري الذي هدّد الديمومة المالية للضمان وتم تجميده في العام 2005، ومتأخّرات الدولة التي كانت تُدفع جُزئياً كلّما علا صوت مجلس إدارة الضمان إلى أن بلغت قيمة هذه المتأخرات 5,000 مليار ليرة في العام 2023، وأخيراً الحملات العديدة التي شنّتها المستشفيات الخاصة لرفع تعريفات الضمان تحت التهديد بالمقاطعة قبل حلول الأزمة وبعدها. 

منذ أن تجلّت سمات الأزمة الاقتصادية في العام 2019، تعطّلت أساليب التكيّف والتحايل، التي اعتمدها الصندوق للعروج في تغطيته أكلاف الرعاية الصحية لمساهميه، وفُضحت مخالفات مجلس الإدارة لقانون الضمان الاجتماعي، وأهمّها توظيف 91% من أموال الضمان في سندات الخزينة في مصرف لبنان وفي حسابات ادخار بالليرة اللبنانية في المصارف التجاريّة. 

ختم الانهيار الاقتصادي مساراً طويلاً من الأزمات. فلا يمكن اعتبار اليوم أن المساهمين في الضمان الاجتماعي يتمتّعون بتغطية صحيّة فعلية، إذ انخفضت قيمة تغطية الضمان إلى 10% من مجمل الفاتورة الصحية. 

ماذا في القانون؟

وعلى الرغم من وضوح أسباب تعثّر صندوق الضمان، تقدّم 7 نوّاب من أصحاب المصالح الصناعية والتجارية الكبرى باقتراح قانون يشرّع استبدال الضمان الاجتماعي بشركات التأمين الخاصّة. ويتناسى القانون المقترح الأسباب التي تم طرحها أعلاه، وينطلق من النتيجة: إفلاس صندوق الضمان. وفيما يحاول صندوق الضمان الاجتماعي إعادة تمويل نفسه عبر رفع قيمة الاشتراكات، رأى أصحاب بعض الشركات الكبيرة أنهم يساهمون باشتراكين، الأوّل لصندوق الضمان والثاني لشركات التأمين الخاصة لتأمين التغطية الصحية لعمّالهم. وبما أن تغطية الضمان شبه معدومة، يتساءلون في هذا القانون عن جدوى دفع الاشتراكات لصندوق يعجز عن تأدية مهامه أساساً.

يقترح مشروع القانون إعفاء أصحاب العمل من المساهمة في اشتراك عمّالهم في صندوق المرض والأمومة في الضمان الاجتماعي لمدّة خمس سنوات، شرط أن يساهموا إلزامياً في تغطية عمّالهم عبر شركة تأمين خاصة يختارها صاحب العمل

لذلك، يقترح مشروع القانون إعفاء أصحاب العمل من المساهمة في اشتراك عمّالهم في صندوق المرض والأمومة في الضمان الاجتماعي لمدّة خمس سنوات، شرط أن يساهموا إلزامياً في تغطية عمّالهم عبر شركة تأمين خاصة يختارها صاحب العمل. وإذا تمنّع العامل أو صاحب العمل عن دفع الاشتراك في التأمين الخاص، يعود العامل تلقائياً إلى رحاب صندوق الضمان الاجتماعي.

قد يبدو هذا التساؤل مشروعاً وفق مبادئ السوق الحرّة، فالشركة (أو الصندوق) التي تفشل في تأدية مهامها تقع تحت رحمة السوق الذي يعاقبها عبر تمنّعه عن شراء خدماتها أو سلعها. لكن لا يصلح المزاوجة بين شركة خاصة وصندوق يساهم فيه ثلاثية العمّال وأصحاب العمل والدولة. كما أن هذا الاقتراح لا ينطلق من حرص أصحاب العمل على صحّة عمّالهم، لا بل العكس، يرمي إلى تخفيض إضافي لاشتراكاتهم وتوجيه ضربة قاضية نهائية لصندوقٍ حاربوه منذ إنشائه.

