معاينة forced displacement palestine

خططٌ كثيرة لهدفٍ واحد:
تطهير فلسطين من الفلسطينيين

وسط حفلة الجنون التي تكشفها المقترحات المتتالية لـ«مستقبل غزة»، من «ترامب ريفييرا» إلى «مدينة إنسانية» لا يُسمَح للغزيين الخروج منها، يظهر الوجه المحدَّث للمشروع الصهيوني مُدعّماً بـ«اتفاقية أبراهام»: تحويل التهجير الجماعي إلى خطة استثمارية عابرة للحدود. ما يُسوَّق له اليوم كـ«فرصة تاريخية» لإعادة إعمار غزة ليس سوى تحديث فجّ لاستراتيجية عمرها أكثر من 70 عاماً: طرد الفلسطينيين وإعادة هندسة الأرض والهوية معاً لصالح تمدّد الاحتلال وتثبيته.

وفيما تركّز المقترحات المتداولة على غزة، تشهد الضفّة عمليات تهجير بطيئة صامتة ومستمرّة من إخلاءات قرى مسافر يطا إلى تدمير مخيم جنين إلى أنفاقٍ تقطّع أوصال الفلسطينيين عن القدس. تتشابك هذه الخطط في سياق واحد: نكبة مستمرّة تتّخذ أشكالًا أكثر حداثة وعنفاً كلّما ازدهرت لغة «السلام الاقتصادي» و«الهندسة الديموغرافية» على أنقاض منازل الفلسطينيين وجثثهم.

منذ عام 2022، بدأ مسار قضائي إسرائيلي معقّد استهدف فرض الإخلاء الكامل لسكّان مسافر يطا تحت ذرائع أمنية وعسكرية

بُني المشروع الصهيوني على فكرة التهجير القسري للفلسطينيين كجزءٍ جوهري من الخطة الاستعمارية التي نشأت عليها دولة الاحتلال. لم يكن عام 1948 سوى محطّة تأسيسية لهذه السياسة. في ذلك العام، هجّرت العصابات الصهيونية، ثم الجيش الإسرائيلي، بقوة السلاح والعنف قرابة 750 ألف فلسطيني من مدنهم وقراهم، وهُدمت أكثر من 400 بلدة فلسطينية أو أُفرغت من سكّانها. لجأ الفلسطينيون منذ ذلك الحين إلى الضفة الغربية وغزة وإلى لبنان وسوريا والأردن، وتكوّنت عشرات المخيمات داخل فلسطين وخارجها حتى باتت تضمّ اليوم أكثر من 6 ملايين لاجئ. 

لم تكن الترحيلات عشوائية بل ممنهجة، وجاءت مقترنة بتشريعات وضعتها سلطات الاحتلال مثل «قانون أملاك الغائبين» (1950) الذي استولى على أراضي المهجرين ووزّعها على المستوطنين، وأسّس لاحقاً لتوسيع السيطرة على الموارد الطبيعية والمناطق الاستراتيجية مثل وادي الأردن الغني بالمياه وصحراء النقب والمدن الساحلية المفتوحة على البحر المتوسط. وما زال أكثر من 2 مليون فلسطيني من فلسطينيي الداخل يعيشون على أطلال قرى آبائهم تحت تهديد الهدم المستمرّ، كما في النقب والجليل، حيث تستمر عمليات الإخلاء والهدم حتى يومنا هذا.

امتدّت سياسة التهجير القسري بعد عام 1967 إلى مناطق جديدة وظهرت أوامر «التفريغ السكّاني» في الأغوار ومسافر يطا وغيرها من المناطق الفلسطينية التي تعدّ استراتيجية بالنسبة لخطط الاحتلال التوسّعية.

