Preview كيف تخلق شركة وهمية من العدم للفوز بعقود وزارة الاتصالات؟

«ستريم ميديا ش.م.ل.»
كيف تخلق شركة وهمية من العدم للفوز بعقود وزارة الاتصالات؟

قد لا يكون هناك حاجة لتقديم المزيد من الأدلة على كثرة «الفساد» في لبنان، إلا أن القرار الأخير الصادر عن ديوان المحاسبة، في 9 تموز/يوليو الجاري، بموجب صلاحياته في ممارسة الرقابة الإدارية المسبقة على الإدارة العامّة، يفتح الشهية على سرد قصّة إضافية من قصص «الفساد» المثيرة، التي تحدث الآن في ظل واحدة من أسوأ الأزمات وأكبرها وأخطرها في تاريخ لبنان الحديث. ففي الوقت الذي يواجه فيه سكّان لبنان مخاطر الحرب واليأس وفقدان الأمان والمزيد من الفقر والحرمان والتخلّف، هناك من يطرح «الشراكة مع القطاع الخاص» كوصفة سحرية للتخلّص مما تبقى من «الدولة الفاسدة» و«الفاشلة» و«العاجزة»، ولكنه في الوقت نفسه يجد نفسه الصيّاد الذي بإمكانه أن يقتنص الفرصة ويفوز بحصّته من الطريدة: الربح. 

أبطال القصّة الجديدة: وزير الاتصالات، هيئة أوجيرو، و3 تلفزيونات محلية: MTV، LBCI، والجديد، بالإضافة إلى شركة «ستريم ميديا ش.م.ل.»، وهي التي تدور حولها هذه القصّة. 

يروي قرار ديوان المحاسبة أنه بتاريخ 5/3/2024، أحال وزير الاتصالات إليه ملفاً يتعلّق باتفاق تعاون بين وزارة الاتصالات وشركة «ستريم ميديا ش.م.ل.»، وموضوعه «تشغيل منصّة OTT وبث المحتوى التلفزيوني عبرها»، وتعتزم «أوجيرو» التعاقد رضائياً مع هذه الشركة حصراً، كونها تستحوذ على حقوق إعادة بث 81 قناة تلفزيونية محلية وأجنبية، وبالتالي تخضع للاستثناء من موجب إجراء المناقصات الوارد في المادة 64 من قانون الشراء العام.

بعد التدقيق بالملف والاستماع إلى المعنيين، اكتشف ديوان المحاسبة أن الشركة المنوي التعاقد معها «لا تتمتع بأي حقوق حصرية» تبرر الاستثناء، بل اكتشف أيضاً أن الشركة نفسها لم تنوجد أصلاً، إذ «تأسست في 20/9/2022، برأسمال لا يتجاوز 335 دولاراً فقط لا غير، وهي لا تملك مقراً، ولا جهازاً بشرياً، وليست مسجّلة لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، ولم تنفّذ حتى تاريخه أي مشاريع، وهي متوقفة عن العمل، وليس لديها بيانات مالية…»، وخلص القرار إلى «أن الشركة المنوي التعاقد معها تأسّست خصيصاً للتعاقد رضائياً مع وزارة الاتصالات»،  وهي «أشبه ما تكون بالشركات الوهمية أو ما يعرف بـShell Company». 

تُعرّف الشركة الوهمية على أنها شركة ليس لديها عمليات تجارية ولا أصول، وهي ليست بالضرورة غير قانونية، ولكن تُستخدم لأغراض غير مشروعة. تذكّر شركة «ستريم ميديا» الوهمية في وزارة الاتصالات بشركة «فوري» الوهمية في مصرف لبنان، فعلى الرغم من الاختلاف بين قصّة كل منهما، إلا أن الهدف من خلق الشركتين الوهميتين كان «الاستحواذ» على حصّة من الدخل من دون بذل أي عمل أو توظيف أي رأس مال. 

بالاستناد إلى ما ورد في قرار ديوان المحاسبة، يمكن رسم «المخطّط الاحتيالي» وراء السعي لإبرام عقد بالتراضي مع شركة وهمية أنشئت خصيصاً للفوز بهذا العقد. فالشركة التي لم تفعل شيئاً منذ إنشائها، وليس لديها رأس مال لتمويل مشروع إنشاء منصّة OTT وتشغيلها، تنوي بعد توقيع العقد مع وزارة الاتصالات، دعوة المشتركين عبر «أوجيرو» للاشتراك على المنصة وفرض تسديد بدل اشتراك 3 أشهر مسبقاً «بمثابة ضمان»، ما دفع الديوان إلى الاستغراب والتساؤل «كيف يمكن للإدارة أن تتعاقد مع شركة لا تملك قدرات مالية مثبتة وليس لديها القدرة على التمويل الذاتي، بل ستعتمد على الاشتراكات المدفوعة سلفاً من قبل المستخدمين لتمويل نشاطها؟».

