إسرائيل لا تجعل الصحراء خضراء
صوّرت إسرائيل فلسطين ما قبل العام 1948 على أنّها فارغة، صحراء قاحلة، وقد أوحت أن تلك الصحراء القاحلة قد أمسَتْ واحة خضراء بعد تأسيس دولة إسرائيل. وبالنسبة إلى إسرائيل وداعميها، فإنّ ما يحيط بتلك الواحة هو شرق أوسط جافّ ومتدهور ومخيف غارق في البدائيّة والتخلّف. ولصورة إسرائيل الخضراء، وهي النقيض من شرق أوسط غير ديمقراطيّ ومتوحش، مركزية في جهودها لغسل صورة الاستعمار الاستيطاني وبنية الفصل العنصري. وتوظّف إسرائيل خبرتها في الأعمال الزراعيّة، والتشجير، وحلول المياه، وتكنولوجيا الطاقة المتجدّدة، كمكوّنات أساسيّة لعمليّة الغسيل الأخضر ولسرديتها عالمياً.
وقد أُعيد التأكيد على ادعاء إسرائيل بتفوّقها البيئي على بقية الشرق الأوسط (وشمال أفريقيا) بعد توقيعها «اتفاقيات أبراهام» مع الإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب والسودان في العام 2020. و«اتفاقيات أبراهام» هي اتفاقية تطبيع برعاية أميركية تهدف إلى تعزيز العلاقات (الموجودة بالفعل) مع دول عربية أخرى ليست جزءاً من الاتفاقية بشكل رسمي، بما في ذلك دول مثل السعودية وعُمان التي لم تطبع علاقاتها مع إسرائيل رسمياً، وأخرى تجمعها علاقات رسمية مع إسرائيل مثل الأردن ومصر. وقد تعهّد تحالف هذه الدول العربية تحت مظلّة «اتفاقيات أبراهام» بالعمل على زيادة تعاونهم مع إسرائيل في ما يتعلّق بقضايا عدّة من ضمنها الأمن والاقتصاد والصحّة والثقافة والبيئة. وفي خلال العامين الماضيين، وبموجب الاتفاقية، وقّعت إسرائيل والدول العربية المطبّعة عدداً من مذكّرات التفاهم لتنفيذ مشاريع بيئية مشتركة تتعلّق بالطاقة المتجدّدة والأعمال الزراعية والمياه.
إن «اللجنة الوطنية للمقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات» (BNC)، التي تعمل على إنهاء التواطؤ الدولي مع الاضطهاد الإسرائيلي، تعرِّف التطبيع بأنه «المشاركة في أي مشروع أو مبادرة أو نشاط، محلي أو دولي، يجمع (في المنصة نفسها) فلسطينيين أو عرباً مع الإسرائيليين (أفراداً أو مؤسسات)».
وتوضح اللجنة الوطنية للمقاطعة أن مساحات التطبيع لا تلبّي الشروط التي وضعتها في ما يتعلّق بحقّ الفلسطينيين في تقرير المصير، وتفكيك نظام القمع الإسرائيلي المؤلّف من ثلاث طبقات وهي: الاستعمار الاستيطاني والفصل العنصري والاحتلال العسكري، وكذلك حقّ اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم كما هو منصوص عليه في قرار «الأمم المتّحدة» رقم 194. تستخدم إسرائيل التطبيع كوسيلة للتصالح مع نظام الفصل العنصري الاستعماري الاستيطاني. وفي هذا السياق، تلاحظ «الشبكة»، وهي مؤسّسة فلسطينية بحثية، أنّ ما يوصف بالمشاريع التعاونية الصديقة للبيئة بين إسرائيل والدول العربية هي شكل من أشكال التطبيع البيئي، الذي يقوم على استخدام «البيئة» للتطبيع مع الاضطهاد الإسرائيلي والمظالم البيئية التي تنتجُ عن هذا الاضطهاد في المنطقة العربية وخارجها.
