
كيف يمكن لنقابات العمال أن تتصدّى للإبادة الجماعية في فلسطين؟
إعلان اتحاد عمّال المرافئ في جنوى أنهم سيمنعون أي شحنات من مغادرة الموانئ الأوروبية، إذا اعترضت إسرائيل أسطول "صمود" المتوجّه لكسر الحصار على غزّة، تجاوز وقعه حدود إيطاليا، وأعاد تسليط الضوء على أن قدرة العمّال المتمركزين عند بوابات التجارة العالمية على زعزعة نظام يقوم على التدفق المستمر لرأس المال. أظهر أيضاً أن التضامن مع الفلسطينيين يمكن أن يتحول من تحرّكات رمزيّة إلى تعطيل مادي، وأن مثل هذه الخطوة قادرة على فرض ضغط حقيقي ليس على إسرائيل وحدها، بل على الدول الأوروبية التي تواصل تمكينها من ارتكاب الإبادة بحق الفلسطينيين.
كيف يمكن للعمّال زعزعة الرأسمالية؟
الرأسمالية ليست تراكماً ثابتاً للثروة، بل حركة مستمرة للقيمة. فلا بد للسلع ورأس المال أن يتنقلا عبر دائرة الإنتاج والتوزيع والتبادل، كي يُعاد إنتاج رأس المال وتوليد الربح. وحين تُعطَّل هذه الحركة، يبدأ النظام كله بالتداعي.
تشكل الموانئ والمطارات نقاطاً خانقة لهذا التدفق. ففيها تتركز حركة ضخمة من البضائع والطاقة والمواد الخام واليد العاملة، تمر عبر ممرات ضيقة تعتمد على عمل عدد قليل من العمّال. لذلك، أي إضراب أو توقف في هذه العقد المرورية يُطلق موجات صدمة عبر سلاسل الإمداد: يرفع التكاليف، يخلق نقصاً، ويزعزع الأسواق بما يتجاوز مكان المرفأ.
ويقدّم التاريخ شواهد على هذه القوة الاستراتيجية. ففي عام 1981، حين أضرب مراقبو الحركة الجوية في الولايات المتحدة، هددوا بشلّ الطيران الوطني والدولي. وردّ الرئيس رونالد ريغان بفصل أكثر من 11,000 مراقب دفعة واحدة، في خطوة قمعية كشفت في الوقت نفسه عمق نفوذ هؤلاء العمّال، والمدى الذي قد تذهب إليه الدولة لكسرهم.
لقد برهنت تلك الحادثة على أن العمّال، حين يمسكون بشرايين الرأسمالية، يستطيعون تعطيل التدفق السلس الذي يقوم عليه النظام بأسره. وهذا ما تؤكّده عمليات حركة أنصار الله اليمنية في البحر الاحمر، فعلى الرغم من ان هذه العمليات ليست نشاطا عمّاليا بل عسكريا، الا انها عطّلت حركة عبور السفن الى مرفأ إيلات ودفعته الى أُعلان إفلاسه.
كيف يتحوّل التضامن إلى فعل؟
عمّت شوارع أوروبا حركات احتجاجية على إبادة إسرائيل الشعب الفلسطيني، لكن الحكومات اكتفت بإصدار بيانات فارغة بلا خطوات ملموسة. لم تُفرض عقوبات ذات وقع فعليّ، بينما بدت إجراءات مثل حظر كولومبيا للفحم أو قيود تركيا على التجارة مليئة بالثغرات التي سمحت باستمرار التدفقات عبر الاستثناءات وإعادة توجيه الشحنات. وهكذا، انتقل عبء الفعل إلى الأفراد والمجتمع المدني.
نجحت حملات المقاطعة وسحب الاستثمارات التي قادها الطلاب والجمعيّات في فضح التواطؤ، وكشفت رفضاً واسعاً لتطبيع التعامل مع دولة تمارس الإبادة. لكنها أبرزت أيضاً حدود العمل على المستويين الاستهلاكي والاستثماري، إذ تستطيع الشركات غالباً امتصاص كلفة الضرر المعنوي ما دامت الأرباح مستمرة.
