Preview اضطرابات البحار

ما المخاطر التي تواجه السفن التجارية في رحلتها من الشرق إلى الغرب؟
اضطرابات البحار

في كوكب تتصاعد فيه التوترات الجيوسياسية والحروب التجارية والأزمات الاقتصادية، وتأخذه أزمة مناخية إلى مستقبل مرعب، لا تبقى المحيطات والبحار ممرّات آمنة أو مشاعات حرّة، بل تتحوّل إلى جبهات في الصراعات المفتوحة وميادين للسيطرة والاستحواذ والإخضاع والعقاب. لذلك، يسود القلق الآن من أن تنتقل صواعق التفجير من باب المندب إلى مضيق هرمز، ومن مضيق تايوان إلى مضيق ملقا، وأن تستفحل الظواهر المناخية وتستمر بعرقلة الملاحة عبر قناة بنما. يعتقد المحلّلون أن تعطّل الملاحة في أي مضيق من هذه المضائق الخمسة الأكثر توتراً واختناقاً في العالم سيؤدّي إلى أزمة عالمية وخسائر كبيرة، ويسترشدون بما حصل في آذار/ مارس 2021 عندما جنحت ناقلة حاويات وسدّت قناة السويس لمدّة 6 أيام، وتسبب ذلك بضرر بالغ، حيث يمرّ 30% من الحاويات و12% من مجمل التجارة بين دول العالم اجمع.

في الواقع، على عكس ما توحي به الخرائط المدرسية للكرة الأرضية، التي تُظهر اليابسة محاطة بالمياه ومفتوحة بعضها على بعض ويسهل فيها الملاحة والإبحار، فالمعابر التي تتخذها السفن لنقل البضائع والسلع الوسيطة والوقود بين البلدان تمرّ في مضائق وقنوات وبحار معسكرة تمثّل الشرايين الرئيسة التي تجري فيها دماء التجارة العالمية، ولا سيما بين الشرق والغرب، إذ تتراوح التقديرات لحجم التجارة المنقولة في البحر بما بين 80% و90% من مجمل حركة التجارة العالمية، وكل انسداد في شريان من هذه الشريان يؤثّر تأثيراً كبيراً على سلاسل التوريد، ليس على صعيد السلع الاستهلاكية فقط، بما في ذلك الغذاء والدواء، بل أيضاً السلع الوسيطة التي تحتاجها الصناعة، وكذلك الوقود الذي تحتاجه الطاقة.

Previewاضطرابات البحار

الشريان الأورطي للتجارة العالمية

يبدأ مسار رحلتنا عند مصنع العالم ومورّد سلعه الأوّل، شرق آسيا، حيث تنطلق السفن من الموانئ الصينية واليابانية والكورية في بحر الصين الشرقي، وتعبر مضيق تايوان المضطرب إلى بحر الصين الجنوبي المتنازع عليه بين الصين وفيتنام والفلبين وبروناي. تشق طريقها عبر مضيق سنغافورة وملقا الواقع بين ماليزيا وإندونيسيا، والحساس تجاه تقلبات السياسة والمعرّض للقرصنة. ومن هناك تنفد السفن من المحيط الهادي إلى المحيط الهندي، عبر خليج البنغال الذي يخضع لنفوذ الهند، وصولاً إلى بحر العرب الواقع بين باكستان وسلطنة عُمان واليمن والصومال. هنا، يشكّل بحر العرب مفترق طرق، إمّا باتجاه مضيق هرمز بين إيران والإمارات العربية المتحدة نحو الخليج العربي، حيث توجد ممالك الخليج النفطية (السعودية، أبو ظبي، قطر، البحرين، الكويت) والمنفذ الوحيد للعراق إلى البحر. وإمّا باتجاه خليج عدن ومضيق باب المندب بين اليمن وجيبوتي نحو البحر الأحمر بين السعودية من جهة وإرتيريا والسودان ومصر وفلسطين المحتلة والأردن من جهة أخرى، حتى تصل إلى قناة السويس في مصر وتعبر منها نحو البحر الأبيض المتوسط، وهنا أيضاً لديها وجهات متعددة، إمّا باتجاه بحر إيجة بين تركيا واليونان، ومنه إلى بحر مرمرة عبر مضيق الدردنيل وصولاً إلى البحر الأسود عبر مضيق البوسفور. وإمّا باتجاه الحوض الغربي للبحر المتوسط والعبور فوق النتوءات الصخرية بين إيطاليا (صقلية) وتونس (مرسالة) حيث لا يتجاوز عمق المياه فيها 400 متر بالمقارنة مع 4000 متر متوسط العمق في الحوضين الشرقي والغربي. ومن هناك باتجاه مضيق جبل طارق بين إسبانيا والمغرب، والنفاد نحو المحيط الأطلسي الشمالي، والاتجاه نحو القناة الإنكليزية وعبور مضيق دوفر بين بريطانيا وفرنسا إلى بحر الشمال وبحر البلطيق، أو عبور المحيط الأطلسي نحو السواحل الشرقية لأميركا وصولاً إلى قناة بنما التي تصل شمال المحيط الأطلسي بشمال المحيط الهندي.

