Preview الناتو في الأردن

الناتو في الأردن

«أمننا ليس إقليمياً بل عالمياً» - الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ

قرار حلف شمال الأطلسي (الناتو) إنشاء أول مكتب اتصال دائم له في المنطقة العربية، في العاصمة الأردنية، لم يثر ردود الفعل التي يستحقّها ولا سيما في هذه اللحظة من الإبادة الجماعية المتواصلة للفلسطينيين، التي يشارك بها أعضاء الحلف وتتعاون فيها دول عربية عدّة، وعلى رأسها الأردن. فخطوة «الناتو» الأخيرة لتعزيز حضوره العسكري والأمني المباشر في المنطقة، تجسّد ذروة من ذروات التوترات الجيوسياسية العالمية والإقليمية، وتساهم في دفع الشعب الأردني أكثر فأكثر نحو مخاطر جسيمة، تهدِّد بانفجارات وكوارث إضافية في المشرق العربي والقرن الأفريقي والخليج.

يرى البعض أن قرار إنشاء مكتب لحلف «الناتو» في الأردن ليس وليد اللحظة الحالية، لحظة الحرب على غزّة، فهو جاء تنفيذاً للنيّة التي عبّر عنها بيان قمة الحلف في فيلنيوس في تموز/يوليو 2023، أي قبل 3 أشهر من عملية «طوفان الأقصى»، وجاء كذلك تتويجاً لعقود طويلة من تعاون النظام الأردني مع أعضاء هذا الحلف وخدمة مصالحهم، ولا سيما الولايات المتحدة الأميركية. في حين يظن البعض الثالث أن إنشاء مثل هذا المكتب في عمّان لا ينطوي على تغيير جيوسياسي أو تعديل في ميزان القوى العالمية والإقليمية أكبر وأشدّ خطورة وتوتراً مما هو قبل إنشاء المكتب، فالحلف موجود في الأردن أصلاً، ويستخدم قاعدة جوّية هناك، ويوجد نحو 3 آلاف جندي أميركي في قواعد علنية وسرّية منتشرة في الأردن، ولا سيما على حدود سوريا والعراق، كما أن الأردن كان الدولة العربية التي انخرطت بقوّة وعزم شديدين في منظومة حلف «الناتو» للدفاع عن إسرائيل ضدّ الهجوم بالصواريخ والمسيّرات الذي شنّته إيران عليها ردّاً على تدمير القنصلية الإيرانية في دمشق بغارة إسرائيلية. 

لا تخوض إسرائيل وحدها الحرب لإبادة الفلسطينيين والقضاء على مقاومتهم، بل تخوضها مع حلف «الناتو» بقيادة الولايات المتحدة، في إطار استراتيجيته الرامية إلى تكثيف انتشاره خارج أوروبا

كل ذلك صحيح، إلا أن أي تحليل موضوعي لقرار حلف «الناتو» وتوقيته لا يمكن أن يتجاهل اللحظة الحالية، حيث لا تخوض إسرائيل وحدها الحرب لإبادة الفلسطينيين والقضاء على مقاومتهم، بل تخوضها مع حلف «الناتو» بقيادة الولايات المتحدة، في إطار استراتيجيته الرامية إلى تكثيف انتشاره خارج أوروبا، وزيادة تدخّلاته في المحيطين الهادئ والهندي وفي منطقة الشرق الأوسط، من أجل الاحتفاظ بالهيمنة على الاقتصاد العالمي والتفوّق العسكري والتكنولوجي لكبح طموحات الصين وروسيا وإيران وغيرها من الدول الصاعدة في آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية. 

منذ سنوات، يجري الحديث عن خطط لإنشاء حلفين عسكريين ملحقين بحلف «الناتو»، الأول في الشرق الأوسط ويضم إسرائيل والأردن ومصر ودول الخليج، بالإضافة إلى المغرب والسودان، أو ما يُعرف بالمطبِّعين العرب مع إسرائيل. والثاني في المحيط الهادىء، ويضمّ دول أستراليا واليابان ونيوزيلندا وكوريا الجنوبية. وكانت نوايا حلف «الناتو» إنشاء مكتبين دائمين له في اليابان كما الأردن، إلا أن اعتراض الصين الشديد دفع الحلف إلى تأجيل خطوته في اليابان، في حين أقدم عليها في الأردن.

