
حق تقرير المصير في الزراعة: فرخة الفلسطينية نموذجاً
عمل الاستعمار الإحلالي في فلسطين على قتل وتشريد السكان الأصليين، وسرقة أراضيهم، تسويقاً للبدعة الصهيونية الأولى: «أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض»، وهي البروباغاندا الدعائية التي شكّلت اللبنة الأساسية في إقامة مشروع الكيان الصهيوني والترويج له عالمياً. وتدهورت الحالة الاقتصادية على إثر النكبة على نحو واسع في فلسطين، وما رافقها من ارتكاب الاحتلال للمجازر والمذابح والتهجير القسري للفلسطينيين، وخسارة رأس المال البشري والمادي (الأرض)، ما اضطر الفلاح الفلسطيني إلى الابتعاد قسراً عن حيّز أرضه أو «ما تبقى» منها، والذهاب مُجبراً إلى ضروب العمالة الأخرى في السوق الإسرائيلية لتأمين لقمة العيش. وسرى الحال ذاته على سكان قرية فرخة،1 الواقعة في قضاء محافظة سلفيت، حيث توافد جزء من مواطنيها للعمل في دول الخليج، فيما أُجبِرَ البعضُ الآخر على العمل في الداخل الفلسطيني سعياً للرزق، ما شكّل شرخاً بين الفلسطيني وأرضه. وعليه، ظلّت العلاقة بينهما متذبذبة، ومرهونة بالأحداث السياسية التي سببها الاحتلال.
كانت طبيعة الحياة في فرخة بسيطة بما فيه الكفاية لمقايضة حليب الأغنام بالحاجيات الأخرى لسكان القرية. وعلى ذاك المنوال، كانت تتم صناعة مشتقات الألبان الأخرى من جبنة ولبنة وقشطة. أما البيئة السياسية، فقد عكست نفسها على مكّونات القرية من خلال الأفكار التقدمية، التي كانت تقدّر دور المرأة الفاعل، كونها شريكة للرجل في ميادين الحياة النضالية كافة، بما فيها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فكانت المرأة من تذهب لترعى المواشي وتلبي لها احتياجاتها كافة، وتأخذ منها في المقابل احتياجات منزلها.
ظل الوضع على هذا الحال حتى جاءت الانتفاضة الأولى، والتي أعادت علاقة الفلسطيني بأرضه بعد انقطاع طويل، وكان من دوافعها كسر علاقة التبعية مع الاحتلال، ومقاطعته، ومحاولة الانفكاك الاقتصادي عنه. رويداً رويداً، تشكّلت في القرية «تعاونيات فِطرية» – إن جاز التعبير - حتى أصبحت نهجاً قائماً بين العائلات فيها. والجدير ذكره أن الظروف المعيشية من بساطة حياة القرية، وما يتخلّلها من تماسك مجتمعي، ناهيك عن تنامي الحسّ الوطني، جميعها كانت عوامل ساعدت في ردم الهوة بين الفلاح والأرض.
لم يلبث الوضع هكذا طويلاً، فسرعان ما جاءت تسويات أوسلو وعملية السلام وما تبعها من فتح قنوات تواصل مباشرة مع الاحتلال، والذي أصبح يشار له «بالجانب الإسرائيلي»، فكان اتفاقاً بشّر حينها بسلام هلاميّ عمل على صهر الفلسطينيّ مرة أخرى. في الحقيقة، لم تكن قنوات التواصل تلك، وما ترتّب عليها من مسارات تعايشيّة، إلا أدوات، أمْعَنَ من خلالها المُحتلّ في إحكام سيطرته على الأرض والإنسان الفلسطيني، فقام بالتحكّم بالمخارج والمداخل جميعها، وبالمأكل والمشرب، وحركة البضائع من وإلى الأسواق المحلية والإسرائيلية، واستُغلت على إثر ذلك الظروف المعيشية والحاجات الاقتصادية للأسر الفلسطينية، الأمر الذي أدى إلى زيادة العمالة في المستوطنات، بل رُوّج لذلك على أنه فتح للآفاق الاقتصادية التنموية. ومن جهة أخرى، فإن غياب الإرادة لدى السلطة الفلسطينية في توفير فرص عمل كريمة للشباب، عمل على جعل حيّز الأرض متروكاً، فأضحى الفلسطيني معتمداً اعتماداً كاملاً في مناحي حياته كافة، وخصوصاً في مدخلات أمنه الغذائي، على ما يسمح الاحتلال له بغرسه أو دخوله.