طبعاً، توجد مسارات مباشرة بين أميركا وآسيا عبر المحيط الهندي، وبين أميركا وأوروبا وأفريقيا عبر المحيط الأطلسي، كما توجد مسارات إضافية أو بديلة تسلكها السفن للعبور بين المحيطين، عبر الالتفاف حول أميركا الجنوبية وحول أفريقيا الجنوبية، ولكنهما المسارين الأطول والأكثر كلفة لمعظم وجهات التجارة بين الشرق والغرب، أو يمكن الالتفاف عبر المحيط المتجمّد الشمالي، ولكن ممراته محفوفة بمخاطر جمّة وهي غير صالحة للملاحة لأوقات طويلة في السنة. لذلك، يعدّ المسار الذي رسمناه لحركة الشحن البحري في الاتجاهين (ذهاباً وإياباً) بين مضيق تايوان ومضيق بنما بمثابة الشريان الأورطي، أكبر شريان للتجارة، الذي سيؤدي أي انسداد فيه إلى نوبات وجلطات وربما «سكتة قلبية» للاقتصاد العالمي.

مضيق تايوان: الحرب الباردة الجديدة

في أقصى شرق خارطة العالم التي ألفناها في حصص الجغرافيا المدرسية، وعند دائرة العرض المعروفة بمدار السرطان أو المدار الشمالي، يقع مضيق تايوان، معبر مائي يفصل تايوان عن الصين بـ160 كم فقط، أي بمسافة أقصر من كامل ساحل لبنان المتواضع، هناك، وفي شهر كانون الثاني/ يناير 2024، بعد بضعة أيام من فوز مرشح الحزب الديمقراطي التقدمي، لاي تشينج تي، بالانتخابات الرئاسية التايوانية لولاية إضافية، والذي تتهمه القيادة الصينية بالانفصالية، رصدت وزارة الدفاع التايوانية عدد من الطائرات التابعة للقوات الجوية الصينية تحلّق وتنفذ دوريات استعداد قتالي مشترك مع سفن بحرية صينية، بعدها في الشهر نفسه، أبحرت سفينة حربية تابعة للقوات البحرية الأميركية عبر مضيق تايوان، في تحد واضح للصين الشعبية والحزب الشيوعي الحاكم للبلاد. وفي نهاية الشهر نفسه أيضاً، تم الكشف عن مشروع تنفّذه تايوان في جزيرة تايبينغ ببحر الصين الجنوبي، لتوسيع رصيف بحري ضخم وتطوير مهبط طيران جوي في الجزيرة، بهدف استقبال معدات عسكرية ثقيلة، وترى الصين في هذا اعتداء على سيادتها، وتتخوّف من أن حكومة تايبيه تقوم بذلك لمساعدة السفن الحربية الأميركية على الرسو في تايبينغ. علماً أن هذه الجزيرة متنازع عليها بين الصين والفلبين وفيتنام. وسبق أن حذّرت الصين تايوان من هذه الخطوة، قائلة إنها ستشعل الأعمال العدائية في بحر الصين الجنوبي، كما اتهمت أميركا بمحاولة التجسس عليها.