يشكّل الحلف العسكري بين إسرائيل والعديد من دول المنطقة الركيزة لاستراتيجية مواجهة نفوذ إيران، ولا سيما لجهة إنشاء نظام دفاع جوي جماعي، وبناء قدرات عسكرية مشتركة للحلفاء، بما يعزِّز الخيارات العسكرية. وعلى حدّ تعبير مسؤول أمني إسرائيلي، «تحتاج إيران إلى رؤية إسرائيل وحلفائها الإقليميين يقتربون من حدودها، لرؤيتنا أكثر اتحاداً، بما في ذلك مع الغرب. وسوف يساعدنا التعاون العسكري الإقليمي في هذا». 

حلف «الناتو» في الشرق الأوسط

تمثّل المنطقة العربية، الممتدّة من بحر العرب في المحيط الهندي إلى حوض البحر الأبيض المتوسط، ميداناً رئيساً للصراع الجاري من أجل كسر هيمنة الغرب على الاقتصاد العالمي، فهي تحتوي على أكثر من نصف احتياطات النفط العالمية وأكثر من ربع احتياطات الغاز. وهي الممرّ الأهم والأسرع لتدفّقات التجارة بين آسيا وأوروبا، إذ يقع فيها مضيق هرمز نحو الخليج بين إيران وسلطنة عمان، ويقع فيها أيضاً باب المندب نحو البحر الأحمر وقناة سويس بين اليمن والقرن الأفريقي، ويقع فيها كذلك مضيق جبل طارق من شمال المحيط الأطلسي نحو حوض البحر المتوسط، حيث يجتمع شمال أفريقيا مع غرب آسيا وجنوب أوروبا على فالق جيوسياسي متحرّك ونشط. لذلك، ليس مستغرباً أن يكون لدى حلف «الناتو» خططاً لزيادة تدخّلاته العسكرية والأمنية في هذه المنطقة من العالم، إلا أن ذلك لا يعفي من النظر إلى ما يعنيه زيادة انخراط الأردن في تعظيم دورها كقاعدة عسكرية من قواعد هذا التدخل، ولا سيما في هذه اللحظة من الذروة التي تهدّد الغطرسة الغربية باندلاع حرب إقليمية ضروس.

خطط «الناتو» لإنشاء «حلف عسكري في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا» ليست جديدة،  فالمحاولات تتكرّر منذ إعلان «حلف بغداد» في العام 1955. في العام 2011، على سبيل المثال، أعادت تداعيات الربيع العربي إشعال فكرة إقامة تحالف في المنطقة برعاية الولايات المتحدة، وتمت مناقشة فكرة إنشاء «درع الخليج» في مجلس التعاون الخليجي. وفي العام 2015، مع صعود تنظيم الدولة الإسلامية، بالإضافة إلى الحرب الأهلية اليمنية، قادت السعودية محاولة لإنشاء تحالف عسكري يضمّ نحو 40 دولة إسلامية.

بعيداً من إيران، تشعر الولايات المتحدة أيضاً بالقلق إزاء التأثير الذي تخلّفه الحرب في أوكرانيا على المصالح الأميركية في الشرق الأوسط. ففي ظل عدم اليقين بشأن الخطوات التي قد تتّخذها روسيا، وفي ظل الصراع المتزايد مع الصين في المنطقة من خلال مبادرة الحزام والطريق، تحتاج الولايات المتّحدة إلى حلفاء حقيقيين في الشرق الأوسط الآن أكثر من أي وقت مضى. 

