صمود الاقتصاد الإيراني ونقاط ضعفه
حين شنّت إسرائيل هجومها على إيران في 13 حزيران/يونيو من هذا العام، كان هدفها المعلن - متذرّعة بـ«حقّها في الدفاع عن النفس» - القضاء على البرنامج النووي الإيراني. لكنها في الواقع، استهدفت مواقع عسكرية وغير عسكرية على حدّ سواء، شملت مستشفيات ومحطّات تلفزيونية وسجون ومبانٍ سكنية مدنية والبنية التحتية الأساسية للطاقة. وبعد 9 أيام، كانت إسرائيل قد نجحت في جرّ واشنطن إلى الحرب؛ إذ سرعان ما نشرت الأخيرة أسطولاً من قاذفاتها الثقيلة طراز ب2، لتلقي مئات آلاف الأرطال من الذخائر. بلغ إجمالي عدد القتلى 1,060 شخصاً (40% منهم مدنيون) والإصابات قرابة 5,800.
تسبّب القصف على مدار 12 يوماً في أضرار جسيمة، لكن اقتصاد البلاد ظل سليماً إلى حدّ كبير؛ فلم يقتصر الأمر على بقاء الإمداد المحلّي للسلع والخدمات مستقرّاً إلى حدّ كبير (ما يشهد لقدرات الإنتاج المحلّية للبلاد، والتكافل الشعبي، وفعالية التدخّلات الحكومية)، بل تبدو أيضاً العواقب طويلة الأجل ضئيلة حتى الآن. لقد دفع العزل والعقوبات الدولية لسنوات إيران إلى هيكلة اقتصادها بطريقة تعزله عن التأثيرات الخارجية. لكن على الرغم من بقائه عرضة لمزيد من التعطيل، أثبت الاقتصاد الإيراني حتّى الآن مرونته. فما الذي يفسّر هذه القدرة على التعافي؟
التكافل واللامركزية
في المقام الأول، تُعزى مرونة إيران في مواجهة الاعتداء الإسرائيلي إلى حدّ كبير إلى الجهود الشعبية لأبنائها الذين تداعوا إلى المحافظة على دوران عجلة الاقتصاد وسط القصف. تعهّد مديرو المصانع والعمّال بالحفاظ على سير العمليات. أكدّ أحد المديرين: «حياة عمّالنا أولوية. الإنتاج مستمر، ولكن نقدّم الحيطة وسلامة الإنسان على كلّ اعتبار». وكان لسائقي الشاحنات دور هام في نقل البضائع والحفاظ على رفوف المتاجر ممتلئة، والجدير بالذكر أنّ هؤلاء أنهوا إضراباتهم مؤخراً.
في الكثير من الأحياء، فرض أصحاب المتاجر تقنيناً طوعياً على السلع الأساسية بهدف كبح الاحتكار وضمان التوزيع العادل. وذهب بعض التجار إلى أبعد من ذلك، فباعوا سلعاً أساسية معينة بسعر الكلفة، وعلّقوا لافتات على واجهات متاجرهم تعلن: «البضائع تُباع بسعر الكلفة!». وقد ساهمت هذه المبادرات المجتمعية، مقترنة بانخفاض الاستهلاك، في تحقيق استقرار الأسواق.
علاوة على ذلك، يكمن مفتاح الصمود الاقتصادي لإيران في واقع لا مركزيته. إذ تهيمن عليه المؤسسات الصغيرة والمتوسطة والمنتجون غير الرسميين. تنتشر أكثر من 500 منطقة صناعية في جميع أنحاء البلاد، تضم آلاف المؤسسات الصغيرة والمتوسطة تشكِّل مجتمعةً العمود الفقري للإنتاج المحلي. ويسمح هذا التوزيع الجغرافي الواسع للصناعة (تعكسه شبكات موزّعة بالمثل من المتاجر الصغيرة وقنوات التوزيع على مستوى دقيق) باستمرار تدفق السلع والخدمات حتى في أوقات الأزمات. حين تتعطل منطقة أو مورد، يمكن للكثير من الأطراف الأخرى مواصلة العمل، ما يمنع حدوث انهيار كامل في الإمدادات. وعلى الرغم من أنّ هذه اللامركزية قد تضحي ببعض الكفاءة، فإنّها توفر المرونة من خلال إزالة نقاط الفشل الفردية في النظام الاقتصادي للأمة.
الاعتماد على الذات في ظل العقوبات
من الركائز الأخرى لصمود إيران في زمن الحرب قاعدتها الصناعية المعتمدة على الذات المبنية على مدى عقود من العقوبات وسياسات إحلال الواردات. ففي أعقاب ثورة 1979، أصبح «الاكتفاء الذاتي» مبدأً اقتصادياً موجهاً. وقد عزّز نظام العقوبات الذي تقوده الولايات المتحدة منذ عقود - والذي بدأ في وقت مبكر من العام 1996 بموجب قانون العقوبات على إيران وليبيا - التزام الحكومة بهذا الاكتفاء الذاتي، ومعه، تأسيس قاعدة صناعية متنوعة. تنتج المصانع الإيرانية اليوم مجموعة واسعة من المنتجات تشمل الأغذية، والأدوية، والمنسوجات، والأجهزة المنزلية، والسيارات. وعلى الرغم من افتقار هذه الصناعات عموماً إلى القدرة التنافسية العالمية وتلبيتها السوق المحلية بالكامل تقريباً، فقد أثبتت قدرتها على تلبية الطلب المحلي أهميتها القصوى لصمود اقتصاد البلاد.