تعهّد لاي تشينج تي بالدفاع عن الجزيرة في وجه ما أسماه «الترهيب» الصيني، فتايوان تتمتع بالحكم المستقل عن الصين منذ العام 1949، إلا أن الصين تعتبر الجزيرة جزءاً لا يتجزّأ من أراضيها، ولطالما تعهدت بتوحيدها مع البر الصيني في نهاية المطاف، باستخدام القوة إذا لزم الأمر، وأرسلت الصين على مدى السنوات الماضية طائرات وسفناً حربية بشكل منتظم إلى السماء والمياه المحيطتان بالجزيرة، في ظل قيادة شي جين بينغ للحزب الشيوعي الصيني، الأكثر حزماً منذ عقود.

أما الولايات المتحدة الأميركية، فترى في منطقة مضيق تايوان ساحة المواجهة الجغرافية الأساس مع الصين، إذ أن توحيد الجزيرة مع البر الصيني قد يعطي نقطة أفضلية حاسمة للصين على أميركا في حربهما التجارية، التي احتدت أيّما احتداد في العقد الماضي، فقد يقرّب ذلك الصين من الوصول إلى حلمها في أن تقاسم الولايات المتّحدة في لقب أكبر اقتصاد في العالم، ويعيد تشكيل مسرح السياسة العالمية من كونه أحادي القطب تسيطر عليه الولايات المتحدة إلى ثنائي القطب تشارك فيه الصين الشعبية، ويعود ذلك إلى أن جزيرة تايوان تنتج أكثر من 60% من أشباه الموصلات في العالم وأكثر من 90% من أشباه الموصلات الأكثر تقدماً، والتي هي الآن وفي المستقبل المنظور، العناصر الأساسية لإنتاج غالبية الأنظمة الإلكترونية، التي تخدم تطبيقات الاتصالات ومعالجة الإشارات والحوسبة والتحكم في كل من الأسواق الاستهلاكية والصناعية، الأمر الذي يجعل من حصار صيني للجزيرة -  من دون احتلالها بالضرورة - أزمة عالمية كبرى.

لهذه الاضطرابات على مضيق تايوان أثرها في رحلة سفن الشحن التجارية حول العالم، فهو المعبر المائي الفاصل بين بحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي، وطريق الشحن الرئيسي بين الصين واليابان، ثاني وثالث (حتى السنة الماضية) أكبر اقتصادات العالم، نحو أوروبا، وطريق تجاري أساس لدى كوريا الجنوبية، إحدى أهم مزوّدي التكنولوجيا في العالم، فعبره تنقل البضائع المصنعة في مصانع آسيا إلى العديد من المصانع والمستهلكين في العالم، وقد مر نصف أسطول الحاويات العالمي و88% من أكبر السفن في العالم من حيث الحمولة عبر المضيق في 2022.

تسعير نزاعات بحر الصين الجنوبي

إن اضطرابات تايوان قابلة لأن تعدي دول الجوار في بحر الصين الجنوبي، وأن تثير نيراناً مستعرة أساساً، فبعد الانتخابات الرئاسية التايوانية، سارعت الصين إلى توبيخ الدول التي هنأت، من سمته بالإنفصالي الخطير، لاي تشينج تي، لكنها احتفظت بأقوى إداناتها للفلبين، إحدى الدول المطلة على بحر الصين الجنوبي، حيث نصحتها الصين «بعدم اللعب بالنار» ونصحت رئيسها «بقراءة المزيد من الكتب» لفهم النزاع بشأن تايوان. يمثل هذا التبادل المرير إحدى أحدث حلقات النزاع المتصاعد بين الصين والفلبين، التي اتخذت موقفاً أكثر حزماً في عهد الرئيس فرديناند ماركوس الابن ضد الإجراءات التي تتخذها بكين في المياه المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي بحيث تفاقمت التوترات العام الماضي بعد المواجهة التي حصلت بين سفن من الفلبين والصين في المياه المتنازع عليها بين البلدين، وقد أفضت هذه التوترات إلى تزايد النشاطات العسكرية المشتركة بين الفلبين والولايات المتحدة، آخرها في 11 شباط/ فبراير 2024، حيث نظمت الفلبين والولايات المتحدة دوريتهما المشتركة الثالثة في بحر الصين الجنوبي في أقل من ثلاثة أشهر. 

