
المال كإمبراطورية
المال هو الذي يجعل العالم يدور حول نفسه. كيف يتم ذلك على المستوى العالمي أو الدولي؟ تُسلِّط السيرة الذاتية المتقنة التي كتبها بيري ميرلينغ للخبير الاقتصادي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) تشارلز بور كيندلبرغر الضوء على العلاقة بين المال والبنية العالمية للقوى الاقتصادية والسياسية. كان كيندلبرغر، المؤرخ الاقتصادي المتميز، شخصية محورية ومؤسِّسَة في مجال العلوم السياسية الفرعي للاقتصاد السياسي الدولي، وذلك بما لم يكن يتوقعه هو شخصياً. فقد تجاوز النماذج الاقتصادية المجردة الناشئة في عصره، وطوّر منهجاً تجريبياً وعملياً أكد على أهمية البنية التحتية السياسية التي ترتكز عليها الأسواق المالية العالمية، والاحتمالية الدائمة لحدوث أزمة. تتخفّى في خلفية هذه السيرة الذاتية قصة أعظم عن الإمبراطورية، تُرِكت لتهمس بأرقِّ صوت ممكن – بصوتٍ شتراوسي خافت.
خادم الإمبراطورية؟
تقوم الإمبراطوريات على المال. يُدفع هذا المال في الإمبراطوريات القوية والمستقرة للبيروقراطيين الذين يديرونها، لذا تحتاج الإمبراطوريات إلى البشر أيضاً. كان مسار حياة كيندلبرغر في مراحله المبكرة متوافقاً مع المتطلبات البيروقراطية للإمبراطورية الأميركية في منتصف القرن العشرين. وكما يشير ميرلينغ مرات عديدة، كان كيندلبرغر بروتستانتياً أنغلوساكسونياً أبيض (WASP). كان البروتستانت الأنغلوساكسونيين البيض يشكّلون النواة العرقية القومية الأصلية للمستعمرات الثلاثة عشر، في إطار تعريفي اتّسع ليشمل المستوطنات الألمانية والهولندية «الأجنبية» في المستعمرات الواقعة وسط المحيط الأطلسي، ولكنه لم يتّسع بما يكفي ليشمل موجة الهجرة اللاحقة من الكاثوليك الأيرلنديين، ناهيك عن الأفارقة المستعبدين.
هيمن البروتستانت الأنغلوساكسونيون على السياسة والموارد المالية في إنكلترا الجديدة (نيو إنغلاند) ونيويورك، وبالتالي على الدولة الأميركية. كانت قمم التعليم العالي الأميركي – مجموعة صغيرة من المدارس الخاصة للتعليم الثانوي وجامعات هارفارد وييل وبرينستون للتعليم العالي – عبارة عن تجمعات خاصة للبروتستانت الأنغلوساكسونيين حتى مرحلة متقدمة من القرن العشرين. في كل من الروايات والواقع، كانت السيرة الذاتية النموذجية لموظفي مكتب الخدمات الاستراتيجية في الحرب العالمية الثانية (الذي سبق وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية)، تسير على النحو التالي: يلتحق البروتستانتي الأنغلوساكسوني من نيو إنغلاند بأكاديمية فيليبس، ثم بجامعة ييل، ويضيف دراسة لغة أجنبية رسمية استكمالاً للفترات التي قضاها في طفولته في أوروبا في خلال فصول الصيف، ثم يُعمَل على تجنيده من خلال شبكة والده في مكتب الخدمات الاستراتيجية، ويتقدم بسلاسة في التسلسل الهرمي لوكالة الاستخبارات المركزية بينما تقوم الدولة الأميركية بتثبيت وجودها الدبلوماسي والعسكري والاستخباراتي العالمي. هذه هي عملية بناء الإمبراطورية، باختصار.