مشاريع التطبيع البيئي
في 8 تشرين الثاني/نوفمبر 2022، في خلال دورة «مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي» (COP27) التي انعقدت في شرم الشيخ في مصر، وقّعت الأردن وإسرائيل مذكّرة تفاهم برعاية إماراتية لمواصلة دراسة الجدوى لمشروعين مترابطين؛ الأوّل يُسمّى «الازدهار الأزرق» والثاني «الازدهار الأخضر»، ويشكّلان معاً «مشروع الازدهار». وفقاً لشروط الاتفاقية؛ سوف تشتري الأردن 200 مليون متر مكعب من المياه سنوياً من محطّة تحلية مياه إسرائيلية سوف يتم إنشاؤها على ساحل البحر الأبيض المتوسّط (الازدهار الأزرق). وسوف تستخدم محطّة تحلية المياه الطاقة التي سوف تنتجها محطّة للطاقة الشمسية الكهروضوئية بقدرة 600 ميغاواط سوف تُبنى في الأردن (الازدهار الأخضر)، بواسطة شركة «مصدر» المملوكة لدولة الإمارات العربية المتحدة المتخصّصة في الطاقة المتجدّدة. واعتزمت أطراف الاتفاقية تقديم خطط أكثر وضوحاً بشأن تنفيذ المشاريع في خلال «مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي» الثامن والعشرين (COP28)، الذي عُقد في الإمارات في العام 2023.
في حين تتخصّص «ENLT» في مشاريع الطاقة المتجدّدة، فإن «NewMed» هي شركة للغاز الطبيعي والنفط، وكلاهما يؤدّيان دوراً في تقوية علاقات التطبيع مع الدول العربية
ظهرت فكرة «مشروع الازدهار» للمرّة الأولى من قبل منظمة «EcoPeace Middle East»، وهي منظّمة إسرائيلية أردنية فلسطينية غير حكومية تروّج للتطبيع البيئي بين الأطراف الثلاثة، وذلك في إطار «الاتفاق الأخضر الأزرق للشرق الأوسط»، وهي مبادرة تدّعي تخصّصها في قضايا المياه والطاقة في إسرائيل وفلسطين والأردن. وعلى الرغم من كون فلسطين جزءاً من هذا الاتفاق، لا تملك أي دور في «مشروع الازدهار».
في تطوّر آخر، وقبل شهور عدّة من انعقاد «مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي» الـ 27، في آب/أغسطس من العام 2022، انضمّت الأردن إلى المغرب والإمارات والسعودية والبحرين وعُمان، في توقيع مذكّرة تفاهم مع شركتي طاقة إسرائيليتين لتنفيذ مشاريع طاقة متجدّدة في هذه الدول. سوف تعمل الشركتان المنخرطتان في هذا المشروع، الأولى Enlight Renewable Energy وNewMed Energy (يشار إليهما لاحقاً بـ ENLT-NewMed)، على بدء وتمويل وبناء وتطوير وإدارة محطّات للطاقة المتجدّدة على أراض عربية. سوف تشتمل مشاريع الطاقة «الخضراء» هذه على إنتاج الطاقة الشمسيّة وطاقة الرياح وكذلك تخزينها. وفي حين تتخصّص «ENLT» في مشاريع الطاقة المتجدّدة، فإن «NewMed» هي شركة للغاز الطبيعي والنفط، وكلاهما، وبشكل أكبر «NewMed»، يؤدّيان دوراً أساسياً في تقوية علاقات التطبيع مع الدول العربية من خلال الصفقات الخاصة بالطاقة الخضراء والوقود الأحفوري.