ليست الفلبين الدولة الوحيدة المتنازعة مع الصين فيما يتعلق بأمور السيادة البحرية، فالصين تطالب بكامل بحر الصين الجنوبي تقريباً، وأثار ذلك استعداء بروناي وإندونيسيا وماليزيا وتايوان وفيتنام، فالبحر يختزن ما يقدر بنحو 11 مليار برميل من النفط غير المستغل و190 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي، ويحتوي على ثروة سمكية ضخمة ما يجعله المصدر الرئيسي للبروتين الحيواني لمنطقة جنوب شرق آسيا ذات الكثافة السكانية العالية، ويمر عبره القسم الاكبر من التجارة العالمية، أو ما يقدّر بنحو 5 تريليون دولار من السلع التجارية الوسيطة والاستهلاكية، بما في ذلك النفط ومكوّنات صناعات التكنولوجيا وغيرها (2016).

معضلة ملقا الصينية

يتم نقل البضائع في الاتجاهين من شرق آسيا وبحر الصين الجنوبي إلى المحيط الهندي، وذلك  عبر مضيق ملقا وسنغافورة، أقصر طريق بحري يربط بين الشرق الأوسط وشرق آسيا، لتنتشر بعدها إلى باقي العالم، الأمر الذي يجعل هذين المضيقين من أكثر الممرات المائية ازدحاماً وأهمية في العالم، ويعد حجم التجارة التي تمر عبر مضيق ملقا مذهل للغاية، إذ تمر عبر مياهه سنوياً ما قيمته 3.5 تريليون دولار من التجارة العالمية، ويشمل ذلك ثلثي حجم التجارة البحرية للصين، و40% من التجارة البحرية لدى اليابان، وثلث إجمالي التجارة العالمية.

تعي الصين أهمية وخطورة مضيق ملقا بالنسبة إلى تجارتها مع قارات العالم، ففي تشرين الثاني/نوفمبر 2003، صاغ الرئيس الصيني هو جين تاو مصطلح «معضلة ملقا»، في إشارة إلى إمكانية تعرض الصين لحصار بحري على المضيق، من قبل الولايات المتحدة خصوصاً، علماً أنه تحيط بالمضيق دولة محايدة، ماليزيا، ودولة حليفة للولايات المتحدة، سنغافورة، ومنافس جيوسياسي، الهند، وتجدر الإشارة إلى أن المضيق يعد ثاني أكبر ممر لتجارة النفط في العالم بعد مضيق هرمز، علماً أن اتجاه البيانات يشير إلى وصول  نسبة اعتماد الصين على النفط الأجنبي إلى 80%، وهذه الكمية الضخمة من الاحتياجات النفطية تمر بمعظمها من مضيق هرمز ومضيق ملقا ومضيق تايوان، ما يجعل هذا المسار الأكثر حيوية لمصالح الصين.

بالإضافة إلى الاضطرابات الجيوسياسية التي قد تنفجر في أي لحظة وتؤدي إلى إغلاق المضيق، يقع مضيق ملقا وسنغافورة في منطقة معرّضة لعمليات القرصنة البحرية. ففي العام 2023، تجاوز عدد حوادث القرصنة والسطو المسلح على متن السفن في المياه الآسيوية 100 حادث، مرتفعاً من 84 في العام الذي سبقه، و82 في العام 2021، وتأثر مضيق ملقا وسنغافورة بشكل خاص حيث تم الإبلاغ عن 63 حادثاً في 2023.

