أولوية ترامب ليست المخدّرات بل ثروات أميركا اللاتينية
عودة إمبريالية حرب المخدّرات
تُصعِّد إدارة ترامب حروبها ضدّ المخدّرات في أميركا اللاتينية لتتّخذ منها غطاءً لمشروعها الإمبريالي.
في الوقت الذي تدفع الإدارة بتعزيزاتٍ عسكريّة في الكاريبي وتقتل من تزعم أنّهم مهرّبو مخدّرات، تستعدّ للتدخّل في دولٍ من أميركا اللاتينيّة بهدف فتح أسواقها أمام الشركات الأميركيّة. تتمحور أولويّة الإدارة حول الوصول إلى موارد المنطقة، وهو محورٌ أساسيّ في سياستها الخارجيّة كما أشار كبار مسؤوليها.
قال وزير الخارجيّة ماركو روبيو في حزيران/يونيو الماضي: «يتّضح أكثر فأكثر، في قضية جيوسياسيّة بعد أخرى، أنّ الوصول إلى المواد الخام والقدرات الصناعيّة هو جوهر قراراتنا والمجالات التي نمنحها الأولويّة».
إمبريالية حرب المخدّرات
تُعدّ إمبرياليّة حرب المخدّرات إحدى المساهمات الكبرى للولايات المتّحدة في سجلّ التاريخ الإمبريالي. نشأت ضمن ما عُرف بـ«الحرب على المخدّرات» التي دشّنتها إدارة نيكسون في سبعينيات القرن العشرين ووسّعتها إدارة ريغان في خلال الثمانينيات، لتتحوّل إلى أداة مركزيّة في آليّات التدخّل الأميركي في أميركا اللاتينية.
في أواخر ثمانينيات القرن العشرين، أرست الولايات المتّحدة النموذج لإمبريالية حرب المخدّرات في بنما. نظّم المسؤولون في واشنطن تدخّلاً عسكريّاً للإطاحة بالحاكم البنمي من السلطة بعد أن شوّهت صورة مانويل نورييغا بتهم تتعلّق بالمخدّرات.
تصاعد العنف المرتبط بالمخدّرات في كولومبيا والمكسيك. وقدّرت لجنة الحقيقة في كولومبيا أنّ نحو 450,000 شخص قُتلوا في كولومبيا بين عامَي 1985 و2018
غزت القوّات الأميركيّة بنما، بإشراف إدارة جورج بوش الأب، واعتقلت نورييغا ثمّ نقلته إلى الولايات المتّحدة حيث حوكم وأدين وسُجن بتهمٍ تتعلّق بالمخدّرات. قدّم المسؤولون الأميركيّون العمليّة بوصفها جزءاً من الحرب على المخدّرات، لكن كان هدفهم الأساسي تنصيب حكومة حليفة تعمل لخدمة المصالح الأميركية. وقد أولى هؤلاء المسؤولون أهميّة خاصّة لموقع بنما الاستراتيجي وقناة بنما التي تُعدّ حلقة حيوية في التجارة الأميركية.
واصلت الولايات المتّحدة في العقود التالية توظيف الحرب على المخدّرات كأداة للهيمنة في أميركا اللاتينية. ففي العام 2000، أطلقت إدارة بيل كلينتون خطة كولومبيا، التي وفّرت دعماً عسكريّاً واسعاً للحكومة الكولومبيّة. وعلى الرغم من تقديمها كبرنامجٍ لمكافحة تجارة المخدّرات، استهدفت الخطة في جوهرها تمكين الجيش الكولومبي من حسم حربه ضدّ الحركات الثورية اليسارية، ولا سيّما القوّات المسلّحة الثورية الكولومبية.
في العام 2007، دفعت إدارة جورج بوش الابن ببرنامجٍ مشابه في المكسيك. بموجب مبادرة ميريدا، منحت الإدارة الأميركية الحكومة المكسيكية دعماً مكّنها من تصعيد حربها ضدّ عصابات المخدّرات. رأى المسؤولون الأميركيون في البرنامج وسيلة لتعزيز العلاقات مع الجيش المكسيكي ومواجهة تجّار المخدّرات الذين صعّبوا على الشركات الأميركية ممارسة نشاطها داخل البلاد.
واجهت إداراتٌ أميركيّة متعاقبة انتقادات حادّة بسبب هذه البرامج، خصوصاً مع تصاعد العنف المرتبط بالمخدّرات في كولومبيا والمكسيك. وقدّرت لجنة الحقيقة في كولومبيا أنّ نحو 450,000 شخص قُتلوا في كولومبيا بين عامَي 1985 و2018، وأنّ 80% من الضحايا كانوا من المدنيّين. وفي المكسيك، تجاوز عدد ضحايا العنف المرتبط بالمخدّرات مئات الآلاف، فيما تستمرّ الأعداد بالارتفاع بعشرات الآلاف سنويّاً.