هل كان المال، في شكل خلق الائتمان، قوة مستقلة بذاتها أم مجرد ستار يحجب «الاقتصاد الحقيقي»؟
لكن يبدو أن عوامل بسيطة منعت كيندلبرغر من التحول إلى خادمٍ أكثر إخلاصاً للإمبراطورية الخارجية التي بنتها الدولة الأميركية بعد الحرب العالمية الأولى 1. فقد التحق بمدرسة كينت الأقل مكانة نسبياً (كان شعارها: «مدرسة نخبوية، وليست مدرسة مخصصة فقط للنخبة»)، وجامعة بنسلفانيا التي أسسها الكويكرز (البروتستانت الأنغلوساكسونيون في جوهرهم هم إما أسقفيون أو مشيخيون)، وكان لديه ذوق سيء في الارتباط بأشخاص قد يكونون أو لا يكونون شيوعيين فعليين أثناء عمله في الحكومة الأميركية. العاملان الأولان، مجتمعان مع قدرته الفطرية، مكّنا كيندلبرغر من الحصول على مناصب في بعض الوكالات الحكومية، بما في ذلك مكتب الخدمات الاستراتيجية، ما وضعه على مسارٍ بدا متوقعاً، ومرغوباً فيه بالنسبة إليه، للوصول إلى الجهاز الإمبراطوري الأساسي. لكن هذا الجهاز جرّده من تصريحه الأمني في لحظة حاسمة في العام 1951، ما دفعه بعيداً من هذا المسار، حيث اتجه بدلاً منه إلى العمل الأكاديمي. ولو لم يتدخل «الرعب الأحمر» (رهاب الشيوعية) في الخمسينيات من القرن الماضي، لكان كيندلبرغر قد انتقل بسلاسة من عمله في خطة مارشال إلى أحد مناصبه السابقة في وزارة الخارجية أو الخزانة أو الاحتياطي الفيدرالي بدلاً من أن ينتهي به الأمر أستاذاً في قسم الاقتصاد في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.
كيندلبرغر كمؤرخ اقتصادي
هذا التحول غير المتوقع وضع كيندلبرغر في حالة من الاغتراب. لم يكن قسم الاقتصاد في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا على هامش الجهاز الإمبراطوري، نظراً لدوره غير المتناسب في تدريب الاقتصاديين للبنوك المركزية في الولايات المتحدة الأميركية وخارجها، لكن أدوات السياسة الفعلية كانت بعيدة المنال بالنسبة إلى كيندلبرغر. في ذلك الوقت، تأثرت كلية الاقتصاد في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بتوجه كلية الهندسة وجهود الحكومة الأميركية لقمع أي علم اجتماعي يتناول مسألة الصراع الطبقي، وروّجت بدلاً من ذلك لمناهج فردية منهجياً مثل نظرية الاختيار العقلاني. سلك علم الاقتصاد اتجاهاً غير تجريبي وغير عملي: نماذج رياضية شديدة التجريد لم يكن للمال والتمويل فيها أي دور. ساهم بول سامويلسون، من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، في إعادة صياغة دعوة كينز الصريحة لتحقيق العمالة الكاملة من خلال الدعم المالي الحكومي القوي وتوجيه الاستثمارات نحو سياسة نقدية أكثر تحفظاً. ومن المفارقات أن قسم الاقتصاد في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا اعتبر سامويلسون يسارياً لأنه دافع حتى عن هذا الشكل المعتدل من الإدارة الاقتصادية الكينزية 2. في الوقت نفسه، وعلى الضفة الأخرى، كانت القوات الجوية الأميركية تساعد شركة دوغلاس للطائرات في تأسيس مركز أبحاث السياسات العامة، الذي عُرف لاحقاً بمؤسسة الأبحاث والتطوير (RAND Corporation). دعمت RAND أوائل الاقتصاديين العقلانيين واقتصاديي الخيار العام – مثل كينيث أرو وجيمس بيوكانان – الذين جادلت أعمالهم بأن مجموعة معينة من الأفراد لا يمكنها أبداً أن تولّد بعقلانية القيم اللازمة لاقتصاد مُخطط فعال.
على النقيض من ذلك، فإن انخراط كيندلبرغر المباشر في صنع السياسات جعله أكثر براغماتية من الناحية الفكرية. يصفه ميرلينغ بأنه محلل استخباراتي في جوهره، يقوم بجمع الحقائق من جميع أنحاء العالم ويعمل على فلترتها مستعيناً بخبراته العملية، من بين أماكن أخرى، في بنك التسويات الدولية قبل الحرب العالمية الثانية، ومجلس الاحتياطي الفيدرالي، ومكتب وزارة الخارجية الذي كان يشرف على الإصلاحات الاقتصادية والنقدية في ألمانيا. وقد أدّى دوراً محورياً في تصميم خطة مارشال شديدة البراغماتية المرتكزة على الإنتاج، التي جمعت بين الانتعاش الاقتصادي الأوروبي والسياسات المناهضة للشيوعية، في حين أن عمله في بنك التسويات الدولية كشف له عن الآثار المزعزعة للاستقرار لتدفقات رأس المال الدولية قصيرة الأجل.
