تحدّي الذكاء الاصطناعي الذي يواجه العمّال
يستخدم أصحاب العمل مصطلح الذكاء الاصطناعي كعنوانٍ رئيسي يشمل مجموعة من العناوين المرتبطة بالتقدّم التكنولوجي، وبكسر النقابات، وتدهور العمل. غير أنّ ذلك الاصطلاح لا يراعي حقيقة أنّ هذا التدهور ليس سمة من سمات التكنولوجيا نفسها بقدر ما هو تدهور في العلاقة بين رأس المال والعمالة.
المناقشة الحاليّة حول الذكاء الاصطناعي ومستقبل العمل التي يقودُها أصحاب العمل، هي مناقشة طارئة وحديثة مقارنةً بتاريخ العمل البشري. هذه المناقشة تَهدف إلى تقويض قوّة العمال من خلال الادّعاء بأنّ العمل البشري يفقد قيمته مقابل المكننة، وأنّ التقدّم التكنولوجي بذاتِهِ هو المسؤول عن هذا التّقويض، وليس البشر.
إنّ التغييرات المادّية، التي حدثتْ تحت رعاية الذكاء الاصطناعي، لا تؤدّي بالضّرورة إلى إلغاء العمل البشري، بل إلى تدهوره. هذا الإلغاء يبدو مُصاحِباً لتاريخ المكننة منذ فجر الثورة الصناعية. فبدل أن يخفّف أصحاب العمل العبء عن العمّال، استخدموا التّكنولوجيا أو على الأقلّ روحها، ما حوّل الوظائف الجيدة نسبياً إلى وظائف سيئة من خلال تفكيك العمل الحرفي ليغدو عملاً بمعايير مهارة حرفيّة متدنيّة، بوساطة جهاز تكنولوجي، بُغية الحصول على المُنتج بتكلفة أقل.
يستخدم أصحاب العمل مصطلح الذكاء الاصطناعي كعنوانٍ رئيسي يشمل مجموعةً من العناوين المرتبطة بالتقدّم التكنولوجي، وبكسر النقابات، وتدهور العمل. غير أنّ ذلك الاصطلاح لا يراعي حقيقة أنّ هذا التدهور ليس سمة من سمات التكنولوجيا نفسها بقدر ما هو تدهور في العلاقة بين رأس المال والعمالة.
إنّ المناقشة الحاليّة حول الذكاء الاصطناعي ومستقبل العمل التي يقودُها أصحاب العمل اليوم، هي مناقشة طارئة وحديثة مقارنةً بتاريخ العمل البشري. هذه المناقشة تَهدف إلى تقويض قوّة العمال من خلال الادّعاء بأنّ العمل البشري يفقد قيمته مقابل المكننة، وأنّ التقدّم التكنولوجي بذاتِهِ هو المسؤول عن هذا التّقويض، وليس البشر.
الذكاء الاصطناعي ليس تقنية محدّدة
عندما يتحدث روّاد الأعمال في مجال التكنولوجيا عن الذكاء الاصطناعي، يقصدون تلك القدرة على أداء مجموعة من المهام بوقت واحد. وخير دليل على ذلك وَعْدُ إيلون ماسك رئيسَ الوزراء البريطاني بعصر قادم من الوفرة، حيث لن يحتاج أحد إلى العمل لأنّ «الذكاء الاصطناعي سيكون قادراً على القيام بكل شيء». وهم بذلك يستخدمون مصطلح الذكاء الاصطناعي استخداماً يدفعَ إلى الالتباس لا إلى الوضوح. على سبيل المثال، لا يستخدم الباحثون الأكاديميّون في مجال الذكاء الاصطناعي بشكل عامّ مصطلح الذكاء الاصطناعي لوصف تقنية محددة، بل يصفونَهُ بأنّه ببساطة ممارسة تجعل «أجهزة الكمبيوتر قادرة على أن تقوم بالمهام التّفكيريّة الّتي تقومُ بها العقول البشريّة»، على حدّ توصيف المتخصّصة في هذا المجال: مارغريت أ. بودن.1 بعبارة أخرى، الذكاء الاصطناعي هو رغبة في بناء آلة تعمل وكأنّها تفكّر بذكاء أكثر من كونها مجرّد تقنيّة، إذ لا توجد ميزةٌ تقنية واحدة تجعل الذكاء الاصطناعي متفوّقاً أو متمايزاً عن أيّ علمٍ من علوم الكمبيوتر.
