معاينة Lebanon displacement

الدولة تستهتر بمن تبقى من النازحين

أكثر من 60 خرقاً إسرائيلياً لاتفاق وقف إطلاق النار مع المقاومة في لبنان، كانت أكثر من كافية أن تجعل أهل الجنوب والنبطية وبعلبك والهرمل والضاحية الجنوبية لبيروت في حيرة من أمرهم، هل أصبحوا في حكم العائدين إلى بيوتهم حقاً؟ أم أن معاناة النزوح مستمرّة للكثيرين منهم؟

إلا أن الخروقات الإسرائيلية ليست هي السبب الوحيد لهذه الحيرة، فالدولة اللبنانية لم تعلن أي سياسة محددة لها لإعادة النازحين وإعادة بناء مساكنهم، ولم تتخذ أي إجراءات لتسكين القلق الذي يعتري النازحين العائدين وغير العائدين، ولا سيما أولئك الذي خسروا منازلهم أو الذين ينتظرون الجلاء الإسرائيلي من قراهم. فالدولة لم تحدّد حتى الآن خطة صالحة لاستيعاب هؤلاء، بل يبدو أنها تنتظر أن يتولى حزب الله هذه المهمّة، وترمي على عاتقه مسؤولية إعادة الإعمار بعد الحرب، كما في العام 2006، من دون أي برنامج إنمائي وطني وعام.

الدولة تستهتر بمن تبقى من النازحين

كم عدد النازحين غير العائدين؟

عادت غالبية النازحين المقيمين في مراكز الإيواء إلى منازلهم وقراهم، بعد سريان وقف إطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ عند الرابعة فجراً من يوم الأربعاء 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2024. بحسب الأرقام الرسمية الصادرة عن لجنة الطوارئ الحكوميّة، تراجعت أعداد النازحين في مراكز الإيواء بنسبة 77% بين 27 و29 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، وبقي 33,758 نازحاً يقيمون في 713 مركزاً، فيما تمّ إقفال 296 مركزاً. لا تعطي هذه الأرقام صورة دقيقة عن إجمالي أعداد النازحين غير العائدين، فأغلب النازحين الداخليين لم يكونوا في مراكز الإيواء أساساً، وبحسب بيانات منظمة الهجرة الدولية، احتوت مراكز  الإيواء 21% من النازحين فقط، بينما استأجر أغلبهم منزلاً مؤقتاً أو مكثوا في بيت مضيف.

تشير بيانات منظمة الهجرة الدولية إلى أن 579 ألف نازح داخلي «بدأوا في العودة إلى أماكن سكنهم الاصلية» اعتباراً من 28 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، أي بعد مرور 24 ساعة على اتفاق وقف إطلاق النار، مع العلم أن آخر بيانات للمنظمة قبل الاتفاق (24 تشرين الثاني/نوفمبر) أشارت إلى وجود نحو 900 ألف نازح داخلي في لبنان، ما يعني أن نحو ثلث النازحين لم يعودوا حتى 28 تشرين الثاني/نوفمبر. هذه الأرقام أيضاً غير دقيقة كون كثير من النازحين يتريثون لأيام قبل اتخاذ قرار العودة.

يبدو أن أعداد النازحين غير العائدين ستبقى كبيرة. ما زالت القرى الحدودية الجنوبية خاضعة لسيطرة قوات الاحتلال الإسرائيلية، أهالي كفركلا وحولا والعديسة والكثير من القرى المحاذية للحدود مع فلسطين المحتلة ما زالوا يتحينون انسحاب قوات الاحتلال للوقوف عند منازلهم المتضررة أو المدمّرة وتفقد ممتلكاتهم والمباشرة بالبحث عن سبل لإعادة بناء حياتهم. كذلك، كثير من أهالي الضاحية الجنوبية لبيروت دمّرت بيوتهم. وبحسب مختبر المدن في الجامعة الأميركية في بيروت، شملت أوامر الإخلاء الإسرائيلي نحو 361 مبنى في شهرين في الضاحية، وفي كثير من الاحيان كان استهداف أحد هذه المباني يعني الضرر للمباني المحيطة به، هذا فضلاً عن الاستهدافات غير المعلنة مثل المبنى السكني الذي انمحى بالكامل عند اغتيال الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله، وكذلك عند اغتيال رئيس المجلس التنفيذي في الحزب هاشم صفي الدين. يخشى هؤلاء أن يتم حصرهم وحشرهم فوق بعضهم في مراكز إيواء مرتجلة وغير مجهّزة، في الوقت الذي يُنتظر أن تفتح المدارس الرسمية التي كانت معتمدة كمراكز إيواء للنازحين أبوابها للتعليم تدريجياً، ابتداء من الإثنين 9 كانون الأول/ديسمبر.

المشكلة الأكبر أنه قد يكون من غير المعروف على وجه اليقين عدد الأشخاص الذين أصبحوا بلا منزل، فحتى الآن لم نرى الجهات المتخصّصة تشرع في عزل المباني المتضررة للكشف عنها، هذا على الرغم من الكتاب الذي وجهته نقابة المهندسين إلى وزير الداخلية بطلب التعميم على المحافظات والبلديات بـ«ضرورة إجراء الكشف الفني الفوري اللازم على الأبنية المتضررة والأبنية المجاورة لها حفاظاً على أمن المواطنين وسلامتهم». علماً أنه بتواصلنا مع نقيب المهندسين تبيّن أن بعض البلديات طلبت التعاون مع النقابة للكشف عن الأضرار في المباني.