«الازدهار الأزرق»: إسرائيل تروي عطش الأردن
في خلال الأعوام الأخيرة، تفاقمت أزمة المياه في الأردن التي تعود لعقودٍ سابقة. تشير وسائل الإعلام الرئيسة إلى أن السبب وراء هذه الأزمة يعود إلى الزيادة في أعداد اللاجئين السوريين والعراقيين الذين يستضيفهم الأردن، بالإضافة إلى الأزمة المناخية. وبالفعل، فإن تدفق اللاجئين الذين هربوا من الحروب الإمبريالية الّتي شُنّت على بلادهم جعلت من الأردن غير قادر على تلبية الطلب المتزايد على المياه. ومع ذلك، فإن تحميل اللاجئين العراقيين والسوريين حصراً مسؤوليّة تفاقم نقص المياه من دون تسليط الضوء على السبب الجذري لهذا النقص - وهو استحواذ إسرائيل على مياه الأردن - ينطوي على عنصرية وسلوك كاره للأجانب، ويصرف الانتباه عن دور إسرائيل في تحويل الأردن إلى دولة عطشى. عملت إسرائيل لعقود على استنزاف موارد الأردن المائية لتحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية في المنطقة. بينما يُعفي الغسيل الأخضر، الذي يؤطِّر مشروع «الازدهار الأزرق» في الإعلام الإسرائيلي والغربي، إسرائيل من مسؤوليتها عن الأزمة المائيّة في الأردن.
ومثال على ذلك ما كتبته صحيفة «Times of Israel»، تعليقاً على توقيع مذكّرة تفاهم «مشروع الازدهار» في العام 2022:
«الأردن من أكثر دول العالم التي تعاني من نقص المياه. تواجه الدولة احتمالات قاتمة في ما يتعلّق بالمياه مع تزايد عدد سكّانها وارتفاع درجات الحرارة. وعلى الرغم من إسرائيل دولة حارّة وجافة أيضاً، فتحت تكنولوجيا تحلية المياه المتقّدمة التي تمتلكها فرصاً أمامها لبيع المياه العذبة».
يعكس هذا البيان جوهر سردية «الغسيل الأخضر» التي تتبنّاها إسرائيل، وتصوّر فيها نفسها كدولة راعية للبيئة وحريصة على حمايتها. لطالما قدّمت إسرائيل نفسها بوصفها دولة جافة، لكنّها، وعلى العكس من جيرانها (العرب)، طوّرت التكنولوجيا اللازمة لإدارة مواردها المائيّة الشحيحة بكفاءة والتخفيف من حدّة أزمة المناخ. في خلال العقدين الماضيين، مجّدت إسرائيل تكنولوجياتها المتقدّمة في مجال المياه واحتفت بنجاحها في تحليتها. ووفقاً لهذه السردية، فإنّ إسرائيل بصفتها «فاعل خير بيئي»، تسعى دائماً لوضع تقنيّاتها في خدمة جارتها العطشى (الأردن)، حتى في أوقات التوتّر بين البلدين. وهذا الرأي ينعكس في تعليق نشرته صحيفة «The Hill» في العام 2021، بشأن «مشروع الازدهار»:
«لإسرائيل والأردن تاريخ طويل من التعاون في ما يخصّ المياه، حتى في خضم التوتّرات السياسية. فمنذ معاهدة السلام بين إسرائيل والأردن في العام 1994، كانت إسرائيل تخزّن بعض حصص المملكة من مياه نهر الأردن في بحيرة طبريّا، وتفرّغ الإمدادات حسب الحاجة».
إن تحميل اللاجئين العراقيين والسوريين مسؤوليّة تفاقم نقص المياه ينطوي على عنصرية ويصرف الانتباه عن دور إسرائيل الأساسي في تحويل الأردن إلى دولة عطشى
لكن ذلك خاطئ، لم تكن إسرائيل «تخزّن» بعض «حصص» المملكة في بحيرة طبريّا، بل كانت تنهب حصّة الأردن من مياه نهري الأردن واليرموك، على الضدّ من إرادة الأردن المعلنة (وهذا كان الحال بشكل خاص في الماضي). ولم تكن «تفرّغ الإمدادات بحسب الحاجة»، بل هي تستمرّ في تخزين مياه الأردن التي تستحوذ عليها.
وعليه، من الواضح أن الخطاب الإحساني البريء المحيط بمشروع «الازدهار الأزرق»، يعمل على إخفاء دور إسرائيل في سرقة المياه الفلسطينية والعربية. وبدلاً من الاستحواذ على المياه وتحويلها إلى بضاعة تبيعها إلى الأردن، يجب على إسرائيل أن تُعيد المياه المستحوذ عليها التي تستمر في تخزينها إلى الأردن. وعلى النقيض من هذا، ومن خلال مشروع «الازدهار الأزرق»، تنكِر إسرائيل مسؤوليتها عن ندرة المياه في الأردن وتدّعي أنها تقدّم حلاً لهذه المشكلة، لتصوّر نفسها على أنها حامية للبيئة وقوّة مائية إقليمية.
