Preview الاستعمار الجديد الأخضر في المنطقة العربية

الاستعمار الجديد الأخضر في المنطقة العربية

ورزازات مدينة جميلة في وسط جنوب المغرب ووجهةٌ سياحة مهمة يطلق عليها «بوابة الصحراء»، وفيها جرى تصوير أفلام رائعة من قبيل لورنس العرب (1962) والمومياء (1999) وغلادياتور (2000) ومملكة السماء (2005) وبعض أجزاء صراع العروش. لكن ورزازات ليست معروفة بجمالها الأخاذ فحسب، فمنذ العام 2016 باتت موطناً لواحد من أكبر مشروعات الطاقة الشمسية في العالم. يُسوّق المشروع على أنّه خطوة في طريق إنهاء اعتماد المغرب على واردات الهيدروكربون، وتوفير الكهرباء لأكثر من مليون مغربي، وجزءٌ من جهد أوسع يهدف إلى وضع البلاد على «مسار أخضر»، لكن نظرة أعمق في المشروع تُثير شكوكاً جدية بشأن تكاليفه وعوائده.

أولاً، تدخل مسألة نزع الملكية في الصلب. بُنِي المرفق الشمسي الممتد على مساحة 3,000 هكتار على أراضٍ استخدمها الأمازيغ الرعاة على مر التاريخ، من دون استشارتهم أوإفادتهم من تشغيله لاحقاً. ثانياً، تبرز مسألة تمويل المشروع. لقد جرى اقتراض 9 مليارات دولار أميركي من البنك الدولي وبنك الاستثمار الأوروبي وغيرهما من أجل بناء المحطة، وكل هذه القروض مدعومة بضمانات من الحكومة. وبالتالي، فإنّ دافع الضرائب المغربي مَن سيتحمل العواقب إذا حدث أي خلل. ثالثاً، لدينا الجدوى الاقتصادية. إن المشروع المصمم كشراكة بين القطاعين العام والخاص سجل عجزاً سنوياً يقارب 80 مليون يورو منذ إطلاقه. وكما هو الحال غالباً مع هذه الشراكات - وهي ترتيبات قانونية تسهّل خصخصة الأرباح وتعميم الخسائر - فقد جرى تغطية هذا العجز من الخزينة العامة. رابعاً، هناك مسألة الفواتير الاجتماعية والبيئية، إذ تعتمد محطة ورزازات على الطاقة الشمسية المركزة، التي تتطلب استخداماً مكثفاً للمياه لتبريد النظام وتنظيف الألواح الشمسية. وفي منطقة شبه قاحلة مثل ورزازات، يعني ذلك تحويل موارد المياه المحدودة بعيداً من المنازل والمزارع.

زد على ذلك أنّ حالة مشروع الطاقة في ورزازات ليست استثنائية. ففي ميدلت على بُعدِ 450 كليومتراً إلى الشمال الشرقي من ورزازات تجري أحداث مماثلة من الاستيلاء على الأراضي وتخفيض الكربون عبر التجريد من الملكية. يجرى هناك بناء أكبر محطة هجينة للطاقة الشمسية في العالم - تجمع تقنيات الطاقة الشمسية المركزة والكهروضوئية - على حساب رعاة الماشية. يقول الغازي حسن وهو راعٍ شاب:

«مهنتنا الرعي وهذا المشروع احتل أرضنا حيث نرعى ماشيتنا. هم لا يوظّفوننا في المشروع بل يوظفون الأجانب. لقد احتلّوا أرضنا التي نعيش عليها. ويدمّرون المنازل التي بنيناها... في النهاية نحن غير مرئيين ولا وجود لنا في نظرهم».

