
5 مؤشّرات سلبية في الحسابات القومية اللبنانية لعامي 2022 و2023
أصدرت إدارة الإحصاء المركزي في لبنان أخيراً الحسابات القومية لعامي 2022 و2023 بتأخير متماد امتد لثلاثة أعوام، فحتى الأسبوع الماضي كانت الحسابات المتاحة تعود لعام 2021. وعلى الرغم من هذا التأخير غير المبرر، تسمح الحسابات المنشورة بتقديم صورة عن شكل التكيّف الذي يتخذه الاقتصاد اللبناني في أعقاب الانهيار الكبير في خريف العام 2019، فبدلاً من اللجوء إلى السياسات والمؤسسات الحكومية للتعامل مع مصادر الأزمة وبناء وضع جديد، لجأت الحكومة إلى المزيد من السياسات التقشفية والانكماشية وتركت السوق تصحّح نفسها بنفسها لصالح زيادة حصّة الأرباح والريوع على حساب الأجور والعمل والإنتاج، وتمحورت المكاسب حول الملكية العقارية بدلاً من الائتمان والسياحة، في محاولة لإعادة تجديد النموذج الاقتصادي اللبناني بصورة أكثر رداءة عمّا كان عليه قبل الأزمة، وبعطب أساسي هو تعطّل الجهاز المصرفي الذي شكّل عموده الفقري.
1. ركود مزمن وتضخّم فاحش
قُدِّر الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الجارية لعام 2023 بنحو 31.6 مليار دولار في 2023، بالمقارنة مع 21.4 مليار دولار في العام 2022 و20.1 مليار دولار في العام 2021، و53.3 مليار دولار في العام 2019. ويمثل الناتج لعام 2023 نحو 59% من مستوى العام 2019، أي أنه لا يزال أصغر بنسبة 41%. وهذه أول ملاحظة تُظهرها الحسابات القومية، إذ أن لبنان لم يخرج بعد من «حفرة» الانهيار التي بدأت في العام 2019، بل يعيش ركوداً مزمناً مقنّعاً بتضخّم فاحش، فلا وجود لتعافٍ فعلي كما يحاول البعض تسويقه، والزيادة الأساسية في أرقام الناتج سببها ارتفاع الأسعار وتغيّرات سعر الصرف.
2. زيادة الاتكال على التحويلات لتمويل الاستهلاك
لا يعبّر الناتج المحلي الإجمالي عن مجمل الدخل المتاح للاستهلاك، إذ تبيّن الحسابات القومية لعام 2023 أن الدخل القومي الإجمالي المتاح ارتفع إلى 37.4 مليار دولار، متجاوزاً الناتج المحلي بنحو 5.8 مليارات دولار، وهو أعلى فارق يُسجَّل بحسب البيانات المتاحة منذ العام 2013. ويأتي هذا الفارق من صافي التحويلات من الخارج، ولا سيما تحويلات المغتربين، ووفقاً لإدارة الإحصاء المركزي، ارتفع المعدل السنوي لصافي التحويلات من 2.4 مليار دولار بين 2013 و2019 إلى 6.45 مليار بين 2020 و2023. ويُعزى هذا الارتفاع أساساً إلى تراجع التحويلات الخارجة بسبب تراجع الاعتماد على اليد العاملة الأجنبية وزيادة استغلالها بأجور متدنية، بالتوازي مع ثبات التحويلات الواردة إليه التي أصبحت تمثّل نسبة أكبر من الاقتصاد المنكمش.
وفي العام 2023، شكّلت التحويلات 18.7% من الناتج المحلي بالمقارنة مع متوسط 4.7% فقط في خلال الفترة 2013–2019، ما يعكس تعمّق اعتماد الاقتصاد اللبناني على التحويلات الخارجية لتمويل الاستهلاك، وتحوّل القنوات المصرفية إلى تحويلات مباشرة بفعل تعطّل النظام المالي.