قهر قلب الظلام العربي
يدعم مشروعا الطاقة المتجدّدة على جدول أعمال «التطبيع البيئي»، وهما «الازدهار الأخضر» و«ENLT-NewMed»، صورة إسرائيل كحاضنة للتكنولوجيا الإبداعية في مجال الطاقة المتجدّدة. وفي تمجيد إسرائيل بهذا الخصوص، تتجاهل السردية السائدة أن ابتكاراتها في قطاع الطاقة تستند إلى استعمار الطاقة الأخضر في فلسطين والجولان. يُشير استعمار الطاقة إلى استغلال الشركات والدول الأجنبية لموارد وأراضي دول ومجتمعات في الجنوب العالمي من أجل توليد الطاقة لصالحها وتحقيق منافعها. وإلى جانب تعزيز الانقسام بين الشمال والجنوب، يؤدّي استعمار الطاقة إلى تدمير الحياة الاجتماعية والاقتصادية للسكّان المحليين في الجنوب، عدا عن تدمير بيئاتهم.
يشتمل استعمار الطاقة الخضراء على الاستحواذ على مصادر الطاقة المتجدّدة ونهبها، مع الحفاظ على الهياكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية القائمة على عدم التكافؤ بين الشمال والجنوب. ويشكّل استعمار الطاقة جزءاً لا يتجزّا من النموذج الاستعماري الرأسمالي للسلطة والاستغلال واللا أنسنة وتهميش الآخر، والذي يستمر حتى بعد عقود من دخول أجزاء كبيرة من العالم في حقبة ما بعد الاستعمار. في فلسطين والجولان، يشكّل استعمار الطاقة، بما في ذلك مصادر الطاقة المتجدّدة، أحد أوجه الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، إذ توظّفه إسرائيل كوسيلة، من بين وسائل أخرى، لتجريد الفلسطينيين وأهالي الجولان (26 ألف سوري يعيشون حاليّاً في الجولان المحتلّ) من أراضيهم وإجبارهم على العيش في جيوب أصغر (غيتوهات)، مع توسيع الهيمنة اليهودية الإسرائيلية على أراضيهم. كما من الممكن اعتبار مشروعي «الازدهار الأخضر» و«ENLT- NewMed»، مشاريعاً استعمارية للطاقة تمكّن إسرائيل من الاستمرار في مشروعها الاستيطاني الاستعماري، وتعزيز قوّتها الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تحت غطاء سرديّة «الغسيل الأخضر».
«الازدهار الأخضر»
وفقاً لشروط مشروع «الازدهار الأخضر»، يتعيّن على الأردن بيع كلّ كهرباء محطّة الطاقة الشمسية لإسرائيل مقابل 180 مليون دولار سنوياً. أما العائدات فيتمّ تقاسمها بين الحكومة الأردنية وشركة «مصدر» الإماراتية التي تتولّى بناء محطّة الطاقة الشمسية. والمبرّر لذلك أن إسرائيل لن تضطر إلى استخدام طاقتها لتشغيل محطة تحلية المياه التي توفر للأردن 200 مليون متر مكعّب من المياه سنوياً. ويأتي ذلك في إطار الهدف الإسرائيلي لتعزيز قطاعي الطاقة وتحلية المياه. وتعدّ تحلية المياه، التي تسعى إسرائيل للاعتماد عليها كمصدر رئيس للمياه بحلول العام 2030، عمليّة كثيفة الاستهلاك للطاقة، إذ تمثّل نسبة 3.4% من استهلاكها للطاقة. ولذلك تسعى إسرائيل إلى زيادة وصولها إلى مصادر الطاقة البديلة، ويعدّ مشروع «الازدهار الأخضر» أحد هذه المصادر.
