Preview مهدينا

مهدينا: النظرية والممارسة النقدية

  • أهم شروط الممارسة النقدية طرح الفكر الخاضع للنقد بكلّيته لا بجرئيّته والنظر في أقوى لا أضعف حججه ومناقشة الأصل قبل مهاجمة الفرع وتبيان سياق هذا الفكر التاريخي والسياسي والثقافي قبل الحكم المطلق عليه
  • يعتبر عامل أن المجتمع الكولونيالي يتّسم بعدم التفارق الطبقي، أي أن تشكّل الطبقات نفسها عملية ملجومة وغير مكتملة بالضرورة. ويعطي على ذلك أمثلة على الوعي الاجتماعي للفلاح اللبناني الذي ينتقل إلى العيش في المدينة لكنه يبقى مرتبطاً في وعيه وحياته الاجتماعية بصلات القربى العائلية وبالريف وعليه لا يتشكّل لديه وعي طبقي بالمعنى البروليتاري الصرف.

الفكر لا يموت لكن الحوار معه يصعُب - ولا أقول يستحيل - بعد موت صاحبه. فالنصّ تأويل وتأصيل والفكر تفسير واجتهاد. فما بالك بالنقد، وهو تأويل التأويل وتفنيد التفسير وتحديد المغزى وتقويم المعنى. وللممارسة النقدية شروطها وأدواتها كي لا تتهافت وتنزلق إلى المحظور من تسطيح أو تحوير أو إجحاف أو شخصنة فيذهب ريحها هباء في فضاء المُشاكسة النظرية بدلاً من إنتاج المعرفة النقدية وتجديدها. من أهم شروط الممارسة النقدية طرح الفكر الخاضع للنقد بكلّيته لا بجرئيّته والنظر في أقوى لا أضعف حججه ومناقشة الأصل قبل مهاجمة الفرع وتبيان سياق هذا الفكر التاريخي والسياسي والثقافي قبل الحكم المطلق عليه. 

تكاد تغيب هذه الشروط عن معظم ما كُتِب في العقد الأخير عن فكر الشهيد مهدي عامل. في الغالب، تمّ تسطيح هذا الفكر من خلال اختصاره بشعارات مستوحاة من كتابات مهدي أو ربطه بالصراعات الأيديولوجية الراهنة خارج السياق التاريخي لنتاجه أو استثمار قضية استشهاده من أجل تسجيل النقاط السياسية الرخيصة، خصوصاً ضد حزب الله، بدلاً من تعريف الجيل الشاب بفكره وفتح نقاش جدي في ماهية هذا الفكر ومنفعته من عدمها. لم ينحصر فكر مهدي عامل يوماً في زواريب المناكفات السياسية اللبنانية التي وقع فيها العديد من كتّاب اليسار اللبناني. بل اتسع ليشمل قضايا التحرّر الوطني في مداها الكوني والعربي وتجديد الفكر الماركسي عبر إعادة إنتاج أدواته المعرفية في سياق كولونيالي. ينطبق ذلك على كتابات عامل في المسألة اللبنانية مثلما ينطبق على غيرها مما كتبه. 

كان عامل واسع الاطلاع وغزير الإنتاج ولو أن في بعض ما كتبه الكثير من التكرار. وكان سبّاقاً في استشراف المنعطفات الفكرية والتحوّلات الثقافية المحيطة به. ولم يتوانَ عن إعادة النظر في فرضياته ومنطلقاته على ضوء تلك التحولات من دون أن يتخلّى عن الثوابت المنهجية والالتزام السياسي. والالتزام السياسي، بما فيه الحزبي، يُحسب له لا عليه في ظل خيانة المثقّف البرجوازي الصغير المستمرة لنضالات الشعوب تحت شعار حرية الفكر أو التمايز الفكري أو ركوب موجة الرأي العام والفكر السائد أو التملّص من تحمّل مسؤولية القرارات السياسية. 