بالتالي، كان كيندلبرغر قريباً من مركز السلطة بالقدر الذي يتيح له أن يرغب في التأثير على السياسة الاقتصادية الخارجية للولايات المتحدة، بل وكان قادراً أحياناً على التأثير عليها. ومع ذلك، بقي دخيلاً من الناحية المنهجية، وعلى مسافة من زمام السياسة الفعلية. وكما وصف جوناثان كيرشنر على الغلاف الخلفي للكتاب بدقة، كان كيندلبرغر عازفاً ثانوياً في «فرقة جاز» الاقتصاد الأكاديمي، قادراً على جذب جمهوره الخاص فقط في مجالات أصغر مثل أبحاث السوق الأكاديمية المتخصصة في الاقتصاد السياسي الدولي. هناك كان من بين أولئك الذين يرفضون المناهج المعتمدة على النماذج الاقتصادية الرسمية، وكان ذلك فقط بعد تقاعده رسمياً من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.
ما هي الألحان التي عزفها في مواجهة رواد الاقتصاد؟ يستخدم ميرلينغ هنا كتابات كيندلبرغر ببراعة لتسليط الضوء على التفاعل بين النظرية الاقتصادية والسياسة النقدية الدولية الأميركية الفعلية تقريباً منذ الخمسينيات إلى الثمانينيات. ببساطة، كانت هناك قضيتان مهمتان، على الأقل بشكل علني في رواية ميرلينغ. هل كان المال، في شكل خلق الائتمان، قوة مستقلة بذاتها أم مجرد ستار يحجب «الاقتصاد الحقيقي»؟ وفي عالم يتكون من دول مستقلة اسمياً، لكل منها عملتها الخاصة، أي عملة ستستخدم لتسوية الحسابات؟ وراء هذه القضايا كانت هناك قضية ثالثة، عُبِّر عنها بوضوح في دراسة كيندلبرغر عن أسباب الكساد الكبير: من سينقذ النظام في حالة حدوث أزمة؟ بعبارة أخرى، من الذي تجلس نقوده على قمة هرم العملات العالمي، ما يمنحه السيطرة على عملية خلق الائتمان العالمي بفضل قدرته على إنقاذ النظام المالي العالمي؟
النماذج الرياضية الرسمية للاقتصاد التي طورت في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وأماكن أخرى بعد الخمسينيات – نماذج دورة الأعمال الحقيقية (RBC) ونماذج التوازن العام العشوائي الديناميكي (DSGE) المشتقة منها – تجاهلت المال. من بين الافتراضات المبسطة الهائلة التي وُضِعت للحصول على قابلية التطبيق في هذه النماذج – لا تضحكوا – هي الأسواق التنافسية المثالية، ووجود المعلومات الكاملة لدى المشاركين في السوق، وفي معظم الحالات، «الوكيل التمثيلي» – أي أسرة واحدة تعيش إلى ما لا نهاية وتمثل جميع المستهلكين 3. وبشكل رئيسي، افترضت هذه النماذج أيضاً حيادية المال. التغيرات في كمية النقود المعروضة لن تؤثر على أي من المتغيرات الحقيقية في الاقتصاد، مثل رأس المال المنتِج، والتوظيف، أو معدلات النمو. وعلى الرغم من أن النماذج النيوكينزية اللاحقة افترضت أسعاراً غير مرنة، إلا أن ذلك ببساطة أخّر التكيف مع حالة التوازن الحقيقي الكامن.
كل من كيندلبرغر وبشكل أكبر ميرلينغ، الذي تركز أعماله على الاختلالات المحتملة في الحسابات الدائنة والمدينة في الميزانيات العمومية المترابطة للشركات، يجدان مثل هذه الافتراضات غير صالحة. ركّز كيندلبرغر في جداله بوضوح على أشخاص حقيقيين يواجهون مشاكل مالية عملية بدلاً من الفاعلين العقلانيين المجردين في نماذج دورة الأعمال الحقيقية.4 واعتبر أن المشاكل الاقتصادية الأساسية في ذلك الوقت كانت نتيجة اختلالات هيكلية أنكرت نماذج دورة الأعمال الحقيقية وجودها بشكل صريح. 5 تعاملت خبرة كيندلبرغر في السياسة العملية تحديداً مع المشاكل الناجمة عن الفروقات بين الأموال الداخلة والأموال الخارجة للفاعلين والدول المشاركة في التجارة الدولية. كيف يمكن لبلد يعاني من عجز في ميزان المدفوعات – تدفق كبير من الواردات مقارنة بالقيمة الناتجة عن صادراته – الحصول على تمويل كافٍ لتجاوز الأزمة حتى تزداد الصادرات (أو تنخفض الواردات)؟ كيف يمكن للدول التعامل مع تدفقات المضاربة الداخلة والخارجة قصيرة الأجل من قبل المضاربين الدوليين؟
وهكذا ظهر إلى الواجهة كل من خلق الائتمان العالمي وتدميره في خلال الأزمات. جادل كيندلبرغر بأن النشاط التجاري العادي لا يمكن أن يحدث من دون خلق الائتمان، لأن معظم الشركات يجب أن تشتري المدخلات وتدفع للعمال قبل أن يتم الدفع لها من قبل عملائها. 6 عندما تقدّم البنوك الائتمان، فإنها تخلق في الوقت نفسه مجموعات متطابقة من الأصول والخصوم في الميزانية العمومية لكل من البنك والمقترض. بالنسبة إلى البنك، يخلق الإقراض أصلاً يتمثل في دين المقترض للبنك، بينما تخلق الوديعة التي ينشئها البنك لتمويل ذلك القرض التزاماً على البنك. أما بالنسبة للمقترض، فإن الوديعة في البنك تُعتبرالأصل المتطابق مع التزامه بالدين. والأهم من ذلك، إن خلق الائتمان يولّد المال من العدم، بدلاً من الاعتماد على بعض المدخرات السابقة.
