تاريخ عيد العمَّال
في العام 1990، علَّق مايكل إغناتيف، في مقالة عن «عيد الفصح» في «الأوبزرفر» (Observer)، قائلاً إن «المجتمعات العلمانية لم تنجح قط في توفير بدائل للطقوس الدينية». وأشار إلى أن الثورة الفرنسية «ربّما حوّلت الرعايا إلى مواطنين، وربّما وضعت كلمات الحرِّية والمساواة والأخوة على العتبة العليا لكل باب مدرسة ودمّرت الأديرة، ولكن باستثناء الرابع عشر من تموز/يوليو، لم تُحدِث أي تأثير، ولو كان ضئيلاً، على التقويم المسيحي القديم».
ربّما يكون موضوعي الحالي هو التأثير الوحيد الذي لا جدال فيه الذي أحدثته حركةٌ علمانيةٌ على التقويم المسيحي أو أي تقويم رسمي آخر، وهو يوم عطلة لم يُرسَّخ في دولة واحدة أو دولتين، ولكن، بحلول العام 1990، في 107 دول بشكل رسمي. علاوة على ذلك، يمثِّل هذا اليوم مناسبة لم تحدِّدها سلطة الحكومات أو الغزاة، ولكن حدّدتها حركة غير رسمية تماماً من الرجال والنساء الفقراء. إنّني أتحدّث عن «عيد العمَّال»، أو بشكل أكثر دقّة عن «الأوّل من أيار/مايو»، الاحتفال العالمي لحركة الطبقة العاملة، الذي كان ينبغي الاحتفال بذكراه المئوية في العام 1990، لأنه دُشِّن في العام 1890.
«كان ينبغي» هي العبارة الصحيحة، لأنه، باستثناء المؤرِّخين، قليلون أبدوا اهتماماً كبيراً بهذه المناسبة، حتى الأحزاب الاشتراكية التي تنحدر مباشرة من تلك الأحزاب التي - في المؤتمرات التدشينة لما أصبح «الأممية الثانية»، في العام 1889 - دعت إلى تنظيم مظاهرات عمّالية أممية مُتزامنة تأييداً لقانون يحدُّ يوم العمل بثماني ساعات، وذلك في الأوّل من أيار/مايو من العام 1890. وينطبق هذا حتى على تلك الأحزاب الممثّلة فعلياً في مؤتمرات العام 1889، والتي لا تزال موجودة. تمثِّل أحزاب «الأممية الثانية» هذه، أو نسلها اليوم، الحكومات أو المعارضة الرئيسة في كل مكان تقريباً في أوروبا، في غرب ما كان يُسمّى منطقة «الاشتراكية الموجودة بالفعل». ربّما كان المرء يتوقّع منهم أن يُظهِروا قدراً أكبر من الفخر، أو حتى مجرّد اهتمام أكبر بماضيهم.
أقوى رد فعل سياسي في بريطانيا على الذكرى المئوية لـ«عيد العمَّال» جاء من السير جون هاكيت، وهو جنرال سابق ويؤسفني أن أقول الرئيس السابق لإحدى كلِّيات جامعة لندن، وقد دعا إلى إلغاء «عيد العمَّال»، الذي بدا أنه يعتبره اختراعاً سوفييتياً بشكل ما. شعر هاكيت أنه ما كان ينبغي لهذا اليوم أن ينجو من سقوط الشيوعية الأممية. ومع ذلك، فإن أصل عطلة «عيد العمَّال» الربيعية في زمن «المجتمع الأوروبي» نقيضٌ لأي شيء بلشفي أو حتى ديمقراطي اجتماعي. يعود الأمر إلى السياسيين المناهضين للاشتراكية، الذين أدركوا مدى عمق وصول جذور «عيد العمَّال» إلى تربة الطبقات العاملة الغربية، وأرادوا مواجهة جاذبية الحركات العمّالية والاشتراكية من خلال الاستيلاء على احتفالاتهم وتحويلها إلى شيء آخر. لنستشهد باقتراح برلماني فرنسي قُدِّم في نيسان/أبريل 1920، بدعم من واحد وأربعين نائباً لا يجمعهم شيء سوى أنهم ليسوا اشتراكيين: «يجب ألا يحتوي هذا العيد على أي عنصر من عناصر الغيرة والكراهية (الكلمة المشفَّرة للصراع الطبقي). إن كل الطبقات، إذا كان لا يزال من الممكن القول بأن الطبقات موجودة، وكل طاقات الأمّة المنتِجة يجب أن تتآخى، بوحي من الفكرة نفسها والمثل الأعلى نفسه».
أولئك الذين ذهبوا إلى أبعد من ذلك في الاستيلاء على «عيد العمَّال»، أمام «المجتمع الأوروبي»، كانوا ينتمون إلى أقصى اليمين، وليس اليسار. كانت حكومة هتلر أول حكومة بعد الاتحاد السوفييتي تجعل «الأوّل من أيار/مايو» بشكل رسمي «يوماً وطنياً للعمَّال»
أولئك الذين ذهبوا إلى أبعد من ذلك في الاستيلاء على «عيد العمَّال»، أمام «المجتمع الأوروبي»، كانوا ينتمون إلى أقصى اليمين، وليس اليسار. كانت حكومة هتلر أول حكومة بعد الاتحاد السوفييتي تجعل «الأوّل من أيار/مايو» بشكل رسمي «يوماً وطنياً للعمَّال». وأعلنت حكومة المارشال بيتان، حكومة فيشي، «الأوّل من أيار/مايو» «مهرجاناً للعمل والوفاق»، ويقال إنها استلهمت فكرة القيام بذلك من «عيد العمَّال الكتائبي» في إسبانيا، حيث خدم المارشال بيتان سفيراً وكان مُعجباً بفرانكو.
والواقع أن «المجموعة الاقتصادية الأوروبية» التي جعلت يوم «عيد العمَّال» عطلة عامّة لم تكن هيئة مكوّنة - على الرغم من آراء السيِّدة تاتشر في هذا الموضوع - من حكومات اشتراكية بل من حكومات مناهضة للاشتراكية في الغالب. كانت أعياد العمَّال الرسمية الغربية بمثابة اعتراف بالحاجة إلى التصالح مع تقاليد أعياد العمَّال غير الرسمية وفصلها عن الحركات العمَّالية والوعي الطبقي والنضال الطبقي. لكن كيف أصبح هذا التقليد قوِّياً إلى الحدّ الذي جعل حتى الأعداء يعتقدون أن عليهم الاستيلاء عليه، حتى عندما دَمَّروا الحركة العمالية الاشتراكية، كما فعل هتلر وفرانكو وبيتان؟
الصعود السريع
الأمر الاستثنائي في تطوّر هذه المؤسّسة هو أنها كانت غير مقصودة وغير مُخطّط لها. إلى هذا الحدّ، لم يكن الأمر «تقليداً مُخترَعاً» بقدر ما كان تقليداً تَفجَّر فجأة. إن الأصل المباشر لـ«عيد العمَّال» ليس محل نزاع. لقد كان قراراً اتخذه أحد المؤتمرين التأسيسيين المتنافسين «للأممية» - المؤتمر الماركسي - في باريس في تموز/يوليو 1889، السنة المئوية للثورة الفرنسية. دعا المؤتمر إلى مظاهرة أممية للعمَّال في اليوم نفسه، حيث طرحوا مطلبهم القانوني بحدِّ يوم العمل بثماني ساعات أمام السلطات العامة والسلطات الأخرى. وبما أن «اتحاد العمَّال الأميركي» كان قد قرّر بالفعل تنظيم مثل هذه المظاهرة في الأوّل من أيار/مايو من العام 1890، اُختير هذا اليوم للمظاهرة الأممية. ومن عجيب المفارقات أن «عيد العمَّال» في الولايات المتّحدة نفسها لم يثبت وجوده قط كما حدث في أماكن أخرى، وذلك بسبب وجود عطلة فعلية رسمية للعمَّال، «عيد العمَّال»، في أول يوم اثنين من شهر أيلول/سبتمبر.
