معاينة beirut abandoned building

ماذا يحصل في سوق العقارات اللبنانية منذ الانهيار في العام 2019؟

تقدّم بيانات المديرية العامة للشؤون العقارية في وزارة المال اللبنانية لوحة غير مكتملة عن تحرّكات سوق العقارات في لبنان، كونها لا تتضمن سوى عمليات البيع والشراء المسجّلة نظامياً. فالمعروف أن الكثير من العمليات تتم عبر عقود مؤقتة لدى كتّاب العدل بانتظار تسجيلها لاحقاً، أو تتم عبر التفرّغ عن شركات مالكة للعقارات فتظهر هذه العمليات في السجل التجاري بوصفها انتقال ملكية أسهم وليس ملكية عقارات، وهو ما يعتمده الكثير من التجّار والمضاربين للتهرّب من تسديد ضرائب ورسوم التسجيل العقاري… على الرغم من ذلك، تعكس هذه البيانات جانباً مهماً من تحرّكات السوق وتأثرها بالأحداث والتطوّرات التي يشهدها لبنان، ولا سيما بعد الانهيار النقدي والمصرفي المستمر منذ خريف العام 2019، إذ ارتفع عدد العمليات المسجّلة وقيمتها الإجمالية ومتوسط قيمة العملية الواحدة في خلال السنوات الثلاث اللاحقة، أي في الأعوام 2020 و2021 و2022، لتعكس حركة واسعة حصلت حينها للتخلّص من الودائع العالقة في المصارف عبر شراء العقارات، واستخدام الشيكات المصرفية غير قابلة للتسييل في هذه العمليات، وتعكس أيضاً لجوء الكثير من الأفراد والشركات إلى حفظ قيمة أموالهم في اقتناء العقارات بديلاً عن الاستثمار أو الادخار أو إيداع الأموال النقدية في المصارف.

فيما يلي قراءة موجزة عن تحرّكات سوق العقارات اللبنانية في السنوات الأخيرة:

أولاً، 52.6 مليار دولار مبيعات عقارية مُسجّلة في 6 سنوات

جرى بيع نحو 360,375 عقاراً بقيمة إجمالية بلغت 52.6 مليار دولار بين العام 2020 وأيلول/سبتمبر 2025 وفق بيانات المديرية العامة للشؤون العقارية، أي بمتوسّط 146,046 دولاراً للعقار الواحد، ما يعكس ارتفاعاً بنسبة 10.3% عن متوسّط قيمة العقار الواحد في السنوات الخمس السابقة الممتدّة بين عامي 2015 و2019.  

g1

شهدت المرحلة التي تلت أزمة 2019 (2020-2025) تقلّبات واضحة في حجم المبيعات العقارية. والواقع أنّ 71% من مجمل المبيعات جرت في خلال السنوات الثلاثة الأولى من الأزمة (2020-2021-2022)، واستحوذت على 84.2% من مجمل قيمة المبيعات، وأتت كانعكاس لإفلاس القطاع المصرفي ولجوء شريحة من السكّان إلى شراء العقارات كمخزن أكثر أماناً للقيمة والتخلّص من ودائعها العالقة في المصارف عبر شراء العقارات من خلال الشيكات المصرفية، وهو ما يفسّر جزءاً من ارتفاع قيمة هذه المبيعات، إذ كانت تقيّم الشيكات المصرفية بقيمها الاسمية وليس بقيمها الفعلية التي تخضع للقصّ أسوة بالودائع. لاحقاً، شهد عاما 2023 و2024 تراجعاً في تسجيل عمليات البيع بسبب الإضرابات المستمرّة في الدوائر العقارية والعدوان الإسرائيلي على لبنان. أمّا في العام 2025، فقد عكست السوق تحسناً ملحوظاً في الطلب العقاري، الذي تجاوز مستويات ما قبل الأزمة في 2019، ويأتي ذلك كنتيجة لإعادة فتح دوائر السجل العقاري في بعبدا والمتن والنبطية والجنوب ما أتاح تسجيل عدد كبير من صفقات البيع المؤجّلة، فضلاً عن استئناف منح القروض السكنية عبر مصرف الإسكان ما عزّز قدرة شريحة محدودة من الأسر على تملّك العقارات مجدّداً. 