تتركّز الكثير من المناقشات الحاليّة المرتبطة بالذكاء الاصطناعي حول إمكانيّة تطبيق ما يُعرف بالشبكات العصبيّة الاصطناعيّة على التعلّم الآلي. والتعلّم الآلي هو تعلّم يستند إلى استخدام الخوارزميات بهدف العثور على أنماط في مجموعات البيانات الكبيرة، من أجل إجراء تنبّؤات إحصائيّة. فبرامج المحادثة مثل ChatGPT تُعدُّ مثالاً جيداً لهذا التعلّم. (برنامج المحادثة هو برنامج كمبيوتر يحاكي المحادثة البشريّة حتى يتمكّن المُستخدم من التفاعل مع جهاز رقمي كما لو أنّه يتواصل مع إنسان). تستخدم برامج المحادثة قدراً هائلاً من القوّة الحسابيّة، وكميّات كبيرة جداً من البيانات، من أجل تقييم الاحتمالية الإحصائية، كلّ ذلك كي تتناسق كلمة واحدة إلى جانب كلمة أخرى.
الذكاء الاصطناعي هو رغبة في بناء آلة تعمل وكأنّها تفكّر بذكاء أكثر من كونها مجرّد تقنيّة
يعتمد التعلّم الآلي بشكل عامّ على المصمّمين لمساعدة النظام في تفسير البيانات. وهذا هو مسرح عمل الشبكات العصبية الاصطناعية. (التعلم الآلي والشبكات العصبية الاصطناعية هما أداتان فقط تحت المظلّة العامّة للذكاء الاصطناعي). الشبكات العصبية الاصطناعية عبارة عن تطبيقات برمجيّة مترابطة (كلّ برنامج فردي في هذه السّلسلة يسمّى عقدة)، كلّ تطبيق على حدة يؤدّي مهمّة واحدة. في حالة ChatGPT الذي ينتمي إلى فئة نماذج اللغة الكبيرة، كلّ عقدة فيه عبارةٌ عن برنامج يشغّلُ نموذجاً رياضيّاً يُسمى نموذج الانحدار الخطي، وهو نموذج يتغذّى بالبيانات، ويتنبّأ باحتماليّة إحصائية، ثم يصدر ناتجًا.2 ترتبط هذه العقد ببعضها البعض، على أن يكون لكلّ رابط وزناً متفاوتاً، أي تصنيفاً رقميّاً يشير إلى مدى أهميّته، بحيث تؤثّر كلّ عقدة على الناتج النهائي بدرجة مختلفة. في الأساس، الشبكات العصبية هي طريقة معقّدة لاستيعاب العديد من العوامل في وقت واحد في أثناء التنبّؤ بعمليّة تصدير النّواتج. من الأمثلة على ذلك، عمليّة الإجابة المناسبة عن سؤال طُرِحَ عبر برنامج دردشة آليّ، وما تتطلّبه هذه الإجابة من رصف كلمات متناسبة متتاليّة.
إنّ هذا التقليد بعيد كلّ البعد عن آليّات الوعي البشري، لكنّ الباحثين لا يفهمون العقل جيداً بما يكفي لتشفير قواعد اللغة في الآلة. وبدلاً من ذلك، اختاروا ما تسمّيه كيت كروفورد، الباحثة في مركز أبحاث مايكروسوفت، «الأساليب الاحتماليّة أو أساليب القوّة الغاشمة». فلا يوجد إنسانٌ واحدٌ يفكّر وِفقِ هذه الأساليب.
على سبيل المثال، لا يتعلّم الأطفال اللّغة من خلال قراءة ويكيبيديا بالكامل، وحساب عدد المرّات التي تظهر فيها كلمة أو عبارة بجوار أخرى. هذه الأنظمة التّعلّميّة تحتاجُ طاقة ضخمة ومكلفة جدّاً على وجه الخصوص، حيث بلغت تكلفة تدريب ChatGPT-4 حوالي 78 مليون دولار؛ أما بالنسبة لـ Gemini Ultra، تطبيق Google المماثل لـ ChatGPT، فقد بلغت التكلفة 191 مليون دولار.3 وتجدر الإشارة إلى أنّ البشر يكتسبون اللغة ويستخدمونها بتكلفة أقل بكثير.
