معاينة HERO

النفط والإمبريالية والعرق في فلسطين

  •  مراجعة لكتاب أدم هنية وروبرت نوكس ورفيف زيادة: «مقاومة المحو: رأس المال والإمبريالية والعرق في فلسطين»، الذي يربط فلسطين بالرأسمالية والإمبريالية والعنصرية البنيوية، ويفكّك ثلاث سرديات سائدة: الدينية، والإنسانية، والقانونية، ليُظهر كيف تحوّلت اتفاقية أوسلو إلى أداة لاحتواء التحرر، وكيف ترتبط إسرائيل بالنظام العالمي للنفط والهيمنة الغربية. ويرى أن تحرير فلسطين جزء من مقاومة الاستعمار والرأسمالية في كل مكان.

«إسرائيل هي أكبر حاملة طائرات أميركية في العالم لا يمكن إغراقها»

ألكسندر هيغ، وزير الخارجية الأميركي السابق

 

لم تكن فلسطين في قلب النقاش العالمي مثلما هي عليه اليوم. خلق «السابع من أكتوبر» واقعاً جديداً، حيث غيّر التعاطف معسكره، من تدليل إسرائيل على مدى عقود إلى التضامن الشعبي العالمي مع فلسطين. وعلى الرغم من أن الفهم الغريزي لما تمثله قضية فلسطين، لا تزال هناك الكثير من المشاكل في الطريقة التي يتم بها مناقشتها وفهمها بشكل شائع. وهو ما يسعى كُتيب «مقاومة المحو: رأس المال والإمبريالية والعرق في فلسطين» (منشورات فيرسو 2025 - 128 ص)، إلى تفكيكه ونقاشه وجلاء الغموض حوله. وقد ظهر كأحد مخرجات سلسلة من الورشات التعليمية التي نظمتها مجموعة «عمّال في فلسطين»، وهي مجموعة تشكلت استجابة لنداءات التضامن الدولية من قبل النقابات العمالية الفلسطينية. وضمّ مساهماتٍ لآدم هنية، أستاذة الاقتصاد السياسي والكاتبة رفيف زيادة، وأستاذ القانون روبرت نوكس.

بنفس مكثف ومباشر، يسعى الكُتيّب إلى إعادة صياغة طريقة رؤية تضع فلسطين في قلب الرأسمالية والإمبراطورية والعرق. كتاب صغير ذو طموحات كبيرة، يبدو أنه يُحققها، من خلال إجبار القارئ على التفكير بطريقة مختلفة، وعلى ربط الصراعات، ورفض المحو بجميع أشكاله. وهو إلى ذلك يمثل مدخل ضروري للناشطين والطلاب والقراء الباحثين عن الوضوح في خضم الإبادة التي نعيش. فعلى الرغم من تجذره في النظرية النقدية، يتجنّب المصطلحات المتخصّصة. فهو أكاديمي بما يكفي لإرضاء الباحثين، وواضح بما يكفي لعامة القراء. طرحه الأساسي تبديد ضباب السرديات السائدة المحيطة بقضية فلسطين، من خلال طرح أسئلة أكثر عمقاً وتعقيداً: ما هي القوى التي تجعل العنف الإسرائيلي مُستمراً إلى هذا الحد؟ لماذا لا يزال الدعم الغربي ثابتاً؟ وكيف تُشكّل الرأسمالية والإمبريالية والعرق الواقع المعيشي للفلسطينيين؟

يبدو أن كل سردية تقوم بتشويه التاريخ أو محو السياسة، لكنها تجتمع في فكرة حجب الحقيقة الأعمق، وهي أن إسرائيل «مشروع استعماري استيطاني لا ينفصل عن الرأسمالية العالمية والإمبريالية الغربية»