وقد يلتبس الموضوع على القارئ غير الملمّ بما كتبه عامل في نقده لطرابلسي في كتابه «في الدولة الطائفية» فتفوته القدرة على الحكم بصوابية أي منهما، والتي، برأي هذا الكاتب، تميل لصالح عامل

لم يسلم العديد من المفكّرين والكتّاب من نقد عامل، تساوى في ذلك الخصم والرفيق. كان أبرز خصومه على الساحة اللبنانية دعاة الأيديولوجية اللبنانية المعادية للقضية الفلسطينية والاشتراكية، التي تجسّدت في فكر ميشال شيحا. ولم يسلم من تهكّم عامل من تماشى مع الفكر الشيحاوي وإن من موقع اليسار النقيض مثل حازم صاغية الذي انتقده مهدي لترويجه مقولات تافهة استخفّت بانتصار المقاومة على إسرائيل بعد اجتياح العام 1982 واعتبرت بناء الدولة المركزية في ظل هيمنة حزب الكتائب أولوية (ينسحب النقد على دعاة السيادة في لبنان اليوم). أصرّ مهدي كذلك على تفسير الحرب الأهلية من منظور الصراع الطبقي وكاد أن يكون وحيداً في التنبيه من مخاطر الانزلاق إلى ما اسماه «الفكر اليومي» بين كتّاب اليسار اللبنانيين، فدخل في سجالات مع الياس خوري وموسى وهبة في أسباب الحرب ومآلاتها، التي لم تكن يوماً بنظره عدمية كما ادّعى بعضهم. وأما الرفاق الذين طالهم نقد مهدي بشكل أوفى، فكانوا من المحسوبين على التيّار الماركسي مثل أحمد بعلبكي وفوّاز طرابلسي - وإلى حدّ ما مسعود ضاهر. وقد رأى عامل في فكر هؤلاء شططاً وتماهياً في بعض الأحيان - وإن غير مقصود - مع الفكر البرجوازي الطائفي.

يشير طرابلسي إلى «تهمة» مهدي تلك - وإن بصيغة «البرجوازية القومية» لا الطائفية - في مقالتيه تحت عنوان «استئناف حوار مع فكر مهدي عامل»، اللتين نشرهما موقع «صفر» تباعاً بتاريخ 4 أيلول/سبتمبر و11 تشرين الأول/أكتوبر من العام الفائت. لكن طرابلسي لم يستفِض في شرح الخلاف النظري بينه وبين مهدي بشأن مفهوم الطائفة وتعريف الطائفية والعلاقة بين الطائفة والطبقة قبل أن يباشر بدوره بإكالة التهم الفكرية المتعدّدة لعامل. وقد يلتبس الموضوع على القارئ غير الملمّ بما كتبه عامل في نقده لطرابلسي في كتابه «في الدولة الطائفية»، فتفوته القدرة على الحكم بصوابية أي منهما، والتي، برأي هذا الكاتب، تميل لصالح عامل.

وفي العموم، يرسم طرابلسي بورتريه لعامل يمدحه كإنسان ويبخّسه كمفكّر. فعامل الإنسان طالب متواضع للعلم وناقد مسؤول وحسن المعشر وصاحب نكتة ومخلص لقضيّته إلى حدّ الصوفية. ها هو يستعير المراجع من طرابلسي ويرسل النقد للمراجعة قبل نشره ويمازح رفاقه الماركسيين عن برجوازيتهم المستترة ويدفع حياته ثمناً لمواقفه. أما عامل المفكّر، فهو «ظاهرة مميزة» بقدر تميّز مواقفه عن السائد في الحركة الشيوعية إلى درجة تناقض  منطلقاته مع «منطلقات الحزب الشيوعي اللبناني ومقولاته» واستقلال تلك المواقف عن المدارس الحزبية السوفياتية. لكن ما يلبث أن يتحوّل هذا التمايز بحسب طرابلسي إلى التزام «صارم» - أي أعمى؟ - بتفسير سياسات الحزب نفسه الذي تناقضت منطلقاته مع منطلقات عامل. وقد وقع عامل، بحسب طرابلسي، في «ورطات نظرية» وعانى فكره من «ثغرة فاغرة» وكان فهمه لعلاقة النظرية بالممارسة قاصراً و«شديد الإشكال» جعل منها «علاقة دائريّة». ويتساءل طرابلسي عن سبب غياب نمط الإنتاج الكولونيالي عن بعض كتابات عامل قبل تعريف القارئ بخصائص هذا النمط، ويعيب على عامل كذلك حياده عن مفهوم ألتوسير للسببية البنيوية في الوقت نفسه الذي يعيب عليه عدم إنتاج أدوات معرفية جديدة. فعامل بحسب طرابلسي، لم «يتعلّم من الممارسة» كما تعلّم قبله ماركس من عامية بارسي ولينين من جالس السوفيات.