ألا يمكن أن يؤدي هذا الدفع الكبير نحو التحوّل الأخضر إلى استمرار ممارسات النهب والاستغلال ذاتها السائدة حالياً؟ ألا يمكن له أن يعيد إنتاج الظلم والإقصاء اللذين عانى منهما الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لعقود؟

وصف المحلّلون والنشطاء مشروعات كتلك الموجودة في ورزازات وميدلت بـ«الاستيلاء الأخضر»، وهي مخطّطات تجعل من الأهداف البيئية ذريعة لتنظيم سرقة الأراضي وأشكال أخرى من نزع الملكية. والمُقلِق هنا أنّ الاستيلاء «الأخضر» على الأراضي والموارد بات ظاهرة متزايدة. ولا يقتصر على إنشاء محطات الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، بل يظهر أيضاً في مشروعات الحفظ البيئي والرصيد الكربوني التي تحرم المجتمعات الأصلية من أراضيها ومناطقها، ويظهر كذلك في مصادرة أراضي الجماعات النوعية لغرض إنتاج الوقود الحيوي.

بات واقع انهيار المناخ جلياً في جميع أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ويقوّض الأسس البيئية والاجتماعية والاقتصادية للحياة. ولا ريب أنّ تخفيف عواقب هذا الانهيار سيتطلب تقليصاً جذرياً لانبعاثات الغازات الدفيئة وتحوّلاً سريعاً نحو الطاقة المتجدّدة، لكن في ضوء المشكلات الظاهرة في ورزازات وميدلت، تبرز أسئلة حيال المخاطر والأخطار المحتملة من التحوّل الطاقي. ألا يمكن أن يؤدي هذا الدفع الكبير نحو التحوّل الأخضر إلى استمرار ممارسات النهب والاستغلال ذاتها السائدة حالياً؟ ألا يمكن له أن يعيد إنتاج الظلم والإقصاء اللذين عانى منهما الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لعقود؟

إفلاس محادثات المناخ الدولية

كل عام، يجتمع القادة السياسيون في العالم، والمستشارون، ووسائل الإعلام، وجماعات الضغط التابعة للشركات لحضور مؤتمر الأمم المتحدة للأطراف لمناقشة قضية تغير المناخ. وعلى الرغم من أنّ التهديد المتعاظم والوجودي المحيق بالكوكب، لا تفعل الحكومات الكثير لوقف التزايد في انبعاثات الكربون. وبعد ثلاثة عقود مما وصفته الناشطة البيئية السويدية غريتا ثونبرغ بـ«الثرثرة الفارغة»، بات من الواضح أنّ هذه المحادثات الدولية جوفاء وبلا طموح. لقد اختطفتها قوى الشركات والمصالح الخاصة، وباتت تروّج لحلول زائفة مربحة من قبيل تداول الكربون وما يسمّى بـ«الصافي الصفري» و«الحلول القائمة على الطبيعة». بالمقابل تتجاهل هذه المؤتمرات الضرورة الملحّة لإجبار الدول الصناعية وشركات الوقود الأحفوري على خفض انبعاثات الكربون وترك الوقود الأحفوري في باطن الأرض.

عُقِد مؤتمر كوب-28 في دبي في العام 2023، لتكون هذه المرة الخامسة التي تستضيف فيها المنطقة العربية محادثات المناخ منذ انطلاقة مؤتمر الأطراف في العام 1995. كانت المحطات السابقة في مراكش (كوب-7 في 2001، وكوب-22 في 2016)، وفي الدوحة (كوب-18 في 2012)، وفي شرم الشيخ (كوب-27 في 2022). لكنّ نتائج هذه اللقاءات كانت هزيلة، كما تشهد على ذلك النسخ الأخيرة من المؤتمر. الحال أنّ مؤتمر شرم الشيخ أسفر عن اتفاق على «تمويل الخسائر والأضرار»، وهو ما رآه البعض خطوة مهمة نحو تحميل الدول الغنية مسؤولية الأضرار الناجمة عن تغير المناخ في الجنوب العالمي، لكن للأسف، يفتقر هذا الاتفاق إلى آليات تمويل وتنفيذ واضحة، ليكون على الأرجح على موعد مع مصير الوعد المقطوع للمرة الأولى في كوب-15 في كوبنهاغن بتوفير 100 مليار دولار لتمويل المناخ بحلول العام 2020. أما كوب-28، فقد تبدّت عدم جدّيته في معالجة القضية المناخية من خلال تعيين الإمارات لسلطان الجابر، الرئيس التنفيذي لشركة بترول أبوظبي الوطنية، رئيساً للمؤتمر. وكما يظهر من هذا التعيين، فإنّ مَن كان سبباً في تغيّر المناخ يرسم الآن كيفية التصدّي له. والهدف النهائي لهؤلاء الأفراد والكيانات ليس إلّا الحفاظ على بنية السلطة القائمة وحماية، إنْ لم يكن تعزيز، الربحية الخاصة.