من الطبيعي أن يُفتِّش الباحثون في أصول هذا القرار، ومدى ارتباطه بالتاريخ السابق للنضال من أجل تحديد يوم العمل القانوني بثماني ساعات في الولايات المتّحدة وأماكن أخرى، لكن هذه الأمور لا تعنينا هنا. الأمر ذو الصلة بالحجة الحالية هو كيف اختلف ما تصوَّره القرار عمَّا حدث بالفعل. وهنا، دعونا نلاحظ ثلاث حقائق عن الاقتراح الأصلي. أولاً، كانت الدعوة ببساطة إلى مظاهرة أممية لمرّة واحدة. وليس هناك ما يشير إلى ضرورة تكرار هذا الحدث، ناهيك عن أن يصبح حدثاً سنوياً منتظماً. ثانياً، لم يكن هناك أي اقتراح بضرورة أن تكون هذه المناسبة احتفالية أو طقسية بشكل خاص، على الرغم من أن الحركات العمّالية في جميع البلدان كانت مفوَّضة «لتحقيق هذه المظاهرة بالطرق التي يقتضيها الوضع في بلادهم». كان هذا، بطبيعة الحال، بمثابة مخرج طوارئ من أجل «الحزب الديمقراطي الاشتراكي» الألماني، الذي كان لا يزال في ذلك الوقت غير قانوني بموجب قوانين بسمارك المناهضة للاشتراكية. وأخيراً، ليس هناك ما يشير إلى أن هذا القرار كان يعتبر ذا أهمية خاصّة في ذلك الوقت. بل على العكس من ذلك، فإن التقارير الصحافية المعاصرة بالكاد تذكر الأمر، هذا إن ذكرته على الإطلاق، وعندما تفعل ذلك - باستثناء واحد (على نحو غريب كفاية، صحيفة برجوازية) - لا تدوِّن التاريخ المقترح. وحتى «تقرير المؤتمر» الرسمي، الذي نشره «الحزب الاشتراكي الديمقراطي» الألماني، يكتفي بذكر مقدِّمي القرار ويطبع نصّه من دون أي تعليق أو إحساس واضح بأن هذا أمر ذو أهمِّية. باختصار، كما ذكر إدوارد فايلان، أحد المندوبين البارزين والأكثر حساسية على المستوى السياسي في المؤتمر، بعد بضع سنوات: «من كان يستطيع أن يتوقَّع... الصعود السريع لـ«عيد العمَّال»؟».
من المؤكّد أن صعوده السريع ومأسسته كانا راجعين إلى النجاح الاستثنائي الذي حقّقته مظاهرات «الأوّل من أيار/مايو» الأولى في العام 1890، على الأقل في البلدان الأوروبية الواقعة غرب الإمبراطورية الروسية ومنطقة البلقان. اختار الاشتراكيون اللحظة المناسبة لتأسيس أو، إذا فضّلنا القول، إعادة تشكيل «الأممية». تزامن «الأوّل من أيار/مايو» مع تقدّم مُظفَّر في القوة والثقة العمّالية في العديد من البلدان. ولنذكر مجرّد مثالين مألوفين: فورة «الحركة النقابية الجديدة» في بريطانيا التي أعقبت «إضراب المرسى» في العام 1889، وانتصار الاشتراكيين في ألمانيا، حيث رفض «الرايخستاغ» مواصلة قوانين بسمارك المناهضة للاشتراكية في كانون الثاني/يناير 1890، وكانت النتيجة أنه، وبعد شهر، ضاعف «الحزب الديمقراطي الاشتراكي» أصواته في الانتخابات العامة وخرج بما يقل قليلاً عن 20% من إجمالي الأصوات. لم يكن القيام بمظاهرات حاشدة ناجحة في مثل هذه اللحظة بالأمر الصعب، لأن النشطاء والمناضلين وضعوا قلوبهم فيها، في حين انضمّت إليهم جماهير العمَّال العاديين للاحتفال بإحساس بالنصر، والسلطة، والاعتراف، والأمل.
ما خلق «عيد العمَّال»، في الواقع، على وجه التحديد، هو اختيار الرمز على السبب العملي. كان إيقاف العمل بشكل رمزي هو الذي حوَّل «عيد العمَّال» إلى أكثر من مجرّد مظاهرة أخرى، أو حتى مناسبة تذكارية أخرى
ومع ذلك، فإن حجم مشاركة العمَّال في هذه الاجتماعات أذهل أولئك الذين دعوهم إليها، ولا سيما الـ 300 ألف الذين ملأوا «هايد بارك» في لندن. وكانت هذه، للمرّة الأولى والأخيرة، أكبر مظاهرة للعمَّال في يومهم. ففي حين نظّمت كل الأحزاب والمنظّمات الاشتراكية اجتماعاتها بشكل طبيعي، فإن بعضها فقط أدرك الإمكانات الكاملة لهذه المناسبة وبذل قصارى جهده فيها منذ البداية. كان «الحزب الاشتراكي الديمقراطي النمساوي» استثنائياً في إحساسه الفوري بالمزاج الجماهيري، وكانت النتيجة، كما لاحظ فريدريك إنغلز بعد بضعة أسابيع، «في القارة كانت النمسا، وفي النمسا كانت فيينا هي التي احتفلت بهذا المهرجان بالطريقة الأكثر روعة وملائمة».
في الواقع، في العديد من البلدان، بعيداً من الاندفاع بإخلاص في التحضير لـ«عيد العمَّال»، كانت الأحزاب والحركات المحلّية، كالمعتاد في سياسة اليسار، مُعاقة بالجدالات والانقسامات الأيديولوجية بشأن الشكل أو الأشكال المشروعة لمثل هذه المظاهرات - وسنعود إلى هذا الأمر أدناه - أو مُلجَّمة بالحَذَر الشديد. وفي مواجهة ردود فعل شديدة التوتر، وحتى هستيرية في بعض الأحيان، تجاه توقّعات اليوم من جانب الحكومات والطبقة المتوسِّطة وأصحاب العمل الذين هدَّدوا بالقمع البوليسي واستهداف العمَّال، فضّل القادة الاشتراكيون المسؤولون في كثير من الأحيان تجنُّب أشكال المواجهة الاستفزازية بشكل مُفرط. وكان هذا هو الحال بشكل خاص في ألمانيا، حيث أُلغي الحظر المفروض على الحزب للتو بعد أحد عشر عاماً من عدم شرعيِّته. وكتب زعيم «الحزب الديمقراطي الاشتراكي» الألماني أوغست بيبل إلى إنغلز: «لدينا كل الأسباب لإبقاء الجماهير تحت السيطرة في مظاهرة الأوّل من أيار/مايو. يجب علينا تجنّب الصراعات». ووافق إنغلز على ذلك.