هذا الاقتراح لا ينطلق من حرص أصحاب العمل على صحّة عمّالهم، لا بل العكس، يرمي إلى تخفيض إضافي لاشتراكاتهم وتوجيه ضربة قاضية نهائية لصندوقٍ حاربوه منذ إنشائه

ضربة قاضية للضمان

يتعارض هذا القانون مع جميع مبادئ الحماية الاجتماعية التي وضعتها منظمة العمل الدوليّة لتقييم أنظمة التغطية الصحيّة وتطويرها بشكل عادل.

يفاقم هذا المقترح تشرذم صناديق التغطية الصحية العديدة في لبنان. فبدل من ترشيدها عبر دمج الصناديق الستة التي تقدّم التغطية الصحية على أساس العمل (الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وتعاونيّة موظفي الدولة، وصناديق الجيش والقوى الأمن الداخلي والأمن العام وأمن الدولة)، فإنه يفاقمها تعقيداً عبر خلق مجموعة جديدة من المضمونين الذين يساهمون ويستفيدون من كامل تقديماته باستثناء الصحة. سوف تضاف هذه الشريحة الجديدة من المستفيدين إلى شرائح عديدة ذات شروط خاصة في الضمان الاجتماعي منها المضمونين بشكل اختياري، والفلسطينيين الذين لا يستفيدون من صندوق المرض والأمومة لكن يستفيدون من تقديمات صندوق نهاية الخدمة، والعمّال الأجانب الذين يساهمون ولا يستفيدون من تقديمات الضمان الاجتماعي باستثناء الذين ينبثقون عن الدول الخمس الموقّعة اتفاقيات المعاملة بالمثل مع لبنان، الخ… باختصار، صندوق الضمان الاجتماعي، ونظام التغطية الصحية اللبناني بشكل عام، في حاجة ماسة إلى الترشيد وليس المزيد من التعقيد.

يتسبّب هذا التشرذم بالمزيد من العواقب المالية التي تخفّض حظوظ تعافي الصندوق المالي كما يضاعف هشاشة وضعيّته المالية. يحجب القانون عن صندوق المرض والأمومة مساهمات هو بأمسّ الحاجة إليها لتحقيق التعافي المالي في ظلّ تآكل قيمة مدّخراته القديمة في سندات الخزينة والحسابات المصرفيّة المُحتجزة. هذه المساهمات ليست زهيدة، فالشركات المعنيّة بهذا القانون هي حكماً الكبيرة، كونها الوحيدة القادرة على التفاوض مع شركات التأمين الخاصة للحصول على باقات تأمين صحّي لعمّالها. كما هي الوحيدة التي تتمتّع بالقدرة على تقديم هذه الخدمة لاستقطاب عمّال محترفين والحفاظ عليهم. ولا بدّ هنا من الإشارة إلى طمع شركات التأمين الخاصة في الحصول على هذا الكم من الاشتراكات الإلزامية التي كانت تذهب سابقاً إلى الضمان الاجتماعي.

تخايل حالة عامل في الأربعين من عمره لا يعاني من أي مشاكل صحيّة بحكم عمره. لكن في غضون خمس سنوات، سوف يقدّم اشتراكاته لشركة تأمين خاصّة، وعندما يناهز عمر الخامس والأربعين (وهو متوسّط الأعمار لظهور الأمراض المزمنة) سوف يعود إلى تغطية الضمان مع أمراض مزمنة جديدة، فيما يفتقر صندوق الضمان لاشتراكاته السابقة التي كانت سوف تغطي أكلاف علاجه