في مفتتح الكتاب يطرح الباحثون طموح «إعادة تأطير فلسطين»، من خلال رصد 3 فخاخ يقع فيها اليوم الخطاب السائد عن فلسطين، بما في ذلك الخطاب التضامني وهي: فخ الصراع الديني وفخ الكارثة الإنسانية وفخ الحقوق القانونية. تصوّر السردية الدينية فلسطين كموقع لصراع أزلي تغذيه الكراهية الدينية القديمة بين اليهود والمسلمين أو مكاناً للصراع على المواقع المقدسة. وهي خيال يمحو التاريخ ويدعم الخرافات العنصرية. فيما تُركّز السردية الإنسانية على المعاناة لكنها تُجرّد هذه الأحداث من أسبابها الهيكلية. أما سردية الحقوق القانونية فتستند إلى القانون الدولي، من دون أن تستوعب التفاوت الهائل في القوة. فهي تساوي بين مقاومة ذات إمكانيات محدودة ودولة نووية، معتبرة كلاهما متساويين في الحقوق. ويبدو أن كل سردية تقوم بتشويه التاريخ أو محو السياسة، لكنها تجتمع في فكرة حجب الحقيقة الأعمق، وهي أن إسرائيل «مشروع استعماري استيطاني لا ينفصل عن الرأسمالية العالمية والإمبريالية الغربية». وهذا ما يعتبره الباحثون الثلاثة إعادة لتأطير القضية، والنظر إلى فلسطين ليس كحالة «استثنائية»، بل كجزء من سردّ أوسع عن الاستعمار والرأسمالية العنصرية والإمبريالية.

رأس المال الأحفوري والإمبراطورية

المساهمة الأبرز للكتاب هي فصله الأول عن العلاقة بين الاستعمار الاستيطاني المديد لفلسطين والجغرافيا السياسية للنفط والغاز في المشرق العربي، وهو ترجمة مكثفة لأطروحة طالما دافع عنها آدم هنية في أعمالٍ سابقة. عقب الحرب العالمية الثانية، تزامن استقرار النفط كمشغل أساسي للاقتصاد الصناعي العالمي مع صعود الولايات المتحدة الأميركية كقوة دولية راسخة. وترسّخت هيمنة واشنطن العالمية بفضل قدرتها على التحكم في تدفقات النفط - ليس بالضرورة من خلال امتلاكها المباشر لجميع الاحتياطيات - بل من خلال ضمان بقاء أسعارها مقوّمة بالدولار، وشحنها عبر طرق آمنة، وإتاحتها لحلفاء الولايات المتحدة. ولأن المشرق العربي كان المكان الأكثر ثراءً بالنفط، فقد شكّلت العلاقات بين واشنطن والكيان الإسرائيلي رافعة مركزية للرأسمالية الغربية، التي وجدت في المستعمرة الاستيطانية قاعدة لإدارة سيطرتها على المنطقة. ويشير الباحثون إلى أنه على الرغم من شيوع استخدام مصطلح «مستعمرة استيطانية» كوصف للكيان الإسرائيلي، إلا أنه قليلاً ما تم استخدام شحنته التحليلية، كمفهوم يفكّك شكلاً من أشكال التوسع الأوسع لرأس المال الغربي. وعقب حرب 1967، ترسخ دور إسرائيل في المنطقة كقاعدة أميركية. ولكي تحافظ على هذا الدور كان يجب أن تزيد من حدة القمع الداخلي من خلال توسيع الاستيطان ونزع الملكية ومحو جميع أشكال الوجود الفلسطيني المادي والرمزي. وقد احتاج ذلك درجة هائلة من العسكرة وتوسيع هياكل المراقبة والعقاب. في نموذج شبيه بنظام الفصل العنصري الذي كان قائماً في جنوب أفريقيا، والذي أدّى دوراً مركزياً في إدارة السيطرة الغربية، والأميركية أساساً، في الجوار الأفريقي.