ليس مستغرباً أن يكون لدى حلف «الناتو» خططاً لزيادة تدخّلاته العسكرية والأمنية في هذه المنطقة من العالم، إلا أن ذلك لا يعفي من النظر إلى ما يعنيه زيادة انخراط الأردن في تعظيم دورها كقاعدة عسكرية من قواعد هذا التدخل

في العام 2022، أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس أن المساعي لإنشاء حلف عسكري إقليمي دخل حيّز التنفيذ بالفعل. وذكر غانتس أن إسرائيل انضمّت إلى ما أسماه تحالف الدفاع الجوّي في الشرق الأوسط (MEAD)، وهي شبكة دفاع جوي إقليمية بقيادة الولايات المتّحدة تضمّ بعض الدول العربية. وعلى الرغم من أن غانتس لم يذكر أسماء الدول العربية، يتوقّع العديد من المراقبين أن تحالف الدفاع الجوي في الشرق الأوسط يضمّ حتى الآن الإمارات العربية المتحدة والبحرين وقطر ومصر والأردن. وتمت مناقشة هذا الحلف في آذار/مارس 2022، في الاجتماع العسكري السري الذي عُقِد في شرم الشيخ على هامش أول زيارة للرئيس الأميركي جو بايدن بعد انتخابه، وضمّ الاجتماع مسؤولين عسكريين أميركيين ونظرائهم الإسرائيليين والأردنيين والمصريين والخليجيين بهدف التنسيق ضد القدرات الصاروخية الإيرانية المتنامية وبرنامج المسيّرات. 

قبل أكثر من عامين، دعا الرئيس الأميركي آنذاك دونالد ترامب الى إنشاء «تحالف استراتيجي للشرق الأوسط»، الذي سرعان ما أطلق عليه المراقبون اسم «حلف شمال الأطلسي العربي- الإسرائيلي». وقال عبد الله، ملك الأردن، في مقابلة مع قناة «سي إن بي سي» الأميركية إن بلاده ستشارك في تحالف عسكري شبيه بحلف شمال الأطلسي بين الدول المتحالفة في الشرق الأوسط. وتعهّد أن يكون الأردن «من أوائل من يدعمون إطلاق حلف شمال الأطلسي في الشرق الأوسط». 

لماذا الناتو في الأردن؟ 

أول ما قد يعنيه إنشاء مكتب لحلف «الناتو» في الأردن أن الهيمنة الغربية تتعرّض للضغوط الشديدة في منطقة الشرق الأوسط، وتحتاج لزيادة تحصيناتها في المنطقة العربية لصدّ توسّع النفوذ الصيني والروسي والإيراني. والأردن إلى جانب إسرائيل ودول الخليج تشكّل نواة الحلف العسكري الذي يخضع للإختبار الآن في مواجهة أي تمرّد على هذه الهيمنة في المنطقة. ويقع الأردن في هذا المجال على خطوط القلق على الحدود مع فلسطين والعراق وسوريا ولبنان، التي يجري تصنيفها كمصادر للخطر الآتي من جهة الشرق.

بحث كريس بامبيري في Counterfire عن إجابة على هذا السؤال: لماذا يعمّق حلف شمال الأطلسي تدخله في الأردن، في خطوات من شأنها أن تؤدّي إلى زيادة حدّة التوترات بين القوى الفاعلة في الشرق الأوسط؟

ينطلق البحث من البيان الصادر عن حلف شمال الأطلسي والأردن للإعلان عن قرار فتح مكتب اتصال للحلف في عمان، إذ يأتي هذا القرار «في إطار التأكيد على تطور المشهد الأمني ​​الإقليمي والعالمي»، أي أنه يأتي استجابة لتطوّرات تحصل في المنطقة ويخشى أعضاء الحلف، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، من أن تؤدي إلى زعزعة هيمنتهم والإخلال بميزان القوى القائم. 