يبدو أن هذا المخطّط يسترشد بتجربة عقد الشراكة مع القطاع الخاص (BOT) لإنشاء شبكتي الخلوي في التسعينيات من القرن الماضي، عندما فرضت الشركتين الفائزتين «سيليس» و«ليبانسل» مبلغ 500 دولار كضمان مسبق على كل خط قبل أن تبدأ الشبكتين بالعمل، بمعنى أنها جمعت رأسمالها من المشتركين المحتملين الذين تهافتوا للاشتراك في الخدمات الجديدة حينها في ظل خدمات الهاتف الثابت المتردية والضعيفة. وفي هذا السياق، يُفهم من قرار الديوان أن وزارة الاتصالات تتحجّج بعجز الدولة المالي وفشلها الإداري للتعاقد مع «هيكل فارغ»، يدمج بين نموذجي «فوري» و«الخلوي»: أي خلق شركة وهمية من دون رأس مال والعمل على تمويلها من المشتركين وتوزيع أرباحها بين مجموعة أصحاب التلفزيونات وأصحاب «الشركة». ولفهم هذه الطريقة علينا معرفة أن إطلاق منصّة OTT لا يحتاج إلى بنية تحتية خاصّة لإيصال منتجها، بل مجرّد اتصال المستهلك بشبكة الإنترنت المُتاحة، وإنشاء تطبيقاتها الخاصّة وبث المحتوى المنتج من خلالها عبر شبكة الإنترنت المفتوحة من دون الحاجة إلى أي ترخيص، تماماً مثل نتفلكس ويوتيوب كنموذجين معروفين.

بتاريخ 3/3/2023، تقدّمت شركة «ستريم ميديا ش.م.ل.» بعرض إلى وزارة الاتصالات تلتزم فيه بإنشاء مكتبة محتوى من 81 قناة وعرضها على مشتركي الإنترنت من خلال منصة OTT. حصل ذلك بعد 5 شهور وبضعة أيام من إنشاء الشركة. وتوضح الوثائق والمعطيات التي استند إليها ديوان المحاسبة في قراره أن هذه الشركة لم تقم بأي عمل آخر، وتقدّمت من وزارة المال بتصريح عدم مزاولة العمل في عامي 2022 و2023، أي طيلة عمرها.

أسّس الشركة شخص يدعى بنيامين حجار، ووفق سيرته الذاتية، بدأت خبرته في هذا المجال كمدير تسويق ومبيعات في شركة Cablevision، وهي موزّع خاص للقنوات التلفزيونية، ثم أسّس شركة تقوم بأعمال الوساطة بين أصحاب حقوق البث وبين مشغلي الكابلات، ثم انتقل لإدارة مدرسة. في الواقع، لم يجد ديوان المحاسبة أي شيء حقيقي في ملف الشركة إلا وجود مؤسسها، ما عدا ذلك كله أشباح وأكاذيب، حتى عنوان الشركة فهو عنوان مؤسسها «على سبيل التسامح»، كذلك خبرة الشركة هي خبرة مؤسّسها.

استمع ديوان المحاسبة إلى وزير الاتصالات، الرئيس- المدير العام لهيئة «أوجيرو»، رئيس هيئة الشراء العام، وأرسل مذكرات لطلب المعلومات من وزارة الاتصالات، هيئة أوجيرو، هيئة الشراء العام، ووزارة المال. وظهرت في هذا السياق جملة واسعة من التناقضات في أقوال المستجوبين:

  • من سيموّل إنشاء المنصّة؟

في مقدّمة العقد المعروض على الديوان وردت عبارة «أن وزارة الاتصالات قامت بشراء منصة OTT التي سيتم تتشغيلها بواسطة هيئة أوجيرو». إلا أن الرئيس- المدير العام لهيئة «أوجيرو» عماد كريدية قال إن «المنصّة ستكون مملوكة من وزارة الاتصالات والهيئة»، و«إن التلفزيونات اللبنانية على استعداد لتقديم هذه المنصّة في حال تمت الموافقة على العقد من قبل ديوان المحاسبة». في حين أن وزير الاتصالات جوني القرم قدّم جواباً مختلفاً عند الاستماع إليه، إذ زعم أن شركة «ستريم ميديا» هي التي ستقدّم المنصّة كهبة إلى الدولة اللبنانية.

وبعد التدقيق في الأجوبة وأوراق الملف ومستنداته، تبيّن لديوان المحاسبة أن الملف لا يجزم بأي أمر يتعلّق بجهوزية المنصة وملكيتها والجهة التي ستشغلها. وطرح الديوان سؤالاً: أين الحقيقة؟ هل منصّة OTT تم شراؤها من قبل وزارة الاتصالات؟ أم أن شركة «ستريم ميديا» ستقدّمها كهبة؟ أم أن التلفزيونات اللبنانية على استعداد لتقديمها على شكل هبة؟ 

في مطلق الأحوال، تبيّن لديوان المحاسبة أن المنصة ليست موجودة، وأن وجودها مرتبط بالموافقة على العقد الرضائي مع الشركة، من دون أي توضيحات في هذا الشأن.