مَن كان سبباً في تغيّر المناخ يرسم الآن كيفية التصدّي له. والهدف النهائي لهؤلاء الأفراد والكيانات ليس إلّا الحفاظ على بنية السلطة القائمة وحماية، إنْ لم يكن تعزيز، الربحية الخاصة

على الرغم من الدعوات إلى التحوّل المناخي (بما في ذلك في المنطقة العربية)، تشدّد تدخلات المؤسسات المالية الدولية وحكومات الشمال أيضاً على هذين الهدفين، أي الربح والسلطة. وعلى غرار البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، تتمسّك وكالات التنمية التابعة لحكومات الشمال - بما فيها الوكالة الأميركية للتنمية الدولية والاتحاد الأوروبي والوكالة الألمانية للتعاون الدولي - بتحولٍ طاقيّ قائم على الرأسمالية (وغالباً بقيادة القطاع الخاص) بدلاً من تحوّلٍ يقوده ويستفيد منه العمّال. بناءً على هذا، يتسم تحليلها لتغيّر المناخ والتحوّل الضروري بالمحدودية إنْ لم يكن بالخطر، ويغلب عليه إعادة إنتاج أنماط الاستيلاء على الأراضي ونهب الموارد التي تميّز النظام الحالي القائم على الوقود الأحفوري.

يكمن في صلب التحوّل الأخضر المتبع في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مزيد من خصخصة الماء والأرض والموارد والطاقة، بل الغلاف الجوي نفسه أيضاً. ومع أنّ دور القطاع الخاص في التحوّل الطاقيّ لا تنفرد به المنطقة، إلّا أنّه متقدّم نسبياً. وقد جرى التطرّق سلفاً إلى هيمنة المصالح الخاصة ضمن استراتيجيات الطاقة الشمسية في المغرب. وتظهر تطورات مماثلة في مصر والأردن وتونس. وفي الحالة التونسية، يجري دفع كبير نحو التوسّع في خصخصة قطاع الطاقة المتجدّدة في البلاد، وذلك من خلال تقديم حوافز كبيرة للمستثمرين الأجانب لإنتاج الطاقة الخضراء في تونس، بما فيها لأغراض التصدير. بل إنّ القانون التونسي المعدّل في العام 2019 يسمح باستخدام الأراضي الزراعية في مشروعات الطاقة المتجدّدة. ولمّا كانت تونس تعاني من اعتماد شديد على واردات الغذاء، وهو ما اتضح في خلال جائحة كورونا وبعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، تظل الحكمة من هذه الإجراءات موضع جدل.

الاستعمار الأخضر

في الغالب، ينظر صنّاع القرار العالميين إلى صحارى العالم العربي، كالصحراء الكبرى، على أنّها أراضٍ جرداء شاسعة. وفي هذا الإطار، تُصوّر هذه الأراضي على أنّها إلدورادو الطاقة المتجدّدة التي من شأنها تأمين احتياجات أوروبا الماسّة من الطاقة النظيفة والرخيصة. وهكذا، يسود منطق استعماري أخضر لا يمكن إغفاله في الخطابات والسياسات السائدة المتعلقة بالتحوّل الطاقي في المنطقة.