يقول البيان إن «الحلفاء اعتمدوا في قمة حلف شمال الأطلسي لعام 2024 في واشنطن خطة عمل لتبني نهج أقوى وأكثر استراتيجية وتركيزاً على النتائج تجاه الجوار الجنوبي. وتوضح الخطة التزام حلف شمال الأطلسي بتعزيز المشاركة والتعاون مع شركائه في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بما في ذلك من خلال إنشاء أول مكتب اتصال للحلف على الإطلاق في المنطقة في العاصمة الأردنية عمان».

أول ما قد يعنيه إنشاء مكتب لحلف «الناتو» في الأردن أن الهيمنة الغربية تتعرّض للضغوط الشديدة في منطقة الشرق الأوسط، وتحتاج لزيادة تحصيناتها في المنطقة العربية لصدّ توسّع النفوذ الصيني والروسي والإيراني

يضع حلف «الناتو» قراره بتوسيع حضوره الدائم في الأردن في إطار استراتيجيته العالمية، إقراراً منه بـ«الدور المهم الذي يؤدّيه الأردن في السياقين الإقليمي والعالمي، كبطل في مكافحة التهديدات العابرة للحدود الوطنية، بما في ذلك الإرهاب والتطرف العنيف».

سوف يعمل المكتب، بصفته مكتباً تمثيلياً، على تقريب وجهات النظر بين الحلف والأردن، عبر التواصل المنتظم مع السلطات الأردنية، وبناء فهم مشترك للسياق الوطني والإقليمي، وتطوير وتنفيذ برامج وأنشطة الشراكة، بما في ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، التحليل الاستراتيجي، والتخطيط والاستعداد للطوارئ المدنية، وإدارة الأزمات، والدبلوماسية العامة، والأمن السيبراني، وتغيّر المناخ.

ويختم البيان أن القرار هو تتويج لأكثر من ثلاثة عقود من العلاقات الثنائية العميقة الجذور، «فافتتاح مكتب اتصال لحلف شمال الأطلسي في عمان هو تطوّر طبيعي للعلاقة الطويلة الأمد بين حلف شمال الأطلسي والأردن التي ستستمر في النمو».

ووصف الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ، في كلمة ألقاها في العاصمة الأردنية عمان «إن الأردن شريك قديم وذو قيمة عالية للحلف». بالفعل، كان الأردن عضواً نشطاً في شراكة الحوار المتوسطي التي عقدها حلف الناتو في العام 1995 مع سبع دول تضم إلى الأردن كل من إسرائيل ومصر والمغرب والجزائر وتونس وموريتانيا. وقد عمل جيش الأردن بشكل وثيق مع قوات حلف شمال الأطلسي وشارك في بعثات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقبل مدّة، أشار رئيس اللجنة العسكرية لحلف شمال الأطلسي، الأدميرال روب باور، إلى أن «القوات الأردنية تشارك في قوة الرد التابعة لحلف شمال الأطلسي». وأوضح أن «قواتنا خدمت جنباً إلى جنب (مع القوات الأردنية) في البلقان وأفغانستان وليبيا». 

الوجود العسكري في الأردن

استخدم حلف «الناتو» الأردن كقاعدة انطلاق متقدّمة وطريق إمداد لقواته العسكرية في العراق. وسمح الأردن للحلف باستخدام قاعدة موفق السلطي الجوية، التي تتمتع بأهمية استراتيجية لقربها من العراق وسوريا. وفي كانون الثاني/يناير الماضي، لمع اسم «برج 22»، وهو موقع عسكري أميركي صحراوي في شمال شرق الأردن تعرّض للهجوم بالطائرات المسيّرة، ما أسفر عن مقتل 3 جنود أميركيين وإصابة ما لا يقل عن 34 آخرين. ويضم «برج 22» نحو 350 فرداً من الجيش والقوات الجوية الأميركية. ويوفر موقّع القاعدة وسيلة للتسلّل إلى سوريا. وتقع القاعدة الأميركية في التنف في سوريا على بعد 20 كيلومتراً فقط شمال «برج 22» على طريق سريع سوري يؤدي إلى العراق، ويُعتقد أنها طريق محتمل لشحن الأسلحة من إيران إلى سوريا وحزب الله في لبنان. 