مسافر يطا، التجمّع البدوي الواسع الواقع جنوب شرق الخليل في الضفة الغربية، يمثّل واحدة من أكثر المناطق الفلسطينية تعرّضاً لسياسة التهجير القسري الممنهجة التي تتّبعها السلطات الإسرائيلية منذ عقود. يعيش في المنطقة حوالي 15 ألف فلسطيني موزّعين على أكثر من 20 قرية، يعتمدون في معيشتهم على الرعي والزراعة. في عام 1981، عُقد اجتماع عسكري إسرائيلي سرّي وضع مسافر يطا ضمن خارطة أولويات الاحتلال لتفريغ المنطقة قسراً لصالح توسعة المستوطنات ومناطق التدريبات العسكرية. كان هذا الاجتماع نقطة تحوّل في سياسة تهجير سكان المنطقة، حيث تمّ استهداف القرى والبلدات البدوية بطريقة ممنهجة وأُنشئت أكثر من 16 بؤرة استيطانية على التلال المحيطة باتت تشكّل حزاماً يلتفّ حول القرى، إلى جانب إعلان مساحة 32 ألف دونم من مسافر يطا كمنطقة تدريب عسكري. 

وعلى مدى العقود التالية، تصاعدت حملات الهدم والإخلاء لتصل ذروتها في العقد الأخير. ومنذ عام 2022، بدأ مسار قضائي إسرائيلي معقّد استهدف فرض الإخلاء الكامل لسكّان مسافر يطا تحت ذرائع أمنية وعسكرية. في 2023 و2024، شهدت المنطقة أكثر من 70 عملية هدم وإخلاء طالت منازل وممتلكات الفلسطينيين ما دفع مئات العائلات للنزوح القسري.

وفي شهر حزيران/يونيو الماضي، أصدرت المحكمة الإسرائيلية العليا قراراً يسمح بإخلاء المنطقة بالكامل، وهو قرار جاء بعد سنوات من الاستئنافات والطعون التي قدّمها السكّان والمنظمات الحقوقية، لكنها وصلت إلى حائط مسدود في ظل ضغوط سياسية وأمنية متزايدة. القرار القضائي يُعدّ تتويجاً لمسلسل طويل من الضغوط التي تهدف إلى إنهاء وجود الفلسطينيين في هذه البقعة الاستراتيجية من فلسطين. لم تُفرَّغ مسافر يطا بالكامل بعد، ولكن عمليات التضييق والتطويق من قبل المستوطنين مستمرّة، من اعتداءات وحرق منازل الفلسطينيين وتدمير المدارس وتسميم الأراضي الزراعية. ويشهد عنف المستوطنين تصاعداً ملحوظاً بعد أحداث تشرين الأول/أكتوبر 2023، مع تعزيز النفوذ السياسي لليمين المتطرّف الإسرائيلي ما وفّر للمستوطنين غطاءً شبه مطلق يسمح لهم بالتصرّف بحرية من دون أي رادع.

غزة - ترامب: «نقوم بتنظيف هذا الشيء»

لم تتوقّف خطط الاحتلال لإفراغ غزة من أهلها منذ بداية النكبة. وضعت الحكومة الاسرائيلية مخططاً للتهجير «الطوعي» عام 1968 وأنشأت وحدة سرية لتشجيع السكان على الهجرة من قطاع غزة إما إلى الضفة أو إلى خارج فلسطين. لكن أهل غزة رفضوا مغادرة أراضيهم رغم المغريات فقررت إسرائيل إنهاء المشروع بعد أن تبيّن أن 97% من سكان القطاع ظلوا في أراضيهم، وأن الخطة لم تحقق أي نتائج عملية. بعدها لجأت الحكومات الاسرائيلية المتتالية إلى مشاريع مختلفة لتهجير الغزّيين إلى معسكرات في أريحا مثلاً تحت ستار توفير فرص عمل لهم كخطوة أولى من أجل تهجيرهم إلى الأردن فيما بعد، ثم مشاريع بمغريات تأمين فرص تعليم مهني لهم من أجل تهجيرهم إلى بلدان عربية بحاجة ليد عاملة…

وبعد الحصار وتضييق الخناق على أهل غزة طوال 20 سنة، فتحت الإبادة المستمرة منذ 2023 الباب واسعاً مجدداً أمام سياسات التهجير الاسرائيلية بأشكالها الأكثر عنفاً وشمولاً. واللافت أن الإعلان عن طرد السكّان والإمعان بتدمير مساحات كبيرة مأهولة بهدف الاستيلاء عليها بات صريحاً وبعض الانظمة العربية والغربية طبّعت معه ودخلت في صفقاته. إذ منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، يواجه قطاع غزة واحدة من أكثر حملات التدمير وحشيةً منذ النكبة. 