ترتكز فعاليّة صناديق التأمين على جمع المخاطر المالية لتخفيف عبئها على الفرد وتوزيعها على مجموع المساهمين. مع انتزاع اشتراكات قسم من المساهمين ترتفع المخاطر على سائر المضمونين وهشاشة الوضع المالي العام للصندوق. لن تتدهور حالة الصندوق في السنوات الخمس التي يسير فيها مفعول القانون فحسب، إنما سوف تتفاقم أكثر مع عودة المشتركين عند نفاذ صلاحيّة القانون بعد خمس سنوات من سريان تطبيقه في حال أقر، أو قبل، إذا خسروا تغطيتهم من شركات التأمين الخاصة. فعامل الوقت هو بأهميّة قيمة الاشتراكات. يمكننا على سبيل المثال، تخايل حالة عامل في الأربعين من عمره لا يعاني من أي مشاكل صحيّة بحكم عمره. لكن في غضون خمس سنوات، سوف يقدّم اشتراكاته لشركة تأمين خاصّة، وعندما يناهز عمر الخامس والأربعين (وهو متوسّط الأعمار لظهور الأمراض المزمنة) سوف يعود إلى تغطية الضمان مع أمراض مزمنة جديدة، فيما يفتقر صندوق الضمان لاشتراكاته السابقة التي كانت سوف تغطي أكلاف علاجه. عندما نعمّم هذا المثل على جميع الأجراء في عمر الأربعين وما فوق، قد تكون النتائج على الصندوق كارثيّة. في المقابل، سوف تحصد شركات التأمين الخاصة أرباحاً هائلة بفعل إشراكها يد عاملة صحيّة في ذروة قدراتها الانتاجيّة لن تتكفّل بصحّتها عندما تشيخ.

تجارب غير مشجّعة مع التأمين الخاص

من أهم المفارقات بين الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وشركات التأمين الخاصة أن الأول مؤسّسة عامة يرأس مجلسها ممثلون عن الدولة وأصحاب العمل، والعمّال يديرون الصندوق لتأمين خدمات اجتماعية لمساهميه بشكل مستدام، فيما الثانية مملوكة من مساهمين من القطاع الخاص يحاولون تعظيم أرباحهم باستمرار. لا ينبثق هذا التفاوت في النوايا عن حكم أخلاقي على أصحاب شركات التأمين الخاصة، إنما عن أحكام السوق التي تفرض عليهم هذا السلوك، فإن لم يتّبعوه أفلست شركاتهم. من هنا، سوف تغيب كليّاً قدرة العمّال التفاوضية على تغطيتهم الصحية. ينصّ القانون المقترح بوضوح على أن صاحب العمل هو الذي يحدّد برنامج التأمين الصحي الخاص الذي يمكن للعامل أن يوافق عليه أو يرفضه، لكن العامل لا يستطيع المفاوضة عليه. كما لم يحدّد القانون أي معايير لهذه البرامج. فليس من الصعب تكهّن أن أصحاب العمل سوف يفاوضون شركات التأمين لتخفيض أكلاف الاشتراك إلى أقصى حدّ، وفي المقابل سوف تخفّض هذه الشركات الخدمات الصحية التي تغطّيها للحفاظ على هوامش أرباحها. أفضل مثال على ذلك هو التأمين الخاص الذي يلزمه القانون على كفلاء العاملات في الخدمة المنزلية. إنه فعلياً تأمين صحيّ ورقي بحيث لا تعترف شركات التأمين بأي حالة طبيّة تخصّ العاملة ما يلزم الكفيل التكفّل بالعلاج أو التخلي عن واجباته تجاه العاملة. كما من المعروف، في ظل غياب أي حسيب أو رقيب على شركات التأمين الخاصة، إنها تمكنّت من حجب التغطية الصحيّة عن أي من زبائنها كلّما احتاجوا إلى الاستفادة من التغطية. وإذا حيّدنا الممارسات غير القانونية، تُقدّم شركات التأمين الخاصة تغطية صحية ذات سقوف مالية سنوية مُحدّدة إن تعدّاها المريض توقفّت تغطيته، على عكس الضمان الاجتماعي الذي لا يضع سقفاً حتى إتمام علاج المريض. يُستنتج بذلك أن العمّال هم الخاسرون الأكبر في هذا القانون المقترح. 

