Preview قمة باريس

موتلي في باريس ومودي في واشنطن

في خلال هذا الأسبوع، يجتمع في باريس عدد من رؤساء الدول من بينها الصين والبرازيل وإندونيسيا، ونحو 12 بلداً أفريقياً من بينها كينيا وزامبيا والسنغال، لحضور قمّة من أجل ميثاق تمويل عالمي جديد، دعا إليها كلّ من رئيسة مجلس وزراء بربادوس ميا موتلي والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في خلال المؤتمر السابع والعشرين للأطراف في اتفاقية الأمم المتّحدة الإطارية بشأن تغيّر المناخ في العام الماضي. وتهدف القمّة الجديدة إلى إصلاح البنية الماليّة العالميّة بهدف «صياغة عقد جديد بين دول الشمال والجنوب». بيد أنّ الحضور لن يشمل البعض، ومن بينهم جو بايدن (رئيس الولايات المتّحدة الأميركية) وناريندرا مودي (رئيس الوزراء الهندي)، اللذين سوف يجتمعان في واشنطن، ومن المرجّح أن يُعلنا عن اتفاقيّة الشمال-الجنوب من أجل تصنيع محرّكات طائرات جنرال إلكتريك المُقاتلة من قبل شركة هندوستان آيرونوتيكس في الهند.

لقي إعلان إدارة بايدن عن «إجماع واشنطن الجديد» - وهو مصطلح أطلقه مستشار الأمن القومي جايك سوليفان في خطابٍ ألقاه في نيسان/أبريل الماضي على الاستراتيجيّة الصناعيّة الجديدة للولايات المتّحدة وانعكاساتها الجغرافيّة والاقتصاديّة - معارضة من أوروبا وحلفاء آخرين. فأتى الردّ من مسؤولين أميركيين بدعوة الأوروبيين إلى عدم الاعتراض على الحمائيّة، وأن يحاولوا تطبيق إجراءات مماثلة. في الواقع، إن اعتماد نهج الاستثمار أولاً لإحداث تحوّل في مجال الطاقة ممكنٌ في البلدان الغنيّة التي تنجح حكوماتها في حشد الإرادة السياسيّة. وقد تتمكّن البلدان المتوسّطة الدخل من محاكاة السياسة الصناعيّة الجديدة إلى حدّ ما، فمعالجة النيكل في إندونيسيا وتطوير تقنيّات السيّارات الكهربائيّة والبطّاريات في الهند مثالان عن هذه المحاولات. في حين تبقى خيارات البلدان الأصغر والأفقر والأكثر ضعفاً محدودة إبّان إغلاق أسواق رأس المال، وارتفاع مدفوعات الفائدة، وانخفاض قيمة العملات.

تبقى خيارات البلدان الأصغر والأفقر والأكثر ضعفاً محدودة إبّان إغلاق أسواق رأس المال، وارتفاع مدفوعات الفائدة، وانخفاض قيمة العملاتفي خطابٍ لافت في الشهر الماضي، أقرّت المسؤولة السابقة في مجلس الأمن القومي الأميركي فيونا هيل بأنّ «الباقين» - أي القوى الوسطى أو الدول المتأرجحة - يتمرّدون على الغرب. ووصفت هيل بصراحة غير مألوفة عدم اهتمام حكومات الجنوب العالمي بالحرب في أوكرانيا - التي تثير الكثير من القلق في دول الشمال - بأنّه «رغبة في الابتعاد عن الفوضى الأوروبيّة أكثر ممّا هو حركة مُتماسكة». كذلك أشارت هيل إلى أنّ «حركة عدم الانحياز التي برزت في حقبة الحرب الباردة قد عاودت الظهور مجدّداً»، وأنّ البلدان النامية لا تريد أن «تكون عالقة في صراع العمالقة بين الولايات المتّحدة والصين». واستشهدت بمحاور هندي لم تذكر اسمه سأل «أين تكونون عندما تسوء أمورنا؟».

قمة باريس

إنّ البلدان التي سارعت بالردّ بشكلٍ موحّد على الغزو الروسي لأوكرانيا كانت أبطأ بكثير في استجابتها لحضور قمّة تتناول المخاوف الماليّة للبلدان النامية. وعلى الرغم من ذكر هذه المسألة كـ«نقطة رئيسة» في بيان مجموعة السبع في هيروشيما في خلال الشهر الماضي، فألمانيا وفرنسا هما البلدان الثريّان الوحيدان اللذان أعلنا مشاركة رئيسيهما حتّى الآن. (سوف يكون رئيس مجلس الوزراء البريطاني ريشي سوناك في مؤتمر إعادة إعمار أوكرانيا في لندن).