كانت المسألة الحاسمة المطروحة هي ما إذا كان ينبغي أن يُطلَب من العمَّال التظاهر في خلال وقت العمل، أي الإضراب، لأنه في العام 1890، صادف «الأوّل من أيار/مايو» يوم الخميس. في الأساس، الأحزاب والنقابات العمّالية القوية الراسخة الحَذِرة - ما لم تكن راغبة عمداً في الانخراط في احتجاج صناعي أو وجدت نفسها مُنخرطة فيه، كما كانت خطّة «اتحاد العمَّال الأميركي» - لم تفهم السبب الذي قد يدفعها إلى المخاطرة من أجل لفتة رمزية. ولذلك كانوا يميلون إلى اختيار التظاهر في أول يوم أحد من شهر أيار/مايو، وليس في اليوم الأوّل من الشهر. وكان هذا هو الخيار البريطاني، وسيظل كذلك، ولهذا السبب وقع أول «عيد عمَّال» عظيم في 4 أيار/مايو.
ومع ذلك، كان هذا هو ما فضَّله الجانب الألماني أيضاً، على الرغم من أن «الأوّل من أيار/مايو»، على عكس بريطانيا، هو الذي ساد عملياً هناك. في الواقع، كان من المقرر مناقشة هذه المسألة رسمياً في «المؤتمر الاشتراكي الأممي» في بروكسل في العام 1891، حيث عارض البريطانيون والألمان الفرنسيين والنمساويين بشأن هذه النقطة، وتمّ التغلُّب عليهم في التصويت. مرّة أخرى، كانت هذه القضية، مثل العديد من الجوانب الأخرى لـ«عيد العمَّال»، نتيجة ثانوية عَرَضية للاختيار الأممي لهذا التاريخ. ولم يشر القرار الأصلي على الإطلاق إلى وقف العمل. نشأت المشكلة ببساطة لأن «الأوّل من أيار/مايو» وقع في أحد أيام الأسبوع، وهو ما اكتشفه كلّ من خطّط للمظاهرة على الفور وبالضرورة.
اقتضى الحَذَر غير ذلك. لكن ما خلق «عيد العمَّال»، في الواقع، على وجه التحديد، هو اختيار الرمز على السبب العملي. كان إيقاف العمل بشكل رمزي هو الذي حوَّل «عيد العمَّال» إلى أكثر من مجرّد مظاهرة أخرى، أو حتى مناسبة تذكارية أخرى. وفي البلدان أو المدن التي أصرَّت فيها الأحزاب، حتى ضد النقابات المتردِّدة، على الإضراب الرمزي، أصبح «عيد العمَّال» جزءاً أساسياً من حياة الطبقة العاملة وهوية العمَّال، وهو ما لم يحدث قط في بريطانيا، على الرغم من بدايته الرائعة. لأن الامتناع عن العمل في يوم عمل كان تأكيداً لسلطة الطبقة العاملة - في الواقع، التأكيد الجوهري لهذه السلطة - وجوهر الحرِّية، أي عدم إجبار المرء على العمل بعرق جبينه، بل اختيار ما يريد القيام به بصحبة العائلة والأصدقاء. ومن ثمّ فقد كانت بادرة تأكيد طبقي ونضال طبقي وعطلة: شيء أشبه بمقدِّمة للحياة الجيدة التي ستأتي بعد تحرير العمل. وبطبيعة الحال، في ظروف العام 1890، كان ذلك أيضاً احتفالاً بالنصر، وركضة مُنتَصِر حول الملعب. في هذا الضوء، كان «عيد العمَّال» يحمل في طياته شحنة غنية من المشاعر والأمل.
إضفاء الطابع الرسمي على «عيد العمَّال»
هذا ما أدركه فيكتور أدلر عندما أصرَّ، خلافاً لنصيحة «الحزب الاشتراكي الديمقراطي» الألماني، على أن الحزب النمساوي يجب أن يثير على وجه التحديد المواجهة التي أراد بيبل تجنُّبها. التقط، مثل بيبل، الحالة المزاجية التي اتَّسمت بالنشوة، والتحوّل الجماعي، والترقُّب الذي كاد يكون مسيحانياً والذي اجتاح العديد من الطبقات العاملة في ذلك الوقت. كما قال بيبل: «قلبت الانتخابات رؤوس الجماهير الأقل تعليماً من الناحية السياسية. إنهم يعتقدون أن عليهم فقط أن يريدوا شيئاً ما، وحينها كل شيء يمكن تحقيقه».
على الرغم من كل التوقّعات التي لا حدود لها في تلك اللحظة، كان العمَّال المنظَّمون يدركون في الواقع نقاط قوّتهم وضعفهم. وما إذا كان ينبغي على الناس الإضراب في «عيد العمَّال» أو التنازل كما هو متوقَّع عن أجر يوم واحد للتظاهُر
على عكس بيبل، كان أدلر لا يزال بحاجة إلى تعبئة هذه المشاعر لبناء حزب جماهيري من مزيج من النشطاء والتعاطف الجماهيري المتزايد. علاوة على ذلك، وعلى النقيض من الألمان، لم يكن للعمَّال النمساويين حق التصويت بعد. ولذلك لم يكن من الممكن إظهار قوة الحركة انتخابياً حتى الآن. ومرّة أخرى، أدرك الاسكندنافيون القدرة التعبوية التي ينطوي عليها العمل المباشر عندما صوَّتوا، بعد «عيد العمَّال» الأول، لصالح تكرار مظاهرة العام 1891، «خصوصاً إذا اقترنت بوقف العمل، وليس مجرّد التعبير البسيط عن الرأي». اتخذت «الأممية» وجهة النظر نفسها عندما صوَّتت في العام 1891 (ضدّ المندوبين البريطانيين والألمان، كما رأينا) لصالح تنظيم المظاهرة في «الأوّل من أيار/مايو» و«وقف العمل حيثما لا يكون ذلك مستحيلاً».
هذا لا يعني أن الحركة الأممية دعت إلى إضراب عام بالتحديد، لأنه، على الرغم من كل التوقّعات التي لا حدود لها في تلك اللحظة، كان العمَّال المنظَّمون يدركون في الواقع نقاط قوّتهم وضعفهم. وما إذا كان ينبغي على الناس الإضراب في «عيد العمَّال» أو التنازل كما هو متوقَّع عن أجر يوم واحد للتظاهُر، فقد كانت هذه أسئلة نوقشت على نطاق واسع في حانات وخمَّارات هامبورغ البروليتارية، وفقاً لرجال الشرطة الذين ارتدوا ملابس مدنية وأرسلهم مجلس الشيوخ للتنصُّت على محادثات العمَّال في تلك المدينة «الحمراء» على نطاق واسع. وكان من المفهوم أن العديد من العمَّال لن يتمكّنوا من الخروج، حتى لو أرادوا ذلك. وهكذا أرسل عمَّال السكك الحديدية برقية إلى «عيد العمَّال» الأول في كوبنهاغن تمّت قراءتها ووُجِهَت لها التّحايا: «بما أننا لا نستطيع حضور الاجتماع بسبب الضغوط التي يمارسها من هم في السلطة، فإننا لن نُغفِل الدعم الكامل لمطلب حدّ ساعات العمل اليومي بثماني ساعات».
ومع ذلك، في الأماكن التي علم فيها أصحاب العمل أن العمَّال أقوياء وملتزمون بقوة، فإنهم غالباً ما قبلوا ضمنياً إمكانية جعل اليوم يوم عطلة. وكان هذا هو الحال في كثير من الأحيان في النمسا. وهكذا، وعلى الرغم من التعليمات الواضحة من وزارة الداخلية بمنع المواكب وعدم السماح بأخذ إجازة، وعلى الرغم من القرار الرسمي الذي اتخذه أصحاب العمل بعدم اعتبار «الأوّل من أيار/مايو» يوم عطلة - بل وفي بعض الأحيان استبدال اليوم السابق «للأوّل من أيار/مايو» كعطلة عمل - فقد أغلق «مصنع الأسلحة التابع للدولة» بشتاير في النمسا العليا أبوابه يوم «الأوّل من أيار/مايو» 1890، وكلّ عام في اليوم نفسه بعد ذلك. على أية حال، خرج عدد كافٍ من العمَّال في عدد كافٍ من البلدان لجعل حركة التوقّف عن العمل مقبولة. ففي كوبنهاغن كان نحو 40% من عمَّال المدينة حاضرين فعلياً في مظاهرة العام 1890.