عمل الاحتلال تدريجيّاً على سلب فطرة الفلاح الفلسطيني، ليس بسرقة أراضيه فحسب، بل في سلبه خياراته في زراعة ما يشاء، أو تلقينه ماذا يزرع، لكي يتم استهلاكه في السوق الإسرائيلية
سلب خيارات المزارع الفلسطيني
وبُعَيْدَ الأُسلُوية؛ عمل الاحتلال تدريجيّاً على سلب فطرة الفلاح الفلسطيني، ليس بسرقة أراضيه فحسب، بل في سلبه خياراته في زراعة ما يشاء، أو تلقينه ماذا يزرع، لكي يتم استهلاكه في السوق الإسرائيلية. فيما لم تكن لدى السلطة الفلسطينية ومؤسساتها الرسمية حينها أيّة خطة للمواجهة أو حتى أخرى بديلة تضمن النمو والإنماء، فعملت الأخيرة - بعد حين قصيرة - على تبني النموذج الاقتصادي الليبرالي عالمياً تحت مظلة السوق الحرّة لصياغة تبادلاتها التجارية.
حروب طاحنة لا تُرى بالعين
يندرج الطرح الأول (تلقين المزارع ماذا يزرع) تحت النماذج الاستعمارية في السيطرة الزراعية، أي من خلال حروب لا تُرى بالعين، لكنها طاحنة بما يكفي لكي تتحكّم بالمستعمَر، فأضحى لدينا مفهوم السيادة الواقعية،2 حيث باتت الأرض ليس لمن يزرعها، بل لمن يبسط نفوذه وسيطرته عليها. ولدينا عبر التاريخ نماذج عدة على ذلك، ابتداءً من «حروب الموز»، التي أسست لها الولايات المتحدة الأميركية لتتحكم بالتجارة الاستوائية وتؤمّن سلتها الغذائية من خلال بناء قناة بنما بنيّة اختراق القارة الجنوبية والاستحواذ على حصص مالية في إنتاج الموز والتبغ وقصب السكر وسلع أخرى في جميع أنحاء منطقة البحر الكاريبي وأميركا الوسطى وشمال أميركا الجنوبية، إلى استئجار مئات الهكتارات في الدول النامية بغية «الاستثمار» فيها، وإغراقها في زراعة ثمار معينة، بصفتها نوعاً من الممارسات الاستعمارية الناعمة، كالاستثمار الخفي لفنلندا في أراضي البرازيل، التي تعتبر مزرعة العالم أو السمراء الخصبة، حيث استأجرت الأولى مئات الهكتارات لزراعة الكينا طمعاً في السيليلوز الطبي المستخرج منها، أو استئجار جيبوتي أراضٍ في إثيوبيا والسودان لأجل تأمين أمنها الغذائي، ناهيك عن «حزام القطن» في الجنوب الشرقي من قارة أميركا، الذي أدت زراعته إلى تهجير قبائل الأميركيين الأصلانيّين فيها، وتثبيت زراعة القطن كونه محصولاً نقدياً ذات مردود ربحيّ بحت.