فقد شهد القرن العشرين توسعاً كبيراً للرأسمالية جعل النفط والغاز محوراً للتنافسات الإمبريالية. لذلك كان وجود إسرائيل في المنطقة مرتبط بضمان الهيمنة الغربية على تدفقات الطاقة وقمع التهديدات للنظام الإمبراطوري. فوجود إسرائيل في المنطقة، سهّل على الولايات المتحدة اللعب على التناقضات بين دول المنطقة وتالياً حقق لها سيطرة شبه كاملة على تدفق إمدادات الطاقة. فهذه المستعمرة كانت وما زالت بمثابة مركز إقليمي غربي، يضبط الدول العربية المجاورة، ويضمن عدم تهديد القوى الصاعدة ضد الاستعمار - قومية، يسارية، إسلامية - لشريان الحياة للرأسمالية العالمية، وهو الوقود الأحفوري. وبهذا المعنى، فإن سلب فلسطين ليس مجرد مأساة تخص الشعب الفلسطيني، بل هو حلقة في آلية رأس المال الأحفوري.

اتفاقية أوسلو لم تكن مجرد عملية سلام فاشلة فحسب، بل آلية لتشكيل الطبقات في المجتمع الفلسطيني

في الفصل الثاني يناقش الكتاب ما جنته اتفاقية أوسلو على الشعب الفلسطيني. فقد جزّأت النضال الفلسطيني. وأوجدت سلطة فلسطينية محدودة الصلاحيات، مرتبطة بالتمويل الغربي، ومقيدة بالسيطرة الإسرائيلية. وبدلاً من السيادة، حصل الفلسطينيون على طبقة إدارية تعتمد على المانحين الدوليين، وتستثمر في الحفاظ على الوضع الراهن الهش. يرى الباحثون الثلاثة أن أوسلو حوّلت الهيكل الذي كان يمثل تطلعات الشعب الفلسطيني للتحرير والعودة إلى أداة للتهدئة. حيث أصبح وعد الدولة فخاَ، وشكلاً من أشكال السيطرة على حركة التحررّ. وخلقت كذلك تقسيماً طبقياً جديداً بين نخبة صغيرة متورطة في رأس المال العالمي، في مواجهة أكثرية تعاني وطأة الاحتلال والخنق الاقتصادي. فاتفاقية أوسلو لم تكن مجرد عملية سلام فاشلة فحسب، بل آلية لتشكيل الطبقات في المجتمع الفلسطيني.

فيما يناقش الفصل الثالث العنصرية بوصفها ضرورة هيكلية. فإذا كانت الرأسمالية ووظيفية الكيان الإسرائيلي، تُفسران استمرار التهجير والقمع، فإن العنصرية تُفسر شدّته. ذلك أن الممارسات العنصرية لهذا الكيان توفر إطاراً أيدولوجياً لمصادرة الأراضي وهدم المنازل وإقامة الحواجز ونزع الملكيات. وبتصوير الفلسطينيين كتهديد «ديموغرافي أو كإرهابيين»، تُبرّر الدولة أشد أشكال العنف تطرفاً. عكس الدين، يعتبر الباحثون أن المسألة العرقية محورية في كيفية عمل الرأسمالية والاستعمار الاستيطاني في فلسطين. ذلك أن محو الحياة يحدث على مستويين، الأول مادي ظاهر والثاني خطابي وثقافي رمزي. ومقاومة هذا المحو هو موضوع الفصل الختامي، الذي يقدم ما يشبه توصيات أو أفكار للناشطين والمناضلين، مؤكداً على أن فكرة التضامن، التي ترسخت بقوة عقب «السابع من أكتوبر»، لا يجب أن تقترن بفكرة الشفقة أبداً، بل هي اعتراف بأن النضال الفلسطيني يُكثّف مظالم عصرنا، كالعسكرة، والرأسمالية الأحفورية، والتراتبية العرقية والعنصرية، وأن مقاومة المحو في أي مكان، لا تنفصل عن مقاومته في كل مكان.