جوهر أبحاث كيندلبرغر، وخصوصاً عمله الأكثر شهرة حول أسباب الكساد الكبير، هو دراسة كيفية تحول مشهد الديون العالمي هذا إلى أزمات، وهو موضوع استكشفه بالتفصيل في كتاب «الهوس والذعر والانهيارات: تاريخ الأزمات المالية». في هذا الكتاب، جادل بأن غياب فاعل مركزي قوي يعني أن الفاعلين الأقل قوة الذين يواجهون اختلالات المدفوعات والديون غير القابلة للتحصيل التي تراكمت حتى العام 1929 لم يتمكنوا من العثور على منقذ، ما أدى إلى أزمة عالمية. قبل الحرب العالمية الأولى، كان بنك إنكلترا والأصول البريطانية الضخمة في الخارج يدعمان النظام المالي العالمي. بعد الحرب العالمية الأولى، وكما قال كيندلبرغر بعبارته الشهيرة: «بريطانيا لم تستطع، والولايات المتحدة لم ترد توفير استقرار النظام».7 بعد الحرب العالمية الثانية، أصبحت الولايات المتحدة أكثر استعداداً للتصرف كقوة تثبيت للنظام، أو كما وصفها علماء الاقتصاد السياسي الدولي لاحقاً، كقوة مهيمنة. فرض مؤتمر بريتون وودز في العام 1944 الدولار الأميركي كعملة رئيسة للنظام النقدي العالمي بعد الحرب. ورُبِطت العملات الأخرى بالدولار بينما رُبِط الدولار بما وصفه كينز «البقايا البربرية» المتمثلة بالذهب. 8 من حيث المبدأ، حل هذا مشكلة استقرار أسعار الصرف حتى أصبح بالإمكان إجراء المدفوعات بسهولة أكبر، وإذا دعت الحاجة، يمكن أن تتم بالذهب. لكن على المستوى العملي، أوجد ذلك مشكلتين: واحدة مباشرة وأخرى مستقبلية. تناول عمل كيندلبرغر إلى حد كبير المشكلة المباشرة وتوقع القضايا المتعلقة بالمشكلة المستقبلية.
كانت المشكلة المباشرة هي التوتر الذي حدّده روبرت تريفين بين احتياجات السيولة العالمية وثقة الجهات الفاعلة الأجنبية في قدرتها الفعلية على استبدال الدولارات بالذهب. تطلب توسع التجارة العالمية توفير قدرٍ متزايد من الائتمان التجاري المقوّم بالدولار في الأسواق العالمية. ولكن إذا تجاوزت الكمية المعروضة من الدولارات في الأسواق المالية الخارجية حجم الذهب الذي يحتفظ به الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، فهل يمكن لأحد أن يثق في أن الدولارات قابلة للاسترداد فعلياً في حالة وقوع أزمة؟ بالإضافة إلى ذلك، ما لم تنمو التجارة العالمية بشكل متناسب مع النمو في الولايات المتحدة، فإن نمو المعروض النقدي سيكون غير متناسب مع أحدهما أو الآخر. في الواقع، نمت التجارة العالمية بشكل أسرع بكثير من الاقتصاد الأميركي، وتجنبت البنوك بشكل متزايد الضوابط التنظيمية لتمويل هذا النمو، ما ساهم في التضخم العالمي في الستينيات وفاقم تراكم فائض الدولار مقابل الذهب. وسواء كان ذلك صحيحاً أم لا، اتهم البعض الولايات المتحدة بإساءة استخدام امتيازها المفرط – القدرة على تمويل عجز حسابها الجاري بعملتها الخاصة وعلى ما يبدو من دون أي عقوبة – وبالتالي تصدير التضخم إلى دول الفائض التجاري التي كان عليها قبول دولارات ذات قيمة متناقصة.