تلقين الفلاح الفلسطيني «ماذا يزرع»
على هذا المنوال، يتم تلقين الفلاح الفلسطيني - عن طريق وسطاء - حول الأصناف الأكثر طلباً في السوق الإسرائيلية، لكي يزرعها في أرضه، مقابل وعود تسويقية بشراء غلّته كلّها. تختار المنظومة الزراعية الإسرائيلية للفلاح الفلسطيني قائمة معينة، مدرِجةً الخضروات التي تحتاج إلى ريّ كثير، بقصد عدم خسارة الإسرائيلي للمياه، مُستغلّين ريّ الفلّاح الفلسطيني خُضرَتَهُ من مياه حلوة ونظيفة، إن كانت مياهاً جوفية أو مياه أمطار مجمّعة في آبار منزلية أو ينابيع، إضافة إلى العمالة الرخيصة في الضفة، وبهذا تُزرَع الخضروات في مناطق الأغوار الشمالية، كالخيار على سبيل المثال بشتى أنواعه، الكبير والصغير، وفي المقابل تأخذه شركات تصنيع المخللات الإسرائيلية، بالإضافة إلى الباذنجان والفليفلة الحلوة بمختلف ألوانها.
غياب التخطيط الزراعي الفلسطيني أو بدعة الزراعة العنقودية
في المقابل، لم تواجه المؤسّسات الرسمية التابعة للسلطة الفلسطينية - والتي يجدر بها تقديم النصح والدعم - «الاستعمار الناعم» غير المباشر بخطة زراعية ممنهَجة، فضلاً عن توفير الحوافز للفلاح الفلسطيني. غير أن إشاعة ما يسمّى بـ«الزراعة العنقودية»3 التي اعتمدتها الحكومة الثامنة عشرة الحالية في بداية العام 2019 في 6 مناطق في الضفة الغربية، فشلت في تحقيق الغاية منها، ناهيك عن مدى القصور الكامن فيها وعُسْر التخطيط الذي سبقها.
تختار المنظومة الزراعية الإسرائيلية للفلاح الفلسطيني قائمة معينة، مدرِجةً الخضروات التي تحتاج إلى ريّ كثير، بقصد عدم خسارة الإسرائيلي للمياه
الإنفاق الشحيح على القطاع الزراعي
كانت الخطة المذكورة تتركز في إنتاج محصول معيّن يجود في بقعة جغرافية معينة، وتغطية سلسلة حلقات إنتاجه، ابتداءً بمدخلات الإنتاج (الأرض والمياه) مروراً بالتقنيات وانتهاءً بالتسويق والتصدير. لكن الحكومة الفلسطينية، مُطْلِقَةَ هذه الجَلَبة، فشلت في خطة العناقيد الزراعية، نظراً لمحدوديّة إشراك الجمعيات التعاونية في عمليّة التخطيط، وهي المنظمات التي تمثّل صغار المزارعين الذين يشكّلون ما نسبته 70% من الإنتاج الزراعي، وبالتالي عدم تحديد احتياجات المزارعين في المحافظات التي أُعلن عنها منطقة «عنقود زراعي»، بالإضافة إلى عدم وجود بنية تحتية في المنطقة قادرة على استيعاب المزارعين وتوطينهم بالأرض، والفشل في دفع القطاع الخاص للاستثمار في مناطق العناقيد، وقدرتها على تأمين الصناعات الغذائية، وضعف دعم فكرة التعاونيات الزراعية بين صغار المزارعين، بالإضافة إلى عدم شموليّة أراضي محافظة الخليل ضمن العناقيد الزراعية، التي تشتهر بمنتج العنب، وما يترتب على تصنيعه من منتجات شبيهة، إلى جانب عدم توفّر الشقّ المالي عند الحكومة الفلسطينية، مع التنويه إلى أنّ مساهمة القطاع الزراعي من الموازنة العامة لا تتجاوز 1%، ما يطرح تساؤلات عن تطلعات الحكومة الحقيقية والصرفة في تطوير القطاع الزراعي، ودعم صمود المواطنين على الأرض حقاً.
