ماذا يعني تهديد إسرائيل بإلغاء إتفاقية ترسيم الحدود البحرية؟
في ظل حرب ضروس يشنّها العدو الإسرائيلي على لبنان، وفيما تنهال الصواريخ الكثيفة على رؤوس اللبنانيين موقعة مئات الشهداء والجرحى ومخلّفة الكثير من الدمار، برز تصريح لوزير الطاقة الإسرائيلي إيلي كوهين الأحد الماضي لإذاعة الجيش الإسرائيلي، يعبّر فيه عن نيّته «البحث عن طريقة أو ثغرة لإلغاء إتفاقية الغاز الفاضحة التي وقّعت مع لبنان»، في إشارة إلى إتفاقية ترسيم الحدود البحريّة التي وقِّعت بين لبنان وإسرائيل بوساطة أميركية في آواخر العام 2022. وأضاف كوهين أن هذا الاتفاق «كان خطأ منذ البداية». وبالتوازي، برزت أخبار أخرى نُسِبت الى منصّة إعلامية إسرائيلية عن أن رئيس مجلس الوزراء بنيامين نتنياهو أمر بإلغاء إتفاقية الغاز مع لبنان.
منذ بدء الحرب استخدمت منصّات الغاز الواقعة في مياه فلسطين المحتلّة من ضمن الحرب النفسية عبر إطلاق المسيّرات فوقها، ولكنها لم تدخل في صلب معادلة الإسناد لغزّة. فما سبب إثارة المسؤولين الإسرائيليين لإتفاقية ترسيم الحدود في هذا التوقيت؟ وماذا يعني إلغاؤها؟
أبرز بنود الاتفاقية
في تشرين الأول/أكتوبر من العام 2022، وقّع لبنان وإسرائيل إتفاقية بوساطة أميركية لترسيم الحدود البحرية بعد خلافٍ دام أكثر من 10 سنوات. وأتت الاتفاقية في لحظة جيوسياسية وإقليميّة قد لا تتكرّر، إذ وُقِّعت قبل بضعة أيام من انتهاء عهد الرئيس اللبناني السابق ميشال عون، وقبل ذهاب إسرائيل إلى الانتخابات التشريعية وبالتالي تغيير الحكومة التي تناوب على رئاستها نفتالي بينيت ويائير لبيد. بالإضافة إلى ذلك، ساهمت الحاجة الأوروبية إلى الغاز الإسرائيلي في خضم الحرب الروسية-الأوكرانيّة من جهة، وتأثير تهديدات حزب الله الذي أرسل ثلاث مسيرّات إلى منصّة الحفر التي وصلت إلى حقل كاريش في صيف العام 2022 من جهة أخرى، في تسريع وتدعيم عمليّة التفاوض. وكانت هذه العوامل كفيلة بأن يحصل لبنان على جزء من حقوقه البحرية من ضمن المفاوضات غير المباشرة.
من خلال هذه الاتفاقية، حصلت إسرائيل على الملكية الكاملة لحقل كاريش وبدأ إنتاج الغاز رسمياً فيه في 26 تشرين الأول/أكتوبر 2022، في حين حصل لبنان على ملكيّة حقل قانا في البلوك رقم 9، شرط أن تقوم الشركات الحاصلة على الترخيص في هذه المنطقة (توتال إينرجي) بتوقيع اتفاق مالي جانبي مع إسرائيل يضمن حصول الأخيرة على تعويض عمّا تعتبره حقوقها في هذه الرقعة. لم تقدّم الاتفاقية أية إيضاحات بشأن كيفية حلّ أي نزاع مستقبلي قد ينتج عن حقول مشتركة أخرى، وترك حلّ أي نزاع مُحتمل في يد الولايات المتحدة الأميركية.
في الحصيلة، أكملت منصّة الحفر إنتاج الغاز من حقل كاريش، الذي وصل إلى قدرته القصوى بداية هذا العام وذلك بعد ربط حقل كاريش الشمالي بمنصّة الحفر في حقل كاريش الأساسي. من جهة لبنان، ساهمت الاتفاقية في عودة شركة «توتال إينرجي» وشركائها إلى البلوك رقم 9 وحفل بئر استكشافي في حقل قانا في صيف العام 2023، الّا أنّ نتيجته أتت سلبية في تشرين الأول/أكتوبر من العام نفسه.
لم تقدّم الاتفاقية أية إيضاحات بشأن كيفية حلّ أي نزاع مستقبلي قد ينتج عن حقول مشتركة أخرى، وترك حلّ أي نزاع مُحتمل في يد الولايات المتحدة الأميركية
من جهة أخرى، لم تحلّ الاتفاقية مشكلة المنطقة الفاصلة بين البرّ والبحر، أو ما عُرف بخطّ الطفّافات الذي يمتدّ لمساحة تناهز 5 كيلومترات من الساحل، والذي أنشأته إسرائيل من جانب واحد في العام 2000، كما لم يتطرّق إلى نقطة الإنطلاق في رأس الناقورة (نقطة B1)، وأبقى على هذه الأمور مُعلّقة حتى يقرّر الطرفان ترسيم حدودهما البرية.