وبالنظر إلى هذا النجاح الملحوظ وغير المتوقّع غالباً «للأول من أيار/مايو»، كان من الطبيعي أن تتم المطالبة بتكرار الأداء. وكما رأينا، فإن الحركات الإسكندنافية الموحَّدة طلبت ذلك في صيف العام 1890، وكذلك فعل الإسبان. وبحلول نهاية العام، كانت غالبية الأحزاب الأوروبية قد مشت على الخُطى نفسها. إن فكرة أن تصبح المناسبة حدثاً سنوياً منتظماً ربّما تكون أو لا تكون قد اقتُرِحَت أولاً من مناضلي مدينة تولوز الفرنسية الذين أصدروا قراراً بهذا المعنى في العام 1890، ولكن لم يكن مفاجئاً أن مؤتمر بروكسل «للأممية» في العام 1891 ألزم الحركة بـ«عيد العمَّال» بشكل سنوي مُنتَظِم.
لكن المؤتمر فعل أيضاً شيئين آخرين، مع إصراره، كما رأينا، على وجوب الاحتفال بـ«عيد العمَّال» بمظاهرة واحدة في اليوم الأول من شهر أيار/مايو، أياً كان ذلك اليوم، وذلك من أجل التأكيد على «طابعه الحقيقي الداعم للمطلب الاقتصادي المتمثّل بحّد ساعات العمل اليومية بثماني ساعات وتأكيد الصراع الطبقي».
وأضاف المؤتمر مطلبين آخرين على الأقل إلى مسألة يوم العمل المكوّن من ثماني ساعات: تشريعات العمل ومكافحة الحرب. على الرغم من أن شعار السلام أصبح من الآن فصاعداً جزءاً رسمياً من «عيد العمَّال»، فإنه، في حدّ ذاته، لم يكن مدمجاً حقّاً في التقليد الشعبي لـ«عيد العمَّال»، إلا كشيء يُعزِّز الطابع الأممي لهذه المناسبة. ومع ذلك، بالإضافة إلى توسيع المحتوى البرنامجي للمظاهرة، تضمَّن القرار ابتكاراً آخر. تحدث عن «الاحتفال» بـ«عيد العمَّال». أصبحت الحركة تعترف به رسمياً ليس فقط كنشاط سياسي، بل كمهرجان.
فضّل الفوضويون رؤية «عيد العمَّال» باعتباره إيحاءً لذكرى الشهداء - شهداء شيكاغو في العام 1886، «يوم حسرة وليس يوم احتفال»، وحيثما كان لهم تأثير، كما هو الحال في إسبانيا وأميركا الجنوبية وإيطاليا، أصبح الجانب الاستشهادي من «عيد العمَّال» في الواقع جزءاً من المناسبة
ومرّة أخرى، لم يكن هذا جزءاً من الخطّة الأصلية. على العكس من ذلك، فإن الجناح المتشدِّد للحركة، والفوضويين، كما هو معروف، عارضوا بشدّة فكرة الاحتفالات على أسس أيديولوجية. كان «عيد العمَّال» يوماً للنضال. وفضّل الفوضويون أن يمتد الأمر من يوم عُطلة يُنتَزَع من الرأسماليين إلى إضراب عام كبير من شأنه أن يطيح بالنظام بأكمله. كما هو الحال في كثير من الأحيان، تبنَّى الثوريون الأكثر تشدداً وجهة نظر مُكفهِرة للصراع الطبقي، كما تؤكّد الأيقونات التي تُصوِّر الجماهير باللونين الأسود والرمادي وفي الخلفية علم أحمر عَرَضي.
فضّل الفوضويون رؤية «عيد العمَّال» باعتباره إيحاءً لذكرى الشهداء - شهداء شيكاغو في العام 1886، «يوم حسرة وليس يوم احتفال»، وحيثما كان لهم تأثير، كما هو الحال في إسبانيا وأميركا الجنوبية وإيطاليا، أصبح الجانب الاستشهادي من «عيد العمَّال» في الواقع جزءاً من المناسبة. الكعك والبيرة لم يكونا جزءاً من خطة اللعبة الثورية. في الواقع، كما أظهرت دراسة حديثة عن «عيد العمَّال» الفوضوي في برشلونة، فإن رفض التعامل معه أو حتى تسميته «مهرجان العمَّال»، كان أحد سماته الرئيسة قبل الجمهورية. فلتذهب الأفعال الرمزية إلى الجحيم: إمّا ثورة عالمية أو لا شيء. حتى إن بعض الفوضويين رفضوا تشجيع إضراب «عيد العمَّال»، على أساس أن أي شيء لم يشعل الثورة فعلياً لا يمكن أن يكون أكثر من مجرّد انحراف إصلاحي آخر. ولم يستسلم «الاتحاد العام للشغل» الثوري الفرنسي لاحتفالات «عيد العمَّال» إلا بعد الحرب العالمية الأولى.
ربّما يكون قادة «الأممية الثانية» قد شَجَّعوا تحويل «عيد العمَّال» إلى مهرجان، لأنهم بالتأكيد أرادوا تجنُّب تكتيكات المواجهة الفوضوية، وبطبيعة الحال فضَّلوا أيضاً أوسع أساس مُمكن للمظاهرات. لكن فكرة عطلة طبقية تنطوي على صراعٍ وقضاء وقتٍ ممتع في آنٍ لم تكن بالتأكيد في أذهانهم في الأصل. فمن أين أتت؟
عطلة
في البداية، أدّى اختيار التاريخ دوراً حاسماً تقريباً. إن عطلات الربيع مُتجذِّرة بعمق في دورة طقوس العام في نصف الكرة الشمالي المعتدل، وبالفعل فإن شهر أيار/مايو نفسه يرمز إلى تجديد الطبيعة. في السويد، على سبيل المثال، كان «الأوّل من أيار/مايو»، حسب التقليد القديم، بمثابة عطلة رسمية تقريباً. وكان هذا، بالمناسبة، من بين المشاكل المتعلّقة بالاحتفال بـ«عيد العمَّال» في الشتاء في أستراليا النضالية. ومن خلال المواد الأيقونية والأدبية الوفيرة، والتي أصبحت مُتاحة في السنوات الأخيرة، من الواضح تماماً أن الطبيعة، والنباتات، وقبل كل شيء الزهور كانت تلقائياً وعالمياً ترمز إلى هذه المناسبة. أبسط التجمّعات الريفية، مثل اجتماع العام 1890 في قرية بإقليم ستيريا النمساوي، لا تظهر فيها لافتات بل لوحات مزيّنة بشعارات، بالإضافة إلى موسيقيين. وتُظهِر صورة ساحرة لـ«عيد العمَّال» في إحدى المقاطعات في وقتٍ لاحق، في النمسا أيضاً، راكبي درّاجات من العمَّال الاشتراكيين الديمقراطيين، من الذكور والإناث، وهم يستعرضون بعجلات ومَقَاوِد مكلّلة بالزهور، بينما هناك طفل مزيّن بالزهور في ما يشبه مقعد أطفال يتدلّى بين درّاجتين.