حدائق منزلية: طعام من دون كيماويات
ظل الوضع الزراعي مُتأرجحاً في عموم فلسطين المحتلة، ما بين واقع الحال التبعي للاحتلال، وغير المنفك عنه، ووعود الحكومة الفلسطينية غير المتحقّقة، حتى حلّت جائحة كورونا نقمة على الجميع، إذ شُلَّت فيها حركة المواطنين، لكنها كانت نعمة على البعض، ومنهم أهالي فرخة، الذين عادوا إلى الأرض مجدداً. حين استغنى أصحاب العمل - بطبيعة الحال والنظام الرأسمالي - عن المشغّلين، وأقعدوهم عن أعمالهم من دون أتعاب وحفظٍ لأدنى حقوقهم، ذَهَبَ الفلّاح الفرخاوي لكسب قوت يومه من الأرض وغلّتها، وبهذا اضطر الفلاح إلى العودة لكي يستثمر في أرضه من جديد، مبتدئاً بحديقته المنزلية، فأصبح ينتج طعامه الصحي والعضوي، البعيد من الكيماويات، مكتفياً به، ومقايضاً ما زاد عن حاجته بمنتوجات جاره، أو طارحاً الفائض للبيع، ما درّ له ولأسرته من دخلٍ معقول.
الاكتفاء الذاتي والسلة الغذائية للأسرة
ارتبطت مكافحة كورونا بالغذاء الصحي. ومن هنا تبادر على أذهان شباب فرخة الزراعة البيئية/العضوية في الحدائق المنزلية، من دون استخدام الكيماويات، فحدّوا من وطأة الاعتماد على شراء المنتوجات الخارجية، محاربين الغلاء، ومشجّعين استهلاك الزراعة العضوية لتحسين صحتهم، ومقايضة ما زاد عن حاجتهم من بعض المنتوجات الأخرى مع جيرانهم، وبهذا الوصول، مجتمعياً، إلى فكرة الاكتفاء الذاتي. في خضم مرحلة التجربة، تبادل السكان الخبرات مع بعضهم البعض في كيفية إنتاج البذور والأشتال، ومارسوا العمل المشترك، ما أشاع جوّاً من الألفة بين أفراد الأسرة الواحدة، امتدّ بين الجيران، مُعيداً مفهوم الجيرة الطيبة (الجيران لبعض) أو العونة في حال قام جيرانهم بمساعدتهم ومد يد العون لهم في الزراعة والقطاف. كما أحدث النشاط الزراعي في الحدائق المنزلية جَلَبَةً من الألوان التي أصبحت تنمو فيها، والأنواع المختلفة التي باتت موجودة بكثرة ما بين الباذنجان الليلكي والفليفلة الخضراء والفلفل الأحمر ومحصول البطاطا والملفوف والخسّ والزهرة والبروكلي والملفوف الأحمر وغيرها.
والجدير ذكره نموّ مبادرة إقامة الحدائق المنزلية في فرخة سنة تلو الأخرى، حيث بدأت بصفتها مبادرة شبابية شملت 80 أسرة فلسطينية، ومن ثم تضاعف العدد ليشمل استفادة 110 أسرة فلسطينية حتى أواخر شهر أيلول/سبتمبر 2023. أما الآن، وبالتحديد بعد السابع من أكتوبر، تعاظم العمل على مشروع الحدائق المنزلية، ضمن حملة «الاقتصاد المنزلي المقاوم»، 4بالشراكة مع عدد من المؤسسات الأهلية والمجتمعية الفاعلة، ومتضامنين مهتمين بالقضايا البيئية تحت الاحتلال ومناصرين للقضية الفلسطينية، ممن يأتون بدورية للالتحام مع هموم الفلاح الفلسطيني، حتى أصبحت ماثلة لدى 180-200 أسرة في فرخة.
والحريّ ذكره أيضاً أن هذا النمط من الزراعة لم يَعُد حكراً على فرخة فحسب، وإنما حلّ نمط الزراعة البيئية سواء في الحدائق المنزلية أو في أراضي القرية في أكثر من قرية في الضفة الغربية، كبورين ومادما وصفّا وبلعين، حيث عاد الفلاح إلى المربع الأول: حيّز أرضه.