أظهرت بيانات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) أنه حتى منتصف 2025:

  • تضرّرت 65% من البنى التحتية: شبكات المياه، الكهرباء، المدارس، المستشفيات.

  • تعرَّض أكثر من 120 ألف منزل للهدم الكلّي أو الجزئي.

  • يعيش أكثر من 85% من السكان تحت خط الفقر، وأكثر من 1.5 مليون فلسطيني محاصرون في رفح وحدها.

واضطرّ الغزّيون إلى النزوح الجماعي أكثر من أربع مرّات خلال عامين، من شمال غزة إلى الجنوب ثم إلى جيوب مغلقة في سيناريو متكرّر من التهجير. 

«أودّ أن تأخذ مصر الناس. وأودّ أن تأخذ الأردن الناس. نتحدّث عن مليون ونصف المليون شخص، ونحن نقوم بتنظيف هذا الشيء بالكامل»، تلك كانت التصريحات العلنية الأولى للرئيس الأميركي دونالد ترامب بداية العام الحالي بشأن تهجير أهل غزة. بعد أسبوع واحد من تولّيه رئاسة الولايات المتحدة الأميركية في كانون الثاني/يناير 2025، أعلن ترامب أنه سيتحدّث مع الرئيسين الأردني والمصري بشأن نقل الغزيين إلى الدول المجاورة بينها الأردن وشبه جزيرة سيناء. قوبل حينها هذا الطرح برفض مصري رسمي علني. 

أُعيد تقديم غزة للعالم في خطاب بعض العواصم الغربية والعربية كـ «فرصة استثمارية» واعدة، يمكن تحويلها إلى «سنغافورة المتوسط» متى تمّ «تحريرها» من أهلها

بعد أيام من الإعلان، و في مؤتمر صحافي مشترك مع رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو في شباط/فبراير 2025 قال ترامب حرفياً إن «الولايات المتحدة ستتولّى السيطرة على قطاع غزة (...) سنسوّي الموقع بالأرض ونتخلّص من المباني المدمّرة، ونخلق تنمية اقتصادية من شأنها أن توفّر عدداً غير محدود من الوظائف والمساكن لسكان المنطقة، وسنفعل شيئاً مختلفاً». وفي هذا المؤتمر أطلق ترامب عبارته الشهيرة حول تحويل غزة إلى «ريفييرا الشرق الأوسط». وبعد أسابيع من تصريحاته تلك نشر ترامب على حساباته على السوشل ميديا فيديو ـ سَمِج ـ مشغول بالذكاء الاصطناعي يعرض في 30 ثانية تصوّراً متخيَّلاً لمدينة غزة في المستقبل على وقع أغنية تردّد «دونالد ترامب سيحرّركم، وسيجلب الحياة للجميع، لا مزيد من الأنفاق، لا مزيد من الخوف، غزة ترامب أخيراً هنا!». 

لم تكن تصريحات ترامب الفجّة تلك سوى تعبيراً علنياً عن مشاريع أكثر فجاجة وخططاً متطرّفة حدّ السوريالية، كانت تُحضَّر منذ فترة عُرضت عليه وعلى فريق عمله في البيت الأبيض. بعض هذه المشاريع تتقاطع مع خطط التطبيع السياسي ـ الاقتصادي التي ظهرت مع «اتفاقات أبراهام» ما يعطيها غطاءً إقليمياً. 

المشاريع المعنلة لتحويل غزة وتهجير أهلها

لم يكن التدمير الواسع الذي طال غزة منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023 والمستمرّ لغاية اليوم، نتيجة جانبية للعدوان العسكري الوحشي بل شكّل أرضية خصبة لخطّة إعادة تشكيل القطاع اقتصادياً بما يخدم مشروع «الهندسة الديموغرافية» التي تنادي بها حكومة الاحتلال ومراكز أبحاثه الأمنية والاقتصادية منذ عقود. فقد أُعيد تقديم غزة للعالم في خطاب بعض العواصم الغربية والعربية كـ «فرصة استثمارية» واعدة، يمكن تحويلها إلى «سنغافورة المتوسط» متى تمّ «تحريرها» من أهلها أو حشرهم داخل مساحة مسوّرة مقفلة ممنوعون من الخروج منها.