انفجار البحر الأحمر

عبر مضيق ملقا، تنفد السفن من المحيط الهادي الى المحيط الهندي، نحو خليج البنغال الذي يخضع لنفوذ الهند، وصولاً إلى بحر العرب الذي يُعتبر بؤرة توتر خطيرة، إلا أن إكمال المسيرة يفرض على السفن الإجابة سلفاً عن السؤال التالي: أتتوجه نحو خليج عدن ومضيق باب المندب بين اليمن وجيبوتي وعبرهما إلى البحر الأحمر الذي يتعرّض لهجمات حركة «أنصار الله» اليمنية ضد السفن المتصلة بإسرائيل والعمليات العسكرية الأميركية والبريطانية ضد الأرضي اليمنية؟ أتعبر هذا المسطح المائي المتفجّر لتصل إلى قناة السويس في مصر ومنها نحو البحر الأبيض المتوسط؟ أم تتجه جنوباً وتأخذ الطريق الطويل والعسير نحو رأس الرجاء الصالح وتلتف بمحاذاة الساحل الشرقي الأميركي لتصل إلى مضيق جبل طارق بين إسبانيا والمغرب؟

تكرر حركة «أنصار الله» أنها لا تستهدف إلا السفن المرتبطة بإسرائيل والولايات المتحدة وبريطانيا، وأنها تساند المقاومة الفلسطينية في مواجهة الإبادة الجماعية التي يقوم بها الكيان المحتل في غزة. إلا أن ذلك لا يعني أن أثر هذه الهجمات قد أثّر حصراً هذه الدول الثلاث، فعلى الرغم من عدم انضمام جميع الدول إلى التحالف الأميركي المناوئ للهجمات اليمنية، والمسمى بـ«حارس الازدهار» لأسباب متعلقة بتعقيدات الحرب في غزة، فإن ذلك لم يثني دولاً كبرى من إثارة قلقها. مثلاً، في 26 كانون الثاني/يناير وبحسب وكالة رويترز للأنباء، فإن مسؤولين صينيين طلبوا من نظرائهم الإيرانيين المساعدة في كبح الهجمات التي يشنها أنصار الله على السفن في البحر الأحمر، وإلا فإن ضرراً قد يلحق بالعلاقات التجارية مع بكين، الأمر الذي يدل على قلق آسيوي بشأن التجارة مع أوروبا بسبب توترات المنطقة.

بدأت أهمية البحر الأحمر بالنسبة إلى التجارة البحرية العالمية مع شق قناة السويس التي وصلته بالبحر الأبيض المتوسط، وتعتبر أقصر طريق ملاحي بين الشرق والغرب، وأسرع طريق للمرور من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهندي بالنسبة إلى التجارة البحرية العالمية، حيث تقلّص في المتوسّط 15 يوماً من رحلة السفن عبر رأس الرجاء الصالح. ويمرّ عبر قناة السويس ما يقرب من 12% من تجارة العالم، والتي تشمل 30% من إجمالي الحاويات العالمية. وبحسب الهيئة العامة للاستعلامات، فإنه في النصف الأول من العام 2022، بلغ عدد السفن العابرة في قناة السويس 11,101 سفينة، وبلغت كمّية البضائع الآتية من شمال القناة إلى جنوبها 282.4 مليون طن، وبلغت كمية البضائع من جنوب القناة إلى شمالها 271.1 مليون طن، وبلغت كمية البترول ومنتجاته العابرة للقناة 124 مليون طنا، وبلغت إيرادات قناة السويس السنوية نحو 7 مليارات دولار في العام المالي 2021-2022.

إن تجنّب السفن التجارية البحر الأحمر وقناة السويس، واعتماد طريق بديل يلتف حول القارة الأفريقية عبر رأس الرجاء الصالح، يعني إضافة 10 أيام على الأقل على مدّة الرحلة إلى أوروبا ويتسبّب في إعاقة سلاسل التوريد التي تعتمدها النماذج الإنتاجية في الرأسمالية العالمية المعاصرة،  فضلاً عن التكاليف الإضافية الناشئة عن صرف كميات أكبر من الوقود وتشغيل أطول لليد العاملة وغير ذلك من الأكلاف التشغيلية وبوالص التأمين، كما أن اعتماد هذا الممر بديلاً عن البحر الأحمر يطرح تساؤلات كثيرة عن مدى جهوزية المرافئ على طول هذا الممر وقدراتها الاستيعابية.