تظهر الزهور من دون وعي حول الصور الصارمة للمندوبين النمساويين السبعة إلى «المؤتمر الأممي» لعام 1889، والتي وُزِّعَت في «عيد العمَّال» الأوَّل في فيينا. حتى إن الزهور تتسلّل إلى الأساطير النضالية. في فرنسا، يُرمَز إلى «حادث إطلاق الرصاص في فورمي» في العام 1891، وقتلاه العشرة، في التقليد الجديد بماريا بلوندو، البالغة من العمر ثمانية عشر عاماً، والتي رقصت على رأس 200 شاب من كلا الجنسين، مؤرجِحَة غصن زعرور برّي مُزهر كان خطيبها قد قدَّمه لها حتى قتلتها القوات بالرصاص.
يندمج تقليدان لشهر أيار/مايو بشكل واضح في هذه الصورة. أي زهور؟ في البداية، كما يوحي فرع الزعرور البري، تنمُّ الألوان عن الربيع وليس السياسة، على الرغم من أن الحركة سرعان ما سوف تستقر على أزهار من لونها الخاص: الورود، وزهرة الخشخاش، وقبل كل شيء القرنفل الأحمر. ومع ذلك، تختلف الأساليب بحسب كل بلد. إلا أن الزهور والرموز الأخرى للنمو المزدهر وسنّ الشباب والتجديد والأمل، وتحديداً صور الشابات، لها أهمّية مركزية. وليس من قبيل المصادفة أن الأيقونات الأكثر عالمية لهذه المناسبة، والتي تتكرّر مراراً بلغات مختلفة، تأتي من والتر كرين - خصوصاً الشابّة الشهيرة التي ترتدي قلنسوة «فريجية» محاطة بأكاليل الزهور. كانت الحركة الاشتراكية البريطانية صغيرة وغير مهمّة. وكانت أعياد العمَّال بها، بعد السنوات القليلة الأولى، هامشية. ومع ذلك، من خلال ويليام موريس وكرين وحركة الفنون والحرف اليدوية، الملهمين للفن الجديد الأكثر تأثيراً في تلك الفترة، وجدت البلاد التعبير الدقيق عن روح العصر. إن التأثير الأيقوني البريطاني ليس أقل دليل على أممية «عيد العمَّال».
على النقيض من السياسة، التي كانت في تلك الأيام «شأن الرجال»، كانت العطلات تشمل النساء والأطفال. وتثبت المصادر المرئية والأدبية حضور المرأة ومشاركتها في «عيد العمَّال» منذ البداية
في الواقع، نشأت فكرة المهرجان العام أو عطلة العمل، مرّة أخرى، بشكل عفوي وعلى الفور تقريباً - ولا شك أنه ممّا ساعد على ذلك أن كلمة «feiern» في الألمانية يمكن أن تعني «لا يعمل» و«يحتفل رسمياً». (إن استخدام كلمة «playing» (يلعب) كمرادف لكلمة «striking» (يضرب)، وهو الاستخدام الذي كان شائعاً في إنكلترا في النصف الأول من القرن، لم يعد يبدو شائعاً بحلول نهاية القرن). على أية حال، بدا الأمر منطقياً في يومٍ ابتعد فيه الناس عن العمل لإتمام الاجتماعات والمسيرات السياسية الصباحية بالتواصل الاجتماعي والترفيه فيما بعد، خصوصاً أن دور الحانات والمطاعم كأماكن اجتماع للحركة كان مهماً للغاية. وشكَّل أصحاب الحانات والنُدُل الذين يقدّمون النبيذ قسماً كبيراً من الناشطين الاشتراكيين في أكثر من دولة.
ويجب أن نذكر على الفور إحدى النتائج الرئيسة لذلك. على النقيض من السياسة، التي كانت في تلك الأيام «شأن الرجال»، كانت العطلات تشمل النساء والأطفال. وتثبت المصادر المرئية والأدبية حضور المرأة ومشاركتها في «عيد العمَّال» منذ البداية. وما جعله استعراضاً طبقياً حقيقياً، وبالمناسبة، كما هو الحال في إسبانيا، فعالية تجذب بشكل مُتزايد العمَّال الذين لم يكونوا سياسياً مع الاشتراكيين، هو على وجه التحديد أنه لم يقتصر على الرجال بل كان ينتمي إلى العائلات. وفي المقابل، في خلال «عيد العمَّال»، فإن النساء اللواتي لم يكن أنفسهن موجودات بشكل مباشر في سوق العمل كعاملات بأجر، أي الجزء الأكبر من نساء الطبقة العاملة المتزوِّجات في عدد من البلدان، رُبِطنَ علناً بالحركة والطبقة. إذا كانت حياة العمل المأجور مملوكة في المقام الأول للرجال، فإن رفض العمل ليوم واحد وحَّد الطبقة العاملة على الرغم من التباين العمري أو الجنسي.
عيد الفصح العمَّالي
عملياً، كانت جميع العطلات المنتظمة قبل هذا الوقت عطلات دينية، في جميع المناسبات في أوروبا، باستثناء بريطانيا حيث تمّ عادة استيعاب «يوم عيد العمَّال في المجموعة الأوروبية» رسمياً. شارك «عيد العمَّال» الأعياد المسيحية في التطلّع إلى العالمية، أو، إذا أردنا استخدام مصطلحات عمّالية، الأممية. وقد أثارت هذه العالمية إعجاب المشاركين بشدّة وزادت من جاذبية اليوم. إن المنشورات العديدة الخاصة بيوم «عيد العمَّال»، والتي غالباً ما كانت تُنتَج محلّياً، والتي تُعتبر مصدراً قَيِّماً للغاية لأيقونية هذه المناسبة وتاريخها الثقافي - وقد احتُفِظَ بـ 308 أعداد مختلفة من هذه المنشورات العَرَضية في إيطاليا ما قبل الفاشية وحدها - تتناول هذا الأمر باستمرار. تحتوي أول دورية لـ«عيد العمَّال» في بولونيا، والتي تعود إلى العام 1891، على ما لا يقل عن أربعة بنود تتعلّق تحديداً بعالمية اليوم. وبطبيعة الحال، فإن التشابه مع «عيد الفصح» أو «عيد الخمسين» بدا واضحاً وكذلك التشابه مع احتفالات الربيع الشعبية.
استخدم الاشتراكيون الإيطاليون، الذين أدركوا تماماً الجاذبية العفوية لـ«عيد العمَّال» الجديد بين السكّان الكاثوليك والأميين إلى حدّ كبير، مصطلح «عيد الفصح العمالي» منذ العام 1892 على أبعد تقدير، وأصبحت مثل هذه المقارنات رائجة عالمياً في النصف الثاني من تسعينيات القرن التاسع عشر. ويمكن للمرء أن يرى بسهولة السبب. وقد كان التشابه بين الحركة الاشتراكية الجديدة والحركات الدينية، بل، في السنوات الأولى من «عيد العمَّال»، وحركات الإحياء الديني ذات التوقّعات المسيحانية واضحاً.
وهكذا أيضاً، في بعض النواحي، كان التشابه بين القادة والناشطين والدعاة الأوائل والكهنوت، أو على الأقل الدعاة العلمانيين. لدينا منشور غير عادي من مدينة شارلروا ببلجيكا يعود إلى العام 1898، وهو يستنسخ ما لا يمكن وصفه إلّا بأنه «موعظة» عمّالية: لا توجد كلمة أخرى تفي بالغرض. لقد خَطَّه، أو خُطَّ باسم، عشرة نواب وأعضاء بمجلس الشيوخ عن «حزب العمَّال البلجيكي» - والذين كانوا من دون شك ملاحدة - تحت العباراتين المقتبستين «يا عمَّال العالم اتحدوا» (كارل ماركس) و«أحبّوا بعضكم بعضاً» (المسيح). وتشير بعض المقاطع إلى هذا المزاج: «هذه ساعة الربيع والاحتفال، ساعة تألُّق التطوّر الدائم للطبيعة، ساعة تألُّق مجدها. ومثل الطبيعة، املأوا أنفسكم بالأمل واستعدوا للحياة الجديدة».