3. انسحاب الدولة من أي دور اقتصادي ومالي
بحسب الحسابات القومية لعام 2023، تراجع الإنفاق الاستهلاكي الحكومي من متوسط 13.7% كنسبة من الناتج المحلي بين عامي 2011 و2019، إلى 4% في العام 2023، أي من متوسط 6.7 مليار دولار بين عامي 2011 و2019 إلى 1.3 مليار دولار في العام 2023، أي بتراجع بنسبة 80.6%.
وهذا يعبّر عن تدهور دور الدولة الاقتصادي، الخجول بالأساس، بفعل أزمة العام 2019، والأثر الذي تتركه السياسات التقشّفية القاسية التي تمارسها الحكومة اللبنانية على الرغم من الركود المستمر والفقر المتنامي وتراجع الخدمات وانهيار الاقتصاد.
4. تعمّق المرض الهولندي
باستثناء الزراعة التي نمت بالقيم الحقيقية بنسبة 42% تراكمياً بين عامي 2019 و2023 والعقارات (8%) والخدمات الشخصيّة والتعليم والصحّة (14%)، تراجعت كل القطاعات الأخرى في الاقتصاد اللبناني.
وعلى الرغم من النمو الذي حقّقه القطاع الزراعي في السنوات الأربع المذكورة، لا تزال مساهمته تشكّل 3% من الناتج المحلي الإجمالي (وهي النسبة نفسها التي كان عليها في العام 2019)، وتبلغ قيمة هذه المساهمة نحو مليار دولار فقط من مجمل القيم المضافة المنتجة محليا بالمقارنة مع 1.6 مليار دولار في العام 2019. والأمر نفسه ينسحب على الصناعة التي زادت حصتها من الناتج المحلي من 10% إلى 15%، إلا أن قيمتها الفعلية تراجعت من 5.3 مليار إلى 4.7 مليار دولار. يترافق ذلك مع ارتفاع حصّة التجارة من 15% الى 17% كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، وارتفاع حصة العقارات من 16% الى 22%، فضلاً عن تجاوز الاستيراد المستوى الذي كان عليه في العام 2019.
تعبّر هذه المؤشرات عن الفرصة الضائعة لتطوير القطاعات الإنتاجية في لبنان في خلال الأزمة، ما ساهم بتعمّق المرض الهولندي الذي يعاني منه لبنان أساساً، وهو الحالة التي تغذّي فيها التدفّقات المالية الخارجية ارتفاع أسعار السلع غير القابلة للتداول مثل الخدمات والعقارات، ما يؤدّي إلى ارتفاع كلفة الإنتاج المحلي، ويجعل القطاعات المنتجة المولّدة لفرص العمل غير تنافسية، فتتراجع تدرّجياً، وترتفع معها البطالة، وبالتالي المساعي إلى الهجرة. وهذا ما يحصل في لبنان منذ عقود، ولا يزال مستمراً لليوم. إذ تؤدّي الهجرة إلى استمرار تدفّق التحويلات المالية إليه، التي تزيد الطلب على الخدمات والعقارات ما يضعف القطاعات المنتجة ويزيد البطالة وبالتالي الهجرة التي تعيد تدفّق التحويلات المالية وتعمّق المرض الهولندي.
5. انهيار دور القطاع المصرفي في الاقتصاد والتحوّل إلى العقارات كمخزن للقيمة
أدى الإفلاس المصرفي والخسارة الفادحة في الاصول المصرفية إلى تراجع دور القطاع المصرفي في الاقتصاد من 9% في العام 2019 إلى 2% كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2023. إلا أن ذلك ترافق مع تطور القطاع العقاري، أي عمليات الشراء والبيع والإيجار، من 16% إلى 22%. وهذا يعكس تداعيات الانهيار المصرفي ولجوء شريحة من السكان إلى الاستثمار في العقار كمخزن أكثر أماناً للقيمة، فضلاً عن توسّع النشاطات الريعية من خلال عمليات التأجير في ظل ضمور القطاعات الإنتاجية.