في العام 1996، أعلنت الولايات المتحدة أن الأردن «حليفاً رئيساً من خارج الناتو»، وبات يوجد نحو 3,000 عسكري أميركي في الأردن، علاوة على ذلك، نقلت الولايات المتّحدة العديد من القواعد العسكرية ومستودعات الأسلحة من قطر إلى الأردن في العامين الماضيين، وهذا يعني أن الأردن تترسّخ كمركز للوجود العسكري الأميركي في المنطقة.

وتتمتع بريطانيا بعلاقات وثيقة مع العائلة المالكة والجيش الأردنيين، إذ أنشأت بريطانيا النظام الملكي في أعقاب الحرب العالمية الأولى، الأمر الذي أدى فعلياً إلى تقسيم فلسطين. وتجري القوات المسلّحة البريطانية بانتظام تدريبات عسكرية مشتركة هناك. 

الحلف يستخدم الأردن كسياج إضافي ضدّ الوجود العسكري الروسي في سوريا وازدياد النفوذ الإيراني، وهو ما تعتبره كل من موسكو وطهران دليلاً إضافياً على توسّع حلف شمال الأطلسي الذي يستهدف البلدين

وفي نيسان/أبريل الماضي، أسقط الأردن صواريخ وطائرات مسيرة إيرانية كانت في طريقها إلى إسرائيل، وسمح لفرنسا باستخدام قاعدتها العسكرية في الرويشد لإسقاط الطائرات المسيرة الإيرانية. ولم يكتشف الرأي العام الأردني أن فرنسا لديها قاعدة هناك منذ العام 2015 إلا عندما وصل الرئيس إيمانويل ماكرون إلى المكان للاحتفال بعيد الميلاد الماضي! كما سمحت الأردن للطائرات المقاتلة الإسرائيلية بدخول المجال الجوي الأردني واعتراض الصواريخ الإيرانية. 

توفّر هذه الوقائع جميعها أدلة على مدى انخراط النظام الأردني في منظومة حلف «الناتو»، فالحلف يستخدم الأردن كسياج إضافي ضدّ الوجود العسكري الروسي في سوريا وازدياد النفوذ الإيراني، وهو ما تعتبره كل من موسكو وطهران دليلاً إضافياً على توسّع حلف شمال الأطلسي الذي يستهدف البلدين. وهو خطوة أخرى نحو تصعيد الحرب بالوكالة التي يشنّها الغرب ضد روسيا وإيران. 

زيادة التدخّل في الجنوب العالمي

يحاول «الناتو» ترسيخ وجوده خارج أوروبا. في السنة الماضية، تم الحديث عن نيّته افتتاح مكتب اتصال آخر في اليابان، ليستخدمه كمركز للتعاون مع أستراليا واليابان ونيوزيلندا وكوريا الجنوبية، إلا أن تلك الخطة لا تزال على الرفّ، ربما لأن ما تحمله من رسائل للصين الشعبية قد يكون أكبر من ما يمكن تحمّله الآن.

إن افتتاح الناتو مكتباً في الأردن أو اليابان أو توثيق علاقته مع أي دولة خارج أوروبا وشمال أميركا، يأتي في سياق فهم هذا الحلف العسكري لأمن أعضائه وحدود هذا الأمن. يقول الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ في مؤتمر صحافي مشترك مع وزير الخارجية الأميركي في حزيران/يونيو الماضي أن «أمننا ليس إقليمياً بل عالمياً. إن ما يحدث في أوروبا يهمّ آسيا. إن ما يحدث في آسيا يهمّنا، ويتجلّى هذا بوضوح في أوكرانيا حيث تدعم إيران وكوريا الشمالية والصين العدوان الحربي الروسي ضد أوكرانيا».

