غرامشي: النظرية الاجتماعية

  • الهيمنة هي قيادة سياسيّة قائمة على القبول بالحكم السائد من خلال نشر أفكار الطبقة الحاكمة وتعميمها في الميادين السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة وحتّى في أعتى ظروف الاستغلال
  • تبرز أزمة السلطة عندما يُقَوَّض الأساس الاجتماعي الداعم لبنيّة النظام السياسي الأساسية ويؤدّي إلى اضمحلال القبول الاجتماعي أو الهيمنة

يستلهم العديد من الأكاديميين أفكار غرامشي لتحليل الحاضر وفهمه، لكن من دون تطبيق هذه الأفكار بشكل جامد (Morton 2007). ينطبق هذا النهج على دراسات الشرق الأوسط الحالية، حيث تُستعمل نظريّات أنطونيو غرامشي (1891-1937)، بشكل مُتزايد، بوصفها أداة تحليليّة لشرح مجموعة من التحدّيات والمعضلات المُلحّة.

معاينة

السياق الفكري

في نضاله الشخصي ومؤلّفه المهمّ دفاتر السجن، شنّ غرامشي، وهو أحد مؤسّسي الحزب الشيوعي الإيطالي، معركة متواصلة وعنيفة ضدّ التفسيرات الحتميّة للماركسيّة، وهي تفسيرات ذات منحى اقتصادي حتّمي بالأساس، مُشدِّداً على أهمّية التحليل الاجتماعي بهدف تطوير فلسفة الحياة (philosophy of praxis) التحرّرية، التي تستند إلى النظريّة والممارسة معاً، أي النقد والتطبيق، وتُعتبر أكثر التزاماً بالماركسيّة من الناحية الاجتماعيّة والتاريخيّة، إنّما من دون التخلّي عن الظروف الماديّة أو ما سمّاه غرامشي التجارب الحياتيّة (lived experience) كركيزة أساسيّة في التنظير والتحليل.

ركّز غرامشي في أعماله على تفسير معضلة ديمومة الرأسماليّة في المُجتمعات الصناعيّة المُتقدّمة، وشرح معوِّقات التغيير الثوري في ظلّ هذا النظام الاستغلالي. لكنّه تناول أيضًا كيفيّة التغلّب على الرأسماليّة من خلال النشاط الثوري. حالياً، تُعتبر طروحات غرامشي أكثر إلحاحاً في ظلّ تنامي هوّة انعدام المساواة الاجتماعيّة والاقتصاديّة على الصعيد العالمي، وبشكل خاصّ في الشرق الأوسط. في الواقع، ترك لنا غرامشي عدداً من المفاهيم الأساسيّة وطرق التفكير الصالحة للاستخدام كمصادر للإلهام الفكري والمنهجي.

أفكار رئيسيّة

تُعدُّ الهيمنة (hegemony) من المفاهيم الغرامشيّة الأكثر شيوعاً، إذ تعتبر أنّ الأفراد لا يُحكَمون بالقوّة فحسب، بل بالأفكار أيضاً. عرَّف غرامشي الهيمنة بأنّها "قيادة سياسيّة قائمة على القبول (consent) بالحكم السائد، ويُضمَن هذا القبول من خلال نشر أفكار الطبقة الحاكمة وتعميمها" (Bates 1975: 352) في الميادين السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة، وحتّى في أعتى ظروف الاستغلال. إلى ذلك، يُعتبر المجتمع المدني (civil society)، وهو مزيج من المنظّمات الخاصّة (أو غير الحكوميّة)، ساحة لنشر هذه الأفكار وتعميمها، وبناء طرق تفكير وتشكّلات اجتماعيّة تصقل الثقافة السائدة. تُفرَض الهيمنة على المجتمع من قِبَل كتلة تاريخيّة (historical bloc) حاكمة، وهي تحالف الطبقات أو الفئات التي تُهيمن على المجتمع في لحظة تاريخيّة معيّنة.

تُفرَض الهيمنة على المجتمع من قِبَل كتلة تاريخيّة حاكمة، وهي تحالف الطبقات التي تُهيمن على المجتمعفي المقلب الآخر، وتحديداً في السياقات غير المُهيمنة التي تتميّز بوجود أنماط إنتاج خارج الرأسماليّة المُتقدّمة، تنخرط الطبقات البرجوازيّة في ثورة سلبيّة (passive revolution)، وتُطلِق سلسلة تغييرات اجتماعيّة-اقتصاديّة معزولة عن أي إصلاحات سياسيّة، أي من دون تغيير النظام الاجتماعي السائد. في هذه الحالة، يكون العنف ملموساً وأكثر وضوحاً في الحياة اليوميّة، على عكس الأنظمة المُهيمنة حيث تغيب آليّات العنف وتلعب دوراً خفياً، ولا تُفعَّل إلّا بعد انهيار الهيمنة. لكن العلاقة بين القبول والعنف ليست ثنائيّة بل علاقة توازن.