في التعلّم الآلي القياسي، يقوم البشر بتسمية مدخلات مختلفة بهدف تعليم الآلة كيفية تنظيم البيانات ووزن أهميتها في تحديد الناتج النهائي. على سبيل المثال، يقوم العديد ممّن يتقاضون أجوراً زهيدة «بالتدريب المسبق»، أو تعليم برامج الكمبيوتر كيف تبدو الأشياء، ووضع علامات على الصور حتى يتمكّن البرنامج من التمييز بين مزهرية وكوب مثلًا. (أثناء برمجة نظام ما يقوم بعمليّة «تعلّم عميق»، يؤدّي البشر دوراً برمجيَاً أقلّ بكثير. مع التعلّم العميق، تحتوي الشبكات العصبية الاصطناعية المستخدمة على طبقات أكثر من تلك الموجودة في التعلم الآلي الكلاسيكي، ويقوم البشر بتسمية أقل بكثير للعناصر في مجموعة البيانات. بعبارة أخرى، يمكن التّغذية ببيانات خام وغير معالجة، ورغم ذلك يُمكنُ تنظيمها). من المهم ملاحظة أن GPT في ChatGPT تعني Generative Pre-trained Transformer، والمحوّل هنا هو نوع من الشبكات العصبية. في حالة ChatGPT، تمّ تدريب البرنامج مسبقاً بواسطة البشر لتعليم البرنامج وتصحيحه، حيث تمّ تغذيته بكميّات هائلة من البيانات معظمها يندرج في نصّ مكتوب. في الواقع، وفقاً لصحيفة الغارديان، كان العمال المتعاقدون في كينيا الذين وظفتهم شركة OpenAI لتدريب ChatGPT يكسبون ما بين 1.46 دولاراً و3.74 دولاراً في الساعة لوضع علامات على النصوص والصّور التي تحتوي على «العنف وإيذاء النفس والقتل والاغتصاب والاعتداء على الجثث وإساءة معاملة الأطفال والجنس مع الحيوانات وزنا المحارم». زعم العديد من العمال أنّ ظروف العمل هذه كانت استغلاليّة، وطلبوا من الحكومة الكينية إطلاق تحقيق في OpenAI.
وهكذا كما يوضح بودن «يقدّم الذّكاء الاصطناعي مجموعة كبيرة من الآلات الافتراضيّة، تقوم بالعديد من أنواع معالجة البيانات المختلفة. لا يوجد كلمة مفتاح سريّة في هذه المعالجات، ولا تقنيّة أساسية توحّدها: يعمل ممارسو الذكاء الاصطناعي في مجالات متنوّعة للغاية، بالمقابل فإنّهم يتشاركون القليل من الأهداف والأساليب».4 ومع ذلك، فإن الاستخدام المعاصر لمصطلح الذكاء الاصطناعي يميل إلى إخفاء التغييرات المادية، ويغلّف التّكنولوجيا هذه بالغموض، ويجمع العديد من التّقنيّات المختلفة في آليّة ثوريّة واحدة، في آليّة خلّاقة متجانسة وغامضة. هذا التأثير ليس عرضياً بل يخدم مصالح رأس المال، وله تاريخ يشهد على ذلك.
الذكاء الاصطناعي وتدهور العمالة
إذاً، الذكاء الاصطناعي ليس تقنيّة ثوريّة، بل هو قصة من قصص التكنولوجيا. على مدار القرن الماضي، كافحت النقابات العمّاليّة لمواجهة استخدام أصحاب العمل للقوّة الإيديولوجية لليوتوبيا التكنولوجية، أو فكرة أن التكنولوجيا نفسها ستنتج مجتمعاً مثاليّاً خالياً من الصّراع. (ومن الأمثلة الواضحة على ذلك الاسم الذي أطلقته جنرال موتورز على جناحها في المعرض العالمي لعام 1939: «فوتوراما»). والذكاء الاصطناعي هو فصل آخر من فصول قصة اليوتوبيا التكنولوجية التي تخفي قضيّة تدهور العمالة بين أسطر البلاغة.5 وإذا فهمت النقابات العمالية التغييرات التي تطرأ على وسائل الإنتاج خارج شروط التقدم التكنولوجي، فسيصبح من الأسهل عليها التفاوض على الشروط في الوقت الرّاهن، بدلاً من مناقشة التأثير المحتمل في المستقبل الغامض والمتصارع.