هنا تبرز دور العمّال النوعي عند النقاط الخانقة. فبرفضهم تحميل أو تفريغ السفن والطائرات، يستطيع عمال المرافئ فرض العقوبات بأنفسهم، عبر تعطيل التجارة التي تتردّد الحكومات في المساس بها. تترجم أفعالهم التلميحات الرسمية إلى واقع، وتفرض تكاليف اقتصادية مباشرة تُضاعف الضغط السياسي لجرّ الدول نحو إصدار عقوبات رسمية.
هكذا يترجم التضامن إلى قوة ذات تأثير مادي. فعندما يتحرك العمّال، يتحوّل الغضب إلى تعطيل، والمطلب الأخلاقي بالعدالة إلى عائق عملي أمام الحكومات والشركات التي تواصل تسليح إسرائيل ودعم حربها.
كيف يتصاعد الضغط على إسرائيل وأوروبا؟
الاتحاد الأوروبي هو أكبر شريك تجاري لإسرائيل، إذ يشكّل نحو ثلث تجارتها الخارجية. ففي عام 2024، بلغ حجم التبادل السلعي بين الطرفين 42.6 مليار يورو. تكشف هذه الأرقام اعتماد إسرائيل البنيوي على أوروبا، كما تكشف في المقابل قدرة الاتحاد الأوروبي على ممارسة ضغط حاسم لو أراد ذلك.
والأسس القانونية موجودة أصلاً. فاتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل تنص في مادتها الثانية على أن احترام حقوق الإنسان يشكّل «عنصراً جوهرياً» من الاتفاق. وكان ينبغي أن يؤدي الأمر التمهيدي الصادر عن محكمة العدل الدولية في كانون الثاني/يناير 2024، الذي أقرّ بوجود خطر معقول بوقوع إبادة في غزة، إلى تفعيل هذه المادة. لكن أوروبا، باستمرارها في العمل كالمعتاد، تقف في تناقض صارخ مع التزاماتها ومعاييرها المعلنة.
هنا يتقدّم العمّال ليملأوا الفراغ. فعبر إغلاق المرافئ، يطبّقون عملياً تعليق العلاقات التجارية التفضيلية التي ترفض الحكومات الاعتراف بها. كما يكشفون دور أوروبا، ليس فقط كشريك اقتصادي لإسرائيل، بل أيضاً كشريكاً في الإبادة عبر التسليح: تحتل ألمانيا المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة في تزويد إسرائيل بالأسلحة، وتليها إيطاليا مباشرة. تمر هذه الشحنات عبر سفن وطائرات ومستودعات لا تتحرك من دون اليد العاملة.
ويُظهر تعهّد عمّال مرفأ جنوى هذه التبعية بوضوح. فبتهديدهم بتوسيع الحصار ليشمل جميع الموانئ الأوروبية، يرفعون كلفة الاستمرار في دعم إسرائيل ليس على الأخيرة فحسب، بل أيضاً على الاقتصادات الأوروبية. وفي الوقت نفسه، يضعون سابقة للنقابات في أماكن أخرى، خصوصاً في الولايات المتحدة، لاستخدام قوة العمّال في النقاط الخانقة لوقف تدفق الأسلحة والبضائع التي تغذي آلة الموت الإسرائيلية.
بهذا المعنى، فإن التضامن العمالي في المرافئ يتجاوز تعطيل التجارة؛ إنه يفرض على الدول أن تختار بين تواطؤها ومصالحها الاقتصادية، ويجبرها على مواجهة التزاماتها القانونية والمطلب الأخلاقي المتصاعد بإنهاء الإبادة. والأهم، أنه يعيد العمّال إلى وسط الساحة السياسيّة كشركاء فاعلين ومؤثرين في بلورة السياسات بعد نصف قرن من التهميش الممنهج.