في صياغة غرامشي الشهيرة، تتألّف الدولة من ميدانين يُعزِّز كلٌّ منهما الآخر: المجتمع السياسي (political society) بآليّاته القانونية والعنفية، والمجتمع المدني. مع ذلك، وفق ما يؤكّد بيتر توماس، يجب تمييز المجتمعين السياسي والمدني عن بعضهما "منهجياً وليس عضوياً"، ودائماً "ضمن شكل موحّد للدولة (غير قابل للتجزئة)" (Thomas 2009: 137)، بحيث تُنتَج دولة مُتكاملة (integral state) خالية من الثنائيّات.

يترتّب عن هذا التنظير لمفهوم الدولة مساران للتغيير السياسي: حرب المناورة (war of maneuver)، على غرار الثورة الروسيّة العنيفة الخاطفة في العام 1917، التي تسيطر على الدولة (الإقطاعيّة الرأسماليّة آنذاك)، وهو خيار اعتُبِر غير مناسب في المجتمعات الصناعيّة المُتقدّمة، وحرب المواقع (war of position)، وهي استراتيجيّة طويلة الأمد وأكثر صعوبة، تهدف إلى إنتاج هيمنة بديلة مُضادة وتهيئة البنية التحتيّة الأيديولوجيّة والتنظيميّة للحظة إسقاط الدولة عبر حرب المناورة. لكن السؤال الغرامشي بامتياز هو كيف يُمكن إحداث وعي ثوري ونضال تغييري من خلال حرب المواقع؟

في معركة إنتاج الهيمنة المُضادة، يتمثّل دور الحزب، الأمير الحديث (the modern prince)، في التنظيم السياسي والديموقراطي للفئات المقموعة (subaltern)، وصقل الوعي الثوري في نفوسهم، بما يحرّرهم من المنطق السائد (common sense) الذي يُنتجه منظّرو الطبقات المُهيمنة المولجين بنشر الأيديولوجيا الحاكمة. ويتوقّف هذا الأمر على قدرة إنتاج مثقّفين عضويين من هذه المجموعات (organic intellectuals) ، يحافظون على ارتباط الحزب بقاعدته الشعبيّة. بالتالي، يُعتبر التنظيم شرطاً ضرورياً للتعبئة الشعبيّة المُجدية والتحوّل الثقافي، وهو بطبيعة الحال تحوّلٌ جزيئي تدريجي (Marchi, 2021) وليس مُفاجئاً، وقد يمرّ بمراحل عدّة مُتداخلة على طريق النضال الصعب والطويل للانتقال من حالة التبعيّة إلى الثورة (Chalcraft, 2020).

في التطبيق

يجب أنّ ينطلق أي تطبيق للنظريّة الغرامشيّة في الشرق الأوسط المُعاصر من حيث بدأ غرامشي نفسه، وهو ما أوضحه آدم جورسكي بالشكل التالي: "يعلّمنا ماركس أنّ أي تحليل للحياة في ظلّ الرأسماليّة يجب أنّ يبدأ من الظروف الماديّة، فيما يضيف غرامشي بأنّه لا ينبغي الاكتفاء بهذا الحدّ، بل الانطلاق منه" (2020: 15). أمّا التحذير الآخر فيتعلّق بكيفيّة استخدام مفاهيم غرامشي: يجب أن نذكّر أنفسنا دائماً بأنّنا ندرس تشكيلات رأسماليّة مُختلفة عن تلك التي شرّحها غرامشي، تولِّد أشكالاً مختلفة من الدولة، وأنظمة اجتماعيّة لها مصالحها المادية الخاصّة، وعلاقات طبقية مُختلفة يجب تحليلها بدلاً من افتراضها. ينبغي إذن التعامل مع مفاهيم غرامشي على أنّها مجموعة أدوات منهجية لتحليل المشكلات الاجتماعية والسياسية المُعاصرة أكثر من كونها مفاهيم صارمة تُكرّر وُتعاد من دون أي نقد. غالباً أشعر براحة أكبر في استخدام طريقة تفكير غرامشي، وكيفيّة جمعه بين المادي والتنظيمي والأيديولوجي لشرح الأنظمة الاجتماعيّة والبنى المؤسساتيّة العنيفة، بدلاً من استخدام مفاهيمه أو مصطلحاته بحرفيّتها.