الماركسية في منهج عامل

بخلاف هذه الصورة التخبّطية واللاتاريخية لعامل المفكِّر، وبخلاف غياب منهجية واضحة أو تسلسل منطقي لممارسة طرابلسي النقدية في نصّه المنشور، اتّبع عامل مقاربة ماركسية متّسقة في كلّ ما كتبه وأنتج فكراً في سياق تاريخي مُحدّد. ينطبق ذلك على كتاباته في نقض الفكر الطائفي وعلاقة الثورة بالثقافة ونقد الفكر اليومي (كظهور تيّارات برجوازية عدمية أو متأسلمة) وعلاقة الإسلام بالسلطة عبر تزمننه وتمأسسه وأثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرّر الوطني وأسباب الحرب الأهلية.  

اعتبر عامل أن العلاقة الكولونيالية هي القاعدة الموضوعية لتشكّل بنيتنا الاجتماعية، وأن هذا التفارق البنيوي بين المجتمع المستعمِر والمستعمَر يصل إلى مستوى علاقات الإنتاج بسبب تدمير علاقات الإنتاج السابقة على الاستعمار ولجم تكوّن علاقات إنتاج رأسمالية جديدة

لن أخوض في هذه القضايا على أهميتها لأني أرى أن أبدأ بالأصل لا الفرع، أي بمنهج عامل التحليلي. اتّبع مهدي منهجاً واحداً لا ثلاثة مناهج بحسب طرابلسي (السببية البنيوية والتناقض والتاريخ). ولست أعي ما المقصود بقول طرابلسي إن التاريخ منهج وأنه غير منهج التناقض، وأنّ الإثنين خضعا عند مهدي للأول أي للسببية البنيوية. هل نفهم أن ماركس أيضاً أو ماو تسي تونغ اشتغلا على منهجين عندما نظَّرا لمفهومي التاريخ والتناقض؟ أم أنهما اتّبعا منهج المادية التاريخية وصاغا مفاهيم عن التناقض والتاريخ أو أعملاها ضمن ذلك المنهج؟ (عاب عامل على العديد من رفاقه الماركسيين غياب الدقة في التعريف واستخدام المصطلحات).