بيروت نموذجاً

التساهل الحكومي الفاقع في التعامل مع النازحين غير العائدين يتبدّى بشكل خاص في بيروت. بحسب الأرقام الرسمية، بقي 8000 آلاف نازح فقط في العاصمة اللبنانية بعد يومين من وقف إطلاق النار، وذلك على الرغم من عودة 85.5% من إجمالي النازحين في محافظة بيروت، وإغلاق 110 مركز إيواء. طبعاً الرقم الحقيقي قد يكون أضعاف الـ8000 المذكورة، فأكثر النازحين لم يكونوا في مراكز الإيواء أساساً التي ضمّت 39% فقط من النازحين ضمن محافظة بيروت. في الواقع، احتوت العاصمة اللبنانية على 15% من جميع النازحين الداخليين، وبلغ عددهم نحو 138 ألف شخصاً، قبل وقف إطلاق النار.

أعلنت غرفة إدارة الكوارث والأزمات في محافظة مدينة بيروت عن تخصيص مركزي إيواء هما: قرية بنين التي تم استحداثها في مدينة كميل شمعون الرياضية، وبيت الضيافة (فلورا) في منطقة الكرنتينا، لاستقبال الأشخاص الذين دمّرت في منازلهم إثر الحرب الإسرائيلية. في المجمل لا يمكن لهذين المركزين أن يستقبلا إلا أقلية فقط من النازحين ضمن بيروت.

تدير جمعية فرح العطاء بيت الضيافة (فلورا)، فهذا المركز كان يستضيف عند امتلائه نحو 700 شخص. ويقول أحد المسؤولين في مشروع قرية بنين، أن المشروع الذي تم بناؤه في 20 يوماً، يستطيع احتواء نحو 200 عائلة، وكانت الاولوية في البداية للنازحين الماكثين في حرش بيروت ومنطقة البيال والأشخاص الذين ينامون في السيارات والمتضررين من الغارات على بيروت كمنطقة النويري.

كانت قرية بنين موضوع سجال بين الجمعية التي تديرها وبلدية الغبيري، يتعلق بتجاوزات على صلاحيات البلدية التي تقع مدينة بيروت الرياضية في نطاقها. يُخشى أن يعود هذا السجال إلى الظهور ويتفاقم إلى الحد الذي قد يؤثر على النازحين. في الشهر الماضي، نشر رئيس بلدية الغبيري معن الخليل على موقع إكس أن «ما يجري ليس سوى تنفيذ مشروع غير مدروس يمس كرامة النازحين، ويفتقر إلى الحد الأدنى من المعايير الإنسانية والصحية»، وأن الجولة الميدانية - قبل انتهاء المشروع -  بيّنت أن هذه الغرف المظلمة، المتلاصقة، والمفتقدة للتهوية والمرافق الصحية المناسبة، أشبه بالمعتقلات منها بمراكز إيواء، مما يُعد انتهاكاً صارخاً لحقوق الإنسان والنازحين. من جهته، صرّح المدير التنفيذي لقرية بنين جاد بيضون أن رئيس الحكومة ومحافظ بيروت والجيش اللبناني والأمن العام وغيرها من الجهات الرسمية قد منحت الثقة للمشروع، واعتبر أن ادعاءات رئيس بلدية الغبيري عن عدم جاهزية المكان هي محض كذب وافتراء وتحداه أن يجد مركز إيواء يليق بالنازحين اكثر من قرية بنين.

حزب الله يتحرّك

وسط تساهل الجهات المختصة، يحاول من فقدوا منازلهم التواصل مع جهات حزبية لتوفير مكان للمكوث المؤقت في مراكز معينة، وقد ساعد حزب الله في هذا الأمر بحسب ما نقله بعض النازحين. فضلاً عن ذلك، ينتظر من خسروا منازلهم دعماً مادياً لاستئجار سكن خاص. في هذا الصدد، يقول عضو كتلة الوفاء للمقاومة النائب رائد برو إن حزب الله سيوفر بدل إيجار شهري لمن خسروا منازلهم، إلا أن الحزب ما زال في مرحلة التخطيط وجمع المعلومات، وسيتم الإعلان عن الآليات قريباً.

يبدو أن مؤسسات حزب الله قد باشرت بالفعل العمل على الآليات المنتظرة، فقد قامت جمعية جهاد البناء، وهي الجمعية التي أدارت عملية إعادة الإعمار بعد حرب تموز 2006، بنشر بيان متعلق بالإضرار الخفيفة (زجاج، شبابيك، تصليحات أبواب)، وابلغت الناس أن بإمكانهم البدء بتصليحها واستبدالها، شرط ان يتم إحضار فواتير الكلفة وتصوير الضرر، وهي الآلية التي استخدمت في العام 2006.

أما بالنسبة إلى الأبنية المهدمة والمتضررة فلها آلياتها الخاصة، وهي أيضاً الآلية نفسها المستخدة في العام 2006، إذ يتم توزيع تعميم على المعنيين في الحزب، وذلك وفقاً للطريقة العنقودية التي يتبعها الحزب في العادة، أي أن المناطق تستلم الملف ثم توزعه على القطاعات، والقطاعات توزعه على الروابط والبلدات. مبدئياً، نحو 80% من الروابط استلموا التعميم، وقد بدأوا العمل على الأرض. أما لماذا 80% من الروابط وليس 100%؟ إما لان القرية قريبة من الحدود اللبنانية الجنوبية ولا تزال قوات الاحتلال متواجدة فيها، أو لأن الرابط قد استشهد أو لعدم القدرة على الوصول إليه.