وبعد بعض المقاطع التي تُشير إلى تعليمات أخلاقية («عَبِّروا عن احترام الذات: احذروا السوائل التي تُسكِر والأهواء التي تحطّ من القدر») والتشجيع الاشتراكي، يختتم المنشور بمقطع من الأمل الألفي: «قريباً سوف تتلاشى الحدود! قريباً سوف تنتهي الحروب والجيوش! في كل مرّة تمارس فيها الفضائل الاشتراكية للتضامن والحب، تقترب من هذا المستقبل. وبعد ذلك، في سلام وفرح، سوف ينشأ عالم تنتصر فيه الاشتراكية، بمجرّد أن يُفهم الواجب الاجتماعي للجميع بشكل صحيح على أنه تحقيق التنمية الشاملة لكل فرد».
ومع ذلك، فإن النقطة المتعلّقة بالحركة العمّالية الجديدة لم تكن أنها كانت عقيدة، وأنها كثيراً ما ردّدت لهجة وأسلوب الخطاب الديني، ولكن أنها لم تتأثّر كثيراً بالنموذج الديني حتى في البلدان التي كانت فيها الجماهير متدينة للغاية ومغموسة في طُرُق الكنيسة. علاوة على ذلك، كان هناك تقارب ضئيل بين الإيمان القديم والجديد باستثناء بعض الأحيان (ولكن ليس دائماً) التي اتخذت فيها البروتستانتية شكل طوائف معارضة غير رسمية وضمنية بدلاً من شكل الكنائس، كما هو الحال في إنكلترا. كان العمل الاشتراكي عبارة عن حركة علمانية نضالية مُعادية للدين قامت بتحويل السكّان المتدينين أو المتدينين سابقاً بشكل جماعي.
تُظهِر مطبوعة نمساوية بمناسبة «عيد العمَّال» في العام 1891 ماركس مُمسكاً بكتابه «رأس المال»، وهو يشير عبر البحر إلى إحدى تلك الجزر الرومانسية المألوفة لدى معاصريه من اللوحات ذات الطابع المتوسِّطي، والتي تشرق خلفها شمس «عيد العمَّال»، التي ستكون الرمز الأكثر ديمومة وقوّة للمستقبل
يمكننا أيضاً أن نفهم سبب حدوث ذلك. نالت الاشتراكية والحركة العمّالية استحسان الرجال والنساء الذين، باعتبارهم طبقة جديدة واعية بذاتها، لم يكن هناك مكان مناسب لهم في المجتمع الذي كانت فيه الكنائس القائمة، خصوصاً الكنيسة الكاثوليكية، التعبير التقليدي. كانت هناك بالفعل مستوطنات «للغرباء»، حسب المهنة كما في القرى التعدينية أو الصناعية البدائية أو الصناعية المتقدّمة، وحسب الأصل كما في حالة الألبان فيما أصبح القرية «الحمراء» المثالية «بيانا دي غريسي» في صقلية (الآن «بيانا ديغلي ألبانيزي»)، أو وحَّد العمَّال معياراً آخر فصلهم بشكل جماعي عن المجتمع الأوسع. هناك يمكن أن تعمل «الحركة» كمجتمع، وبذلك تستولي على العديد من ممارسات القرية القديمة التي كان الدين يحتكرها حتى هذه اللحظة.
ومع ذلك، كان هذا غير عادي. في الواقع، كان أحد الأسباب الرئيسة للنجاح الهائل لـ«عيد العمَّال» أنه نُظِرَ إليه على أنه العطلة الوحيدة المرتبطة حصراً بالطبقة العاملة بالتحديد، والتي لا يتم تقاسمها مع أي مجموعة أخرى، وعلاوة على ذلك، فهي عطلة تُنتَزع من خلال فعل العمَّال أنفسهم. والأكثر من ذلك: كان ذلك يومٌ ظهر فيه أولئك الذين كانوا عادة غير مرئيين أمام الجمهور، واستولوا، على الأقل ليوم واحد، على الفضاء الرسمي للحكّام والمجتمع. وفي هذا الصدد، كانت مهرجانات عمَّال المناجم البريطانيين، والتي يُعَد مهرجان دورهام أطولها نجاة، تترقَّب «عيد العمَّال»، ولكن على أساس عمَّال صناعة واحدة وليس على أساس الطبقة العاملة ككل. وبهذا المعنى، كانت العلاقة الوحيدة بين «عيد العمَّال» والدين التقليدي هي المطالبة بالمساواة في الحقوق. وقد أعلنت جريدة «فوغيرا» في «وادي بو» الإيطالي في «عيد العمَّال» في العام 1891 أن «الكهنة لديهم أعيادهم، والمعتدلون لديهم أعيادهم، والديمقراطيون كذلك. والأوّل من أيار/مايو هو عيد عمَّال العالم أجمع».
العالم الجديد
لكن كان هناك أمر آخر أبعدَ الحركة عن الدين. كانت كلمتها الرئيسة هي «جديد»، كما في «الزمن الجديد» (Die Neue Zeit)، عنوان المراجعة النظرية الماركسية لكاوتسكي، وكما في الأغنية العمّالية النمساوية التي لا تزال مرتبطة بـ«عيد العمَّال»، والتي تقول لازمتها: «الأزمنة الجديدة تتقدَّم معنا». وكما تُظهِر التجربة الاسكندنافية والنمساوية، فإن الاشتراكية غالباً ما جاءت إلى الريف والمدن الإقليمية مع السكك الحديدية، ومع أولئك الذين بنوها وأداروها، ومع الأفكار الجديدة والأزمنة الجديدة التي جلبتها. على عكس العطلات الرسمية الأخرى، بما في ذلك معظم المناسبات الطقسية للحركة العمّالية حتى ذلك الحين، لم يحتفل «عيد العمَّال» بأي شيء - على الأقل بالنسبة إلى الفعاليات التي تقع خارج نطاق التأثير الفوضوي، وهو التأثير الذي، كما رأينا، أحب ربط العيد بفوضويي شيكاغو في العام 1886. لم يكن الأمر يتعلّق إلا بالمستقبل، الذي يقف على النقيض من الماضي الذي لم يكن بدوره لديه ما يقدّمه للبروليتاريا سوى الذكريات السيّئة. لقد غنَّت «الأممية» «من الماضي نصنع صفحة بيضاء»، وذلك ليس عن طريق الصدفة. وعلى عكس الدين التقليدي، لم تقدِّم «الحركة» مكافآت بعد الموت، بل قدّمت القدس الجديدة على هذه الأرض.
إن أيقونية «عيد العمَّال»، التي طوَّرت صورها ورمزيتها الخاصة بسرعة كبيرة، موجّهة نحو المستقبل بالكامل. ولم يكن ما سيأتي به المستقبل واضحاً على الإطلاق، فقط أنه سيكون جيِّداً وأنه سيأتي لا محالة. ولحسن الحظ بالنسبة إلى نجاح «عيد العمَّال»، فإن هناك طريقة واحدة على الأقل للمضي قدماً نحو المستقبل حوّلت هذه المناسبة إلى أكثر من مجرّد مظاهرة ومهرجان. في العام 1890، كانت الديمقراطية الانتخابية لا تزال غير شائعة إلى حدّ كبير في أوروبا، وكان من السهل إضافة المطالبة بالاقتراع العام إلى مطلب يوم العمل ذي الثماني ساعات وشعارات «عيد العمَّال» الأخرى. ومن الغريب أن مطلب التصويت، على الرغم من أنه أصبح بصفة رسمية جزءاً لا يتجزّأ من «عيد العمَّال» في النمسا وبلجيكا والدول الاسكندنافية وإيطاليا وأماكن أخرى حتى تحقيقه، لم يُشكِّل قط جزءاً أممياً من المضمون السياسي للعيد مثلما كان الحال مع مطلب يوم العمل ذي الثماني ساعات، وفي وقت لاحق مطلب السلام. ومع ذلك، حيثما انطبق ذلك، أصبح جزءاً لا يتجزّأ من المناسبة وأضاف إلى أهمّيتها بشكل كبير.