على الرغم من إصرار معظم المسؤولين الأميركيّين على تحميل المنظّمات الإجرامية في أميركا اللاتينية المسؤولية الأساسية عن العنف المرتبط بالمخدّرات، بدأ بعضهم يشكّك في النهج الأميركي نفسه. فقد تساءل هؤلاء عمّا إذا كانت الحروب التي تدعمها واشنطن تتجاهل الأسباب الجذرية لمشكلة المخدّرات، مثل الطلب الكبير عليها داخل الولايات المتّحدة.
قال وزير الأمن الداخلي جون كيلي في العام 2017: ينبغي أن نخجل نحن الأميركيّين من أنفسنا لأنّنا لم نبذل تقريباً أيّ جهد لمعالجة مشكلة الطلب على المخدّرات، ثمّ نوجّه أصابع الاتّهام إلى شعوب الجنوب ونقول لهم إنّ عليهم أن يفعلوا المزيد لمكافحة الإنتاج والتهريب.
في السنوات الأخيرة، وصف بعض النقّاد حروب المخدّرات بالفشل. فقد أشاروا إلى أنّ عقوداً من العمليّات العسكريّة المدعومة أميركيّاً جلبت عنفاً مروّعاً إلى أميركا اللاتينيّة من دون أن تنجح في وقف تدفّق المخدّرات إلى الولايات المتّحدة.
قالت شانون أونيل، التي ترأّست لجنةً لتقييم سياسات المخدّرات بتكليفٍ من الكونغرس، في إفادتها في العام 2020: «المخدّرات ما زالت تتدفّق، والأميركيون واللاتينيون ما زالوا يموتون. هناك شيء لا يعمل كما يجب».
تبنّي ترامب لإمبرياليّة حرب المخدّرات
على الرغم من إدراك واشنطن أنّ حروب المخدّرات لا تحدّ فعليّاً من انتشارها، استخدمت إدارة ترامب هذا الخطاب لتبرير عمليّات عسكرية في مختلف أنحاء أميركا اللاتينية. فبعد فترة قصيرة على تولّيها الحكم، أرست الإدارة أسس نسخة أكثر تصعيداً من إمبريالية حرب المخدّرات.
أصدر ترامب في اليوم الأوّل من ولايته أمراً تنفيذياً صنّف بموجبه عصابات المخدّرات كمنظّمات إرهابية، زاعماً أنّها «تمثّل تهديداً استثنائياً وغير اعتيادي»، ومعلناً حالة طوارئ وطنية للتعامل معها. وسرعان ما تبعتها وزارة الخارجية بخطوة مماثلة صنّفت فيها عصابات المخدّرات وغيرها من المنظّمات الإجرامية كمنظّمات إرهابيّة.
يسعى عدد من كبار مسؤولي إدارة ترامب منذ سنوات إلى دورٍ أميركي أكثر عدوانيّة في أميركا اللاتينيّة، لا بهدف مكافحة المخدّرات، بل طمعاً في توسيع وصول الولايات المتّحدة إلى موارد المنطقة
في تمّوز/يوليو، أصدر ترامب سرّاً أمراً إلى البنتاغون ببدء شنّ هجمات ضدّ عصابات المخدّرات.
في أوائل الشهر الجاري، نفّذ الجيش الأميركي أوامر الرئيس ترامب عبر هجوم بطائرة مسيّرة على زورق سريع في الكاريبي كان على متنه 11 شخصاً. وقالت الإدارة الأميركية إنّهم مهرّبو مخدّرات فنزويليون، غير أنّ منتقدين شكّكوا في هذه المزاعم واعتبروها انتهاكاً للقانون الدولي، فيما اتهم بعضهم إدارة ترامب بالقتل.
قوّض ترامب وماركو روبيو مبرّرات الإدارة للهجوم بعدما قدّما روايتين متباينتين عن وجهة الزورق السريع. إذ قال روبيو إنّ الزورق كان متّجهاً إلى ترينيداد، بينما زعم ترامب أنّه كان متّجهاً نحو الولايات المتّحدة. وسعياً للتماهي مع رواية الرئيس، غيّر روبيو موقفه لاحقاً وادّعى أنّ الوجهة كانت فعلاً الولايات المتّحدة.
كما شكّك منتقدون في أنّ دوافع الإدارة تتعلّق فعلاً بمكافحة المخدّرات، مشيرين إلى أنّ الحديث عن تورّط فنزويلّا في تجارة المخدّرات مبالغٌ فيه.
وعندما وُجّهت إلى روبيو أسئلة عن هجوم الإدارة على الزورق، رفض التقارير التي تقلّل من أهمّية دور فنزويلّا، بما في ذلك تقارير الأمم المتّحدة.
قال روبيو: «لا يهمّني ما تقوله الأمم المتّحدة».
أظهر ترامب الموقف نفسه حين أعلن عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يوم الإثنين، أنّه أمر بتنفيذ ضربة أخرى على قارب في منطقة الكاريبي، أدّت إلى مقتل 3 أشخاص، وكتب محذّراً: «احذروا، نحن نطاردكم!».