لا بد أن نقف ونفكّر ملياً في ظهور هذا الاستعمار الأخضر، أعني مدّ علاقات النهب والتجريد الاستعمارية إلى عصر الطاقات الخضراء المتجدّدة، وهو ما يلقي بالكلفة على كاهل بلدان الأطراف ومجتمعاتها بينما يعطي الأولوية لاحتياجات منطقة معيّنة من الطاقة والموارد البيئية (المياه مثلاً) على حساب منطقة أخرى. ففي نهاية المطاف، يهدّد هذا الاستعمار بإعادة إنتاج أنظمة الإنتاج والاستهلاك عينها التي خلقت مستويات صارخة من التفاوت والإفقار والتجريد من الملكية. ولا غرابة أن أوضح تجلّيات الديناميات الاستعمارية الخضراء في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا نجدها في المشروعات المتجدّدة التي تُقام في الأراضي المحتلة مثل فلسطين ومرتفعات الجولان والصحراء الغربية.

يوجد في الصحراء الغربية، الأراضي المحتلة من المغرب منذ العام 1975، ثلاث مزارع رياح قيد التشغيل حالياً. بالإضافة إلى ذلك، توجد مزرعة رياح رابعة قيد الإنشاء في بوجدور، وتكشف الوثائق التخطيطية عن عدد آخر من المشروعات قيد التطوير. تمتلك شركة ناريفا جميع مزارع الرياح العاملة حالياً، وهي إحدى الشركات التابعة لشركة قابضة مملوكة للعائلة المالكة المغربية. ومن الجدير بالذكر أن السعودية أيضاً تشارك في الاستثمار الاستعماري الأخضر في الصحراء الغربية المحتلة. تركز السعودية استثماراتها على الطاقة الشمسية. في تشرين الثاني/نوفمبر 2016، في خلال محادثات المناخ (كوب-22)، وقّعت شركة «أكوا باور» السعودية اتفاقية مع الوكالة المغربية للطاقة المستدامة «مازن» لتطوير وتشغيل مجمّع يتألّف من ثلاث محطات للطاقة الشمسية الكهروضوئية. تقع اثنتان من تلك المحطات، اللتان تولدان اليوم 100 ميغاوات من الطاقة، في الصحراء الغربية، في العيون وبوجدور. كما أُصدِرَت لـ«أكوا باور» خططٌ لبناء محطة شمسية ثالثة في الصحراء الغربية في العرقوب قرب الداخلة. ولا يمكن إغفال الطابع الاستعماري لهذه المشروعات، إذ تعمّق الاحتلال المغربي للصحراء الغربية من خلال تعزيز استثماراته الرأسمالية وقدرته الاستغلالية بدعم متواطئ من رأس المال والشركات الأجنبية.

ينظر صنّاع القرار العالميين إلى صحارى العالم العربي على أنّها إلدورادو الطاقة المتجدّدة التي من شأنها تأمين احتياجات أوروبا الماسّة من الطاقة

تَظهَر ديناميةٌ مماثلة، إنْ لم تكن أفظع، في فلسطين المحتلّة. ولا تنفك تتكرر من واقع مشروع صهيوني أحال فلسطين منذ فترة طويلة صحراءَ قاحلة، وبرّر المشروع نفسه بادعاء إحياء الصحراء. وفيما يتعلق بالاستعمار الأخضر على وجه الخصوص، توسّعت جهود إسرائيل بعد توقيع اتفاقيات أبراهام مع الإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب والسودان في العام 2020. بعدها، توالى توقيع اتفاقيات للتنفيذ المشترك للمشروعات البيئية الطاقيّة والأعمال التجارية الزراعية والمياه في تتابع سريع. لقد قدّم التطبيع البيئي، أو استخدام «حماية البيئة» لتطبيع القمع الإسرائيلي والظلم البيئي الناتج عنه في المنطقة العربية وخارجها، غطاءً أساسياً للاستعمار الأخضر 1 .