لا تسمح الاتفاقية للأردن، الذي تشكّل وارداته من الغاز الأحفوري نحو 75% من مصادر الطاقة للدولة، بالحصول على الطاقة من هذا المشروع وتعزيز قطاع الطاقة لديه. وعليه، سوف تظلّ البلاد، على الرغم من استخراج طاقتها الشمسية، تعتمد بشكل كبير على استيراد الغاز الأحفوري. كذلك سوف يستمر الأردن في استيراد الغاز من إسرائيل، التي أصبحت منذ العام 2020 وبعد توقيع اتفاقية الغاز المثيرة للجدل في العام 2014 بين البلدين، المصدّر الرئيس للغاز الأحفوري إلى الأردن. وبموجب الاتفاقية التي تبلغ قيمتها 10 مليارات دولار، سوف يزوّد حقل «ليفياثان» للغاز الطبيعي في البحر المتوسط، والخاضع لسيطرة إسرائيل، الأردن بنحو 60 مليار متر مكعب من الغاز على مدار 15 عاماً. وبذلك يظل الأردن رهيناً لواردات الغاز الطبيعي - خصوصاً من إسرائيل - بينما يصدّر طاقته الخضراء من أجل الحصول على المياه المحلّاة من إسرائيل أيضاً.
يشكّل مشروع «الازدهار الأخضر» شكلاً من أشكال استعمار الطاقة، أو بشكل أكثر تحديداً «الاستعمار الأخضر». ويمكن رؤية ذلك في طريقة تصميمه لدعم قطاع الطاقة المتجدّدة في إسرائيل وإبقاء الأردن في حالة اعتماد على مصادر الطاقة الأحفورية الإسرائيلية. ويتضح ذلك من حقيقة أن محطّة الطاقة الشمسية سوف تُبنى في الأردن وليس في إسرائيل. وكما ورد في تعليق موقع «أكسيوس»الإخباري الأميركي في العام 2021: «كان المنطق أن إسرائيل بحاجة إلى الطاقة المتجدّدة لكنّها تفتقر إلى الأراضي اللازمة لإقامة محطّات شمسية ضخمة، وهي الأراضي التي تتوفّر في الأردن». وينعكس صدى هذا الاقتباس في تصريح لكارين إلهرار، وزيرة الطاقة الإسرائيلية السابقة: «سوف يساعد الأردن، الذي يتمتع بمساحات شاسعة وأشعة شمس وفيرة، على دفع دولة إسرائيل نحو الانتقال إلى الطاقة الخضراء وتحقيق الأهداف الطموحة التي وضعتها إسرائيل، التي تمتلك تكنولوجيا متفوّقة في تحلية المياه وسوف تساعد الأردن في معالجة نقص المياه لديه».
هذا التصنيف الهرمي للأراضي، الذي يُنظر فيه إلى الصحراء بوصفها أرضاً أدنى من الأرض المزروعة أو الخضراء، يستند إلى الخطاب الصهيوني الذي يصور إنشاء إسرائيل على أنقاض القرى الفلسطينية المدمّرة بوصفه عملاً يعيد للأرض قيمتها. يسعى هذا الخطاب إلى إضفاء الشرعية والأخلاقية على أفعال إسرائيل، إذ يصوّرها كوكيلة أخلاقية وتقدمية لإدارة الأرض بكفاءة، بدلاً من اعتبارها نظاماً استعمارياً استيطانياً وعنصرياً.
مشروع «ENLT-NewMed»
يعمل مشروع «ENLT-NewMed» أيضاً، وبكيفية تصويره، على إظهار تفوّق إسرائيل البيئي والأخلاقي على جيرانها العرب، ومن بينهم الأردن. فبعد الوصول إلى اتفاقية لتطوير مشاريع طاقة مع الأردن والمغرب والإمارات والسعودية ومصر والبحرين وعمان، صرّحت شركة «ENLT» أن المشروع سوف يعمل على «تسليط الضوء على الخبرة والتجربة العظيمتين لشركتين إسرائيليتين في مجال الطاقة». لكن تسليط الضوء على «التجربة» و«الخبرة» الإسرائيليتين يعني حجبه عن تجارب الفلسطينيين وأهالي الجولان في النضال ضدّ استعمار الطاقة الإسرائيلي.