في الواقع، تنظيم الإضرابات العامة أو التهديد بها من أجل الحصول على الحق في الاقتراع العام، وهو الأمر الذي تطوَّر مع بعض النجاح في بلجيكا والسويد والنمسا، وساعد على توحيد الأحزاب والنقابات معاً، نشأ من توقُّفات العمل الرمزية في «عيد العمَّال». بدأ عمَّال المناجم البلجيكيون أول إضراب من هذا النوع في الأوّل من أيار/مايو من العام 1891. ومن ناحية أخرى، كانت النقابات العمّالية منشغلة بشعار «عيد العمَّال» السويدي «ساعات أقصر وأجور أعلى» أكثر من انشغالها بأي جانب آخر من جوانب هذا اليوم العظيم. وكانت هناك أوقات، كما هي الحال في إيطاليا، حيث ركّزوا على هذا الأمر وتركوا حتى الديمقراطية للآخرين. إن التقدّم الكبير الذي حقّقته الحركة، بما في ذلك مناصرتها الفعّالة للديمقراطية، لم يكن مبنياً على المصلحة الذاتية الاقتصادية الضيّقة.
منذ العام 1945، أصبح «عيد العمَّال» بشكل متزايد إما غير قانوني أو، على الأرجح، رسمي. وفقط في تلك الأجزاء النادرة نسبياً من «العالم الثالث»، حيث تطوّرت الحركات العمّالية الاشتراكية الضخمة وغير الرسمية في ظروف سمحت لـ«عيد العمَّال» بالازدهار، توجد استمرارية حقيقية للتقليد القديم
كانت الديمقراطية، بطبيعة الحال، مركزية بالنسبة إلى الحركات العمّالية الاشتراكية. ولم يكن ذلك ضرورياً لتقدّمها فحسب، بل كان أيضاً جزءاً لا يتجزّأ منه. وتمَّ إحياء ذكرى «الأوّل من أيار/مايو» في ألمانيا بلوحة تظهر كارل ماركس على جانب وتمثال الحرِّية على الجانب الآخر. وتُظهِر مطبوعة نمساوية بمناسبة «عيد العمَّال» في العام 1891 ماركس مُمسكاً بكتابه «رأس المال»، وهو يشير عبر البحر إلى إحدى تلك الجزر الرومانسية المألوفة لدى معاصريه من اللوحات ذات الطابع المتوسِّطي، والتي تشرق خلفها شمس «عيد العمَّال»، التي ستكون الرمز الأكثر ديمومة وقوّة للمستقبل. وقد حملت أشعتها شعارات الثورة الفرنسية: الحرية، والمساواة، والأخوة، والتي توجد على العديد من الشارات والتذكارات المبكرة لـ«عيد العمَّال». ماركس محاط بالعمَّال، الذين يفترض أنهم على استعداد لقيادة أسطول السفن المقرّر إبحارها إلى الجزيرة، مهما كانت، وقد كُتب على أشرعة السفن: «الاقتراع العام والمباشر. يوم العمل ذي الثماني ساعات والحماية للعمَّال». كان هذا هو التقليد الأصلي لـ«عيد العمَّال».
نشأ هذا التقليد بسرعة غير عادية - في غضون عامين أو ثلاثة أعوام - عن طريق التعايش الغريب بين شعارات القادة الاشتراكيين وتفسيرها العفوي في كثير من الأحيان من قِبل المناضلين والقواعد العمّالية. وتبلور الأمر في تلك السنوات القليلة الأولى الرائعة من الازدهار المفاجئ للحركات والأحزاب العمّالية الجماهيرية، عندما كان كل يوم يجلب نمواً واضحاً، وعندما بدا وجود مثل هذه الحركات، ومجرّد التأكيد على الطبقة، ضماناً للانتصار في المستقبل. والأكثر من ذلك: بدا ذلك علامة على انتصار وشيك حيث انفتحت أبواب العالم الجديد أمام الطبقة العاملة.
ومع ذلك، لم تأت الألفية، وكان لا بد من تنظيم «عيد العمَّال» ومأسسته، مع الكثير من الأشياء الأخرى في الحركة العمّالية، على الرغم من أن شيئاً من الأمل والانتصار المزدهرين القديمين عاد إليه في السنوات اللاحقة بعد نضالات وانتصارات عظيمة. ويمكننا أن نرى ذلك في أعياد العمَّال المستقبلية الجنونية التي شهدتها الثورة الروسية في فتراتها الأولى، وفي كلّ مكان تقريباً في أوروبا في الفترة بين عامي 1919 و1920، عندما تحقّق مطلب «عيد العمَّال» الأصلي المتمثل في يوم العمل ذي الثماني ساعات فعلياً في العديد من البلدان. ويمكننا أن نرى ذلك في أعياد العمَّال «للجبهة الشعبية» في أيامها الأولى في فرنسا، في عامي 1935 و1936، وفي بلدان القارة التي تحرّرت من الاحتلال، بعد هزيمة الفاشية. ومع ذلك، في معظم بلدان الحركات العمّالية الاشتراكية الجماهيرية، كان «عيد العمَّال» روتينياً في وقت ما قبل العام 1914.
ومن الغريب أنه في خلال هذه الفترة من إضفاء الطابع الروتيني اكتسب العيد جانبه الطقوسي. وكما قال أحد المؤرِّخين الإيطاليين، عندما لم يعد يُنظر إليه على أنه بهو الدخول الفوري للتحوّل الكبير، أصبح «طقساً جماعياً تطلَّب شعائره وآلهاته الخاصّة»، وعادةً ما نُظِرَ إلى هذه الآلهة على أنها الشابات المصوّرات بشعورهن المتدفقة وأزياءهن الفضفاضة اللواتي يرشدن الحشود أو المواكب المُبهَمة المتزايدة للرجال والنساء إلى الطريق نحو شروق الشمس. هل كانت الإلهة هي الحرِّية أم الربيع أم سنّ الشباب أم الأمل أم الفجر الوردي أم القليل من كل هؤلاء؟ من يستطيع أن يقول؟ من الناحية الأيقونية، ليس لديها أي سمة عالمية باستثناء سن الشباب، حتى القلنسوة «الفريجية»، وهي شائعة للغاية، أو السمات التقليدية للحرِّية، لا توجد دائماً.