ما هي الخيارات المتاحة؟ اقترح تريفين استخدام عملة اصطناعية ترتكز على سلة من العملات الرئيسية لحل مشكلة السيولة، والتي نعرفها الآن باسم حقوق السحب الخاصة (SDRs) التي يحتفظ بها صندوق النقد الدولي. في المقابل، وجد كيندلبرغر أن هذه كانت في جوهرها مشكلة سياسية تتعلق بسوء التنسيق بين البنوك المركزية. كانت البنوك العادية تقوم بإنجاز معاملاتها بشكل يومي، وتموّل النقص من خلال قروض ليلة واحدة من بنوك أخرى، أو في الحالات القصوى، من البنك المركزي. في غياب بنك مركزي عالمي رسمي، اقترح كيندلبرغر أن تتفق البنوك المركزية على تمويل عجز بعضها بعضاً من خلال الاحتفاظ بفائض الدولارات (أو غيرها) بدلاً من فرض التسوية اليومية. في الواقع، اقترح خطوط المقايضة التي تشكل الآن المرتكز الأساسي للاستجابة للأزمات المالية العالمية. ولكن في المحصلة، جاءت حقوق السحب الخاصة متأخرة جداً وغير فعالة، وفشلت النسخة المبكرة من خطوط المقايضة في استقرار قيمة الدولار مقابل الذهب.
كان كيندلبرغر متفائلاً بشأن فائض الدولار. رأى أن النظام المالي الأميركي يعمل أساساً مثل بنك للعالم، حيث يتلقى الودائع قصيرة الأجل، ثم يعيد تدويرها كإقراض طويل الأجل، وبسبب قوة اقتصاده، يقبل المخاطر الناجمة عن التفاوت في آجال الاستحقاق. ما كان مهماً، كما جادل بعد أن قام نيكسون بفك الارتباط بين الدولار والذهب، هو ضرورة أن تكون هناك قيادة، وأن يقبل القائد تكاليف كونه المقرض والوسيط ومشتري السلع كملاذٍ أخير لدعم قيمة الأصول في حال حدوث أزمة. حوّل قسم الاقتصاد السياسي الدولي هذه الرؤية إلى نظرية استقرار الهيمنة.
الهيمنة والديون والإمبراطورية
تأتي شهرة ميرلينغ نفسه من التوجه إلى مستوى أعمق من كيندلبرغر وتوضيح الميزانيات العمومية المتشابكة التي تشكل النظام المالي العالمي وتحدد استقراره. وفي إطاره، تُدعَم الأصول بمدفوعات المدينين، وبالتالي تكون معرضة لخطر التعثر عن السداد. يؤدّي البنك المركزي دوراً محورياً في التعامل مع الأزمات النظامية الناتجة عن انهيار قيمة الضمانات عندما يعجز المدينون عن السداد. باختصار، المشاكل المتعلقة بتنظيم المدفوعات ليس يومياً فقط، ولكن أيضاً مثل تلك التي تعامل معها كيندلبرغر أثناء عمله في بنك التسويات الدولية، على المستوى العالمي، بعملات مختلفة، وعلى فترات طويلة من الزمن. استلهم ميرلينغ من هيمان مينسكي، وعكس بشكل دقيق افتراضات دورة الأعمال الحقيقية: الرأسمالية هي نظام مالي أولاً وقبل كل شيء، والكلب المالي يحرك ذيل الاقتصاد الحقيقي. هذه «النظرة النقدية» تناسبه بشكل فريد لتفكيك حجج كيندلبرغر عن الاختلالات والبنوك المركزية. يتشارك ميرلينغ بشكل صريح وكيندلبرغر بشكل ضمني المنظور نفسه الذي يرى أن الائتمان (وبالتالي الدين) يخلق المال، وليس العكس.