يستخدم أصحاب العمل تقنيّات التعلّم الآلي والشبكات العصبية الاصطناعية بما يتماشى مع التاريخ الطويل لمكننة العمل. لا تزال فرضيّة تدهور العمل التي طرحها عالم الاقتصاد السياسي الماركسي هاري برافيرمان قائمة، وهي تنصّ على أنّ التطور الرأسمالي الصناعي يميل إلى تفكيك العمل الحرفي، وتوسيع نطاق تقسيم العمل المفصّل، وتطبيق أنظمة المصانع على المزيد والمزيد من أنواع العمل.6 والحقيقة أنّ استخدام المدراء للتكنولوجيات الرقميّة قد زاد من تسارع هذا الاتجاه. أشار موريتز ألتنريد، وهو باحث في الاقتصاد السياسي، مؤخّراً إلى ذلك على أنّه صعود «المصنع الرقمي»، الذي يجمع بين أكثر عناصر العمل المصنعي التقليدي -السجنيّة تحديداً-، مع عقود العمل المرنة وعدم استقرار العمال.7 استخدم أصحاب العمل الخوارزميات لممارسة سيطرة هائلة على آليّات العمل، باستخدام المنصّات الرقمية لتفكيك الوظائف، ومراقبة سرعة إنجاز العمّال للمهام، كما هو الحال في استخدام أمازون للخوارزميات لتحفيز عمال المستودعات، أو تطبيقات استدعاء السيارات لتسريع مواصلاتهم. سمحت المنصّات الرقمية لأصحاب العمل بتوسيع منطق المصنع إلى أي مكان تقريباً. هنا، يمكننا أن نرى الجانب الثّوري الأكبر للتغيرات التكنولوجية المشار إليها بالذكاء الاصطناعي أي الانتشار الواسع لمراقبة العمال. في حين أنّ المنصّات الرقميّة لا يمكن اعتبارها عمّالاً ماهرين على وجه الخصوص، بل رؤساء فعّالين يترصّدون ويكمنون ويحملون العمال على العمل وفقاً لإرادة أصحاب العمل ومخطّطاتهم.
الذكاء الاصطناعي هو فصل آخر من فصول قصة اليوتوبيا التكنولوجية التي تخفي قضيّة تدهور العمالة بين أسطر البلاغة
إنّ القول بأنّ التعلّم الآلي لا يختلف بشكل قاطع عن الأشكال السّابقة من المكننة لا يعني بالضّرورة أنّ كلّ شيء سيكون على ما يرام بالنّسبة للعمّال. وسوف يستمر التعلّم الآلي في مساعدة أصحاب العمل في مشروعهم الهادف إلى تدهور العمل. ومثل الأشكال السابقة من المكننة ــ بما في ذلك المكننة الحاسوبية لأعمال المكاتب الفارهة منذ الخمسينيات ــ وضع أصحاب العمل أنظارهم على تحويل الوظائف التي تتطلّب مهارة عالية إلى وظائف أرخص وبجودة أقلّ. وفي النصف الثّاني من القرن العشرين، قدّم مصنّعو أجهزة الكمبيوتر وأصحاب العمل الكمبيوتر الرقمي الإلكتروني بهدف خفض تكاليف رواتب الموظفين. لقد استبدلت الشركات السكرتيرة أو الموظفة الماهرة بأعداد كبيرة من النساء ذوات الأجور الزهيدة اللواتي يعملن على تشغيل آلات الثقب التي تنتج بطاقات مثقبة، يتم إدخالها في أجهزة كمبيوتر كبيرة تعمل على معالجة البيانات على دفعات. وكانت النتيجة زيادة في عدد الموظفين الإداريين بدل انخفاضها. ولكنّ الوظائف الجديدة كانت أسوأ ممّا كانت موجودة من قبل، فقد أصبحت أكثر رتابة، وتسارعت وتيرة العمل فيها. وفي الربع الأخير من القرن العشرين، نجح أصحاب العمل في إقناع المدراء المتوسّطين بالقيام بأعمال إدارية لأنفسهم (وهو ما أطلق عليه أحد المستشارين «برجوازية» العمل الإداري) من خلال منحهم أجهزة كمبيوتر مكتبية للقيام بأعمالهم الكتابية والتسجيل والمراسلات ـ وهي الأعمال التي كانت الشركة تدفع في السابق للموظفين الإداريين مقابل القيام بها. ولا يزال هذا النّمط من تدهور الوظائف نموذجيّاً في العمل المكتبي اليوم.