  • مشروع «درع أبراهام»

تروّج مبادرة اسرائيلية أُنشئت في العام 2024 باسم «الائتلاف من أجل الأمن الإقليمي»، وهي مجموعة ضغط إسرائيلية تتكوّن من مسؤولين أمنيين سابقين وباحثين ورجال أعمال، مشروعاً أطلقت عليه اسم «درع أبراهام» (Abraham Shield) ينطلق من اتفاقيات التطبيع الأخيرة بين الاحتلال ودول المنطقة لطرح خطةٍ لإدارة قطاع غزة وتسوية الأوضاع مع سوريا ولبنان وإيران. خطّة «درع أبراهام» تهيّئ الأرض لاستثمارات في المنتجعات والموانئ والمناطق الحرّة، بينما يُترك سكان غزة في مخيمات «العبور الإنساني» في رفح أو ربما خارج القطاع. تنصّ الخطة أيضاً على «تصفير التداول النقدي» داخل غزة، ما يعني تفكيك الاقتصاد المحلّي وربط أي دخل فردي مستقبلي بالبنى المالية الخاضعة للاحتلال ومموّليه الخليجيين والغربيين.

  • مشروع «الثقة العظمى»

على وقع عمليات قتل الغزيين الذين توجّهوا للحصول على بعض المساعدات الغذائية، طُرحت أمام العالم بداية شهر تموز/يوليو الحالي رؤيةً تبدو أشبه بسيناريو من عالم موازٍ: غزة 2035 كمدينة نموذجية للسلام الاقتصادي. مدينة مصمَّمة للاستثمار العالمي بمركز لوجستي متطوّر وبنية تحتية عصرية، ومن دون سكّانها الأصليين. 

مشروع أطلق القائمون عليه اسم «الثقة العظمى» (The Great Trust) واطّلعت عليه صحيفة «فاينانشل تايمز» البريطانية ونشرت بعض تفاصيله. لا يقتصر جوهر هذه الخطة على إعادة إعمار القطاع المنكوب، بل يتجاوز ذلك إلى هندسته من جديد كمنطقة استثمارية عملاقة يُعاد تشكيلها دون معظم أهلها تحت شعار «إحياء الاقتصاد» و«استغلال الفرصة التاريخية» التي أتاحها الدمار الشامل.

معاينة إحدى صور مخطط مشروع «الثقة العظمى» الذي نشرت تفاصيله صحيفة «فاينانشل تايمز»

إحدى صور مخطط مشروع «الثقة العظمى» الذي نشرت تفاصيله صحيفة «فاينانشل تايمز»

 

بدأ إعداد هذا المخطط في ذروة الإبادة في غزة، عندما اجتمع عدد من رجال الأعمال الإسرائيليين ومستثمرين من قطاعات التكنولوجيا والمال، بدعم من استشاريين داخل شركة «بوسطن للاستشارات» (BCG)، ووُضعت التصوّرات المالية على شكل عرض تقديمي تفصيلي قُدِّم لأطراف في الإدارة الأمريكية، ولدوائر مرتبطة بالإدارة السابقة لدونالد ترامب. وتبيّن لاحقاً أن موظفين من «معهد توني بلير» شاركوا في مجموعات محادثة ونقاشات مغلقة، وقدّم بعضهم وثائق داخلية تروّج لفكرة تحويل غزة إلى «درّة اقتصادية» على شاكلة دبي أو سنغافورة، رغم نفي المعهد أي تبنٍّ لفكرة التهجير الجماعي.

