تبغ وديزل وإفلات من العقاب
كيف السبيل إلى كبح ارتفاع معدّلات الإصابة بالسرطان في لبنان
تبوّأ لبنان صدارة قائمة لا تبعث على الفخر، مسجّلاً بين عامي 1990 و2023 أكبر زيادة في الوفيات الناجمة عن مرض السرطان بلغت نسبتها 80%، وذلك وفق تحليل عبء المرض العالمي الذي نشرته مجلة «ذا لانسيت». ويستند الرسم البياني في صحيفة ديلي ميل البريطانية، الذي أثار موجة عارمة من الاستياء في لبنان، إلى بيانات متاحة للعموم أصدرها معهد القياسات الصحية والتقييم (IHME).
فشل سياسي مبرَم
على عكس ما يدّعيه وزير الصحة، راكان ناصر الدين، فإن نسبة الـ 80% هذه لا مغالاة ولا لبس فيها، وهي تشير إلى ارتفاع معدل الوفيات الناجمة عن مرض السرطان المعيارية للعمر (ASDR) بين عامي 1990 و2023 بشكل حادّ في لبنان. وهي ليست فبركة إحصائية، بل مؤشر واضح على تدهور حال السياسات وفداحة المخاطر.
في العام 1990، تجاوز معدل الوفيات في فرنسا بكثير معدل الوفيات في لبنان (نحو 184.7 تقريباً بالمقارنة مع 66 لكل 100,000 نسمة). ولكن، بحلول العام 2023، تحسّن هذا المعدل في فرنسا (تراجع إلى نحو 136.8)، في حين تدهور في لبنان ليسجّل 118.5. يعكس المعدل المطلق والمرتفع للسرطان في فرنسا ارتفاعاً في معدلات الإصابة واستهلاك التبغ والكحول وغيرها من المواد المسرطنة، على الرغم من كفاءة نظام الرعاية الصحية هناك. أما معدل الإصابة بالسرطان في لبنان، وإن كان أقل من فرنسا، فذلك لا يعني أننا في حال أفضل، إذ تشير هذه الزيادة البالغة نحو 80% إلى تفاقم المخاطر وهشاشة مسارات الرعاية الصحية. وبالتالي، فإن كانت المعدلات في فرنسا أعلى من حيث القيمة المطلقة، إلا أن الاتجاه في لبنان هو ما يثير القلق. وفي حين ينصب الاهتمام في فرنسا على تعزيز استراتيجيات الوقاية (مكافحة التبغ والكحول)، فإن لبنان يحتاج إلى تدخل فوري على مستوى السياسات العامة.
تؤكد دراسات عدة زيادة معدلات السرطان في لبنان، وتربط هذه الزيادة بالانبعاثات الناتجة عن المولدات الكهربائية وتلوّث الهواء، ولا سيّما في بيروت منذ العام 2019. ولا يتمثل خطر ارتفاع هذه النسبة في تصاعُد عدد الحالات فقط، بل في كون هذه الحالات أكثر فتكاً، إذ إن نسب الإصابة نفسها لم ترتفع كثيراً، ولكن الوفيات الناجمة عنها سجّلت أرقاماً غير مسبوقة.
تؤكد دراسات عدة زيادة معدلات السرطان في لبنان، وتربط هذه الزيادة بالانبعاثات الناتجة عن المولدات الكهربائية وتلوّث الهواء، ولا سيّما في بيروت منذ العام 2019
يجب التأكيد هنا أن الأمر لا يتعلق بفذلكة إحصائية أو مبالغة - بصرف النظر عما يعتقده وزير الصحة - بل هو بالأحرى مؤشر واضح على إخفاقات سياساتنا العامة. وحين تُسجّل دولةٌ ما أعلى زيادةٍ في الوفيات بين أكثر من 200 دولة، فإن المشكلة في هذه الحالة ليست في وجود الأمراض السرطانية، فهو أمر مفروغ منه، ونرصده كل يوم في عائلاتنا ومجتمعاتنا الصغيرة. أما السؤال الذي كان يجدر بالوزير الإجابة عنه فهو: لماذا لم نتحرك؟ والأهم من ذلك، ماذا ننتظر لنتحرك؟
ما الذي تغيّر بعد العام 1990؟ الإجابة بكل بساطة وبمنتهى الصراحة هي الإفلات المستمر من العقاب، وغياب السياسات، والحالة المزرية لبيئتنا: نوعية الهواء الذي نتنشقه والمياه التي تروي أراضينا الزراعية، وتربتنا التي تزداد تلوثاً بحسب ما تُشير الكثير من الدراسات العلمية.