مع مرور الوقت، تعمَّق هذا التوجّه الداخلي. لمّا كانت إدارة أوباما تُشدّد العقوبات على طهران في العام 2010، أعلن المرشد الأعلى مجموعة من السياسات أسماها اقتصاد المقاومة؛ شجّعت على الإنتاج المحلي وسعت إلى تقليل الاعتماد على الواردات. كان التنفيذ محدوداً في البداية، ولكن حين انسحبت إدارة ترامب من الاتفاق النووي في 2018 وأعادت فرض العقوبات، ردّت إيران بحزم. فحظرت استيراد أكثر من 1,300 سلعة بهدف الحفاظ على احتياطيات العملة الصعبة وتشجيع المنتجين المحلّيين على زيادة التوطين وتقليل الاعتماد على الشركاء الأجانب. وجاءت تهديدات ترامب بالعقوبات الثانوية لتدفع الكثير من الشركات الأجنبية إلى مغادرة البلاد، لتسلّم الشركات المحلية حصّةً أكبر بكثير من سوق تضم 90 مليون مستهلك. اغتنم المنتجون المحليون - كان بعضهم في السابق لاعبين ثانويين أو مجرد مقاولي تجميع - هذه الفرصة لتوسيع إنتاجهم وتوطين الأجزاء المستوردة.
سرعان ما أثمرت هذه الحمائية القسرية نتائج ملموسة في صناعات شتى. فلنأخذ قطاع الملابس مثالاً: ذكرت صحيفة فرهيختغان الوطنية أنّ 28 علامة تجارية أجنبية نشطت قبل العام 2018 في سوق التجزئة الإيراني - من بينها سلسلة تركية شهيرة لديها 14 متجراً في طهران وحدها. وبعد أن أخرجت العقوبات هذه العلامات التجارية، سارعت العلامات المحلية لملء الفراغ. وبرز مصنّعون محلّيون جدد، ووسعت الشركات القائمة نطاقها بسرعة، فافتتحت عشرات المنافذ في جميع أنحاء البلاد. بل إن بعضها افتتح أكثر من 50 فرعاً، في توسّع لم يشهده قطاع التجزئة الإيراني من قبل.
مثال آخر الأجهزة المنزلية. هيمنت على السوق الإيرانية في السابق الإلكترونيات الكورية المستوردة، لكن شهد هذا القطاع أيضاً اكتساب الشركات المحلية حصة أكبر بكثير - بنسبة 80% منذ العام 2018. ينتج المصنعون الإيرانيون الآن أكثر من 20 مليون جهاز سنوياً، بدءاً من السلع البيضاء وصولاً إلى الأجهزة الصغيرة، في محاولة لتلبية الطلب المحلي (على الرغم من استمرار اعتماد المنتجين على المكونات المستوردة للإلكترونيات المتقدمة مثل الأجهزة التلفزيونية). وقد أثار الانتشار السريع للكثير من العلامات التجارية المحلية الصغيرة في هذا المجال مخاوف بشأن جودة المنتجات والافتقار إلى الحجم الاقتصادي. فهيكل السوق ذاته الذي يتسم باللامركزية والمنافسة الشديدة، والذي يعزّز المرونة، من شأنه أن يعيق الكفاءة والتقدم التكنولوجي على المدى الطويل.
في البداية، عانت صناعة السيارات - حجر الزاوية في قطاع التصنيع الإيراني - أكثر من معظم القطاعات الأخرى من صدمة العقوبات في العام 2018. فقد تراجع الإنتاج السنوي للسيارات من 1.5 مليون مركبة في 2017 إلى أقل من 800 ألف مركبة في 2018، وذلك مع انسحاب الشركاء الأجانب وشحّ المكوّنات المستوردة الحيوية. (بل إنّ أكثر من نصف السيارات المنتجة في العام 2018 تُرِكت غير مكتملة على خطوط التجميع بسبب نقص القطع). لكن على مدى السنوات القليلة التالية، أعاد صانعو السيارات الإيرانيون بناء قدراتهم ببطء من خلال تطوير بدائل محلية للقطع الأساسية وإعادة تنظيم سلاسل الإمداد. وبحلول أوائل العام 2020، انتعش إنتاج السيارات المحلي ليصل إلى ما يقرب من مليون وحدة سنوياً - وهو لا يزال أقل من الذروة التي سبقت العقوبات، ولكنه شهادة على التعافي التكيفي للصناعة في ظل العزلة.