2- 117 ألف دولار متوسط قيمة العقار الواحد

تراجع متوسّط قيمة العقار في السنوات بين عامي 2020 و2025 بنحو 11.6% بالمقارنة مع متوسطه في الأعوام الخمس السابقة للأزمة (2015 - 2019)، إذ انخفض من 132 ألف دولار إلى 117 ألف دولار. غير أنّ هذه المتوسّطات لا تعكس الصورة الكاملة، إذ شهدت السنوات الثلاث الأولى بعد الأزمة (2020-2022) ارتفاعاً كبيراً في المتوسط السنوي لقيمة العقار، بلغت ذروته في العام 2022 عند 179.5 ألف دولار، أي بزيادة نسبتها 35.6% عن متوسّط ما قبل الأزمة. أمّا في السنوات الثلاث اللاحقة (2023-2025)، فقد سجّلت السوق انخفاضاً حاداً في متوسّط القيمة السنوية للعقار، ليصل إلى نحو 85 ألف دولار في الأشهر التسعة الأولى من العام 2025، أي بتراجع نسبته 58.3% بالمقارنة مع السنوات الثلاث التي سبقتها وبنسبة 47.9% بالمقارنة مع متوسط ما قبل الأزمة. 

g2

تعكس هذه التقلّبات تغيّر تركيبة الطلب في السوق، إذ تركّزت في خلال السنوات الثلاث الأولى بين المغتربين ومن يمتلكون السيولة النقدية وأصحاب الودائع الذين سعوا إلى الحفاظ على قيمة ودائعهم المحتجزة في المصارف من خلال استثمارها في العقار عبر بيع الشيكات المصرفية. في المقابل، شهدت السنوات الثلاث الأخيرة تحوّلاً نحو العقارات الأرخص نتيجة استمرار صعوبات التمويل وغياب القروض السكنية - وهي الأداة الوحيدة التي تتيح التملّك لشريحة واسعة من ذوي الدخل المحدود في لبنان الذين تراجعت قدرتهم الشرائية - ما شكّل عائقاً رئيساً أمام تحسّن الطلب. 

3- انخفاض أسعار الشقق الصغيرة واقتراب أسعار الشقق الفاخرة من مستوياتها السابقة

سجّلت أسعار الشقق الصغيرة والمتوسّطة وتلك الواقعة في المناطق الطرفية أو على أطراف بيروت انخفاضاً تراوح بين 20%-30% في خلال السنوات الست الأخيرة بالمقارنة مع مستوياتها ما قبل الأزمة، في حين اقتربت أسعار الشقق الفاخرة وتلك الواقعة في بيروت من مستوياتها السابقة للأزمة.

وتُظهر التحوّلات الديموغرافية الراهنة تبدّلاً في أنماط الطلب العقاري، إذ يزداد عدد الشباب الذين يفضّلون الإيجارات أو العقارات منخفضة الجودة، في حين تتركّز الفئات الأكبر سناً على توسيع منازلها القائمة أو صيانتها. كما أسهم ارتفاع معدّل التمدّن الناتج عن قلّة فرص العمل في المناطق الريفية في جعل المشاريع العقارية في الأرياف أقل جذباً للمستثمرين، في حين تراجع الطلب على الشقق الصغيرة والمتوسطة المطلوبة تقليدياً من ذوي الدخل المحدود الذين تقلّصت قدرتهم الشرائية بشكل ملحوظ، ما أدّى إلى انخفاض قيمتها السوقية. في المقابل، أصبحت السوق الحضرية مشبعة ومرتفعة الأسعار، ما صعّب على المقيمين شراء الشقق، وقلّل في الوقت نفسه من جاذبية السوق اللبنانية للاستثمار الأجنبي، خصوصاً أن الأسعار في بيروت وبعبدا، على سبيل المثال، تضاهي الأسعار في مدن مثل أنقرة والإسكندرية والجيزة وإسطنبول على الرغم من أن هذه المدن أكثر استقراراً وتقدّم عائداً استثمارياً أعلى.