«سياج الأرض أهلها»
يُفلِتُ الاحتلال مستوطنيه بحراسة الجيش الإسرائيلي في أراضي الفلسطينيين، ليعيثوا بها فساداً، من دون أي حسيب أو رقيب. كانت تتمحور خطة أهالي فرخة في مواجهة اتساع الاستيطان، ومصادرة الأراضي، ومداهمة المزارعين ومحاصيلهم الزراعية، وإطلاق الخنازير على المواطنين، وإلقاء نفايات المستوطنة الصناعية في ينابيع فرخة، بإصرارهم على التواجد في الأرض، وزراعتها بقصد حمايتها من المصادرة والتدمير والحرق والنهب، حيث شاعت عبارة على لِسان الفرخاويين: «سياج الأرض أهلها وناسها».
مزرعة «قمر البلد»
ومن هذا المنطلق، أُنشئت أول مزرعة مجتمعية بيئية باسم «قمر البلد» في العام 2014، مستأجرةً من الأوقاف الإسلامية لمدة 20 عاماً. تمتد«قمر البلد» على 15 دونم من أراضي فرخة، تحاكي الطبيعة واحتياج المزارعين وعائلاتهم. تم تأهيل المزرعة وتطوير بنيتها التحتية من خلال بناء سناسل ومساطب، وأحواض إنتاج الكومبوست، وأحواض مياه، وألواح الطاقة الشمسية، حتى أصبحت مزروعة بمختلف المزروعات الشتوية والصيفية من فليفلة وزعتر وزيتون وعنب وبصل وغيرها، كما أصبحت تجتذب الكثيرين ممن توافدوا إليها بهدف التطوع والتعلم، حتى أصبحت نموذجاً جامعاً يصار بأن يُعَنوَنَ بأنه محطة بيئية تطوعية تعليمية. ولّدت المزرعة نجاحات مركّزة ما زالت قائمة، وسجلت المزيد من النجاحات من خلال تأسيس تعاونيات نسوية، وتعاونية زيت الزيتون العضوي، ومصنع الكومبوست.
فرص عمل لنسوة فرخة
عملت نسوة القرية عن طريق تعاونية سيدات فرخة على صناعة بعض الأصناف مما تنتجه الأرض والأخرى المنتَجَة من الثروة الحيوانية. فما بين إنتاج الفلفل لصناعة الشطة، أو أوراق الزعتر لإنتاج الزعتر مع سمسم، إلى صناعة المخللات المختلفة من مكدوس، والطُّرشة (ملفوف، فليفلة، زهرة، فقوس، خيار، جزر)، والزيتون، وغيرها من الألبان المختلفة مثل اللبنة والحويرنة، وإنتاج صنوف عدة من أنواع المونة المختلفة التي يصار إلى تسويقها وبيعها في الأسواق، لتدرّ دخلاً ربحيّاً عليهنّ.
وفي هذا الصدد، تقول رويدة عقل، رئيسة جمعية «سيدات فرخة التعاونية للتصنيع الغذائي»: «على الرغم من التحدّيات، وفّرت التعاونية لنساء فرخة فرصة عمل». وتفسّر عقل التحديات قائلةً: «انخنقنا بعد الحرب. صادر الاحتلال مصادرة اللي كان أصلاً مطلّع فيها قرار مصادرة من 1982، وتبهدلنا بتسكير الطرق علينا، والوصول والخروج من وإلى فرخة... حالياً مضطرين نمرّ من روابي، عجول، عارورة، المزارع، خربة قيس، سلفيت، وصولاً إلى فرخة، وإذا بدنا نروح ع نابلس مضطرين نمرّ بخط طويل بين القرى لتجاوز التسكيرات والحواجز. هذا كوم، وإطلاقا لمستوطنين الخنازير علينا كوم تاني، طبعاً الهدف إنّه نبطّل نفلح». وعن توضيحها لمصطلح التفليح، تفسّر رويدة: «زمان، كنا نروح عالحقلة نزرع قمح، وشعير، ونرعى مواشينا. لكن الآن، بطلقوا علينا أربع لخمس خنازير عشان نخاف ونرجع».
تستعيد رويدة صوتها بعد طول حشرجة لتسأل معدّة المادة: «أمانة خلّيني أحطلك اتدوقي شطة فرخة؟!».