الأصحّ قول ما يلي: اتّبع عامل منهج المادية التاريخية بنسختها الماركسية - اللينينية التي اتخذت عنده شكلاً يشبه السببية البنيوية عند ألتوسير، من دون أن يتماثل معها. ومهما يكن من أمر التوصيفات الاسمية تلك، الأهم أن تلك المادية التاريخية هي التي حملت عامل على تجديد الفكر الماركسي عبر إعادة إنتاج أدواته المعرفية في سياق كولونيالي. فالمادية التاريخية، بحسب عامل، تُحتّم إعادة تكوين الفكر الماركسي نفسه عندما يتعلّق بسياق تاريخي وواقع اجتماعي مغاير لما عاشه وعرفه ماركس. لم يعايش الأخير الاستعمار ولم يكن بمقدوره أن يطّلع بشكل وافٍ على الظروف الاقتصادية والاجتماعية لتلك البلدان  فجاء فكره بالضرورة انعكاساً لواقعه هو، أي لطور تشكّل الرأسمالية في منبعها. وكان تناوله لظاهرة الاستعمار عرضياً أي في سياق فهمه للرأسمالية. على العكس من ذلك، اختبرت المجتمعات المستعمَرة، أي ما يُسمّى اليوم «بالجنوب العالمي»، الرأسمالية عن طريق الاستعمار. وبالتالي، اعتبر عامل أن العلاقة الكولونيالية هي القاعدة الموضوعية لتشكّل بنيتنا الاجتماعية. واعتبر أن هذا التفارق البنيوي بين المجتمع المستعمِر والمستعمَر يصل إلى مستوى علاقات الإنتاج بسبب تدمير الاستعمار لعلاقات الإنتاج السابقة على الاستعمار ولجم تكوّن علاقات إنتاج رأسمالية جديدة (تشكّل علاقة التبعية هذه هي سبب «التخلّف»). من هنا أتت نظرية مهدي عن نمط الإنتاج الكولونيالي ومحاولته فهم وتفسير علاقة التبعية مع الغرب الاستعماري من باب العلاقة الكولونيالية. لم يعن ذلك تخلّي عامل عن فرضيات الماركسية الأساسية ومفاهيمها كالتشكل الطبقي والرسملة وتعايش أنماط الإنتاج أو دمجها. ينطلق عامل من تلك الفرضيات نفسها وحتى من مقولات ماركس المقتضبة عن الاستعمار لكنه يقوم بإعادة تعريف تلك المفاهيم على ضوء العلاقة الكولونيالية وقد أثمر ذلك إنتاجاً نظرياً جديداً في مسارات عدة. 

الكولونيالية والشكل التاريخي للصراع الطبقي

لنأخد مفهوم الصراع الطبقي على سبيل المثال. يعتبر عامل أن المجتمع الكولونيالي يتّسم بعدم التفارق الطبقي، أي أن تشكّل الطبقات نفسها (البرجوازية والبروليتاريا على حدّ سواء) عملية ملجومة وغير مكتملة بالضرورة. ويعطي على ذلك أمثلة على الوعي الاجتماعي للفلاح اللبناني الذي ينتقل إلى العيش في المدينة وينخرط في صناعات خفيفة أو حرفية لكنه يبقى مرتبطاً في وعيه وحياته الاجتماعية بصلات القربى العائلية وبالريف، وعليه لا يتشكّل لديه وعي طبقي بالمعنى البروليتاري الصرف. يذهب عامل أبعد من ذلك ليشير إلى الوعي الاستعماري للمستوطنين الفرنسيين في الجزائر العابر للطبقات بحيث كان «تقريباً كل أوروبي مستوطن في الجزائر، أكان عاملاً أم حرفياً أم موظّفاً أم بورجوازياً أم مزارعاً معادياً للثورة التحررية» (وينطبق الأمر على المستوطنين الصهاينة في فلسطين). وحيّ «باب الواد» في مدينة الجزائر الذي كان معروفاً بالحيّ الأحمر نظراً لاحتوائه القاعدة الشعبية الرئيسة للحزب الشيوعي تحوّل إلى «مركز للإرهاب الفاشستي الأوروبي المعادي للثورة». أضف على ذلك أن النقيض الطبقي للطبقات الكادحة في البلد المستعمَر هي الطبقة البرجوازية الكولونيالية الموجودة في البلد الرأسمالي الغربي وليست الطبقة البرجوازية المحلية وهي طبقة تجارية وسيطة ممّا يعني أن الصراع الطبقي هو صراع غير مباشر وفي وجه بنية تبعية وليس طبقة معينة وهو ما يدلّل على تعقيدات البنية الاجتماعية المستعمَرة التي تفوق تعقيدات المجتمع المستعمِر بخلاف الرواية السائدة عن «بدائية» المجتمعات المستعمَرة.  يخلُص عامل إلى أن شكل الصراع الطبقي في المجتمع المستعمَر ليس نفسه كشكل صراع البروليتاريا التقليدي في البلدان الرأسمالية الأوروبية، فيقول:

«النضال من أجل التحرّر الوطني هو الشكل التاريخي الوحيد لتميّز النضال الطبقي في البنية الكولونيالية. ومن تغيب عنه هذه النقطة الأساسية في حركة تاريخنا المعاصر، فيحاول استبدال النضال الطبقي بـ«النضال القومي» أو حصر النضال الوطني بنضال اقتصادي بحت، يفقد القدرة على فهم واقعنا التاريخي، وبالتالي السيطرة عليه لتحويله». 