إن خلق الائتمان يولّد المال من العدم، بدلاً من الاعتماد على بعض المدخرات السابقة
هكذا يتلقف ميرلينغ الأهمية التي يوليها كيندلبرغر للبنوك في خلق النقود. ويكمل ذلك برؤية مينسكي بأن خلق الائتمان المصرفي هو بطبيعته ممتثلٌ للدورة الاقتصادية، يتغذى على نفسه حتى يولد مستويات غير مستدامة من الديون. كل توسع جديد في الائتمان يضخ المزيد من المال وبالتالي المزيد من الطلب الكلي في الاقتصاد. وزيادة الطلب الكلي تؤدي إلى تأكيد صحة التوسعات السابقة في الائتمان والضمانات التي تدعم ذلك الائتمان، لأن هؤلاء المدينين سيصبح لديهم المال لسداد الفوائد وأصل الدين. ومع ذلك، فإن هذه العملية تتسم بخاصية التدمير الذاتي. كل تأكيد للاقتراض السابق لا يشجع على المزيد من الاقتراض فحسب، ولكن على اقتراضٍ عالي المخاطر، بحيث يزاحم المقترضون المغامرون المستعدون لدفع سعر أعلى للأصول في النهاية المقترضين المحافظين. في نهاية المطاف، يحتاج المقترضون المغامرون إلى تحقيق مكاسب رأسمالية من خلال البيع لـ «مُغفلين أكبر» من أجل سداد ديونهم. لكن كما جادل مينسكي، وكما تبيّن لنا في العام 2008، فإننا ننفد في النهاية من المُغفلين الأكبر. وعندما يحدث ذلك، إما أن ينهار النظام المصرفي، كما حدث في الفترة من العام 1929 إلى 1931، أو يتدخل البنك المركزي لإنقاذ النظام المصرفي، كما حدث في العام 2008.
يبني ميرلينغ أيضاً على ملاحظات كيندلبرغر بأن استقرار النظام المالي العالمي يعتمد على مشتري الملاذ الأخير للأصول المتضررة وأي فائض في السلع. في الواقع، بُنيت مسيرته المهنية على فكرة أن بنك الاحتياطي الفيدرالي لم يعد فقط المقرض الأخير للبنوك، بل أصبح أيضاً المتعامل الأخير لسوق الأوراق المالية الأميركية بأكملها وجزء كبير من السوق المالية العالمية. توصل كيندلبرغر، الذي عاش في أوقات أبسط إلى حد كبير، إلى الاستنتاج نفسه تقريباً عن النظام المالي العالمي. يعاني هذا النظام من المشاكل نفسها المتعلقة بعدم تطابق المدفوعات والإفراط في خلق الائتمان، كما هو الحال في الأنظمة المالية المحلية، ولكن مع مشكلة إضافية تتمثل في تعدد العملات. هنا، تكمن أهمية مقولة مينسكي بأن أي شخص يمكنه خلق المال، لكن المشكلة تكمن في جعل الآخرين يقبلونه.9 يجب سداد الديون المستحقة بالعملة الأجنبية والتحقق من صحتها بتلك العملة الأجنبية، وقد لا يتمكن البنك المركزي في بلدك من مساعدتك بمجرد تقديم ائتمان طارئ بعملتك الوطنية.
ولكن ربما لأن ميرلينغ نفسه يرى خلق الائتمان الخاص والمال الخاص كقوة ذات تأثير أكبر قليلاً من المال الحكومي، فإن معالجته لعمل كيندلبرغر تترك طبيعة القوة في الاقتصاد العالمي غير مستكشفة إلى حد كبير. سعى كيندلبرغر بوضوح إلى إيجاد لغة ونماذج تنظيمية تخفي التسلسل الهرمي الحقيقي الموجود في حلوله المفضلة لعدم الاستقرار النقدي.10 ويشير ميرلينغ إلى أنه كان، في نهاية المطاف، مؤمناً بكفاءة الأسواق، ولكنه خفف من هذا الاعتقاد من خلال ملاحظة أن هذه الأسواق تحتاج إلى درجة معينة من التدخل السياسي لتحقيق الاستقرار.