على جميع الفلّاحين ممارسة «حق تقرير المصير» في الزراعة، وهو ما يسعى الشعب الفلسطيني لانتزاعه من براثن الاحتلال، ليكون اللبنة الأساسيّة نحو تأسيس الدولة الفلسطينية، مستندين بذلك إلى «الأرض» كحيازة ووجود
«تعاونية معاصر زيت الزيتون»
وعلى منوال تعاونية النساء، اجتمع عدد من الجمعيات القروية المحيطة بفرخة لإنشاء «تعاونية معاصر زيت الزيتون»، فبعدما كان سكان فرخة وعدد من القرى المجاورة يذهبون نحو العصر الجماعي في معصرة واحدة في قرية بني زيد، أسس هؤلاء شركة «أرضنا الزراعية» في العام 2014 شركةً مساهمةً بأسهم، وتدرّجوا في العمل فيها حتى نالوا الترخيص حسب الأصول، وأصبح زيت الزيتون الذي ينتجونه منافساً في جودته، ويسوّق في أوروبا بسعر معقول، يدرّ ربحاً على المزارعين/ـات (من أعضاء التعاونية).
حركة التضامن العالمية والأممية
لم يستثمر أهالي فرخة بالأرض فحسب، بل كانوا منفتحين على مختلف الخبرات الدولية، وبالأخص تلك التي تتقاطع مع المزارعين المتضامنين والتقدّميين في مختلف دول العالم، فتمّ الاستثمار عبر ابتعاث وفد زراعي شابّ من فرخة مؤمن بنهج الاستدامة التكاملية والمتبادلة وقائم على موارد الأرض، وقادر على استجلاب الخبرات وإعادة استنساخها، بهدف توطينها في القرية من جديد. لم يقتصر الأمر على تمكين فريق محلي على الممارسات الفضلى للاعتناء بالأرض، وإنّما ذهب إلى استيراد الخبرات الأجنبية عند طريق «الإقامة الزراعية التطوعية» فيها لفترة وجيزة، حيث تستقبل فرخة عدداً من المتضامنين الأجانب والمتطوعين من مختلف الدول الصديقة والمناصرة للقضية الفلسطينية، التي تتقاطع معها فرخة بالرؤى التقدمية، والمبنية أساساً على الإيمان بحق الشعب الفلسطيني في الحرية، وحق تقرير المصير، والعدالة الاجتماعية، والأمن الغذائي المنتج من خيرات الأرض، وليس التّبَعِيّ أو المُعْتَمِدِ على المنتوجات المستوردة.
نخلص هنا إلى أن الريف الفلسطيني، مثل فرخة، قد أصبح منفتحاً لدرجة التقط فيها عمق التضامن العالمي، وجدانياً وعملياً (ولو بعد حين) من تراكم الإنجازات، ومدى امتثال الناشطين الأمميين والمتضامنين لواجبهم الأخلاقي والإنساني، وتأثيرات هذا التضامن الشعبي وامتداداته في المناداة لتحقيق الحرية لفلسطين، حتى لو لم يكن المردود الحالي رسمياً أو دائماً، وإنما آنيّاً وشعبيّاً، مؤمنين بذات الوقت أنّ الثقل والشرعية تستمد من تضامن الشعوب مع بعضها البعض.
استئناف العمل بعد السابع من أكتوبر
لعلّ ما حصل بعد السابع من أكتوبر كشّف عن منظومة الفصل العنصري لدى الاحتلال ومعاونيه، وتسليحها للمستوطنين، وكذلك عن المنظومة الغربية الاستعمارية الشريكة في الإبادة المستمرة على شعبنا الفلسطيني في قطاع غزة، وفي الضم والاستيطان في الضفة الغربية والقدس. وعلى إثر ذلك، ازدادت وتيرة مداهمات الاحتلال لمختلف القرى الفلسطينية ومصادرة أراضيها وبناء بؤر استيطانية فيها، فمنهم من صبّ النار فيها، وفي بيوتها، ومنهم من وضع سمّاً في الآبار والينابيع لتسميم الأغنام والمواشي، ومنهم من هاجم السكان في أراضيهم، فقتل من قتل، وحرق ما حرق.