العظيم والجيّد

إنّ المواضيع المُقترحة للنقاش في قمّة باريس معقّدة فنياً وسياسياً. وأي جهة تحثّ على التغيير - سواء أكانت حكومة أم تكنوقراط أو نشطاء أو أكاديميين - تدرك ضرورة موازنة الطموح مع إمكانيّات تحقيقه وفاعليّته سياسياً.

قمة باريس

وتزيد الحاجة لذلك في ظلّ دخول عدد من البلدان في مفاوضات مطوّلة بشأن الديون، وترنّح نحو 61 دولة أخرى على شفير الوقوع في أزمة ديون. إنّ السعي المنهجي لإصلاح الهيكليّة الماليّة العالميّة مستمرّ منذ عقود لكن من دون إحراز أي تقدّم يُذكر، أيضاً لا يوجد أي منتدى للبلدان التي تواجه مشاكل في سداد الديون من أجل تسهيل الاتفاق مع الدائنين. (لقد فشلت الجهود المبذولة لإدخال أنظمة مماثلة في العامين 2002 و2015). فيما أسفر التقدّم المُحرز حتّى الآن على صعيد إصلاح النظام الضريبي العالمي عن أرضيّة غير متينة، يخضع تنظيمها لسيطرة البلدان الغنيّة. كذلك لا تزال كفّة الحصص لإدارة صندوق النقد الدولي ترجح نحو الاقتصادات المتقدّمة، فضلاً عن أنّ العمل مستمرّ بنظام التصنيف الائتماني السيادي المَعيب. يميل البنك الدولي وأقرانه إلى الإقراض على أساس المشروع، ويواصل صندوق النقد الدولي العمل بوصف تدابيره التقشّفية على البلدان التي هي في أمس الحاجة إلى أن الدعم بالسيولة. وحتّى الآن، لم تسفر الإصلاحات في البنك الدولي سوى عن زيادة قروضه بنحو 5 مليارات دولار سنوياً - وهو رقم ضئيل مقارنة بقروضه القائمة البالغة نحو 240 مليار دولار، وأقل حتّى من التريليون دولار من التمويل السنوي اللازم من أجل تحقيق أهداف التنمية والمناخ.

حتّى أكثر الاقتراحات تواضعاً، التي لا تنطوي على أي تكلفة أو تكلفة ضئيلة على الدول الغنيّة، قوبلت بمعارضةٍ. على سبيل المثال، إحدى النتائج «المُعلنة» المطروحة لقمّة باريس هي التأكيد على إعادة تحويل نحو 100 مليار دولار من حقوق السحب الخاصّة - وهي عملة احتياطيّة يصدرها صندوق النقد الدولي - سبق أن وعدت البلدان الغنيّة بصرفها لصالح البلدان الفقيرة.

قمة باريس

ما تعبّر عنه قواعد صندوق النقد الدولي هو أنّ معظم وحدات حقوق السحب الخاصّة صُرِفت لصالح أغنى الاقتصادات. لقد أنفقت الكثير من البلدان المتوسّطة والمنخفضة الدخل، بسرعة، الجزء الأكبر ممّا تلقّته من أجل سداد الديون ودعم الميزانيّات المحليّة، وبالتالي هي في حاجّة ماسّة إلى التمويل، لكن لا بدّ من تحويل الأموال بما يتواءم مع قواعد صندوق النقد الدولي والمتطلّبات القانونيّة في كلّ بلد. في العام الماضي، أنشأ الصندوق مرفقاً جديداً، وهو الصندوق الاستئماني للصلابة والاستدامة، من أجل تلقّي حقوق السحب الخاصّة «المُعاد تحويلها» من البلدان الغنيّة وتوزيعها على البلدان النامية. وعلى الرغم من أنّ الصندوق يتسم بميزات جديدة مثل الإقراض الطويل الأجل وأهليّة الاقتصادات المتوسّطة والمنخفضة الدخل، فإنه يتطلّب أن تكون البلدان خاضعة لبرنامج تمويلي موازٍ مع صندوق النقد الدولي، ما يعني الخضوع لإرشادات سياسات صندوق النقد الدولي. في أي حال، لا يستطيع الصندوق الاستئماني امتصاص المئة مليار دولار المُخصّصة لإعادة التحويل بالكامل. وحتّى مع احتساب الصندوق الاستئماني للنمو والحدّ من الفقر (المرفق التمويلي الآخر ذو الأهلية التابع لصندوق النقد الدولي)، لا بدّ من التوصّل إلى آليّة إضافيّة لتوزيع نحو 37 مليار دولار من حقوق السحب الخاصّة المُخصّصة لإعادة التحويل. إلى ذلك، يصرّ البنك المركزي الأوروبي على أنّ أنظمته الخاصّة تمنعه من إعادة تحويل حقوق السحب الخاصّة إلى مرافق بديلة، مثل بنوك التنمية المُتعدّدة الأطراف، على الرغم من وجود مقترحات مُفصّلة لتخطّي هذه المشكلة.

