معاينة displaced people in schools

جريمة التقشّف في زمن الحرب

في عزّ الحرب، نجحت الدولة اللبنانية في تحقيق فائض مالي كلّي بقيمة 100.4 مليون دولار في العام 2023، ويتوقّع البنك الدولي أن تحقّق فائضاً مالياً إضافياً بقيمة 50.7 مليون دولار في العام 2024، ليصل المجموع إلى 151.1 مليون دولار في سنتين. وبدلاً من استخدام هذه المبالغ لمواجهة التداعيات والصحية والاجتماعية والاقتصادية للعدوان الإسرائيلي تكدّسها الحكومة اللبنانية في حساب الخزينة العامة لدى مصرف لبنان، كانعكاس واضح للسياسات التقشّفية المُجحفة التي تمارس ضدّ المقيمين والمقيمات في لبنان، وهي في حالة الحرب تساوي بفظاعتها القنابل الإسرائيلية التي تفتك بهم.

يعرّف الفائض المالي بأنه الحصيلة النهائية للخزينة العامّة، أي أنه الفارق بين الإيرادات التي تجبيها الحكومة والنفقات التي تصرفها، بما فيها مدفوعات الفائدة المُترتبة على الدَّيْن العام. فإذا كانت النتيجة عجزاً فهذا يعني أنها أنفقت على السكان أكثر ممّا جبته منهم، أمّا في حال كانت النتيجة فائضاً فهذا يعني أنها جبت إيرادات من مجمل السكان أكثر ممّا أنفقته عليهم. وبمعنى آخر، الفائض المالي هو المصطلح التقني المُرادف للتقشّف.

graph 01

هذه النتائج المالية يعرضها تقرير «آفاق الفقر» الصادر عن البنك، ويستند فيها إلى توقّعاته لمآل الاقتصاد اللبناني قبل تصعيد إسرائيل عدوانها على لبنان منذ 17 أيلول/سبتمبر الماضي. اللافت في هذه الأرقام هو أن الفائض المالي المُحقّق في العام 2023 والمتوقّع في 2024 يساوي نحو 35.6% من مجمل الحاجات التمويلية التي أعلنت عنها الحكومة اللبنانية في «النداء الإنساني» الذي وجّهته إلى الدول المانحة في مطلع تشرين الأول/أكتوبر الحالي، طلباً للدعم والمساعدة في تأمين الاحتياجات، التي قدّرتها بنحو 425 مليون دولار.

لا شكّ أن التصعيد العدواني، الذي أسفر حتى الآن عن استشهاد 2,530 شخص، وإصابة 11,803 آخرين، ونزوح ما لا يقل عن 1,3 مليون شخص، وتسبّب بأضرار مادية كبيرة في المخزون العمراني من مساكن ومؤسّسات خدمية وتجارية وصناعية، وأضرّ بالمساحات الزراعية، سوف يرتّب أكلافاً إضافية على الحكومة اللبنانية، وقد يخفّض بالتالي الفائض المتوقّع تحقيقه فعلياً في نهاية العام في حال قرّرت الدولة الإنفاق لمواجهة تداعيات الحرب، إلا أنه لا يلغي ولا يغيّر من واقعتين: سجّلت الواقعة الأولى في معظم العام الأول من الحرب التي بدأت في 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، حين اعتبرت الدولة اللبنانية أن ما يحصل في جنوب لبنان لا يعنيها بشيء، فيما برزت الواقعة الثانية بعد تصعيد الاعتداءات الإسرائيلية في النصف الثاني من أيلول/سبتمبر الماضي، وتتمثّل بعدم استعداد الدولة اللبنانية للتصرّف كدولة، حتى في ظل تصعيد الحرب وتوسّعها إلى مناطق إضافية وخضوع أكثر من ربع مساحة لبنان لأوامر الإخلاء الإسرائيلية، إذ بدلاً من استخدام إيراداتها ومواردها المُتاحة بالطريقة الأمثل والأفضل لاحتواء الكوارث الإنسانية الناجمة عن الحرب، تنازلت عن مسؤولياتها إلى ما يُسمّى «المجتمع الدولي» والجهات المانحة ومنظّمات المجتمع المدني لتأمين بعضاً من الأموال اللازمة لإيواء النازحين وتأمين حاجاتهم وتطبيب الجرحى وغيرها من الأكلاف الطارئة التي تفرزها الحرب. 

طبعاً لا طائل من تكرار الحديث عن تقاعس الدولة في لبنان، إلّا لضرورة التأكيد مجدّداً على الحاجة إلى شكل آخر للدولة تكون مصالح السكان فيها هي الأولوية. وتثبت هذه الحاجة اليوم قبل أي وقت آخر. 

وبحسب البنك الدولي، نجحت الحكومة اللبنانية في زيادة إيراداتها في خلال العام 2023. ويعود ذلك إلى رفع سعر الصرف المعتمد في تقييم  الإيرادات الجمركية والضريبية من 15,000 إلى 89,500 ليرة لبنانية، فضلاً عن اتباعها سياسة تقشّفية حادّة قيّدت النفقات العامّة، وقد اشتدّت هذه السياسة منذ تموز/يوليو 2023 حين توقّف المصرف المركزي عن تمويل الموازنة ما حدّ النفقات العامة إلى أبعد حدود. والواقع أنفقت الحكومة اللبنانية في ذلك العام نحو 2.65 مليار دولار فيما جبت إيرادات بقيمة 2,75 مليار دولار، لتحقّق في النهاية فائضاً مالياً بقيمة 100.4 مليون دولار، أي ما يساوي نحو 0.5% من الناتج المحلي الإجمالي وفق تقديرات البنك الدولي لهذا الناتج في العام 2023.

أما في العام 2024، فقد توقعت الموازنة العامة، التي صدّق البرلمان عليها في شباط/فبراير 2024، تحقيق عجز مالي صفري، مع جباية إيرادات بما يوازي النفقات المقدّرة لهذا العام، والتي تساوي نحو 13.6% من الناتج المحلي الإجمالي بناءً على تقديرات الناتج المحلي الإجمالي للبنك الدولي لعام 2024. لكن بحسب البنك الدولي، فمن المتوقع أن تتجاوز الإيرادات العامة في نهاية العام 2024 تقديرات الموازنة وأن تصل إلى حوالي 15% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما يساوي 3.8 مليار دولار، ويعيد البنك الدولي الأمر إلى تحسّن معدّلات تحصيل الضرائب في النصف الأول من العام 2024. بالتوازي، يتوقّع البنك الدولي أن تبقى النفقات العامة أقل من الإيرادات على الرغم من استمرار الحرب، وأن تبلغ 14.8%من مجمل الناتج المحلي، وهو ما يساوي 3.75 مليار دولار، ليسجّل في الحصيلة فائضاً مالياً بقيمة 50.4 مليار دولار (0.2% من الناتج المحلي الإجمالي). مع العلم أن النفقات العامة لا تحتسب المتأخرات المتراكمة على الدولة، ومن ضمنها الفواتير المتأخرة لصالح بعض الوزارات والمؤسسات العامة، والمتأخرات المستحقة للمنظّمات الثنائية والمتعدّدة الأطراف، وأخيراً مستحقات استيراد الفيول العراقي، وهو ما يمكن اعتباره نفقات مؤجّلة على عاتق الحكومة اللبنانية أو بمعنى آخر ديناً مترتباً عليها.