أضحت الأدلة على الاستعمار الأخضر الإسرائيلي وفيرة الآن. في خلال محادثات المناخ في شرم الشيخ (كوب-27) في تشرين الثاني/نوفمبر 2022، وقّع الأردن وإسرائيل مذكرة تفاهم بوساطة إماراتية. ألزمت المذكرة الموقّعين بمواصلة دراسة الجدوى لمشروعين مترابطين، هما الازدهار الأزرق والازدهار الأخضر، ومعاً يشكِّلان مشروع الازدهار. ينصّ المشروع في جوهره على أن يشتري الأردن 200 مليون متر مكعب من المياه سنوياً من محطّة إسرائيلية لتحلية المياه. وبموجب الاتفاقية، سوف تُقام تلك المحطّة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وتستجر طاقتها من محطّة شمسية كهروضوئية بقدرة 600 ميغاوات في الأردن بنتها شركة مصدر، الشركة الرائدة في مجال الطاقة المتجدّدة المملوكة للدولة في أبوظبي. يبدو أنّها حلقة مُثمرة - باستثناء حقيقة نهب المياه الواقعة في الصميم. الحال أنّ شركة «مكوروت»، الشركة الإسرائيلية التي تدير جزء تحلية المياه من المخطّط، تمثّل ربما الترس الأساسي في الفصل العنصري المائي الإسرائيلي. لا تكتفي هذه الشركة باستجرار مياه نهر الأردن كيفما تشاء، بل تتحكّم بغالبية الموارد المائية الفلسطينية في الضفة الغربية، مستخدمةً سلطتها لإبقاء المسابح ممتلئة في المستوطنات بينما تترك الصناعة والزراعة الفلسطينية في حالة دائمة من التردّي والهشاشة.

بالإضافة إلى ذلك، في آب/أغسطس 2022، انضمّ الأردن إلى المغرب والإمارات العربية المتحدة والسعودية ومصر والبحرين وعمان في توقيع مذكرة تفاهم أخرى مع شركتي طاقة إسرائيليتين (إنلايت غرين إينرجي ونيوميد إينرجي). تتعلّق هذه المذكرة بمشروعات لإنتاج الطاقة الريحية والطاقة الشمسية وتخزين الطاقة على أراضي الدول العربية الموقعة. وعلى غرار مشروع الازدهار الأزرق والأخضر، تعزّز هذه المشروعات سمعة إسرائيل كمركز لتقنيات الطاقة المتجددة الإبداعية. كما تُمكِّنها ضمنياً من مواصلة مشروعها الاستعماري الاستيطاني إلى جانب ترسيخ قوتها الجيوسياسية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

قدّم التطبيع البيئي، أو استخدام «حماية البيئة» لتطبيع القمع الإسرائيلي والظلم البيئي الناتج عنه في المنطقة العربية وخارجها، غطاءً أساسياً للاستعمار الأخضر