يتمثّل دور الحزب في التنظيم السياسي والديموقراطي للفئات المقموعة وصقل الوعي الثوري في نفوسهم بما يحرّرهم من المنطق السائد الذي يُنتجه منظّرو الطبقات المُهيمنة يُعدُّ كتاب نزيه أيوبي Over-Stating the Arab State (1995) من المحاولات المُبكرة لاستخدام أفكار غرامشي عن الثورة السلبيّة، إذ يشرح متانة الأنظمة الاستبداديّة غير المُهيمنة في العالم العربي، سواء كانت شعبويّة - تشاركيّة أو محافظة - تشاركيّةعلى عكس ذلك، حاججت سارة سالم (2020) بأنّ الناصريّة كانت مشروع هيمنة مُناهض للاستعمار.. أعيد مُجدّداً استكشاف هذا المفهوم لشرح قدرة الأنظمة المُضادة للثورات العربيّة على استعادة السيطرة القسريّة على مجتمعاتها وإعادة هيكلة كتلها التاريخيّة (Cervasio وManduchi, 2020).

تبرز "أزمة السلطة" (crisis of authority)، بحسب غرامشي، عندما "يُقَوَّض الأساس الاجتماعي الداعم لبنيّة النظام السياسي الأساسية ويؤدّي إلى اضمحلال القبول الاجتماعي أو الهيمنة" (Morton 2007: 189)، بحيث يسمح هذا المفهوم بتحليل أسباب ونتائج الاحتجاجات الشعبية التي اجتاحت الشرق الأوسط بعد العام 2011 وفي العامين 2015 و2019. تساعدنا أفكار غرامشي على تفسير الاختلافات الكامنة في مسارات هذه الاحتجاجات: فقد ساعدت هياكل المجتمع المدني المُنظّمة من القاعدة إلى القمّة قبل الأزمة في تحقيق اختراقات مُهمّة، حتّى لو قُمِعت لاحقاً كما هو الحال في تونس ومصر ثمّ السودان. في المقابل، كانت احتمالات التغيير محدودة في المجتمعات التي لم تتوافر فيها هذه الشبكات التنظيمية، أو حيث جرت محاولات لتأسيسها في خِضمْ الأزمات الاجتماعية-الاقتصادية والمالية، كما هو الحال في لبنان والعراق (حلاوي وصلوخ، 2020). يعتبر إصرار غرامشي على إعطاء الأولوية للتنظيم الديموقراطي كنشاط سياسي دائم – كما تجلّى في مسيرة حياته التي كرّسها للنضال السياسي - مدرسة في سبل تنظيم نشاط سياسي نضالي مُجدي من القاعدة إلى القمّة، كشرط أساسي للتغيير الاجتماعي والسياسي (Chalcraft 2022؛ Denning 2021؛ Wald 2022). ما يُقدّمه غرامشي هو تصحيح مادي وتنظيمي للكثير من التنظير التجريدي والميكانيكي ولنوع من "الهواية السياسيّة" (Hersh 2020) التي غالباً ما يُخلط بينها وبين التنظيم الهادف والعمل السياسي الاستراتيجي.

أمّا الأكثر إفادة من أفكار غرامشي فهي الصورة الواسعة عن الدولة التي يُقدِّمها لطلّاب العلوم السياسيّة في الشرق الأوسط، الذين يبحثون عن بديل لما يُعتبر غالباً دولة ضعيفة أو غائبة أو هشّة. الدولة التي يكتب عنها غرامشي هي المجموعة الكاملة من الأنشطة العملية والنظرية، التي من خلالها تُبرِّر الطبقة الحاكمة هيمنتها وتحافظ عليها، وأيضاً تسعى إلى اكتساب القبول النشط مِمَن تحكمهم (غرامشي 1971: 244). تساعدنا هذه الصورة المُقدّمة عن الدولة في جمع الأنشطة المادية والتنظيمية والأيديولوجية، التي تدخل في إنتاج النظام الاجتماعي وشكل الدولة المُصاحب له، بحيث يكون خالياً من ثنائيّات المجتمع المدني/السياسي، القبول/العنف، الدولة الضعيفة/القوية، القطاع الخاص/العام، الجهات الحكومية/غير الحكومية، القطاعات النظامية/غير النظامية (Salloukh، في طور النشر). هذا التعريف للدولة مفيد لمعاينة متانة أنماط الهيمنة الطائفية، أو طرق مقاومتها من خلال حرب مواقع طويلة الأمد (Dodge 2019)، تكون فيها الثقافة ساحة صراع بدلاً من معطى جامد.

ما سبق ليس سوى بعضٌ من المفاهيم والمنهجيّات المُختارة من عِدَّة عمل فكرية غرامشية يُمكن استخدامها في دراسات الشرق الأوسط. فالتفكير في مشاكلنا المُعاصرة بمنهجيّة غرامشية ليس إلّا بداية لابتكار "مفاهيم جديدة لفهم تواريخ وسياقات معيّنة وتغييرها". (Chalcraft & Marchi 2021: 5). فمَنْ غير غرامشي، في سيرته الذاتية وأفكاره التحرّرية، يستطيع أن يضيء لنا الطريق للسير قدماً في هذه الأوقات المُظلمة؟

نشر هذا المقال في SEPAD في 24 حزيران/يونيو 2022.