في الواقع، يسعى عدد من كبار مسؤولي إدارة ترامب منذ سنوات إلى دورٍ أميركي أكثر عدوانيّة في أميركا اللاتينيّة، لا بهدف مكافحة المخدّرات، بل طمعاً في توسيع وصول الولايات المتّحدة إلى موارد المنطقة.
من المعروف منذ زمن طويل أنّ ترامب يُولي أهمّية خاصّة لفنزويلّا نظراً لامتلاكها أكبر احتياطيّات معروفة من النفط في العالم. ونُقل عنه قوله في العام 2017، سنته الأولى في الحكم: «تلك هي الدولة التي ينبغي أن نحاربها، فكلّ هذا النفط عندهم، وهم على مقربة منّا».
وقد شاركه عددٌ من كبار المسؤولين في إدارته الأولى النظرة ذاتها؛ إذ علّق وزير الدفاع حينها جيمس ماتيس في العام 2018 قائلاً: إنّ «قادة فنزويلّا يجلسون على احتياطات هائلة من النفط».
عندما حرّكت إدارة ترامب الأولى قوى المعارضة الفنزويلّية في العام 2019 في محاولة فاشلة للإطاحة بالحكومة، تفاخر عددٌ من كبار المسؤولين بالثروات النفطية المحتملة لفنزويلا، ملمّحين إلى أنّها قد تُشكّل مكسباً كبيراً للمستثمرين الأميركيين.
قال الممثّل الخاصّ لفنزويلا حينها، إليوت أبرامز، أمام الكونغرس: «إنّها دولةٌ تمتلك هذا المورد النفطي الهائل، الأكبر في العالم. وأعتقد أنّكم ستجدون، مع تغيير القيادة والسياسة الاقتصادية، كثيرين ممّن هم مستعدّون للاستثمار هناك، كما أظن أنّ البنك الدولي وصندوق النقد الدولي سيكونان على استعداد للمساعدة في تشغيل هذا المحرّك».
ما تفعله إدارة ترامب هو شنّ حرب ضدّ المخدّرات كغطاء لفتح أسواق أميركا اللاتينية أمام رأس المال الأميركي
منذ بداية ولايته الثانية، واصل ترامب التفكير في النفط الفنزويلي، حتى بعدما غيّر وجوهاً عدّة في إدارته. وصرّح في شباط/فبراير، مشيراً إلى الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو: «سيكون هناك رجلٌ يجلس فوق كميّة هائلة من النفط تحت قدميه، وهذا ليس وضعاً جيّداً».
دوافع خفيّة
بينما مضت إدارة ترامب في توسيع عمليّاتها العسكرية في منطقة الكاريبي، مع تركيز خاص على فنزويلا، لجأت إلى الذريعة المعهودة نفسها. فكما فعلت الإدارات السابقة، زعمت إدارة ترامب أنّها تخوض حرباً ضدّ المخدّرات. قال ترامب في تمّوز/يوليو الماضي، مشيراً إلى أمره التنفيذي الذي صنّف عصابات المخدّرات كمنظّماتٍ إرهابية: «منذ اليوم الأول لإدارتي، أعلَنّا حرباً شاملة على المروّجين والمهرّبين والمتاجرين والعصابات».
أيّد مسؤولو الإدارة نهج الرئيس، وكان ماركو روبيو في طليعتهم، مصرّاً مراراً على ضرورة التحرّك العسكري ضدّ مهرّبي المخدّرات. وقال مطلع هذا الشهر: «رئيس الولايات المتّحدة سيشنّ حرباً على المنظّمات النركو-إرهابيّة».
ومع ذلك، لم يُخفِ بعض المسؤولين الأهداف الخفيّة للسياسة. فعندما تحدّث روبيو عن حروب المخدّرات التي تخوضها الإدارة، أوضح أنّ اهتمامه ينصب على تهيئة الظروف في أميركا اللاتينية بما يسمح للشركات الأميركية بالعمل هناك بفعالية أكبر. وصرّح في خلال زيارته الأخيرة إلى الإكوادور: «من شبه المستحيل جذب الاستثمارات الأجنبية إلى أيّ بلد ما لم يتوفّر فيه الأمن»، مشيراً إلى المفاوضات الجارية بشأن اتفاق تجاري وقاعدة عسكريّة.
في الواقع، أوضحت إدارة ترامب أنّها تركّز على خلق فرص جديدة للشركات والمستثمرين الأميركيين في أميركا اللاتينية. ومع قلقها من تنامي علاقات دول المنطقة مع الصين، استخدمت الإدارة ملف المخدّرات ذريعة لتبرير دور أميركي أكثر عدوانية في القارة.
باختصار، ما تفعله إدارة ترامب هو شنّ حرب ضدّ المخدّرات كغطاء لفتح أسواق أميركا اللاتينية أمام رأس المال الأميركي. وبالعودة إلى الأساليب المألوفة للإمبريالية، تطبّق الإدارة اليوم نموذج إمبرياليّة حرب المخدّرات.
نُشِر هذا المقال في 16 أيلول/سبتمبر 2025 في Foreign Policy in Focus، وترجم إلى العربية ونشر في موقع «صفر» بموافقة مسبقة من الجهة الناشرة.