هذه الرؤية العالمية لحلف «الناتو» ليست جديدة، بل هي جوهر وجوده أصلاً، وهي أساس قيام الناتو ضد اتساع نفوذ الاتحاد السوفياتي في القرن الماضي. لقد أثير جدل طويل عن جدوى وجود الحلف بعد انهيار المعسكر الاشتراكي وحلف وارسو، إلا أن بزوغ قوى جديدة كالصين على الساحة الدولية أعاد التذكير بدور الناتو كأداة عسكرية لترسيخ هيمنة الغرب على العالم، وأتى الغزو الروسي لأوكرانيا كحجّة لتوسيع نطاق انتشار الحلف وتدخلاته. 

في 26 نيسان/أبريل 2024، أُبلغ المشرّعون من دول حلفاء الأطلسي أنه يتعيّن على أعضاء الناتو أن يسعوا جاهدين لتعميق علاقاتهم مع دول الجنوب العالمي لإحباط النفوذ الروسي والصيني المتزايد وإقناعهم بأهمية مساعدة أوكرانيا على الانتصار في الحرب، فقد «أصبح العمل بشكل أوثق مع البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل في جميع أنحاء أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية ضرورة استراتيجية أكثر من أي وقت مضى»، إذ أن «الفشل في القيام بذلك من شأنه أن يفتح الفرص أمام الجهات الفاعلة الخبيثة، وخصوصاً روسيا والصين، اللتين تتنافسان على القيادة في الجنوب العالمي».

لقد أثير جدل طويل عن جدوى وجود الحلف بعد انهيار المعسكر الاشتراكي وحلف وارسو، إلا أن بزوغ قوى جديدة كالصين على الساحة الدولية أعاد التذكير بدور الناتو كأداة عسكرية لترسيخ هيمنة الغرب على العالم

بحسب  مسودة التقرير الأولي الصادرة عن الهيئة الاستشارية لحلف «الناتو» في  25 آذار/مارس 2024، يعد التوسع نحو الجنوب ضرورة استراتيجية، إذ يرد فيه: «في المشهد المتطوّر للقرن الحادي والعشرين، برز الجنوب العالمي كلاعب محوري، وله تأثير كبير في تشكيل ديناميات عالمنا المترابط. لقد أدى رد الفعل العالمي المختلط على الغزو الروسي غير القانوني والوحشي واسع النطاق لأوكرانيا في العام 2022 إلى تحطيم النظرة الثنائية الراسخة للسياسة الدولية. من وجهة نظر حلف شمال الأطلسي، فإن الاعتراف بأهمّية الجنوب العالمي ليس مسألة وعي جيوسياسي فحسب، بل هو أيضاً ضرورة استراتيجية إذ تتنافس الجهات الفاعلة الخبيثة، وخصوصاً روسيا والصين، على القيادة في الجنوب العالمي».

 في هذا السياق، قام الناتو في العام 2023 بتكثيف التواصل السياسي مع دول البحر المتوسط ​​ومبادرة إسطنبول للتعاون، بما في ذلك الاجتماع مع ملك الأردن على مستوى مجلس شمال الأطلسي بالإضافة إلى زيارات كبار المسؤولين في «الناتو» إلى البحرين والأردن والكويت وموريتانيا وقطر وتونس والإمارات العربية المتحدة.

حاجة «الناتو» إلى الأردن

غزة هي أول ما يخطر في البال عند الحديث عن أي خطوة جيوسياسية في المنطقة الآن، فالإعلان عن إنشاء مكتب لحلف «الناتو» في الأردن في هذه اللحظة ينطوي على خطوة متقدّمة في المغامرة الأردنية، ولكنه يبدو كخطوة أكثر إلحاحاً للحلف بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. 

في إعلان لوزارة الدفاع الأميركية في 5 تموز/يوليو 2021، وفق ما ورد في تقرير منشور على الجزيرة، إشارة إلى أن «أعمال بعثة الناتو في الأردن تتضمّن المساعدة في تنفيذ العقيدة والسياسة الجديدة المنصوص عليها في وثائق الحلف لصالح القوات المسلحة الأردنية لدعم جهود هذه القوات في تلبية معايير الناتو. ويضاف إلى ذلك تقديم المشورة بشأن السياسات والوظائف والمهام، وهيكل القوات المسلحة الأردنية بهدف التطوير الكامل للتعاون مع دول الحلف». 