كيف أُعيدت الاتفاقية إلى الواجهة؟
بناءً على ما تقدّم، يمكن القول إن اتفاقيّة ترسيم الحدود خدمت الوظيفة التي وُضعت لأجلها في خلال عامها الأول، مع ترجيح كفّة الاستفادة لمصلحة الجانب الإسرائيلي الذي نال ما أراد منها من حيث تأمين أجواء الأمن والاستقرار لشركات التنقيب وإنتاج الغاز. لكن انطلاق معركة طوفان الأقصى وحرب الإبادة المستمرّة على غزّة ولبنان، خلطت كلّ الأوراق في المنطقة، وأعادت ربط تطوير أي حقل نفط أو غاز بالعوامل الجيوسياسية القائمة.
في بداية أيلول/سبتمبر من هذا العام، بعث عضوا الكنيست الإسرائيلي دان إيلوز وزفي سوكوت رسالة إلى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يطالبانه فيها بإلغاء الاتفاقية الموقّعة مع لبنان في عهد الحكومة السابقة، متذرّعين بالحاجة إلى حفظ أمن إسرائيل أمام التهديدات والصواريخ التي تأتي من لبنان منذ 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023. كما حذّر العضوان أيضاً أن للاتفاقية تداعيات كارثيّة على استقرار منطقة الشرق الأوسط، مُشبّهين ذلك بقراريْ الانسحاب من لبنان في العام 2000 والخروج من غزّة في العام 2005.
نام نتنياهو على الرسالة إلى أن بدأ عدوانه الهمجي على لبنان بحجّة إعادة سكّان الشمال وضرب قدرة حزب الله العسكرية والأمنية، ونجحت إسرائيل باغتيال الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصرالله في الضاحية الجنوبية لبيروت. وفي ظل النشوة الإسرائيلية، أخرج نتنياهو أرنب الاتفاقية من جعبته عبر وسائل الإعلام، التي نقلت إيعازه بإلغاء الاتفاقية، قبل أن تأتي تصريحات وزير الطاقة الذي ينتمي إلى حزب نتنياهو، أي حزب الليكود. وكان نتنياهو لوّح قبل فوزه بالانتخابات في العام 2022 بأنه سيحلّ الاتفاقية المُجحفة التي وقّعها سلفه لابيد في حال فوزه، وهو ما لم يفعله سابقاً ويهدّد بفعله اليوم.
في اليوم التالي لهذا الاعلان، أرسل حزب الله مسيّرة نحو منصّة الحفر في حقل كاريش، قالت إذاعة الجيش الإسرائيلي أن جيش الاحتلال اعترضها على مسافة بعيدة من الحقل. وأراد حزب الله من خلال هذه الخطوة إرسال رسائل متعدّدة الاتجاهات، تعبّر عن استمرار قدرته العسكريّة، وإمكانية الوصول إلى حقول النّفط وتهديد الأمن الطاقوي في إسرائيل.
أراد حزب الله من خلال هذه الخطوة إرسال رسائل متعدّدة الاتجاهات، تعبّر عن استمرار قدرته العسكريّة، وإمكانية الوصول إلى حقول النّفط وتهديد الأمن الطاقوي في إسرائيل
ماذا يعني ذلك؟
يُجمع الخبراء على وضع التهديدات بإلغاء الاتفاقيّة في خانة التهويل. وبحسب ما تقول مستشارة المخاطر السياسية والخبيرة في شؤون النفط والغاز في شرقي المتوسّط، منى سكريّة، لموقع «صفر» فإنّ تصريحات إسرائيل «يمكن وضعها في إطار المناوشات السياسية الداخليّة بين الأحزاب الحاكمة وأطراف المعارضة، وكجزء من الخطاب المواكب للحرب من دون أن تعمد إلى إلغاء الاتفاقية في هذه المرحلة، لكن كل ذلك يترافق مع أجواء لا تسمح بالقدرة على التنبؤ بما قد يلجأ الإسرائيلي إلى فعله». أمّا الخبير في تطوير حقول النفط والغاز والأستاذ في الجامعة الأميركية في بيروت، قاسم غرّيب، فيقول لـ«صفر» إن ما نُقل عن وزير الطاقة هي «مزايدات مردّها نشوة الأحداث الزائفة والمؤقّتة التي يعيشها الإسرائيليون». ولكن إذا صحّ الأمر، بالنسبة إلى غريّب، فانّ ذلك «يعيد حقل كريش بشطره الشمالي كجزءٍ من المنطقة الاقتصادية الخالصة للبنان ويجعل استمرار الإنتاج فيه خارج عن الشرعيّة وتعدّي على لبنان وحقوقه»، وذلك باشارةٍ إلى مطالبة لبنان سابقاً بالخط الحدودي 29 الذي قدّمه الوفد العسكري-التقني في خلال المفاوضات غير المباشرة في العام 2020، والذي يقسّم حقل كاريش إلى جزئين.