كان اقتراحه لتوسيع لجنة السوق المفتوح التابعة لبنك الاحتياطي الفيدرالي مثالاً على ذلك. جادل كيندلبرغر بأنه يجب على اللجنة أن تقبل تمثيل البنوك المركزية في الاقتصادات التسعة الكبرى الأخرى الرئيسة المتصلة بالسوق الحر. وبالتالي، ستحظى مجموعة العشرة بتمثيل ضمن ما سيكون فعلياً البنك المركزي العالمي، الذي يحدد سعر الفائدة العالمي، ويدعم العملات في مواجهة المضاربين، ويتدخل خلال الأزمات المالية. ولكن هذا لم يكن نوع غرفة المقاصة العالمية جنباً إلى جنب مع البنك المركزي الذي اقترحه كينز في بريتون وودز. كان لا يزال بوضوح البنك المركزي لدولة واحدة – إذ أظهرت الأزمة المالية العالمية في العام 2008 وأزمة كوفيد-19 في العام 2020 كيف يتربع الاحتياطي الفيدرالي والدولار على قمة النظام المالي العالمي. في العام 2008، قام الاحتياطي الفيدرالي بإنقاذ الأنظمة المالية الرئيسة الأخرى عبر بنوكها المركزية. استخدمت عمليات الإنقاذ خطوط مقايضة متماثلة ظاهرياً، لكن البنوك الأميركية لم تتلق مساعدة من البنوك المركزية الأجنبية، ما كشف عن اختلال التوازن الجوهري في القوة. بحلول العام 2020، ترسّخت خطوط المقايضة بقوة، وبلغت السحوبات القصوى في خلال كوفيد-19 حوالي ثلاثة أرباع مستوى 2008-2009.
ولكن ميرلينغ يلاحظ أيضاً أن الأمر انتهى بكيندلبرغر على مسافة كبيرة من التيار السائد من الاقتصاديين، الذين يرون أن أي تدخل سياسي يهدد بإزعاج الأسواق بدلاً من استقرارها، حتى لو لم ير الأسواق المالية كتعبير عن القوة السياسية فيما يخص كيفية خلق وتوزيع الائتمان. لكن أسواق الائتمان هي مظاهر وتعبيرات عن تلك القوة، كما جادلت سوزان سترينج، إحدى مؤسسي الاقتصاد السياسي الدولي. هذه القوة لها أبعاد هيكلية وتكتيكية وعملية.
لا يحتاج الأمر إلى جهد كبير لملاحظة أن دعوة ممثلين من البنوك المركزية التابعة يشبه توسيع المواطنة الجزئية من الجمهورية الرومانية إلى جيرانها اللاتينيين، 11نادراً ما تكون الإمبراطورية علاقة قيادة وسيطرة بحتة. في الإمبراطورية البريطانية في القرن التاسع عشر، منحت لندن استقلالية محلية كبيرة للمستعمرات الأغنى التي استوطنها الأوروبيون والتي أصبحت أستراليا وكندا ونيوزيلندا. لكن الجنيه الإسترليني دعم الأنظمة النقدية لتلك المستعمرات، وحدد بنك إنكلترا بشكل فعال أسعار الفائدة لها، وكانت ديونها مقومة بالجنيه الإسترليني.
وعلى هذا المنوال، اليوم يمثل الائتمان العالمي المقوم بالدولار ثلثي الإجمالي، وأغلبه مقدم من بنوك غير أميركية. يربط الفائض الهائل من الأصول والالتزامات المقومة بالدولار في ميزانيات البنوك الأجنبية ببنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي بالقدر نفسه الذي كانت ترتبط به أنظمة البنوك الاستعمارية القديمة ببنك إنكلترا. يجب على البنوك اللجوء إلى الاحتياطي الفيدرالي للمساعدة إذا تضررت تلك الأصول، كما أظهرت أزمة 2008.
من الناحية التكتيكية، تعني مركزية الدولار أن معظم المعاملات العالمية تتدفق عبر نظام مالي مقوم بالدولار حيث يسيطر بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك بالصمامات الحيوية لإيقاف التدفقات. تنبع قوة الدولة الأميركية في فرض العقوبات المالية من السيطرة على هذا النظام، ولم تحقق الجهود المبذولة لبناء أنظمة بديلة سوى نجاح ضئيل.
ختاماً، استحوذت المراكز الحضرية البريطانية والأميركية على كميات هائلة من الموارد المادية غير المستحقة من إمبراطورياتها الرسمية وغير الرسمية. تمثل الولايات المتحدة لوحدها نصف العجز التراكمي في الحساب الجاري العالمي من 1992 إلى 2020 – والذي يتكون في معظمه من النفط والسيارات والإلكترونيات والملابس. من الصعب حساب الرقم المعادل لبريطانيا، لكن بريطانيا استوردت ما يقرب من نصف استهلاكها الغذائي ومعظم القطن والصوف الذي يغذي صناعة المنسوجات الضخمة. لم يكن بإمكان أي منهما القيام بذلك إذا كان عليهما تسديد ثمن تلك الواردات بشيء آخر غير عملتهما الخاصة.