وعلى الرغم من مصادرة المستوطنين 1250 دونماً من أراضي فرخة، كان قد أصدر الاحتلال فيهم أوامر مصادرة قديمة، استطاع أهالي فرخة مواجهة بطش المستوطنين المدججين بالأسلحة، واستئناف أعمالهم بنَفَسٍ مقاوم، فواصلوا خططهم قبيل موسم جدّ الزيتون، إذ نجحت اللجنة الزراعية المشتركة في التنسيق ما بين المزارعين في قريتي فرخة وسلفيت لقطفه سوياً، في محاولة لحماية المزارعين من أيّ فرصة لاستفراد المستوطنين بهم، من خلال تشكيل متاريس بشرية تتصدى جماعياً لأي هجوم محتمل. وقد ثابرت اللجنة الزراعية في المجلس على تأهيل الطرق الزراعية، فاستُصلح 2500 متر، مصنّفةً - حسب التقسيم الأوسلوي - إلى مناطق باء وجيم، على حساب المزارعين، ما يعكس إيمان المجلس البلدي المنتخب بمنطق التكافل والاشتراكية للصالح العام. كما استطاع المجلس تعبيدها بمادة base course بيسكورس-حصى، وعلى إثر الإنجاز، بُنيَت 7 وحدات سكنية، مع ما يلزمها من إمدادات ماء وكهرباء، في المنطقة المحاذية للشارع الاستيطاني الغربي، والذي تكالب المستوطنون على فتحه بعد السابع من أكتوبر ليصل بمستوطنة أريئيل السكنية، ما يعكس ندّيّة المجلس والأهالي وعدم تقاعسهم في الدفاع عن أرضهم والاستمرار في المواجهة عبر مواصلة العمل والصمود على الأرض، والتنعّم من خيراتها، وتسييجها بأهلها وناسها على الدوام.
فرخة: «ترينداً» عصرياً، مدّاً ثورياً
في مخيال المشروع الفلسطيني ما بعد التحرّر، وفي الحفاظ على الأرض المحرّرة في عموم فلسطين، على اعتبار ما سيكون، أن يكون لِزاماً على جميع الفلّاحين ممارسة «حق تقرير المصير» في الزراعة، وهو ما يسعى الشعب الفلسطيني لانتزاعه من براثن الاحتلال، ليكون اللبنة الأساسيّة نحو تأسيس الدولة الفلسطينية، مستندين بذلك إلى «الأرض» كحيازة ووجود.
وفي معادلة فرخة، حَرَصَ أهالي فرخة على المضي قدماً في الممارسات الزراعية البيئية من خلال إشراك أهالي القرية كافة بالقرارات، وذلك من أجل تكوين قاعدة جمعية عريضة حول الزراعة البيئية، والانفكاك الاقتصادي عن الاحتلال، وأهمية تحقيق الاكتفاء الذاتي، وهو ما ولّد رابط انتماءٍ جمْعيّ واضح الوجهة، من سكان القرية إلى العاملين المتطوعين، وعزّز شعورهم بالملكية (ownership)، الأمر الذي كانت عوائده إيجابية على مكونات العملية الإنتاجية كافة في نهاية المطاف.
قد يعتمد نجاح التجارب في الحقل على ظروف موضوعية تساعد من نجاعتها، لكنّ إدراك أهمّيّة وجود إرادة جدية ومدى الجهد المبذول، والوعي بحيثيات المرحلة والنَفَس الطويل، يزيد من فرص جدواها واحتمالية نقلها. ومن هنا، يكمن الطموح أن تصبح تجربة فرخة مداً ثورياً، يتمّ استنساخه في القرى المجاورة بحكم تشابُه البيئة المحيطة والمكان، وتجانس تجربة الفلاحين وعلاقتهم بالأرض والزراعة، لتصار إمكانية العدوى التنموية أعلى، إذا جاز التعبير، وتضحي تجربة فرخة «ترينداً» عصرياً في جوهرها، مُعْتَمَدَةً ضمن الممارسات الفضلى المتوافق عليها، ومُعَمّمّةً في نهج خطواتها وآلياتها كعرفٍ حائز على إجماعٍ عام.