وإن كانت تقنيات مثل ChatGPT تبدو مهيّأة لتحلّ محلّ العاملين ذوي الياقات البيضاء مثل كتّاب السيناريو، فمن المرجّح أن يستخدم أصحاب العمل التعلّم الآلي لتفكيك الوظائف، وتقليل مهاراتها بالطريقة نفسها التي استخدموا بها أشكال المكننة القديمة. في العام الماضي، طرحت Google روبوت محادثة للتعلّم الآلي يُدعى Genesis على صحيفة نيويورك تايمز وواشنطن بوست ونيوزكورب. اعترف متحدّث باسم Google بأنّ البرنامج لا يمكنه استبدال الصحافيين أو كتابة المقالات بنفسه. بدلاً من ذلك، سيقوم بتأليف عناوين، ووفقاً لصحيفة نيويورك تايمز، سيقدّم «خيارات» لـ«أنماط كتابة أخرى». هذا هو بالضبط نوع الأداة الملائمة التي يتمّ تسويقها لربّ عمل يرغب في تقليل التّكلفة على حساب المهارة.
كما هو الحال مع أشكال المكننة القديمة، حيث تزيد نماذج اللغات الكبيرة من إنتاجية العمّال، ممّا يعني أنّ زيادة الإنتاج لا تعتمد على التكنولوجيا وحدها. وجدت مايكروسوفت مؤخراً مجموعة مختارة من الدراسات، ووجدت أن Microsoft Copilot و GitHub's Copilot – وهي نماذج لغويّة كبيرة مشابهة لـ ChatGPT – قد زادت من إنتاجية العمّال بنسبة تتراوح بين 26 و 73 %.
وخلصت كلية هارفارد للأعمال إلى أنّ «المستشارين» الذين يستخدمون GPT-4 زادت إنتاجيتهم بنسبة 12.2%، بينما وجد مكتب البحوث الاقتصادية الوطني أنّ عمال مراكز الاتصال الذين يستخدمون الذكاء الاصطناعي عالجوا 14.2% أكثر من المكالمات التي لم يستخدمها زملاؤهم. ومع ذلك، لا تقتصر الآلات على مجرّد القيام بالعمل الذي كان يؤديه الناس من قبل. بدلاً من ذلك، تشجّع هذه الأنظمة العمال على العمل بشكل أسرع، أو أنّها تقلّل من مهارات العمل بحيث يمكن لأشخاص غير مدرّبين في إطار الدراسة على أدائه.8
على سبيل المثال، طالب أعضاء نقابة الكتّاب الأميركية (WGA) في إضرابهم الأخير بمنع استوديوهات الأفلام والتلفزيون من فرض الذكاء الاصطناع» على الكتّاب. لا تستطيع روبوتات الدردشة حاليّاً استبدال الكتّاب جسديّاً. ولكن يبدو من المرجح أن تقوم الستوديوهات بنشر أنظمة التعلّم الآلي لتقسيم وظائفها إلى سلسلة من المهام المنفصلة، ومن خلال تقسيم العمل، تحويل وظيفة الكاتب إلى وظائف أصغر وأقل أجراً حيث أصبح الكتّاب الآن إما مهندسين سريعين يغذّون السيناريوهات في الآلة، أو مصقولين، يصقلون النّصوص المصنوعة آليّاً إلى منتج نهائي. تقتصر الانتصارات التّعاقديّة الأخيرة التي حقّقتها نقابة الكتّاب الأميركية فيما يتعلّق بالذكاء الاصطناعي على حماية الاعتمادات والأجور، على الرغم من أنّها كانت قد شرعت في البداية رفض استخدام نماذج اللغة الكبيرة تماماً. كان موقف المساومة هذا فريداً إلى حدّ ما في الواقع؛ فمنذ منتصف القرن العشرين، كانت النقابات غير قادرة عموماً - إمّا بسبب الضّعف أو المظلة الإيديولوجية - على التّعامل مع التكنولوجيا باعتبارها شيئاً قابلاً للتّفاوض.