كذلك، سيتعين على خطوط الشحن التعامل مع مخاطر المحيط الهندي وطقسه القاسي، ما يعني أن السفن ستسهلك وقودها بشكل أسرع، وهذا يجعل من خدمات التزود بالوقود أكثر إلحاحاً، يضاف إلى ذلك تهديد القراصنة في بعض المناطق على الساحل الأفريقي، الأمر الذي سيرفع من تكاليف التأمين على السفن.

من جهة أخرى، يعد التوسع الأخير في نظام مقايضة الانبعاثات في الاتحاد الأوروبي (EU ETS system)، الذي شمل الانبعاثات البحرية، سبباً لتكاليف إضافية على شركات الشحن البحري، فرسوم مقايضة الانبعاثات على السفن المبحرة بين شنغهاي وروتردام عبر رأس الرجاء الصالح سوف تكون أعلى بأكثر من 80% من تلك المفروضة على الشحن بين المدينتين عبر قناة السويس (34,142.75 يورو بالمقارنة مع 18,823.23 يورو).

النزاع التركي-اليوناني على بحر إيجة

إن دخلت السفن البحر المتوسط، سواءً عبر البحر الأحمر وقناة السويس أو المسار البديل، فقد تكون وجهتها بحر إيجة بين تركيا واليونان، ومنه إلى بحر مرمرة عبر مضيق الدردنيل وصولاً إلى البحر الأسود عبر مضيق البوسفور. 

ويعدّ بحر إيجة بؤرة توتر دائمة بين اليونان وتركيا، بسبب مجموعة من الأسباب والصراعات على السيادة والحقوق المتصلة. ويسود التوتر بين البلدين منذ ستينيات القرن الماضي، ثم مع التدخل التركي عسكريّاً في قبرص في العام 1974، وقد تصاعد التوتر بينهما مرات عدة، ووصل ذروته في العام 1996 بسبب إحدى جزر بحر إيجه. وأخذت هذه العلاقات منحى تصعيدياً في السنوات الأخيرة بسبب النزاع في شرق المتوسط، وكادا يصلان إلى حافة المواجهة العسكرية في آب/أغسطس 2020 على الرغم من أن تركيا واليونان عضوان في حلف شمال الأطلسي.

يختلط التنافس الجيوسياسي مع التنافس على الثروات الغازية المحتملة في شرق المتوسط، وقد ساهم النزاع التركي- اليوناني في إعادة رسم خريطة الاصطفافات في المنطقة. فقد أسست اليونان مع كل من قبرص اليونانية وإسرائيل ومصر وإيطاليا والأردن (وفلسطين)، وبدعم من الإمارات العربية المتحدة وفرنسا، منتدى غاز شرق المتوسط في بداية العام 2019 في محاولة لمواجهة تركيا وعزلها. وردّت تركيا بترسيم حدودها البحرية مع ليبيا في تشرين الثاني/نوفمبر من العام نفسه، وتزعم سيادتها على المياه الإقليمية متجاوزة قبرص، وهو ما أثار خلافات واسعة بين دول الحوض الشرقي للبحر المتوسط، وأفسح المجال إلى تصوّر نزاعات عسكرية قد تعطّل هذا الممر البحري الحيوي جداً.

يطلّ البحر الأسود على كل من بلغاريا ورومانيا وجورجيا ومولدوفا وروسيا وتركيا وأوكرانيا، وقد أصبح نقطة توتّر مرهقة للاقتصاد العالمي في السنتين الأخيرتين بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، فهو الشريان التجاري الأساسي الذي يصل دول أوروبا الشرقية بالأسواق العالمية، وتُعتبر أوكرانيا أكبر محطّة لتداول الحاويات بالمقارنة مع الدول الأخرى على البحر الأسود، إلا أنه في عام 2022 وبعد الغزو الروسي لأوكرانيا انخفض هذا النشاط بشكل كبير (دون السدس). وكانت أوكرانيا تصدر نحو 6 ملايين طن من المواد الغذائية شهريا عبر البحر الأسود، لكن، عشية الغزو الشامل في شباط/ فبراير 2022، بدأت روسيا في محاصرة الساحل الأوكراني المطل على البحر، وقد أدى ذلك إلى مخاوف كبيرة بشأن الأمن الغذائي لملايين الأشخاص حول العالم، فوفقاً للمفوضية الأوروبية، مثّلت أوكرانيا قبل الحرب 10% من سوق القمح العالمي، و15% من سوق الذرة، و13% من سوق الشعير، وأكثر من 50% من التجارة العالمية في سوق زيت عباد الشمس.