الخليج في الاستعمار الأخضر العربي

تعكس مشاركة شركات خليجية، كـ«أكوا باور» السعودية و«مصدر» التابعة لأبوظبي، في مشروعات الطاقة الخضراء المشار إليها، التفاوتات والهرميات والاختلالات التي تشكّل العلاقات بين الدول والعلاقات الطبقية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا اليوم. فمنذ عقود عدّة، صعدت الممالك الخليجية إلى موقعِ قوةٍ إمبراطورية فرعية. فالنخب الحاكمة والرأسماليون البارزون في الخليج لا يتمتعون بثروات أكبر من جيرانهم العرب فحسب، بل يقومون أيضاً بدور الوسيط في تحويل فائض القيمة على المستوى الإقليمي، ما يعيد إنتاج علاقات تشبه علاقة المركز بالأطراف داخل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من خلال عمليات الاستخراج والتهميش والتراكم عبر التجريد من الملكية. فضلاً عن ذلك، يتوسّع نفوذهم شبه الإمبراطوري بسرعة خارج المنطقة ويمتد إلى شرق أفريقيا. ومن بين الآليات المستخدمة لتحقيق هذا الهدف مشروعاتٌ يُفترض أنّها خضراء: مشروعات تعويض الكربون. على سبيل المثال، قامت شركة «بلو كاربون» ومقرها دبي، ويملكها أحد أفراد الأسرة الحاكمة في الإمارة، بتوقيع اتفاقيات مع كينيا وليبيريا وزامبيا وزيمبابوي وتنزانيا لإنتاج أرصدة كربونية (وهي بمثابة تصاريح للتلويث) من ملايين الهكتارات من الغابات. في ليبيريا، تقارب المساحة المستخدمة 10% من إجمالي مساحة البلاد، بينما تمثِّل في زيمبابوي 20% من مساحة البلاد. مشروعات أرصدة الكربون مركزيةٌ للحلول القائمة على السوق التي يروّج لها في محادثات المناخ الدولية، والتي روِّجَ لها بكثافة في مؤتمر كوب-28 في دبي في العام 2023.

الهيدروجين: جبهة الطاقة الجديدة في شمال أفريقيا

في السنوات الأخيرة، بدأت دول وشركات الشمال العالمي في الترويج للهيدروجين كوقود بديل «نظيف» وأساسي للتحول الطاقيّ. يجري في الوقت الحالي إنتاج معظم الهيدروجين عن طريق استخراج الوقود الأحفوري، ليرتبط بالتالي بانبعاثات كربونية كبيرة. يمكن جعل هذه العملية أنظف باستخدام تقنيات احتجاز الكربون. بيد أنّ الخيار الأفضل فيما يتعلق بالهيدروجين أن نتجنّب استخراج الوقود الأحفوري برمته ونستخدم أجهزة التحليل الكهربائي لتفكيك جزيئات الماء. وإذ يمكن فعل ذلك باستخدام الكهرباء من مصادر الطاقة المتجدّدة، فإنّ الناتج النهائي يُعرف بالهيدروجين الأخضر.

لقد أبدى الاتحاد الأوروبي، بتأثير من جماعات الضغط المختلفة، اهتماماً خاصاً بالهيدروجين. وفي العام 2020، وضع الاتحاد هذا المنتج في مركز إطار الصفقة الخضراء الأوروبية، وأعطى الأولوية لزيادة إنتاج الهيدروجين الأخضر من خلال الاستخراج المحلي وإنشاء إمدادات ثابتة من أفريقيا. وقد زادت الحرب الروسية الأوكرانية من أهمية الهيدروجين. لذا، أصبح جزءاً أساسياً من خطة «REPowerEU» التي وضعتها المفوضية الأوروبية لإنهاء الاعتماد على الغاز الروسي. وقال نائب رئيس المفوضية الأوروبية، فرانس تيمرمانس، للبرلمان الأوروبي في أيار/مايو 2022: «أؤمن بشدة أنّ الهيدروجين الأخضر سيكون القوة الدافعة لنظام الطاقة في المستقبل... كما أؤمن بشدة أنّ أوروبا لن تقدر بمفردها على إنتاج الهيدروجين بكميات كافية».

وبلغة الأرقام والإحصائيات، رفعت المفوضية الأوروبية هدفها لإنتاج الهيدروجين للعام 2030 من 5 ملايين طن إلى 20 مليون طن، أي أربعة أضعاف الهدف الأصلي. وعلى الرغم من أنّ الدراسات الحديثة أظهرت أنّ أهداف الاتحاد الأوروبي غير واقعية، فقد أسفر وضع هذه الأهداف عن تأثير جانبي آخر يتمثل في التشجيع على المزيد من عمليات استكشاف الوقود الأحفوري واستغلاله. فإنتاج الهيدروجين، باستثناء النوع الأخضر، يتطلّب بالفعل استخراج الوقود الأحفوري. ومن الجدير بالذكر أنّ شركات النفط والغاز الأوروبية الكبرى تُعد من أكبر داعمي الهيدروجين، إذ ترى فيه وسيلة غير مباشرة لمواصلة عمليات الوقود الأحفوري.