النقيض الطبقي للطبقات الكادحة في البلد المستعمَر هي الطبقة البرجوازية الكولونيالية الموجودة في البلد الرأسمالي الغربي وليست الطبقة البرجوازية المحلية وهي طبقة تجارية وسيطة ما يعني أن الصراع الطبقي هو صراع غير مباشر وفي وجه بنية تبعية وليس طبقة معينة

هذا ما «تعلّمه» عامل من الثورة الجزائرية وغفل طرابلسي عن ذكره. في ظلّ توصيف عامل المركّب لطبيعة الصراع الطبقي في المجتمع المستعمَر، هل يصحّ قول طرابلسي إن عامل «يختزل الصراع الطبقي بالصراع السياسي؛ ويختزل الصراع الطبقي بالصراع الطبقي البروليتاري؛ ويختزل الطبقة العاملة (اللبنانية) بالحزب الشيوعي اللبناني»؟ ولنفترض أن بعض ما قاله عامل في إحدى نصوصه يُعطي هذا الانطباع الاختزالي، ألا يجب البحث في مجمل ما كتبه عن الموضوع ورسم صورة وافية لنظريته ومن ثم نقاش أي تناقضات بين ما قاله في مواقع مختلفة كي يستقيم النقد؟ ينطبق السؤال كذلك على انتقائية طرابلسي في وصف موقف مهدي السلبي من فكر ابن خلدون و«السلف الصالح» عموماً. هل قرأ طرابلسي ما كتبه عامل عن علمية فكر ابن خلدون وبدعة مشكلة التراث؟

مركزية الصراع السياسي لا حتميّته

قول طرابلسي إن عامل يختزل الصراع الطبقي بالصراع السياسي يحيلنا إلى تهمة أخرى يكيلها طرابلسي وهي أن عامل عالج إشكالية «التحتيم الاقتصادي في نهاية المطاف» باستبداله بما يسّميه طرابلسي «التحتيم السياسي في نهاية المطاف». كيف حقّق طرابلسي هذه القفزة النظرية بين «التحتيم الاقتصادي»، أو الاقتصادوية، و «التحتيم السياسي»؟  التحتيم الاقتصادي، بحسب منظِّري الاقتصادوية، ناتج عن ثبات القاعدة المادية لعلاقات الإنتاج. أمّا الفعل السياسي، فهو تعريفاً نتاج الوعي الطبقي - أي أنه مبني على الموقع الذاتي (subjective) للقوى المتصارعة، وبالتالي تستحيل حتميته. إن أولوية الصراع السياسي في الصيرورة التاريخية التي نادى بها مهدي هي بحدّ ذاتها نقيض لمفهوم الحتمية. وقد أعطى عامل مثلاً حياً عن لا حتمية مآلات الصراع الطبقي في لبنان عندما ميّز بين الأهمية الموضوعية لانتفاضة 6 شباط/فبراير (عام 1948) في محاربة الفاشية اليمينية التابعة لإسرائيل والوعي الطائفي للقوى المنتفضة والتي يمكن أن تؤدي إلى إعادة إنتاج النظام الطائفي في حال لم تتحرّر وتتبنّى وعياً وطنياً.