يحتاج المقترضون المغامرون إلى تحقيق مكاسب رأسمالية من خلال البيع لـ «مُغفلين أكبر» من أجل سداد ديونهم
ولكن حتى إذا كنا لم نرغب في الذهاب إلى حد وصف الاقتصاد العالمي وبنيته المالية كإمبراطورية تتمحور حول الدولة الأميركية وعدد قليل من الشركات، فإن هذا الاقتصاد ونظامه المالي بعيد كل البعد من أن يكون محايداً. كما جادل ياكوف فيغين ودومينيك لوسدر، وكما ذكر ماثيو كلاين ومايكل بيتيس في كتابهما الأخير، فإن توفير العملة الرئيسة يفرض تكاليف، ولكن ليس بأي طريقة منصفة. بدلاً من ذلك، يتعرض العمال في القطاع التجاري الأميركي، والذي يتكون في الغالب من الصناعات، إلى خسائر مع انتقال وظائفهم إلى الخارج، بينما يتلقى العمال في البلدان التي تحقق فائضاً في صادراتها حصة أصغر بكثير من إنتاجهم ومما كان يمكن أن يحصلوا عليه في ظروف مختلفة. يستفيد القطاع المالي الأميركي والشركات التصديرية الأجنبية من العجز في الحساب الجاري الإسمي البالغ 11.6 تريليون دولار الذي تراكم في الاقتصاد الأميركي من 1992 إلى 2020. وتستفيد شريحة محدودة من سكان الولايات المتحدة من تحويل الموارد الحقيقية الذي يفرضه عجز الحساب الجاري، بينما يتحمل العمال ودافعي الضرائب الأميركيين الأعباء المرتبطة به. تقف اقتصادات الفائض التصديري على الجانب الآخر من هذا العجز. تحصل الشركات الأجنبية على أصول مقومة بالدولار – مطالبات ورقية، وليست موارد حقيقية – ينتجها النظام المالي الأميركي، ولكن فقط لأن استهلاك موظفيها محدود، ما يتيح لها تحقيق فوائض التصدير.
هنا تتضح ملامح الإمبراطورية. قد يتوقف كيندلبرغر وميرلينغ بعد التنبيه إلى مخاطر السداد والاختلالات المتأصلة في اقتصاد عالمي تنتج فيه البنوك غير الأميركية 90% من الإقراض عبر الحدود المقوم بالدولار، وحيث تُحوَّل فواتير أكثر من نصف التجارة العالمية بالدولار. لكن نقل الموارد الحقيقية إلى المركز، والالتصاق الناتج عن كون المدخرات مقومة بعملة المركز، يشيران إلى اختلال عميق في توازن القوى. لهذه الأسباب، كان من الأفضل أن يكون عنوان الكتاب «المال كإمبراطورية».
نُشِر هذا المقال في 25 شباط/فبراير 2023 في Phenomenal World، وترجم إلى العربية ونشر في موقع «مجلة صفر» بموجب اتفاق مع الجهة الناشرة.
- 1
تمتد الإمبراطورية الداخلية، بالطبع، من جبال الأبالاش إلى المحيط الهادئ، وقد بُنيت بشكل منهجي على شراء الأراضي والحرب وتهجير السكان.
- 2
ميرلينغ، المال والإمبراطورية، ص 101-102.
- 3
لقد أدت الإصدارات اللاحقة من نماذج دورة الأعمال الحقيقية (RBC) إلى إدخال الشركات الاحتكارية، ودفعت الأزمة المالية في عام 2008 إلى بذل الجهود لإدخال المتغيرات المالية.
- 4
ميرلينغ، المال والإمبراطورية، ص 22-23.
- 5
ميرلينغ، المال والإمبراطورية، ص 126-129.
- 6
الاستثناءات هي شركات مثل أمازون، التي تجمع المدفوعات على الفور ثم ترسلها إلى مورديها بعد تأخيرات تستمر في كثير من الأحيان لأكثر من شهر.
- 7
تشارلز كيندلبرغر، 1973. العالم في حالة كساد، 1929-1939، (بيركلي: مطبعة جامعة كاليفورنيا)، ص 289.
- 8
جون ماينارد كينز، 1925. الإصلاح النقدي (هاركورت، بريس وشركاه)، ص 172.
- 9
هيمان مينسكي، 1986. الاستقرار في اقتصاد غير مستقر (نيو هيفن، كونيكتيكوت: مطبعة جامعة ييل)، ص 255.
- 10
ميرلينغ، المال والإمبراطورية، ص 245.
- 11
تمتع اللاتينيون بنوع من شبه المواطنة الرومانية التي وضعتهم فوق جيران روما من الاتحادات أو الفيدراليات، الذين كانوا مجرد حلفاء حتى قامت روما بتوسيع نطاق المواطنة لتشمل كل إيطاليا في العام 87 قبل الميلاد.