وهناك أيضاً أمثلة كثيرة لأصحاب العمل الذين ينشرون «الذكاء الاصطناعي» لا لتقسيم الوظائف وحسب، إنّما لإخفاء وجود العمّال البشريين ذوي الأجور المنخفضة. وكثير منهم مقيمون في عالم الجنوب. فعلى حدّ تعبير عالمة الاجتماع جانيت فيرتيسي، الذكاء الاصطناعي هو مجرّد كلمة طنّانة اليوم لـ«الاستعانة بمصادر خارجيّة». خذ على سبيل المثال نظام أمازون Just Walk Out في متاجرها التقليدية، حيث يتسوّق العملاء ويخرجون دون الحاجة إلى الذهاب إلى ماكينة تسجيل المدفوعات لأنّ الدفع يتم معالجته رقميّاً. اعترفت أمازون بأنّ الذكاء الاصطناعي التوليدي الذي استخدمته لحساب إيصالات العملاء يتكوّن في الواقع من عمّال في الهند يشاهدون لقطات المراقبة، ويحرّرون فواتير مفصّلة يدويّاً. في حالة مماثلة، تباهت العديد من سلاسل المتاجر الكبرى الفرنسية بأنّها كانت تستخدم الذكاء الاصطناعي لتحديد سارقي المتاجر عندما كان يتمّ إجراء المراقبة من قبل عمّال في مدغشقر يشاهدون لقطات المراقبة ويكسبون ما بين 90 و100 يورو شهريّاً. الأمر نفسه يحصل مع ما يسمّى بتقنية «الصوت في العمل» (التي يدّعي مصنّعها أنّها نظام «مدفوع بالذكاء الاصطناعي») التي أخذت طلبات العملاء من خلال القيادة في مطاعم الوجبات السريعة الأميركية؛ بينما في الواقع، تمّت معالجة أكثر من 70 % من الطلبات من قبل عمّال في الفلبين. وقد أطلقت عالمة الأنثروبولوجيا ماري جراي والباحث الرئيس الكبير في مايكروسوفت سيدارث سوري على هذه الممارسة المتمثّلة في إخفاء العمالة البشرية خلف واجهة رقميّة اسم «العمل الشبح».9
الذكاء الاصطناعي والأيديولوجية ــ خطاب الأتمتة من جديد
كما ذكرنا في وقت سابق، سيكون من الخطأ أن نفكّر في الذكاء الاصطناعي من منظور تكنولوجي في المقام الأول ــ إما باعتباره تعلّما آليّاً أو حتى منصات رقميّة. وهذا يقودنا إلى خطاب الأتمتة (التشغيل الآلي)، الذي تسبّب بالضجيج الأخير حول الذكاء الاصطناعي في أحدث تكرار له. لا شكّ أنّ أفكار التقدّم التكنولوجي تسبق فترة ما بعد الحرب، ولكن لم تتبلور هذه الأفكار في أيديولوجية تعمل عموماً على إضعاف العمّال إلّا في السّنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية.