تظهر بعض البنود المُدرجة على جدول الأعمال طموحات أكبر من مجرّد تلبية الالتزامات الحاليّة، من ضمنها اقتراح من أجل اعتماد بنود الكوارث الطبيعيّة على نطاق واسع في عقود السندات السياديّة، التي من شأنها تعليق سداد الديون تلقائياً في حالة وقوع كوارث كبيرة مثل الجوائح أو الأعاصير. ومن المفترض أن يكون هذا الإجراء أيضاً سهل التنفيذ نسبياً. تدرج كلّ من باربادوس وغرناطة وجزر البهاما هذه البنود ضمن السندات التي تصدرها، وقد جرى تطوير بند نموذجي من قبل الرابطة الدوليّة لسوق رأس المال. لكن الإشارات على أن البلدان الغنيّة سوف تلزم شركاتها الماليّة، أو حتّى الدائنين الرسميين فيها، باعتماد بنود مماثلة قليلة.

اعتماد بنود الكوارث الطبيعيّة على نطاق واسع في عقود السندات السياديّة، التي من شأنها تعليق سداد الديون تلقائياً في حالة وقوع كوارث كبيرة مثل الجوائح أو الأعاصيركذلك تبرز طموحات أخرى متفرّقة من أجل تخفيف أعباء الديون على نطاق واسع، وهي تذكّرنا ببرنامج تخفيف أعباء الديون على البلدان الفقيرة المثقلة بها المدعوم الذي أطلق في التسعينيات بدعمٍ شعبي. وبوصفها ركيزة أساسيّة في جدول أعمال بريدج تاون، طرحت بربادوس آليّة لتقليص التكاليف المرتبطة بمخاطر العملات الأجنبيّة في سياقات الاستثمار في البلدان النامية، وبالتالي جعل الاقتراض أرخص. أيضاً، وبدعوة من الأليزيه، دقّقت مجموعة عمل في تطبيق مبدأ «تغريم الملوّث» للتعويض عن الأضرار المناخيّة. يشمل جدول الأعمال الرسمي ضريبة عالميّة على استخراج الوقود الأحفوري للتعويض عن الخسائر المتزايدة المرتبطة بتغيّر المناخ في البلدان الفقيرة التي قد تجمع نحو 150 مليار دولار، بالإضافة إلى ضريبة على شحن الوقود قد تجمع نحو 40 مليار إلى 60 مليار دولار سنوياً. وكذلك تنادي مجموعات حملات الديون بفرض ضريبة بنسبة 5% على أصحاب الملايين قد تجمع نحو 1.7 تريليون دولار سنوياً. وعلى الرغم من عدم التطرّق إلى هذه الأمر كثيراً، إلّا أن الكونغرس الأميركي جمع إيرادات لقانون الحدّ من التضخّم عبر فرض ضرائب مماثلة على الأميركيين الأغنياء والملوّثين.

قمة باريس

الفضاء السياسي

قبل أن تحتلّ أزمة سقف الديون مركز الصدارة، مثَّل إصلاح البنك الدولي إحدى الأولويّات القصوى لوزارة الخزانة الأميركية. فقد أكّدت وزيرة الخزانة جانيت يلين أنّ البنك يجب أن يقرض بسخاءٍ أكبر، وأن يتعامل مع مسألة المناخ بجدّية أكبر. واقترحت أيضاً أن يتبنّى البنك منظوراً أوسع يتخطّى المشاريع المنفردة، مقرّة بأنّ «تنفيذ بعض الأفكار سيكون أسهل، فيما سيكون تنفيذ بعضها الآخر أصعب». 