وفي إعلان الحلف الاخير، في مؤتمر عيده الـ 75 في العاصمة الأميركية واشنطن، يعتبر أن «تصرفات إيران المزعزعة للاستقرار تؤثر على الأمن الأوروبي الأطلسي». 

تأتي أهمّية الأردن في هذا السياق، من امتلاكها حدوداً مع العراق وسوريا، حيث تحظى إيران بنفوذ راسخ. وقد أثبت النظام الأردني ولائه التام للولايات المتحدة الأميركية وحلفائها في ردّ الهجوم الإيراني على إسرائيل على الرغم مما كلّفها ذلك من سخط شعبي وانفصام بين مزاعم التنديد بالجرائم الإسرائيلية وأفعال الدفاع عن إسرائيل في ظل الإبادة الجماعية التي ترتكبها.

والأردن جارة سوريا، حيث وجود روسيا الراسخ في المنطقة، وامتلاكها لقاعدة عسكرية بحرية في مدينة طرطوس، هي الأهم في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، فضلاً عن رسوخ النفوذ الإيراني. في السنة الماضية، أثبتت الأردن انحيازها للولايات المتحدة ضد روسيا، عندما استضافت سرباً من الطائرات المقاتلة الشبح من طراز F-22 التي نشرها البنتاغون لمواجهة ما اعتبرت «استفزازات» من القوّات الجوية الروسية ضد قوات الاحتلال الأميركية في سوريا.

الأحداث في المنطقة تجعلها الأكثر احتمالاً أن تفلت من يدي الحلف، أولاً لأن مستقبل المنطقة غير واضح، وثانياً لأن الكره العربي لقيم الغرب ومؤسساته أصبح أكثر بروزاً

تنقل «ذا ناشيونال» عن دبلوماسي كبير في الحلف أن تعميق العلاقات مع الجنوب العالمي لا يتعلق فقط بمواجهة روسيا، بل «لدينا أسبابنا الإيجابية الخاصة التي تجعلنا نريد تعميق تلك الشراكات من أجل أمننا». تعدّ الصين تهديداً للهيمنة الغربية، وهي تستمر في ترسيخ وجودها في الشرق الأوسط، بعد أن استطاعت تعظيم تبادلها التجاري في المنطقة والمساهمة في الاستثمارات الخارجية المتدفقة إليها، فضلاً عن نجاحها الدبلوماسي في مصالحة العدوان اللدودان السعودية وإيران.

أصبحت الصين «موضوعاً رئيساً على أجندة الناتو. بين عامي 2019 و2023، صاغ الناتو المبادئ الرئيسة لنهجه تجاه الصين، حيث وصفها بأنها تمثل تحدّياً (ولكن ليس تهديداً) لمصالح وقيم الحلفاء الأمنية». 

سعت الصين لتمتين علاقتها بالأردن، وهي تعد الآن ثاني أكبر شريك تجاري للأردن، ووقّع البلدان مذكرة تفاهم بشأن التعاون في إطار مخطّط الحزام والطريق في أواخر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، وتعهّدا بالعمل بنشاط على تعزيز تنسيق السياسات. 

اليوم وبعد الإبادة  في غزة، أصبح هذا التقارب أكثر أهمّية. يحاول الناتو بقيادة الولايات المتحدة الأميركية التمسّك بالشرق الأوسط وإعادة تمتين قبضته عليه، فإن الأحداث في المنطقة تجعلها الأكثر احتمالاً أن تفلت من يدي الحلف، أولاً لأن مستقبل المنطقة غير واضح، وثانياً لأن الكره العربي لقيم الغرب ومؤسساته أصبح أكثر بروزاً، فالأدوات والمؤسسات التي بناها الغرب لصيانة حقوق الإنسان وحل النزاعات فشلت كل الفشل عندما تعلّق الأمر بالإبادة في غزة.