منذ منتصف القرن العشرين، كانت النقابات غير قادرة على التّعامل مع التكنولوجيا باعتبارها شيئاً قابلاً للتّفاوض إمّا بسبب الضّعف أو المظلة الإيديولوجية
كانت النّسخة الأصلية من هذه الأيديولوجية هي خطاب الأتمتة الذي نشأ في الولايات المتحدة في السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، والذي زعم أنّ كلّ التغيير التكنولوجي يتّجه نحو الإلغاء الحتمي للعمل البشري، وخاصة العمل الصناعي لذي الياقات الزرقاء. وكان هذا نتاجاً مباشراً لظاهرتين متشابكتين. أولاً، القوّة المؤسسيّة الجديدة للعمل المنظّم التي خرجت من النضال في ثلاثينيات القرن العشرين، والتي شكّلت تهديداً لرأس المال، وثانياً، الحماس التكنولوجي الملحوظ في فترة ما بعد الحرب. فمنذ ثلاثينيّات القرن العشرين، سعت الشركات الأميركية إلى تصوير نفسها ومنتجاتها على أنّها قادرة على إنتاج ذلك النوع من المستقبل المثالي الذي طالما ربطه اليساريون الراديكاليون بالثورة السياسية. (على سبيل المثال، وعدت شركة دوبونت بتغييرات «ثورية» و«أشياء أفضل من أجل حياة أفضل... من خلال الكيمياء»، بدلاً من إعادة توزيع الملكية على سبيل المثال).10 وبدا أنّ النصر في الحرب العالمية الثانية، والاختراقات التكنولوجية المموّلة من الحكومة، والطفرة الاقتصادية الناتجة عن ذلك، تؤكّد هذه الحجّة. وعلى حدّ تعبير مجلّة بيزنس ويك في العام 1955، كان هناك «شعور بأنّ شيئاً جديداً وثورياً يولد في المختبرات والمصانع». لذلك بدا من المعقول بالنسبة للجهات الفاعلة من مختلف أطياف السياسة ــ من قادة الصناعة، إلى مسؤولي النقابات، إلى أعضاء الحركة الطلابية، وحتى بعض النسويات الراديكاليات ــ أن يعتقدوا أنّ التكنولوجيا الأميركية ربّما تكون قادرة على التغلّب على تلك السمات الأكثر إيلاماً للإنتاج الرأسمالي الصناعي: الصراع الطبقي والاغتراب في مكان العمل.11
وفي إطار هذا المعنى العام، صاغ نائب رئيس الإنتاج في شركة فورد موتور كلمة «الأتمتة» لتصوير سياسة الشركة في مكافحة النقابات، وتدهور ظروف العمل، بينما أعادت تنظيم نفسها باعتبارها نتاجاً للتطوّر غير السياسي والحتمي للمجتمع الصناعي نفسه.12 وقد صوّر فورد، وسرعان ما صوّره الجميع تقريباً، على أنّه تقنيّة ثوريّة من شأنها أن تغيّر بشكل أساسي (ولا هوادة فيه) مكان العمل الصناعي. كان تعريف الأتمتة غامضاً بشكل مريب، لكنّ العديد من الأميركيين لا يزالون يعتقدون حقّاً أنّها ستجلب الوفرة، في حين تقضي على البروليتاريا. وعلى حدّ تعبير عالم الاجتماع والمفكّر العام الشهير دانييل بيل، ستحلّ محلّها «سالاريا» ذوي الياقات البيضاء ذوي المهارات العالية.13 ومع ذلك، ما أشار إليه المديرون والعمال على أنّه أتمتة أدّى في كثير من الأحيان إلى تدهور العمل وتسريعه في جميع الصّناعات، كما أدّى إلى استبدال العمل البشري بعمل الآلة. ومع ذلك، في معظم الأحيان، وجد العمال أنفسهم مقيّدين خطابياً، وإلى حد ما فكرياً، من قبل خطاب الأتمتة. في اجتماع العام 1957 لكبار المسؤولين الذين يمثلون عشرة من أكبر النقابات العماليّة في الولايات المتحدة في ذلك الوقت، لخّصت سيلفيا غوتليب، مديرة التعليم والبحوث في اتحاد عمال الاتصالات الأميركي (CWA)، المشكلة: لم يكونوا متأكّدين ممّا إذا كانت الأتمتة هي الثورة التكنولوجية التي وصفها رأس المال، وكانوا بحاجة إلى الحذر من «تحوّل حركة العمل إلى البكاء بشأن هذا الموضوع»، أي أنصار نهاية العالم المعارضين للتقدم التكنولوجي، أو ما هو أسوأ من ذلك، اللوديون. وخلصت غوتليب إلى أنّه من المنطقي «الاعتراف بالفوائد الهائلة الّتي توفّرها الأتمتة، وليس التحدث فقط عن مشاكل الأتمتة وصعوباتها».14
نُشِر هذا المقال في New Labor Forum في عدد خريف 2024 بموجب رخصة المشاع الإبداعي.