من جهتها، تعتبر الخبيرة في حوكمة قطاع النفط والغاز ديانا القيسي في حديث مع «صفر» أنّ ما يجب التركيز عليه هو توقيت هذا الإعلان من قبل نتنياهو وفريقه، إذ أن «التسريبات أتت بعد ما ظنّ الإسرائيليون أن ضرباتهم الأخيرة واغتيالهم للسيد نصرالله قد أضعفت حزب الله الذي شكّل التهديد الأساسي لإنتاج الغاز من حقل كاريش على مدى السنوات الماضية، وهم الذين استفادوا من الاتفاقية لضمان استمرار ضخّ الغاز من هذا الأخير بأقلّ الأضرار. أمّا اليوم، فاعتقادهم أنه بالإمكان التنصّل منها تحت الضغط العسكري والنار». وتضيف أنّ ذلك قد يرتدّ سلباً على لبنان، إذ «يعيد تشكيل منطقة بحريّة متنازع عليها، وبالتالي تدفع الشركات إلى عدم تقديم الطلبات إلى دورة التراخيص الثالثة التي ستُقفل في آذار/ مارس من العام 2025، ناهيك عن أن إعادة إحياء الخط 29 قد تكون صعبة نسبيّاً بما أن كاريش ينتج الغاز اليوم».
أمّا محرّر شؤون شرق البحر الأبيض المتوسط في مجلة MEES المتخصّصة في مجال النفط والغاز بيتر ستيفنسن، فيقول لـ«صفر» إن «نقض الاتفاقيّة لن يخدم إسرائيل على الإطلاق، خصوصاً أنها أصبحت اتفاقية دولية، وبالتالي أستبعد أن تقوم اسرائيل بذلك ما لم يقم لبنان بنقضها أوّلاً. لقد وضعت الاتفاقية بالأساس لتمكين «توتال إينرجي» من الحفر في حقل قانا، واستمرار شركة «إينيرجين» في الإنتاج في كاريش، وبالتالي اليوم قد تكون أصبحت غير مجدية للبنان ما دامت توتال لم تجد الغاز ولم تسلّم بعد تقرير الحفر المتعلّق بالعملية». وأضاف ستيفنسن أن «أي شركة عاقلة لن تأتي للعمل في المنطقة في هذه الظروف، وبالتالي أظنّ أن هذه التصريحات قد تبعث برسائل سلبيّة للشركات العالمية، وتحديداً BP البريطانية وSocar الأذرية اللتين استحوذتا على رُقع استثمار منذ أقل من سنة محاذية للخطّ 23، وقد لا يمكنها إلغاء الاتفاقية من العمل في مناطق متنازعة».
ما نُقل عن وزير الطاقة هي «مزايدات مردّها نشوة الأحداث الزائفة والمؤقّتة التي يعيشها الإسرائيليون». ولكن إذا صحّ الأمر، فانّ ذلك «يعيد حقل كريش بشطره الشمالي كجزءٍ من المنطقة الاقتصادية الخالصة للبنان ويجعل استمرار الإنتاج فيه خارج عن الشرعيّة وتعدّي على لبنان وحقوقه»
وكان وزير الطاقة والمياه اللبناني في حكومة تصريف الأعمال وليد فياض قد صرّح للنهار قائلاً أن «حقّ لبنان مهدور أصلاً في الأرض والغاز والمياه، وتالياً الإسرائيلي هو المستفيد»، ولفت إلى أنه «إذا أراد الإسرائيلي أن يبدّل في الاتفاق فليفعل، لأنه المستفيد حالياً عبر بدء التنقيب، فيما لبنان لم يستفد حتى اليوم بشيء، لأن الولايات المتحدة والغرب لم يعطيا الضوء الأخضر للشركات العالمية للاستثمار في لبنان».
هل يمكن ربط ذلك بالتوغل البرّي؟
في ظل التصعيد الإسرائيلي المتمثّل بمحاولة التوغّل البرّي إلى داخل الجنوب اللبناني، تضع إسرائيل من ضمن بنك أهدافها إمكان قيام منطقة عازلة خالية من السلاح وأنشطة حزب الله جنوب منطقة الليطاني، وهذا ما بدأ يتبلور من خلال دعوة كل سكان بلدات هذه المنطقة إلى التوجّه شمالاً. لكن ذلك لا ينطبق أبداً على البحر، إذ لا يمكن تغيير حدود بحريّة تتداخل فيها بلدان عدّة في المنطقة ولا يمكن خلق أي مناطق عازلة بحريّة.
من الناحية الأخرى، تشير المصادر القانونية إلى أنّ إلغاء الاتفاقية يحتاج إلى موافقة الطرفين، إذ أنها مُسجّلة في الأمم المتحّدة بموجب رسائل بعث بها كلّ من لبنان وإسرائيل. بالتالي، يمكن لإسرائيل القيام بذلك من جهة واحدة لكنها تبقى خطوة غير قانونية.