إن مواجهة ماكينة الاحتلال - بجيشه وعتاده وسياساته وقوننته للاستيطان والضم التوسعي، مع سطوة منظومته التي تغذّيها عصابات المستوطنين وهجمات ما يعرف بفتية التلال على أراضي الفلسطينيين - بالصمود على الأرض هي مقاومة بحد ذاتها. كما أن الارتقاء بالتفكير والتخطيط والعمل على مبدأ «حق تقرير المصير»، كما حصل في نموذج فرخة، من تطوير للذات والمجتمع المحلي واعتماد آليات للبقاء من خلال العودة إلى حيّز الأرض، يعمل على إرساء ممارسات مستدامة، تتراكم على المدى البعيد، لتصبح فطرية، وتعود على التجمعات السكانية بالتحرير وحق تقرير المصير على الأرض.
نشر المقال للمرّة الأولى في العدد المطبوع والوحيد من «زهر القندول»، الإنتاج والناشر: فريق سوبر بطيخ، 2025. وتعيد الكاتبة نشر المقال في مجلة «صفر».
- 1
يحيط بفرخة حزام من المستوطنات التي توسعت جاثمة على أراضيها، كمستوطنة أرائيل السّكَنية، وأرائيل الصناعية، وبركان الصناعية. والجدير بالذكر هو قيام سلطات الاحتلال بمساندة مستوطني المنطقة لمصادرة آلاف الدونمات التابعة للقرية، مقتلعين بذلك المئات من أشجار الزيتون، من أجل استكمال مشروعهم الاستيطاني لِما يسمى «أرئيل الكبرى»، وذلك عبر إنشاء إصبع استيطاني يربط بين كافة البؤر الاستيطانية في المنطقة، ممتداً من دوار زعترة - تفوح - أرائيل، وصولاً إلى الخط الاستيطاني الواصل مع بلدة كفر قاسم في الداخل المحتل، وبالتالي عزل البلدات الفلسطينية عن بعضها البعض، وفصل جنوب القرية عن شمالها. تشتهر القرية بعشرات الينابيع، أكبرها عين المطوة، التي تتجمّع من خلال الينابيع الجوفية المتواجدة والمنتشرة على السلاسل الجبلية المجاورة، حيث تغطي النبعة احتياج ما نسبته 25-30% من سكان القرية، بالإضافة إلى وجود عين الشلال، وعين بدران، وعين سوجة، والينبوع. يجري حالياً تلويث العين الرئيسة (المطوة) بشكل متعمّد من المستوطنين، والتي تعتبر الراوي الأساسي للسلة الغذائية للقرية، حيث يلقون في بطن الوادي المياه العادمة ومخلفات المصانع القادمة من مستوطنة أرائيل الصناعية، لتصب بنهاية المطاف في عين المطوة.
- 2
السيادة الواقعية: تشير إلى حكم الأمر الواقع، وهي القدرة الفعلية لكيان ما على ممارسة السيطرة والسيادة على أرض كيان آخر.
- 3
الزراعة العنقودية: يعنى بها العمل التكاملي وتنسيق الجهود المشتركة، حيث تسعى بجلّها نحو تجميع عناصر عدة من استصلاح الأراضي، وتطوير البنية التحتية، والمصادر المائية، وشق الطرق الزراعية بغية زيادة الإنتاجية والكفاءة، وشراء مدخلات زراعية، وإنشاء المصانع، وتشغيل اليد العاملة، إلى حين تسويق المنتجات، وزيادة الربح. وفي واقعنا الفلسطيني المشتبك في مواجهة التوسع الاستيطاني؛ كان المقصود من الزراعة العنقودية تعزيز صمود المواطن الفلسطيني على أرضه.
- 4
الاقتصاد المنزلي المقاوم: مصطلح سياسي اقتصادي مكثف يدعو إلى العودة إلى حيّز الأرض، والاكتناز من خيراتها، وصناعة الطعام وتدوير المواد الخام كافة وتحويلها من شكل إلى آخر، بغية الاستفادة منها.