يتلّخص المشروع في سلسلة «مشاريع كبرى» مثل «ترامب ريفييرا»، وهو مخطط يحاكي الجزر الاصطناعية على ساحل دبي، و«منطقة ماسك للتصنيع الذكي» التي يُفترض أن تستضيف مصانع سيارات كهربائية مروراً بممرات لوجستية ضخمة تربط غزة بالموانئ الإقليمية وتُسهل دمجها في ممرات تجارية بين الخليج وأوروبا. حتى أسماء بعض الطرق المقترحة لم تُخفِ الرمزية السياسية مثل «طريق إم بي إس» و«مركز إم بي زد»، نسبة إلى ولي عهد السعودية وولي عهد الإمارات.

تراهن الخطة على دفع نحو نصف مليون فلسطيني، أي ربع سكان غزة تقريباً، إلى المغادرة «طوعاً» عبر حوافز نقدية وتعويضات تصل إلى تسعة آلاف دولار للفرد، مع تقديم سكن مؤقّت لمن يختار البقاء حتى يُعاد «تأهيل» القطاع ديموغرافياً وأمنياً. وتعتبر الوثائق أن الإخلاء الجماعي سيوفّر مليارات الدولارات مقارنة بتكاليف إعادة إعمار البيوت المدمّرة وإعالة السكان الأصليين.

تلك الرؤية تكشف عن منطق جيو-اقتصادي جديد يتجاوز مجرد الاحتلال العسكري ليحكمه «اقتصاد السلام» الهادف إلى تحويل الأرض الفلسطينية إلى شبكة اقتصادية تتكامل فيها الاستثمارات الإسرائيلية والعربية والدولية

ووفق هذه الصورة، يتحوّل القطاع إلى «أرض استثمارية» تُوضَع أراضيه العامة في صندوق استثماري يُباع جزء من أصوله للمستثمرين عبر نظام رموز رقمية من خلال تقنية الـ«بلوك تشين». أما الفلسطيني الذي سيُسمح له بالبقاء في غزة، فسيُخيّر بأن يساهم بأرضه الخاصة في هذا الصندوق مقابل وعدٍ بشقة سكنية دائمة في «المدينة الجديدة».

ما تقدّمه هذه الخطة ليس مجرد نموذج لإعادة الإعمار، بل هو إعادة تشكيل شاملة لهوية المكان والبشر معًا تحت عباءة «اقتصاد السلام» و«الهندسة الجيو-اقتصادية». خطة ترى في الدمار شرطاً لتحقيق الاستثمارات وفي التهجير أداة لإنتاج «منطقة مزدهرة وآمنة وخالية من المقاومة».

 في تحليله للموضوع، رأى المؤرّخ البريطاني آدم توز أن تلك الرؤية تكشف عن منطق جيو-اقتصادي جديد يتجاوز مجرد الاحتلال العسكري ليحكمه «اقتصاد السلام» الهادف إلى تحويل الأرض الفلسطينية إلى شبكة اقتصادية تتكامل فيها الاستثمارات الإسرائيلية والعربية والدولية.

  • مشروع «المدينة الإنسانية»

أحدث الخطط الاسرائيلية لغزة أعلن عنها وزير الدفاع الاسرائيلي إسرائيل كاتس قبل أيام تحت عنوان إقامة «مدينة إنسانية» في رفح وهي عبارة عن معسكرات ضخمة لإيواء سكّان غزة «مؤقتاً» تمهيداً لإتاحة «خيار المغادرة» كما وصفه. بتكلفة تُقدَّر بـ 6 مليارات دولار، تقوم الخطة الاسرائيلية على إنشاء منطقة محصورة على أنقاض مدينة رفح يُنقل إليها قسراً نحو 600 ألف نازح في المرحلة الأولى تحت غطاء فحوص أمنية صارمة وداخل منطقة مغلقة لا يُسمح لهم بمغادرتها بمجرد دخولهم إليها. كما سيتمّ إنشاء 4 مراكز لتوزيع المساعدات "تديرها منظمات دولية، على أن يتمّ نقل جميع سكان غزة لاحقاً" إلى تلك المعسكرات، وفق تصريحات كاتس.