وعلى الرغم من تقديم مشروع «ENLT-NewMed» لنفسه على أنه يلبّي حاجات الطاقة لسبعة دول عربية، يجب النظر إليه بوصفه فعلاً من أفعال استعمار الطاقة لسببين رئيسين؛ أوّلاً، يسعى «ENLT-NewMed» إلى إدماج إسرائيل - ضمن موقع مهيمن - بشكل أكبر في اقتصادات وفضاءات الطاقة في المنطقة العربية، وبذلك يعمل على خلق اعتمادات جديدة (من خلال إمكانية الوصول والسيطرة على الطاقة) والتي بدورها سوف تعزِّز من برامج التطبيع وموضعة إسرائيل بموقع الشريك الذي لا يمكن الاستغناء عنه.
في فلسطين والجولان، يشكّل استعمار الطاقة أحد أوجه الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، إذ توظّفه إسرائيل كوسيلة لتجريد الفلسطينيين وأهالي الجولان من أراضيهم وإجبارهم على العيش في غيتوهات
ثانياً؛ يمكّن المشروع كلاً من «ENLT» و«NewMed»، وهما شركتان إسرائيليتان متورّطتان بشكل عميق في مشاريع الطاقة الإسرائيلية، من تطبيع وتمويل أنشطتهم الاستعمارية في الجولان وفلسطين المحتلين. تدير شركة «ENLT» الكثير من مشاريع الطاقة المتجدّدة في الجولان، التي تحظى بدعمٍ من الحكومة الإسرائيلية، ومن بينها مشاريع «Emek Habcha» و«Ruach Bersheet» و«Emek Haruchot». تمتلك «ENLT» نحو 41% و60%، على التوالي في أوّل مشروعين من هذه المشاريع، والتي تموّلها مجموعة بقيادة «بنك هبوعليم» (Bank Hapoalim) المدرج في قاعدة بيانات «الأمم المتّحدة» للشركات والمؤسسات المتواطئة في الاستيطان الإسرائيلي غير القانوني في الضفّة الغربيّة. كما تشارك «ENLT» في مشاريع الطاقة المتجدّدة غير القانونية في الضفّة الغربية. وتعمل أيضاً على تطوير مشروع توربينات الرياح بقدرة 42 ميغاواط (وتمتلك فيه حصة 50.15%) في غابة ياتير التي تقع في صحراء النقب وأجزاء من الضفّة الغربية.
عنف التطبيع البيئي
تمكِّن مشاريع التطبيع البيئي إسرائيل من إعادة موضعة نفسها في قطاعي الطاقة والماء إقليمياً وعالمياً، وبذلك تعزّز من موقعها كقوّة سياسية ودبلوماسية في المنطقة والعالم. ومع تفاقم أزمات المناخ والطاقة، قد تبدأ الدول التي تعتمد على الطاقة والمياه الإسرائيلية (وكذلك التكنولوجيا) في رؤية النضال الفلسطيني كمسألة أقل أهمّية مقارنة بالأمن المائي وكذلك الطاقة. وهكذا، يعزّز التطبيع البيئي دور الغسيل الأخضر الإسرائيلي كآلة لتحقيق الأرباح لصالح الشركات الإسرائيلية، بينما يقوّض انتقالاً عادلاً في قطاعي الزراعة والطاقة في فلسطين، وهو أمر مرتبط بشكل وثيق بالنضال الفلسطيني من أجل تقرير المصير.