نظرياً، يمكن للولايات المتّحدة، من خلال استخدام حقّ الفيتو في مؤسّسات بريتون وودز، أن تمرّر الكثير من الإصلاحات والتعديلات المُقترحة. فضلاً عن أنّ رئيس البنك الدولي الجديد، أجاي بانجا، معيّن من قبل الولايات المتّحدة بموجب الاتفاقية التأسيسية. (عادة يترأّس أوروبي صندوق النقد الدولي). لكن مع اقتراب موعد الانتخابات الأميركية في العام المقبل، تتردّد إدارة بايدن في اتخاذ أي إجراء قد يُعتبر بمثابة توزيع للأموال على البلدان النامية. 

بالنظر إلى اقتراب موعد الانتخابات الهندية في العام 2024، يبحث مودي عن صفقات ثنائيّة أسرع مع الولايات المتّحدة تسهم في خلق فرص العمل وتوطين الصناعات محلّياًأمّا يلين، التي ستحضر القمّة في باريس، فقد أقرّت هذا الأسبوع أمام الكونغرس بأنّ صندوق النقد الدولي والبنك الدولي مهمّان استراتيجياً بالنسبة إلى الولايات المتّحدة. وقالت إن «هذه الاستثمارات سوف تعزّز انخراطنا في هذه المناطق في هذا الوقت الذي يشهد منافسة جيوسياسيّة»، مشيرة إلى المضي قدماً في إعادة تحويل حقوق السحب الخاصّة وتعزيز المشاركة في برامج صندوق النقد الدولي الأخرى. لكن من غير المرجّح أن تُقنع الحزب الجمهوري، الذي يسيطر على لجنة الخدمات الماليّة في مجلس النواب حيث أدلت يلين بشهادتها. لدى الحزب الجمهوري اقتراحاً أبسط لإصلاح مؤسّسة بريتون وودز يقضي بعدم حظر استثمارات الوقود الأحفوري.

لا تشكّل المطالب السياسة الداخليّة وحدها قيداً على الهيمنة العالمية. في الواقع، لا تريد الهند أن تصبح الصين بطلة الجنوب، فقد أشار ناريندرا مودي إلى «الجنوب العالمي» للمرّة الأولى في قمّة شارك فيها 125 بلداً نامياً في دلهي. وعلى الرغم من أنّ الهند لا تواجه أي أزمة ديون، فقد استغلّت رئاستها لمجموعة العشرين هذا العام من أجل إطلاق طاولة حوار عالميّة بشأن الديون السياديّة مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بهدف معالجة عمليّة إعادة هيكلة الديون السياديّة، وتتمثّل فيها كلّ مجموعات الدائنين من ضمنهم حملة السندات والصين.

لكن بالنظر إلى اقتراب موعد الانتخابات الهندية في العام 2024، يبحث مودي عن صفقات ثنائيّة أسرع مع الولايات المتّحدة تسهم في خلق فرص العمل وتوطين الصناعات محلّياً. لقد تبيّن أنّ نقل تكنولوجيا مُحركات الطائرات المقاتلة والرقاقات الأميركية من أجل تصنيعها في الهند هو أكثر جاذبيّة من الخوض في مستنقع أجندة إصلاح دوليّة.

وفي الوقت نفسه، منذ رفع أسعار الفائدة في العام 2021، تتكبّد البلدان المنخفضة والمتوسّطة الدخل تكاليف إضافية من أجل تسديد مدفوعات الفائدة، تفوق ما يتوجّب عليها إنفاقه سنوياً لتنفيذ خطط العمل الوطنيّة المنصوص عليها في اتفاقيّة باريس للمناخ. وبالتالي، فيما تتزايد الصعوبات الماليّة، فإنّ نصف البلدان المنخفضة الدخل مُعرّضة لأزمة ديون. في قمّة باريس، لا بدّ من أن تحظى حتّى المقترحات المتواضعة للحلول الإضافية بدعم كبير للتقدّم في سبل التغيير القليلة والضيّقة، فالدخان المتصاعد من الغابات المحترقة في جميع أنحاء أميركا الشماليّة هو التذكير الأمثل بمصيرنا المشترك، عدا أن المزيج المكوَّن من مدفوعات الديون المُتضخّمة، والجوع، وانقطاع التيّار الكهربائي، وعدم الاستقرار السياسي يحرق بالقدر نفسه.

تُرجِم هذا المقال في Phenomenal World في 15 حزيران/يونيو 2023.