لا ينبثق هذا التفاوت في النوايا عن حكم أخلاقي على أصحاب شركات التأمين الخاصة، إنما عن أحكام السوق التي تفرض عليهم هذا السلوك، فإن لم يتّبعوه أفلست شركاتهم

مكافأة لأصحاب العمل

يحاجج النواب المتقدّمون بهذا المشروع أنه سيعالج مسألة الكلفة المرتفعة للتغطية الصحية التي تنهك أصحاب العمل. لكن قيمة الاشتراكات في صندوق الضمان الاجتماعي تدهورت مع تدهور سعر صرف الليرة. فمن المستغرب أن الشركة الكبيرة التي كانت تدفع اشتراكاتها لصندوق الضمان قبل الأزمة وتقدّم معه برنامج تأمين صحّي خاص للتكفّل بفروقات الضمان وخدمات الاستشفاء من الدرجة الأولى ترى نفسها اليوم عاجزة عن تأمين مبلغ الاشتراك. إضافةً، إن كانت الشركات قادرة على تحمّل قسم من كلفة التأمين الصحّي الخاص الذي ينصّ عليه القانون والذي لا بد أن يكون باهظاً نسبيّاً إذا قدّم تغطية أوسع من تلك المقدمة من الضمان اليوم (وهنا نستند فقط على حسن نيّة أصحاب العمل) فلماذا لا تجيّر هذه المبالغ إلى الضمان لإعادة تفعيله؟

يضاف إلى ذلك أن انخفاض نسبة مساهمة أصحاب العمل هي من أبرز أسباب عجز الضمان الاجتماعي. لا يعود ذلك إلى تخفيض نسب اشتراكات أصحاب العمل في التسعينيات فحسب، بل لتزويرهم التصريحات عن قيمة أجور عمالهم (إن صرحّوا عنها أساساً) واقتطاعهم نسباً أعلى من رواتب الأجراء لتغطية كلفة اشتراكات أصحاب العمل في صندوق الضمان. في المقابل، تم إعداد قسم التفتيش في الضمان الاجتماعي للفشل عبر الحدّ من أعداد الموظّفين وتغييب الكفوئين منهم، كما الموارد المالية والتقنية والمسارات القانونية اللازمة للقيام بالتفتيش وضبط التصاريح المخالفة. فبدل أن يحاسب المخالفين، يقوم هذا القانون المقترح بمكافأتهم مرّة أخرى.

إن كانت الشركات قادرة على تحمّل قسم من كلفة التأمين الصحّي الخاص الذي ينصّ عليه القانون والذي لا بد أن يكون باهظاً نسبيّاً إذا قدّم تغطية أوسع من تلك المقدمة من الضمان اليوم (وهنا نستند فقط على حسن نيّة أصحاب العمل) فلماذا لا تجيّر هذه المبالغ إلى الضمان لإعادة تفعيله؟

من هنا، لا بدّ من الاستنتاج أن هذا القانون المقترح يأتي لصالح أصحاب العمل في الشركات الكبرى وشركات التأمين الخاصة على حساب العمّال. لا يتجاهل الأسباب التي أودت بالصندوق الوطني للضمان الاجتماعي إلى الانهيار فحسب، إنما يفاقم مشاكله على المديين القصير والطويل. كما أنه يحفّز شركات التأمين الخاصّة عبر إهدائها سوقاً كان مغلقاً عليها سابقاً. ويخرج الدولة والعمّال من معادلة المفاوضات على صحّة وحقوق العمّال ما يفاقم البؤس واللامساواة. أخيراً، وكما جرت العادة في لبنان، هناك مخاطر جديّة أن يتحوّل هذا الإجراء المؤقّت إلى النموذج الدائم والسائد ويؤول إلى حلّ الضمان الاجتماعي. 

قد لا يحصل المقيمون في لبنان على ضمان إجتماعي آخر إذا تمّ حلّ المؤسسة الحاليّة. لم يأت الضمان الاجتماعي نتيجة لمسارٍ ديقراطي ووعيٍ اجتماعيٍ بقضايا العمال والعدالة، إنما عبر مرسوم أقرّته حكومة فؤاد شهاب التي تمتّعت بصلاحيات تشريعيّة في العام 1963. وقد حاربت وتحايلت النخب والدولة وأصحاب العمل على الضمان منذ ذلك الحين. لذلك، لا بدّ من إنقاذ الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي من نفسه ومن النُسور التي تحاول الانقضاض عليه.