وكانت بعض التسريبات الصحفية أشارت خلال شهر أيار/مايو الفائت أن «مؤسسة غزة الإنسانية» وهي منظمة مدعومة أميركياً لديها مشروعاً بتكلفة 2 مليار دولار لإنشاء «مناطق عبور إنسانية» أي مخيمات تهدف إلى إيواء الغزيين مؤقتاً و«إعادة تأهيلهم فكرياً» وإعدادهم لـ «النزوح الطوعي». وأظهرت التسريبات أن خريطة التهجير تشير إلى مصر وقبرص كوجهات محتملة خارج غزة. 

الضفة: نسيج التهجير والعزل

تواجه الضفة توسعاً اسرائيلياً وعمليات تهجير بطيء وفق استراتيجية القضم واستكمالاً للنهج التوسّعي ذاته. وحسب «مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية» ارتفع عدد المنازل والمباني التي هدمتها إسرائيل في الضفة الغربية بين 2020 و2025 إلى أكثر من 3,500 مبنى، نصفها تقريباً في المناطق المصنّفة C (التي تشكّل 60% من أراضي الضفة ويعيش فيها نحو 300 ألف فلسطيني)، ما يعمّق استراتيجية تفتيت الوجود الفلسطيني لصالح المستوطنات.

خطط التهجير في الضفة هي جزء من رؤيةٍ جيو‑اقتصادية استعمارية تدير الموارد الفلسطينية لصالح المستوطنين وتمنع الاقتصاد الفلسطيني من إنشاء روابط إنتاجية متواصلة. تشهد الضفة مشاريعاً هدفها خلق نظام طوبوغرافي مزدوج: مناطق فلسطينية مقطّعة ومعزولة، وأخرى اسرائيلية متّصلة تتلقى استثمارات ضخمة في البنى التحتية، الطرق، والخدمات المجتمعية في المستوطنات.

  • «نسيج الحياة»

مشروع نفق «نسيج الحياة» الذي بدأ تنفيذ المرحلة الأولى منه في عام 2021 والذي تبلغ تكلفته 90 مليون دولار، يُقدَّم كوسيلة «لتسهيل تنقّل الفلسطينيين» لكنه في الحقيقة يفصل تجمعّات سكّانية كاملة مثل أبو ديس والعيزرية عن قلب القدس، ويخلق شبكة طرق مزدوجة تخدم المستوطنين وتحوّل القرى الفلسطينية إلى جيوب مغلقة تعتمد على اقتصاد هش. ومن النتائج المباشرة لهذا المشروع تفكيك السوق الفلسطيني المحّلي، عزل القرى عن بعضها وتقطيع أوصالها، طرد أصحاب الأراضي من مصادر رزقهم وفتح المجال لرؤوس الأموال المرتبطة بالمستوطنات.

يشمل المشروع إنشاء نفقٍ عميقٍ مخصّص حصرياً للفلسطينيين يربط مناطق الضفة الجنوبية (بيت لحم والخليل) بوادي الأردن مع قطع الطريق عليهم في قلب الضفة خاصة المنطقة المحيطة بالقدس الشرقية والمناطق الاستراتيجية (E‑1). يهدف هذا النفق إلى حصر الفلسطينيين في مسار محدد، ما يفرغ 12 كم² شرق القدس من السكّان الفلسطينيين. يشمل المشروع أيضاً شبكة طرقٍ للمستوطنين تصل المستوطنات شرق القدس مباشرة بقلب الأراضي المحتلة.

  • «طريق السيادة»

وفي قلب مشروع التقطيع الجغرافي الذي يستهدف الضفة الغربية، تعود إحدى المخططات الاسرائيلية إلى أكثر من عقدين بمشاريع مشابهة تكرّس الفصل التام بين المستوطنات والبلدات الفلسطينية. ففي عام 2007، صادقت إسرائيل على مشروع حمل اسم «طريق السيادة»، يقضي بشقّ نفقٍ تحت الطريق السريع رقم 1 الذي يربط جنوب الضفة الغربية بوسطها. هذا النفق يصبح هو الممر الوحيد المتاح للفلسطينيين، بينما يُحظر عليهم استخدام الطريق الرئيسي فوق الأرض والمخصّص حصرياً للمستوطنين.