  • هل تملك الشركة حقوقاً حصرية لإعادة البث تبرر إبرام العقد رضائياً معها؟

تنص المادة 46 من قانون الشراء العام على إمكانية التعاقد رضائياً في الحالة التالية: «عند عدم توافر موضوع الشراء إلا عند مورّد أو مقاول واحد، أو عندما تكون لمورد أو مقاول حقوق ملكية فكرية فيما يخص موضوع الشراء، ويتعذّر اعتماد خيار أو بديل آخر».

استند العقد المقترح مع شركة «ستريم ميديا» إلى هذه المادّة لتبرير عدم إجراء أي مناقصة أو مزايدة أو استدراج عروض، زاعماً أن الشركة المذكورة تتمتع بحقوق تقديم محتوى حصري لنحو 81 قناة تلفزيونية، إلا أن الملف المعروض على الديوان لم يتضمن أي مستندات تُثبت توفر هذه الحقوق الحصرية. وقد اكتفت الشركة، بعد مراجعة الديوان لوزير الاتصالات في هذا الشأن، بتقديم 3 إفادات صادرة عن 3 قنوات تلفزيونية لبنانية، هي: LBCI وMTV والجديد، وجميعها محرّرة بتواريخ تعود لما بعد عرض الملف على الديوان، في حين أن الحصرية يجب أن تتوافر قبل الشروع بالمفاوضات مع الشركة التي بدأت في آذار/مارس 2023. علماً أن الإفادات الثلاث لا تمنح الشركة أي حقوق حصرية، وإنما تتضمّن وعوداً بمنح هذه الحقوق إذا جرى التوصل إلى إتفاق تجاري بين التلفزيونات الثلاثة والشركة، «ما يدل بوضوح على عدم توفر شرط الحصرية لدى الشركة بتاريخ إعداد مشروع العقد الرضائي»، وفق ما ورد في قرار الديوان. بل إن الشركة نفسها اعترفت صراحة بذلك في المراسلات التي اطلع الديوان، وأعلنت أنها «عند بدء العمل بمنصة OTT، سيجري الاتفاق تباعاً مع القنوات الـ81». وهذا يؤكّد استنتاجات الديوان أن عن «عدم توافر السند القانوني» لإبرام العقد بالتراضي، وأن المخطّط هو تمويل عمليات الحصول على الحقوق الحصرية بعد توقيع العقد، وليس قبله، وعبر الاشتراكات المسبقة التي ستُفرض على المشتركين.

  • من سيقوم بتشغيل المنصّة؟

تبيّن من الملف المعروض أمام ديوان المحاسبة، أن الشركة ليس لديها أي خبرة في مجال العمل المنوي التعاقد عليها، وليس لديها أي كادر فني أو إداري خاص بها. ولكن لفت الديوان إلى أن العقد المطروح يسمح لشركة «ستريم ميديا» أن تنقل جزءاً أو كل حقوقها أو التزاماتها إلى طرف ثالث، وقد صرّحت الشركة في كتاب لها أنها تعاقدت مع شركة فرنسية تدعى «وايت بيكس سولوشنز إس.أ.إس»، من أجل تزويدها بالخدمات التقنية واللوجستية اللازمة.

  • هل يجوز ان تفرض الشركة الخاصة غرامات على مؤسّسة عامة؟

وفق تقرير ديوان المحاسبة: «لقد أورد البند (3.7) من مشروع العقد باللغة الإنكليزية، ما بين هيئة أوجيرو وشركة «ستريم ميديا»، أن الشركة المذكورة سوف يكون لها الحق بفرض غرامات على هيئة أوجيرو، في حال تأخّر الأخيرة عن الدفع في المواعيد المحددة، من دون ذكر ماهية وقيمة الغرامات. ومن غير المعهود والمقبول السماح لشركة خاصة بفرض غرامات على إدارة او مؤسسة أو هيئة عامة، لا بل العكس هو الصحيح، إذ تفرض الغرامات على الملتزمين من الجهة الشارية، وفق أحكام المادة 38 من قانون الشراء العام».

طبعاً، ما لخّصناه أعلاه يمثل بعض أهم ما ورد في قرار ديوان المحاسبة، ولكن متن القرار يحتوي على الكثير من المخالفات والشوائب وشبهات الاحتيال، ما دفع الديوان إلى إعلان «عدم الموافقة على المشروع المعروض». 

لننتظر ونرى كيف سيتصرّف أصحاب المصلحة في تمرير العقد الرضائي مع شركة وهمية، فقرار الديوان هو جولة أخرى من الجولات التي يقوم بها هؤلاء ويصرّون على فسادهم الوقح.