طيلة عقدين من الزمن، انتشر التبغ في كل مكان (سجائر ونراجيل) وبأسعار رخيصة، وتعايشنا مع التدخين في الأماكن المغلقة، وجرّدنا القانون 174 من مفاعيله. ثم حلّ الانهيار الاقتصادي في العام 2019، فأدّى إلى تفاقم سمّية الهواء الناتجة عن تشغيل المولدات من دون توقف وعن الجسيمات الدقيقة المرتبطة مباشرةً بأمراض القلب والرئة وخطر الإصابة بالسرطان. في الوقت نفسه، انهارت شبكات الفحص والرعاية جراء ارتفاع تكلفة المعيشة، وانقطاع التيار الكهربائي، ونقص الأدوية، وعدم استكمال العلاج الإشعاعي أو تقطّعه بسبب عدم توفر المال أو التغطية الطبية، ليصبح الوضع في لبنان اليوم كارثياً بكل معنى الكلمة. وقد دقت النائبة والخبيرة البيئية نجاة صليبا ناقوس الخطر مراراً وتكراراً، ولكن من دون جدوى.
عوامل رئيسة مؤثرة
المشهد قاتم بلا شك، ولكن يوجد مع ذلك بصيص أمل، فهذه الزيادة ليست حتمية ويمكن كبحها، بل وعكسها، من خلال إنفاذ السياسات ذات الصلة. يُظهر تحليل عبء المرض العالمي أن نسبة كبيرة من وفيات السرطان تُعزى إلى مخاطر يمكن التحكّم بها. إلا أن العوامل المؤثرة الرئيسة في لبنان هي تحديداً التبغ والتلوث، حيث الدولة غائبة تماماً.
ما العمل إذاً؟ قبل كل شيء، لا بدّ من تطبيق قانون الحد من التدخين بحذافيره ومن دون إبطاء. فالقانون 174 يحظر بالفعل التدخين في الأماكن المغلقة والإعلان عن منتجات التبغ والرعاية المرتبطة بها، ولكن هذا القانون لن يكون فعّالاً إلا إذا طُبّق. والسؤال هو، لماذا لم يُطبّق؟ إن عدم إنفاذ هذا القانون يمثل فشلاً ذريعاً لوزارة الصحة في رفع مستوى الوعي، وفشلاً للحكومة في تطبيق سياسة صحية عامة بسيطة وواضحة. ما هي مفاعيل تطبيق القانون؟ ضوابط واضحة، وغرامات رادعة، وعدم التسامح مطلقاً مع «الغرف الخاصة» أو «أماكن التدخين الاختيارية»، وهي محاولات للالتفاف على القانون تفتقر إلى أي أساس علمي. ولكن ذلك غير كافٍ، إذ يجب أن يقترن تطبيق القانون أيضاً بزيادة الضرائب على التبغ - وهو إجراء فعّال للغاية ينعكس إيجاباً على الموازنة. ففي كل الدول التي رفعت الضرائب على التبغ وطبّقت القانون بصرامة، انخفضت معدّلات التدخين، وأُنقذت الأرواح. فلماذا لا يحدث ذلك في لبنان؟ وإن لم تفعل ذلك حكومة تزعم أنها إصلاحية، فمن ومتى إذاً؟
ثانياً، لا بدّ من تنقية الهواء مهما كلّف الأمر. وإن كان متعذراً التخلّص من قطاع المولدات في لبنان بين عشية وضحاها في غياب خارطة طريق واضحة لتوفير الكهرباء بشكل ثابت أو الانتقال إلى الطاقة الخضراء، يمكن مع ذلك التحكّم بالانبعاثات (من خلال فرض معايير على الفلاتر والوقود)، وإيقاف المولدات الأكثر تلويثاً، ونشر بيانات آنية عن جودة الهواء من شأنها تحفيز التحركات المحلية إن لزم الأمر. لا تنقصنا الخبرة ولا الوسائل، ولا بد من تطبيق القانون وتفكيك شبكات المافيا التي تتحكم بمصائرنا قبل فوات الأوان. وينبغي هنا إعطاء الأولوية للمستشفيات والمدارس والأحياء المكتظة، علماً أن الهواء النظيف لا يؤدي إلى تراجع معدلات الإصابة السرطان فحسب، بل يحدّ أيضاً من أمراض القلب والأوعية الدموية والنوبات القلبية والربو لدى الأطفال، وهي مكاسب سريعة سيلمسها المواطنون على المدى القصير.