والأغرب اعتبار طرابلسي أن ممارسة عامل للصراع الطبقي «في الحقل الفلسفي والثقافي والإيديولوجي أكثر منه في أي حقلٍ آخر» يتعارض مع تولية مهدي الأولوية «للصراع الطبقي والممارسة السياسية للبروليتاريا». لنضع جانباً التناقض الظاهر في قول طرابلسي بأن ممارسة عامل للصراع الطبقي تتعارض مع أولوية الصراع الطبقي عند مهدي (أين التعارض في ذلك؟) ولنكتفِ بالجزئية الثانية من الاعتراض، أي التعارض المنسوب بين نشاط عامل الفكري في الثقافة والفلسفة والأيديولوجية من جهة ومنحه الأولوية «للممارسة السياسية للبروليتاريا» من جهة ثانية. هل تعني أولوية الممارسة السياسية للبروليتاريا ضرورة انخراط كل فرد في المجتمع في تلك الممارسة بمفهومها الضيّق على حساب الحقول الأخرى؟ أم أن الصراع الطبقي يتطلّب العمل في الحقول الثلاثة، الأيديولوجي والسياسي والاقتصادي؟ وأنّ توزيع الأدوار يعكس الطبيعة الجماعية للنضال وقُدرات كل فرد بحيث تتكامل فيما بينها لتصبّ في لحظة تاريخية محدّدة وبشكل انجذابي - نعم في نهاية المطاف - في الحقل السياسي لتنتج الثورة الاشتراكية؟

المؤرِّخ والمنظِّر وما بينهما

لم تحجب رؤية عامل الكلّية للصراع الطبقي في ضوء العلاقة الكولونيالية موقعه هو من هذا الصراع، والذي كان في الدرجة الأولى في الحقل الأيديولوجي (الفلسفة والثقافة تقعان ضمن هذا الحقل). ودعوته لـ«إقامة الحدّ المعرفي»، التي يربطها طرابلسي جوراً بمفهوم ديني ظلامي، جزء من ثوريته. هذا مجدّداً يُحسب لعامل لا عليه ولا يضرّ منظومته الفكرية بشيء. واللافت أنه حتى في الحقل الأيديولوجي، حدّد عامل مساهمته في المجال النظري لا التاريخي فترك للمؤرّخين مثلاً مهمّة تحديد الحقبة التاريخية التي تكوّنت فيها البرجوازية اللبنانية بشكل دقيق، وانصرف هو إلى تحديد معالم تكّونها البنيوية وإعادة إنتاجها. يشير طرابلسي نفسه إلى نفي عامل صفة الدراسة التاريخية عن ما كتب ليعود ويحاسبه محاسبة المؤرِّخ لا المنظِّر. صحيح أن التاريخ، كما يشير طرابلسي، في صلب كتابات عامل. هذا بديهي فالمادية التاريخية لا تستوي من دون مضمون تاريخي. وبالتالي لا يمكن تغييب التاريخ عن تقويمنا لفلسفة عامل أو أي فلسفة أخرى. وقد جاءت توصيفات عامل التاريخية في بعض الأحيان متباينة مع المعطيات التاريخية كما بيّن طرابلسي في حالة إنتاج الحرير في جبل لبنان في القرن التاسع عشر. لكنّ التمييز بين التأريخ والتنظير يعني أن لا نحكم على أي فلسفة بعين تاريخية ضيّقة، فنختصر قدرة الفلسفة على فهم قوانين التاريخ العامة بتماهيها في كل صغيرة وكبيرة مع الحدث التاريخي. لن تبقَ فلسفة واحدة قائمة بحسب هذا المعيار. هذا ما وقع فيه طرابلسي والعديد من رفاق عامل الماركسيين الذين لم يشتغلوا في الفلسفة كما اشتغل هو ورفيقه الشهيد حسين مروّة، فجاءت مناظرتهم مع كليهما، وفي أغلب الأحيان، غير متكافئة. حبّذا لو تحاور كل من موقعه، المنظِّر والمؤرِّخ، لتكاملت مساهمة الجهتين وأغنت الفكر الماركسي عملاً بالمثل الشعبي اللاماركسي: أعطِ خبزك للخبّاز ولو سرق نصفه. 

ملاحظة: بدأ الكاتب والمؤرِّخ فوّاز طرابلسي سلسلة مقالات بعنوان «استئناف حوار مع فكر مهدي عامل»، ونشر منها حلقتين الأولى بعنوان «في النظريّة والممارسة النظرية» والثانية بعنوان «هل الفكر الماركسي اللينيني مفقود في الفكر العربي؟»، قبل تعليق نشر الحلقات اللاحقة بسبب حرب الإبادة في غزة، والتي سوف يُستأنف نشرها بدءاً من حزيران/يونيو المقبل.