يقطع «طريق السيادة» الامتداد الشرقي للقدس ما يعني تفريغ المساحة التي تربط وسط الضفة بجنوبها من أي وجود فلسطيني حرّ الحركة. في المقابل، يمتد «نسيج الحياة» شرقًا ليعزل برية القدس عن الأغوار، مفكّكاً شريان التواصل الفلسطيني بين القدس ووادي الأردن. من خلال هذه الهندسة المدروسة، تُفرَّغ المناطق الواقعة شرق القدس تدريجياً من أهلها لصالح تمدد الكتل الاستيطانية الكبرى، بينما يُدفع الفلسطينيون إلى طرق نفقية ضيّقة ومعابر خاضعة للسيطرة الأمنية الكاملة.

تعمل هذه المشاريع مجتمعة على إعادة تشكيل الخريطة الديموغرافية للضفة الغربية، حيث تتحوّل القرى والتجمّعات إلى جيوب مغلقة يسيطر عليها اقتصاد هشّ ومعزول، بينما تُمنح شبكة المستوطنات امتداداً آمناً وبنية تحتية تربطها ببعضها البعض

تعمل هذه المشاريع مجتمعة على إعادة تشكيل الخريطة الديموغرافية للضفة الغربية، حيث تتحوّل القرى والتجمّعات إلى جيوب مغلقة يسيطر عليها اقتصاد هشّ ومعزول، بينما تُمنح شبكة المستوطنات امتداداً آمناً وبنية تحتية تربطها ببعضها البعض، لتصير الطرق والأنفاق أداةً مركزية في تنفيذ سياسة التهجير البطيء وإحكام السيطرة على الأرض والموارد.

مخيم جنين: غير صالح للحياة

يُعدّ مخيم جنين أحد أكثر الأماكن التي شهدت تدهوراً كارثياً في الضفة الغربية بفعل سياسة الاحتلال الإسرائيلي الممنهجة. خلال العامين الأخيرين، تعرّض المخيم لهجمات عسكرية متكررة أدّت في بداية هذا العام إلى تدميره بالكامل وأسفرت عن نزوح كلّ سكّانه البالغ عددهم 20,000 نسمة.

وقبل تدميره وإفراغه بالكامل شهد المخيم سنوات من التضييقات أدّت إلى حرمان سكّانه من إمكانية الوصول إلى الرعاية الصحية والتعليم والمياه النظيفة داخل المخيم، كما هُدمت منازل كثيرة فيه على مرّ السنين بحجّة "مهاجمة الإرهابيين". وفي 99 يوم من الحصار والعمليات العسكرية المتواصلة خلال عام 2025، فرضت قوات الاحتلال الإسرائيلي حصاراً خانقاً على المخيم في عملية أسماها «السور الحديدي»، حيث تعرّض المخيم لقصف وهدم واسع النطاق وتقويض لحركة السكّان من خلال حواجز عسكرية مشددة حاصرت المخيم بشكل كامل، ما جعله مكاناً «غير صالح للحياة». 

تذكير عابر

في الصراع الفلسطيني تحديداً ومنذ اليوم الأول لنشوء كيان الاحتلال وصولاً إلى الإبادة المستمرة في غزة، يتّسم الحديث عن القوانين الدولية بقلّة الجدوى وبالتذكير الدائم والعابر بعدم اعتراف اسرائيل بأيّ منها والإمعان بخرقها وتجاهلها من دون أي رادع.  

للتذكير، تحظّر المادة 49 من اتفاقية جنيف بشأن حماية المدنيين في وقت الحرب «النقل الجبري الجماعي أو الفردي للأشخاص المحميين»، إلا في حالات نادرة تُبرَّر بـ«ضرورات أمنية حتمية» مع إعادة سريعة. ويعتبر ميثاق روما الترحيل القسري جريمة ضد الإنسانية إذا نُفّذ بشكل واسع ومنهجي. ومع ذلك، منذ 1948 حتى اليوم، هُجّر ملايين الفلسطينيين ويبقى أكثر من 170 قراراً دولياً متعلّقاً بحق العودة أو وقف الاستيطان بلا تنفيذ.