ثالثاً، لا بد من متابعة كامل مسارات الرعاية. وفي أوقات الأزمات، من الضروري تلازم مساري الوقاية والعلاج. ويعني ذلك الاستمرار في إجراء فحوصات سرطان الثدي والقولون والمستقيم وعنق الرحم، وبشكل خاص سرطان المثانة لدى الرجال في لبنان، وضمان توفر الأدوية والعلاج بلا انقطاع. والسؤال الملح هنا، لماذا اختفت حملات التوعية والوقاية من الفضاء العام لتحل محلها صور السياسيين الذين قادونا إلى الخراب مالياً وبيئياً وأخلاقياً؟
من جهة أخرى، فإن إنشاء «صندوق علاج الأورام»، المموّل جزئياً من رفع الضرائب على التبغ، سيوفر آليةً مستدامة للتعامل مع السرطان أقل تكلفة من علاج المرض في مراحله المتأخرة، وأقل تكلفة بكثير من خسارة حيواتٍ منتجة. نحن بحاجة إلى الإبداع في دولة تعاني من شحّ الموارد وخُفِّضت ميزانيتها إلى الربع. وقبل ذلك كله، لا بد من إعادة بناء دولة يحكمها القانون، لا يفلت فيها أحد من العقاب.
يُظهر تحليل عبء المرض العالمي أن نسبة كبيرة من وفيات السرطان تُعزى إلى مخاطر يمكن التحكّم بها. إلا أن العوامل المؤثرة الرئيسة في لبنان هي تحديداً التبغ والتلوث، حيث الدولة غائبة تماماً
سيقول البعض: «هذا ليس الوقت المناسب، فالأولوية للأمن». ولكن انتظار «الوقت المناسب» غالباً ما يعني التراخي، وكل يوم نضيعه يزيد المعاناة ويؤخر التغيير. إن زيادة الضرائب على التبغ تُولّد إيرادات فورية، وإنفاذ القانون 174 لا يكلّف الكثير، وضبط انبعاثات المولدات ممكن. وهذه الإجراءات ليست أبداً ترفاً، بل هي الطريقة الأكثر عقلانية لكبح مسار انتحاري فتّاك والسيطرة عليه.
هي أيضاً مسألة مصداقية. فإن كنا نروّج لنموذج اقتصادي جديد قائم على السياحة والخدمات والمعرفة، فإن هذا النموذج محكوم بالموت اختناقاً بضباب سام من انبعاثات الديزل والدخان. والبلد الذي يترك مواطنيه يستنشقون مواد مسرطنة في المطاعم والشوارع والمكاتب لا يمكنه الترويج لنفسه بوصفه مركزاً للصحة أو التعليم أو الابتكار. فمن سيرغب في الاستثمار، ناهيك عن العيش، في بلد يزدهر فيه السرطان؟
كثيراً ما يُصوَّر ارتفاع معدلات السرطان في لبنان على أنه أمر لا مفر منه. وهو ليس كذلك. إنه النتيجة الطبيعية لخيارات اتخذتها الحكومات السابقة - وهي خيارات يُمكن التراجع عنها. فلنطبّق القانون 174، ولنرفع الضرائب على التبغ، ولنُفكّك مافيات المولدات. لننشر بيانات جودة الهواء يومياً، ولندعم الفحص المبكر والعلاج حتى لا يُصبح تشخيص السرطان مصيراً محتوماً. إن زيادة نسبتها 80% في الوفيات الناجمة عن السرطان ليست مجرد خبر رئيسي، بل هي حكم قاسٍ، ولكنه غير مبرم، ولا يزال الاستئناف ممكناً - إن تحركنا واتخذنا الإجراءات اللازمة.
نُشِر هذا المقال في 18 تشرين الأول/أكتوبر في L'orient Le Jour، وتعيد الكاتبة نُشِره في موقع «صفر» بترجمته العربية.