رُفع الحصار الروسي جزئياً عن الساحل الأوكراني المطل على البحر الأسود بموجب اتفاق الحبوب الذي توسطت فيه الأمم المتحدة في تموز/ يوليو 2022، إلا أن بوتين أكد رسمياً انسحاب روسيا من الاتفاق في صيف 2023، وهي السنة التي تصاعدت فيها المعركة بين روسيا وأوكرانيا عبر البحر الأسود بشكل كبير، وفي اليوم الأخير من هذه السنة، قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أن «البحر الأسود سيصبح مثالاً على قدرة أوكرانيا على استعادة أمنها وأمن شركائنا»، وقد تمكنت أوكرانيا مؤخراً من تعزيز صادراتها من الحبوب في البحر الأسود إلى مستوى لم تشهده منذ ما قبل الغزو الروسي. ولكن الحرب لا تزال قائمة، وكذلك احتمالاتها وتداعياتها على الشحن عبر البحر الأسود.

قناة بنما تحت رحمة ظاهرة النينيو

في حال أرادت دول شرق آسيا التبادل التجاري مع الساحل الشرقي الأميركي فعلى سفنها العبور من المحيط الهادىء الشاسع، ذو المسار الطويل والمستنزف للطاقة والمفتقر إلى موانىء ذات بنى تحتية وخدمات شحن كفوءة لاستقبال السفن، وعليها بعد ذلك اجتياز قناة بنما.

تعتبر قناة بنما بمثابة حلقة وصل حيوية بين المحيطين الأطلسي والهادئ، حيث تُمكّن السفن المتنقّلة بين أميركا وآسيا من تجنّب الرحلة الطويلة والخطرة حول رأس هورن في الطرف الجنوبي لأميركا الجنوبية، ويمر عبر القناة نحو 6% من إجمالي الشحن البحري العالمي، معظمها بين الولايات المتّحدة والصين واليابان وكوريا، وأهمّها الصادرات الأميركية للغاز الطبيعي المسال إلى آسيا، وفي العام 2022، مرّت أكثر من 14 ألف سفينة تحمل 518 مليون طن من البضائع عبر هذا الممرّ المائي، ما رفد الخزانة البنمية بمبلغ 2.5 مليار دولار.

تراجعت حركة الملاحة في مضيق بنما بأكثر من 15% خلال عام 2023، بسبب ما يعرف بظاهرة النينيو، والتي أدت إلى تراجع منسوب المياه في البحيرة التي تسمح بعمل القناة، وقد نتج عن ذلك ارتفاع الرسوم وحركة المرور في القناة، مما أجبر ناقلات الوقود وشاحنات الحبوب على اتخاذ طرق أطول لتجنب الازدحام، وسجلت البحيرة التي تسمح لقناة بنما بالعمل عند أدنى مستوى للمياه على الإطلاق في موسم جفاف هذا العام، حيث تشهد بنما عادة موسم الجفاف من كانون الثاني/يناير إلى أيار/مايو، وخفضت هيئة قناة بنما حركة المرور اليومية عبر الممر بنسبة 40% تقريباً مقارنة بالعام الماضي. تجدر الإشارة إلى أن موجات الجفاف قد هددت بتعطيل عمليات القناة في أوقات سابقة في الذاكرة الحديثة، وتحديداً في بين 2019-2020 و2014-2016، إلا أنها لم تثر القلق بقدر موجة الجفاف الحالية.