ليس من المبالغة القول بأن كلمة «عيد العمَّال»، بالنسبة إلى معظم الناس، حتى في الحركات العمّالية، تستحضر الماضي أكثر من الحاضر
يمكننا تتبع الطقسنة في تلك الفترة من خلال الزهور التي، كما رأينا، كانت موجودة منذ البداية، ولكنها أصبحت، إذا جاز التعبير، رسمية في نهاية القرن. وهكذا اكتسب القرنفل الأحمر مكانته الرسمية في أراضي هابسبورغ وفي إيطاليا منذ حوالي العام 1900، عندما شُرِحَت رمزيته بشكل خاص في صحيفة فلورنسا المفعمة بالحيوية والموهبة والتي حملت اسم «القرنفل الأحمر» (IL Garofano Rosso) (وقد ظهرت في أعياد العمَّال حتى الحرب العالمية الأولى). وأصبحت الوردة الحمراء رسمية في عامي 1911 و1912. وممّا أثار حزن الثوّار غير القابلين للإفساد أن نبتة زنبق الوادي غير السياسية على الإطلاق بدأت تتسلّل إلى «عيد العمَّال» في أوائل القرن العشرين، حتى أصبحت من بين الرموز المعتادة لهذا اليوم.
ومع ذلك، فإن عصر أعياد العمَّال العظيم لم ينتهِ بعد، حيث ظلّت قانونية - أي قادرة على حشد جماهير غفيرة إلى الشارع - وغير رسمية. وبمجرّد أن أصبحت عطلة ممنوحة، أو، وذلك هو الأسوأ، مفروضة من أعلى، أصبحت شخصيّتها مختلفة بالضرورة. وبما أن التعبئة الجماهيرية كانت في جوهرها، فإنها لم تتمكّن من مقاومة اللاقانونية، على الرغم من أن الاشتراكيين (الشيوعيين لاحقاً) في «بيانا ديل ألبانيزي» كانوا يفخرون، حتى في الأيام السوداء للفاشية، بإرسال بعض الرفاق في «الأوّل من أيار/مايو» من دون فشل إلى الممر الجبلي حيث، خاطبهم الرسول المحلي للاشتراكية في العام 1893 الذي لا يزال يعرف باسم «صخرة الدكتور بارباتو». وفي الموقع نفسه ذبح قاطع الطرق جوليانو أفراد المظاهرة المجتمعية والنزهة العائلية التي تم إحياؤها بعد نهاية الفاشية في العام 1947. ومنذ العام 1914، وخصوصاً منذ العام 1945، أصبح «عيد العمَّال» بشكل متزايد إما غير قانوني أو، على الأرجح، رسمي. وفقط في تلك الأجزاء النادرة نسبياً من «العالم الثالث»، حيث تطوّرت الحركات العمّالية الاشتراكية الضخمة وغير الرسمية في ظروف سمحت لـ«عيد العمَّال» بالازدهار، توجد استمرارية حقيقية للتقليد القديم.
بطبيعة الحال، لم يفقد «عيد العمَّال» خصائصه القديمة في كل مكان. ومع ذلك، حتى عندما لا يكون مرتبطاً بسقوط الأنظمة القديمة التي كانت جديدة ذات يوم، كما هو الحال في الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية، فليس من المبالغة القول بأن كلمة «عيد العمَّال»، بالنسبة إلى معظم الناس، حتى في الحركات العمّالية، تستحضر الماضي أكثر من الحاضر. لقد تغيّر المجتمع الذي أدى إلى «عيد العمَّال». واليوم، ما مدى أهمّية تلك المجتمعات القروية البروليتارية الصغيرة التي يتذكّرها الإيطاليون القدماء؟ «مشينا في مسيرة حول القرية. ثم كانت هناك وجبة عامّة. كان جميع أعضاء الحزب هناك وأي شخص آخر أراد الحضور».
ماذا حدث في العالم الصناعي لأولئك الذين كانوا ما زالوا قادرين في تسعينيات القرن التاسع عشر على التعرّف إلى أنفسهم في مُفتتَح نشيد «الأممية» «هبّوا ضحايا الاضطهاد/ضحايا جوع الاضطرار». وكما قالت سيدة إيطالية عجوز في العام 1980، وهي تتذكّر «عيد العمَّال» في العام 1920: «حملت العلم عندما كنت عاملة نسيج في الثانية عشرة من عمري، وكنت قد بدأت للتو العمل في المصنع. الآن، أولئك الذين يذهبون إلى العمل سيّدات وسادة يحصلون على كل ما يطلبونه». ماذا حدث لروح مواعظ «عيد العمَّال» التي نادت بالثقة في المستقبل، والإيمان بمسيرة العقل والتقدّم؟ «ثقِّفوا أنفسكم! المدارس والدورات والكتب والصحف هي أدوات الحرِّية! اشربوا من ينبوع العلم والفن. عندها سوف تصبحون أقوياء بما يكفي لتحقيق العدالة». ماذا حدث للحلم الجماعي ببناء القدس على أرضنا الخضراء الطيبة؟
على حد تعبير فيكتور أدلر في العام 1893: «هذا هو شعور عطلة أيار/مايو، الراحة من العمل، وهو ما يخشاه خصومنا. هذا هو ما يشعرون بأنه معنى أن تكون ثورياً»
ومع ذلك، إذا كان «عيد العمَّال» قد أصبح مجرّد عطلة أخرى، فإنه يوم - وأنا أقتبس من إعلان فرنسي - لا يحتاج فيه المرء إلى تناول نوع معيّن من المهدِّئات، لأنه لا يحتاج إلى العمل. إنه يوم عطلة من نوع خاص. وربما لم يعد، على حدّ التعبير المتفاخر، «عطلة خارج كل التقاويم»، لأنه في أوروبا دخل في كلّ التقاويم. إنه، في الواقع، أكثر أيام الإجازة المعمول بها عالمياً مقارنة بأي أيام أخرى، باستثناء 25 كانون الأول/ديسمبر والأوّل من كانون الثاني/يناير، بعد أن تفوّق بكثير على منافسيه الدينيين الآخرين. لكنه جاء من الأسفل. شُكِّل من عمَّال مجهولين من خلاله عرفوا أنفسهم، عبر خطوط المهنة، واللغة، وحتى الجنسية، كطبقة واحدة، وذلك من خلال اتخاذ قرار، مرّة واحدة في السنة، بعدم العمل عمداً، وبالاستهزاء بالإكراه الأخلاقي والسياسي والاقتصادي على العمل. وعلى حد تعبير فيكتور أدلر في العام 1893: «هذا هو شعور عطلة أيار/مايو، الراحة من العمل، وهو ما يخشاه خصومنا. هذا هو ما يشعرون بأنه معنى أن تكون ثورياً».
يهتم المؤرِّخ بهذه المناسبة لعدد من الأسباب. من ناحية، فهي مهمّة لأنها تساعد على تفسير لماذا أصبح ماركس مؤثراً جداً في الحركات العمّالية المكوّنة من رجال ونساء لم يسمعوا عنه من قبل، لكنهم أدركوا دعوته بأن يصبحوا واعين بأنفسهم كطبقة ومن ثمّ تنظيم أنفسهم على هذا النحو. ومن ناحية أخرى، فهي مناسبة مهمّة، لأنها توضح القوة التاريخية للفكر والمشاعر الشعبية، وتضيء الطريقة التي يستطيع بها الرجال والنساء، الذين لا يستطيعون التعبير عن أنفسهم، ولا حول لهم ولا قوة، أن يتركوا بصماتهم على التاريخ كأفراد.
لكن قبل كل شيء، يُعَد هذا توقيتاً مؤثّراً للغاية بالنسبة إلى الكثيرين منا، سواء كانوا مؤرِّخين أم لا، لأنه يمثّل ما أسماه الفيلسوف الألماني إرنست بلوخ (وتناوله باستفاضة في مجلّدين ضخمين) «مبدأ الأمل»: الأمل في مستقبل أفضل في عالم أفضل. وإذا لم يتذكر أحد «عيد العمَّال» في العام 1990، فقد كان لزاماً على المؤرِّخين أن يفعلوا ذلك.
نُشِر هذا المقال في Tribune في الأول من أيار/مايو 2023.