تمكّنت شركة «Mekorot»، وهي لاعب رئيس في صناعة تحلية المياه الإسرائيلية، من وضع نفسها في موقع ريادي في مجال حلول تحلية المياه عالمياً، ويعود ذلك جزئياً إلى سرديّة الغسيل الأخضر الإسرائيلية. على سبيل المثال، تتولّى «Mekorot» مسؤولية إنتاج نحو 40% من مياه البحر المحلّاة في قبرص. وتولّد تكنولوجيتها و«خبرتها» ملايين الدولارات من الإيرادات من مشاريع حلول المياه التي طوّرتها في جميع أنحاء العالم، خصوصاً في الجنوب العالمي. وهذه الأموال هي التي تموّل ممارساتها، وكذلك ممارسات الحكومة الإسرائيلية، القائمة على الفصل العنصري في ما يتعلّق بالمياه ضدّ الشعب الفلسطيني. إلى جانب استحواذها على مياه نهر الأردن، تؤدّي «Mekorot» دوراً مهمّاً في تشييد بُنى الفصل العنصري المائية الإسرائيلية، إذ تسيطر على معظم مصادر المياه الإسرائيلية في الضفّة الغربية وتحوّلها إلى المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية.
تعمل البُنى التحتية للشركة من آبار وخطوط أنابيب التفافية على ضمان عدم وصول الفلسطينيين الذين يعيشون في المناطق المصنفة إسرائيلياً بالمناطق (ج) إلى المياه، وفي الوقت نفسه تسهّل عمل الجيش الإسرائيلي في مصادرة أنابيب المياه الفلسطينية ووسائل الوصول البديلة إلى المياه في المناطق نفسها. ومن خلال ممارسة نظام الفصل العنصري المائي، تخلق شركة «Mekorot» بيئة قهريّة تهدف إلى إجبار الفلسطينيين على ترك أراضيهم وتوسيع المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية.
ويتكرّر المشهد نفسه في قطاع غزة المحاصر، حيث عملت إسرائيل لعقود على تدمير قطاعه الزراعي. فمنذ العام 2007، قيّد الحصار المفروض على غزّة من وصل المزارعين الفلسطينيين إلى أراضيهم الزراعية، وزاد من تفاقم أزمة المياه الحادّة في القطاع. يظهر هذا التوسّع في استعمار الطاقة الإسرائيلي ونظام الفصل العنصري أيضاً في وظائف الغسيل الأخضر التجميلية لمشاريع ضخمة مثل «الازدهار الأخضر» و«ENLT-NewMed». إذ تُنكِر إسرائيل حقّ الفلسطينيين وأهالي الجولان في السيادة على مواردهم من الطاقة، وتكرّس تبعيّتهم لسوق الطاقة الإسرائيلي. ويمكن القول إن هذه السيطرة الإسرائيلية على موارد الطاقة في فلسطين والجولان هي أداة فعّالة من أدوات السلب والقمع الاستعماري الاستيطاني.
وفي الآن نفسه، يغرقُ قطاع غزّة، غير البعيد من حقلي «ليفياثان» و«تمار» للغاز الطبيعي، في الظلام لأعوام كثيرة بسبب حرمان إسرائيل أهالي غزة من الوصول الكامل إلى الكهرباء.
سوف يظل الأردن رهيناً لواردات الغاز الطبيعي من إسرائيل بينما يصدّر طاقته الخضراء من أجل الحصول على المياه المحلّاة من إسرائيل أيضاً
الكهرباء، والماء، والعنف، وعدد آخر لانهائي من الأدوات، كلّها تشكّل جزءاً من ديناميات عمل الاستعمار الاستيطاني التي تُوظّف لإدارة» الفلسطينيين والسيطرة عليهم في غيتوهات مصمّمة لهذا الغرض. تقدّم مشاريع الطاقة المرتبطة بالتطبيع البيئي والغسيل الأخضر الدعم المالي لسياسات عزل الملايين من الفلسطينيين في قطاع غزّة وغيره من المناطق الفلسطينية.