من الجدير بالذكر أنّ شركات النفط والغاز الأوروبية الكبرى تُعد من أكبر داعمي الهيدروجين، إذ ترى فيه وسيلة غير مباشرة لمواصلة عمليات الوقود الأحفوري

اللافت أنّ حوالي نصف الـ 20 مليون طن من الهيدروجين التي تسعى أوروبا للحصول عليها سوف تستوردها من الخارج، وستكون دول شمال أفريقيا المورد الرئيس. في العام 2020، دخلت الحكومة المغربية في شراكة مع ألمانيا لتطوير أول محطة للهيدروجين الأخضر في القارة. تفيد بعض التقديرات أنّ المغرب قد يستحوذ بحلول العام 2030 على ما يصل إلى 4% من سوق (Power-to-X) العالمي (إنتاج الجزيئات الخضراء)، نظراً لـ«موارده المتجدّدة الاستثنائية وسجله الناجح في إنشاء محطات الطاقة المتجددة على نطاق واسع». كما دخلت الشركات الفرنسية إلى السوق المغربية. فقد أطلقت شركة «توتال إرين» الفرنسية مشروع إنتاج هجين يجمع بين الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والهيدروجين والأمونيا الخضراء، باستثمارات تُقدّر بأكثر من 9 مليارات يورو. يغطّي المشروع كامل سلسلة قيمة الهيدروجين الأخضر، بدءاً من إنتاج طاقة الرياح والطاقة الكهروضوئية وصولاً إلى تصدير الهيدروجين. ومن المزمع بدء العمل على المشروع في العام 2025، مع توقع بدء إنتاج الهيدروجين في العام 2027.

وبالمجمل، ستحتاج جهود شركة «توتال إرين» إلى مساحة هائلة تبلغ 170,000 هكتار من الأراضي، صادف أنّها تقع في جهة كلميم واد نون، وبعض هذه الأراضي تقع في الصحراء الغربية المحتلة. والدولة المغربية، إذ ترى نفسها المالك الوحيد للأراضي المعنية، ضمنت تأمينها للمشروع. ولم تكن شركة «توتال إرين» وحدها مَن تتطلع إلى استغلال الأراضي لتوليد الهيدروجين في المغرب والصحراء الغربية. فالشركة الأسترالية «سي دبليو بي غلوبال» تسعى بدورها إلى توقيع اتفاقية مع الحكومة المغربية لبناء مشروع ضخم للهيدروجين الأخضر والأمونيا الخضراء بقيمة 20 مليار دولار.

الخلاصة

تستند عملية التحول الطاقي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على افتراض أنّ أي خطوة نحو إنتاج الطاقة المتجدّدة تستحق الترحيب، وأنّ أي تحول بعيداً من إنتاج الوقود الأحفوري جديرٌ بالاهتمام. بيد أنّ هذا التحوّل يتأسّس على أرضية خطط موجّهة للتصدير غرضها الأساسي تلبية احتياجات الاستهلاك في أوروبا. بهذا الشكل، تتجاهل هذه العملية أسئلة جوهرية تتعلّق بالملكية والفائزين والخاسرين والتكاليف والعوائد وعلاقات القوة. وبمعنى أوسع، فإنّها تدعو إلى حقبة جديدة من الاستعمار الأخضر.