تشوهات التفسير الأحادي

على الرغم من طموح الكتاب لإعادة تأطير قضية فلسطين ضمن رؤية مادية تاريخية، إلا أن توسيع الرؤية الذي يطمح له الباحثون الثلاثة، مدفوعين بخلفيتهم الإيديولوجية، يجعل من هذه الرؤية ضيقة في الوقت نفسه. من الوجاهة حقاً اعتبار التفسير الديني مثالياً وزائفاً لتفسير الصراع ومحركاته، من زاوية الجدل المادي التاريخي، لكن لا يجب الخلط بين ذلك الاعتبار وبين  دور الدين في الصراع، بوصفه أحد أدوات الاستعمار في المحو، لأن ذلك سيقود إلى عدم فهم كيفية تأثير الأيديولوجيات الدينية، سواء كانت اليهودية أو الإسلامية، على السياسة في أرض الواقع، وكذلك، وهذا الأهم سيدو تجاهلاً لعاملٍ حاسم للإجابة على سؤالي: ما هي القوى التي تجعل العنف الإسرائيلي مُستمراً إلى هذا الحد؟ ولماذا لا يزال الدعم الغربي (على الأقل الأميركي) للكيان ثابتاً؟

دور الدين في الصراع، بوصفه أحد أدوات الاستعمار في المحو، لأن ذلك سيقود إلى عدم فهم كيفية تأثير الأيديولوجيات الدينية، سواء كانت اليهودية أو الإسلامية، على السياسة في أرض الواقع

وكما يبدو أوضح من أي وقت مضى يؤدّي الدين دوراً حاسماً في تشكيل توجهات السياسات الاستيطانية والقمعية الإسرائيلية، من خلال وصول نخبة دينية شديدة التطرف إلى مواقع أساسية في السلطة. كما يؤدّي دوراً في صياغة مستقبل الكيان، من خلال تصورات عن ضم الضفة الغربية بوصفها «يهودا والسامرة» جزءاً من «أرض إسرائيل التوراتية» وكذلك إسرائيل الكبرى، وغيرها من الخيالات الجيوسياسية الصهيونية المرتبطة أساساً بخيالات توراتية. في المقابل تستند الكثير من خطابات مقاومة المحو في الجانب الفلسطيني على أساس ديني سواء للتعبئة أو للتضامن، ذلك أن فلسطين ليس مجرد أرض مستعمرة، بل ذات رمزية دينية مركزية في المخيال والمعتقد الإسلامي والمسيحي. وهنا تؤدي الهوية الدينية دوراً أساسياً في مسألة العنصرية، التي تبدو مدفوعة بالدين كمحددٍ رئيس.

أما في مستوى ثانٍ، فإن الدين، سواء كان المقدس أو المصنوع، يؤدي دوراً واضحاً في ثبات الدعم الغربي لإسرائيل. وأعني بالدين المصنوع، هو الدين الأوروبي، الذي تشكل عقب الحرب العالمية الثانية، والذي يدور حول الذنب الجماعي تجاه ضحايا المحرقة اليهودية إلى مقدس تصاغ من خلاله سياسات دعم إسرائيل المديدة، كما في الحالة الألمانية والتشيكية، المغرقتين في القداسة. أما الدين المقدس فنموذجه الأوضح هو الولايات المتحدة الأميركية. وعلى الأقل منذ صعود رونالد ريغان إلى السلطة في العام 1981، عندما أصبحت العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل متشابكة بشكل متزايد داخل التيارات الدينية الأوسع مع توسع دور المسيحيين الإنجيليين، الذين ساعدوا في إنشاء جماعات ضغط منظمة مؤيدة لإسرائيل. وأبرز هؤلاء حاكم ولاية أركنساس السابق، مايك هاكابي، الذي أصبح سفيراً لترامب لدى إسرائيل، والذي ظل منذ الثمانينيات يعبر علناً عن رؤية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بإيمانه، وعن ضرورة منح أرض فلسطين للشعب اليهودي استناداً إلى قراءته للكتاب المقدس.