كذلك يقع سوق الطاقة الفلسطيني رهينة لإسرائيل. الفلسطينيون الذين يعيشون في المناطق (ج) في الضفّة الغربية المحتلّة يقعون تحت وطأة الاعتماد على إسرائيل، فهم غير قادرين على الوصول إلى شبكة الكهرباء المحيطة بهم، والتي طوّرتها إسرائيل أصلاً لتخدم المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية. كما تعمل إسرائيل على حرمان الفلسطينيين من منحهم رخصة تركيب الألواح الشمسية التي قد تشكّل مصدراً بديلاً للطاقة. وهذا ما يجبر الفلسطينيين على تركيب ألواح شمسية - غالباً بتمويل من منظّمات غير حكومية ومن الاتحاد الأوروبي - من دون رخصة إسرائيلية، الأمر الذي تستخدمه إسرائيل ذريعة لاحقة لمصادرة الألواح وتدميرها. بين عامي 2001 و2016، تسبّبت السياسات والممارسات الإسرائيلية في المناطق (ج) بخسارات اقتصادية تقدّر بنحو 65 مليون يورو - في سياق الدعم الأوروبي - بما في ذلك منشآت الطاقة الشمسية. وقد كان قطاع الطاقة الشمسية أُنشِئَ في المناطق (ج) من مؤسّسات المجتمع المدني الفلسطيني من أجل تعزيز صمود المجتمعات في هذه المنطقة، في حين تستخدم إسرائيل سياسات تنكيس التنمية كتكتيك لإجبار الفلسطينيين على الهجرة قسراً.
منعطف حاسم
ثمة ارتباط وثيق بين الغسيل الأخضر الذي يجري تعزيزه عبر التطبيع البيئي، وترسيخ نظام الفصل العنصري والاستعمار الاستيطاني في فلسطين والجولان. وكما هو ظاهر أعلاه، فإن التطبيع البيئي غير عادل اجتماعياً وبيئياً وغير مستدام، إذ يعيق ديمقراطية الطاقة والسيادة على الغذاء، كما يعيق أي محاولة لتحقيق انتقال عادل في قطاعات الطاقة والزراعة في فلسطين والجولان. ومع ازدياد العنف الإسرائيلي والتوسّع الاستيطاني في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، يقف النضال الفلسطيني ضدّ الاستعمار عند مفترق طرق حاسم. إذ يزداد النفق المظلم الذي يعيش فيه الفلسطينيون تحت وطأة القمع الإسرائيلي ظلمة، ومع ذلك، يظهر بريق ضوء يضيء الطريق الطويل للتحرّر الفلسطيني. وذلك الضوء هو تصاعد المقاومة لدى الشعب الفلسطيني الذي يرفض أن يُعزَل، وأن يُجرّد من إنسانيته وأن يُباد. إن النضال من أجل إسقاط النظام القمعي الإسرائيلي هو أيضاً جزء من النضال الأوسع من أجل تقرير المصير والتحرّر لشعوب أخرى حول العالم. والمحاولات الاستعمارية لعزل فلسطين عن المنطقة العربية والعالم عبر مشاريع التطبيع البيئي، يمكن إحباطها من خلال القوة الجماعية التي تمثّلها الشعوب العربية وشعوب أخرى.
وللوصول إلى هذه الغاية؛ يجب على الحركات الاجتماعية والجماعات البيئية والنقابات والاتحادات الطالبية ومنظّمات المجتمع المدني في المنطقة العربية وخارجها أن تكثّف من احتجاجاتها ضدّ حكوماتها حتى تنهي علاقاتها التطبيعية مع إسرائيل. يجب على منصّات الإعلام البديل تحدّي الإعلام السائد الذي يُهمّش فلسطين ويجعلها غير مرئية في نضال الشعوب العربية وغير العربية. ويجب أن يكون الأفراد والمؤسّسات، خصوصاً في المنطقة العربية، أكثر يقظة تجاه المشاريع والمبادرات الثقافية والأكاديمية والاجتماعية والبيئية، إذ يجب التحقّق من مصادر تمويلها والمشاركين فيها وأجندتها قبل المشاركة فيها. كما يمكن للحركات البيئية دعم النضال الفلسطيني من أجل تقرير المصير من خلال تبنّي «الصمود البيئي»، كمعرفة أصلانية يمكن أن تنطوي على حلول واستراتيجيات للتخفيف من حدّة أزمة المناخ. وأخيراً، يجب على الحركات الشعبية الدولية زيادة دعمها لحركات المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على إسرائيل.
نُشِر هذا المقال في Jacobin في 21 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وتُرجِم إلى العربية ونُشِر في موقع «صفر» بموافقة مسبقة من الجهة الناشرة.