يجب على معركة العدالة المناخية والتحوّل العادل أن تأخذ في الاعتبار الفروقات في المسؤوليات ونقاط الضعف بين دول الشمال والجنوب العالمي. ولا بد من سداد الدين البيئي والمناخي للدول في الجنوب العالمي التي صادف أنّها الأكثر تضرراً من الاحتباس الحراري والتي أُجبرت على الدخول في نظام من الاستخراجية المفترسة نتيجة لآليات النظام الرأسمالي العالمي. لا يجب أن يصبح التحول الأخضر والحديث عن الاستدامة واجهة أخرى لمخططات النهب والهيمنة الاستعمارية الجديدة.

تتجاهل هذه العملية أسئلة جوهرية تتعلّق بالملكية والفائزين والخاسرين والتكاليف والعوائد وعلاقات القوة. وبمعنى أوسع، فإنّها تدعو إلى حقبة جديدة من الاستعمار الأخضر

تُقدِّم أزمة المناخ والحاجة إلى التحوّل الأخضر فرصة لإعادة تشكيل السياسة العالمية من جهات عدّة. ويتطلب التعامل مع هذا التحول الجذري قطع الصلة مع المشروعات العسكرية والاستعمارية والنيوليبرالية القائمة. فبقاء المجتمعات وازدهارها يتطلّب تبني عملية ديمقراطية حقيقية في صنع القرار. وفي هذا السياق، لا بد من منح المجتمعات الأكثر عرضة للتأثر الثقل الذي تستحقه. كما يجب احترام الحقوق العالمية وإعطاء الأولوية لاحتياجات المجتمع الجماعية.

عملياً، يجب أن يكون الهدف النهائي للتحول الطاقي ضمان حصول الجميع على الطاقة الكافية بالإضافة إلى بيئات نظيفة وآمنة للعيش فيها: بمعنى، مستقبل يتماشى مع أفق بيئي اشتراكي يتناغم مع المطالب الثورية للانتفاضات الأفريقية والعربية: سيادة شعبية وعيش وحرّية وعدالة اجتماعية.

 

نُشِر هذا المقال في Noria Research في 28 تموز/يوليو 2024، وتُرجِم وأعيد نشره في موقع «صفر» باتفاق مع الكاتب. 

  • 1تجدر الإشارة إلى أنّ التطبيع بين المغرب وإسرائيل في كانون الثاني/ديسمبر 2020 كان برعاية إمبراطورية (الولايات المتحدة تحت إدارة ترامب) ووافق على الاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء الغربية المتنازع عليها.

حمزة حموشان

باحث وناشط جزائري، معلّق، وعضو مؤسّس في حملة التضامن مع الجزائر، والعدالة البيئية في شمال أفريقيا، وشبكة السيادة الغذائية في شمال أفريقيا. يعمل حالياً منسّقاً لبرنامج المنطقة العربية في المعهد العابر للقوميات كما أنه مؤلّف ومحرّر 4 كتب: «تفكيك الاستعمار الأخضر: عدالة الطاقة والمناخ في المنطقة العربية» (2023)، و«الانتفاضات العربية: عقد من النضالات» (2022)، و«النضال من أجل ديمقراطية الطاقة في المغرب العربي» (2017)، و«الثورة الآتية في شمال أفريقيا: النضال من أجل العدالة المناخية» (2015).

علاء بريك هنيدي

مترجم، حاصل على ماجستير في المحاسبة، وشارك في تأسيس صحيفة المتلمِّس. صدر له ترجمة كتاب ديفيد هارفي «مدخل إلى رأس المال» عن دار فواصل السورية، وكتاب جوزيف ضاهر «الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني» عن دار صفصافة المصرية، وكتاب بيتر درَكر «الابتكار وريادك الأعمال» عن دار رف السعودية، وكانت أولى ترجماته مجموعة مقالات لفلاديمير لينين عن ليف تولستوي صدرت ضمن كراس عن دار أروقة اليمنية. كما نشر ترجمات عدّة مع مواقع صحافية عربية منها مدى مصر، وإضاءات، وذات مصر، وأوان ميديا.