تدخل الدولة والاستقرار الاقتصادي الكلي
اتخذت الحكومة الإيرانية إجراءات طوارئ أساسية وفعالة - على الرغم من كل أوجه قصورها - ساعدت في الحفاظ على الاستقرار. فمع عقود من الخبرة في إدارة العقوبات وتوزيع السلع (إرث يعود إلى حقبة الحرب الإيرانية-العراقية)، استغلت الحكومة بنيتها التحتية القائمة لضمان توافر الضروريات. عُزّز الإنتاج المحلي وقنوات التوزيع، وظلت الدوائر الحكومية تعمل، بما في ذلك مكاتب الحدود والجمارك. كما ضمنت إدارة الجمارك الإيرانية بقاء الحدود البرية مفتوحة واستمرار الواردات والصادرات بشكل طبيعي.
وهذا يعني أنّه، على الرغم من الاضطراب القائم، ظلّت الأسعار الأساسية مستقرة نسبياً على المدى القصير. فقد سجّل مؤشر أسعار المستهلك في إيران لشهر تموز/يوليو (شمل الأيام الأخيرة من القتال) ارتفاعاً بنسبة 3.5% مقارنة بالشهر السابق، أي بزيادة طفيفة عن معدل التضخم الشهري البالغ 3.3% في حزيران/يونيو قبل اندلاع الحرب. وبعبارة أخرى، لم تؤدِّ الحرب بحدّ ذاتها إلى قفزة حادّة في أسعار السلع الاستهلاكية اليومية.
لا بد من فهم هذا الأثر المحدود نسبياً على الأسعار في سياقه الأوسع؛ إذ تواجه إيران تضخماً مزمناً يقارب 40% سنوياً، ناجم عن العقوبات والعجز المالي. ولم تفلح السياسة النقدية المتشددة من المصرف المركزي وحدها في كبح هذه الضغوط السعرية. كما تبيّن أنّ خفض الإنفاق الحكومي خفضاً ملموساً أمر بالغ الصعوبة سياسياً في ظل العقوبات، ما حدّ من فاعلية السياسات المناهضة للتضخم. وهكذا، فعلى الرغم من أنّ الإجراءات الطارئة نجحت في احتواء التضخم زمن الحرب، فإنّ التحدي الجوهري المتمثّل في تحقيق استقرار اقتصادي مستدام ما زال قائماً.
نقاط الضعف
يبقى الاقتصاد الإيراني، على ما يُظهره من قدرة على الصمود، عرضةً للمخاطر. فإيران ليست مكتفيةً ذاتياً تماماً؛ إذ ما تزال تعتمد على الاستيراد لتأمين بعض السلع عالية التقنية والأدوية. وقد استهدفت إسرائيل عدداً من المرافق الطبية المدنية في أنحاء البلاد، من بينها مستشفى الحكيم للأطفال في طهران، ومستشفى الفارابي في كرمنشاه، ومركز قصر شيرين للرعاية الاجتماعية، ومركز جمعية الهلال الأحمر في طهران، في انتهاكٍ صريحٍ للقانون الإنساني الدولي الذي يكفل الحماية للبنى الصحية حتى في أوقات النزاع. ومع تزايد أعداد الجرحى واضطراب واردات الأدوية، تعرّض النظام الصحي الإيراني لضغطٍ شديد ومتنامٍ.
كما تُهدّد الغارات الإسرائيلية الموجَّهة على المدن الصناعية والمعامل، إلى جانب الهجمات السيبرانية على البنية التحتية المصرفية، استقرارَ الاقتصاد الإيراني على نحوٍ أعمق. فقد تعرّض مصرفان إيرانيان كبيران، هما سبه وباسارغاد، لاختراقات إلكترونية عطّلت مؤقتاً خدماتهما عبر الإنترنت ومنعت المتعاملين من الوصول إلى حساباتهم. ورغم استعادة المصرفين نشاطهما لاحقاً، فإنّ هذه الهجمات تندرج في إطار مسعى منسَّق يستهدف تقويض مظاهر الحياة اليومية وإشعال اضطرابٍ اجتماعي.
وبالإضافة إلى ما سبق، يواجه الاقتصاد الإيراني في مجمله توابعَ أشد إيلاماً تتمثّل في تراجع الطلب الاستهلاكي. فقد قلّصت كثير من الأسر إنفاقها أثناء النزاع، حذراً من المجهول وتحت وطأة اضطراب الحياة اليومية. وتشير التقارير إلى أنّ إيران تدخل شهرها الثامن عشر من الركود الاقتصادي، وهو ما يُنذر بأنّ استمرار هذا الجمود في الطلب سيقوّض عائدات الأعمال ويصعِّب على المصانع مواصلة الإنتاج بطاقتها الكاملة. وإذا طال أمد البلبلة أو تجددت المناوشات، فقد تنحدر بعض الشركات إلى خسائر لا تُحتمل. ومن أجل درء موجة إفلاسات وتسريحات واسعة، دعا عدد من الاقتصاديين الحكومة إلى إقرار حزمة طوارئ مالية، على غرار برامج الدعم إبّان جائحة كوفيد-19، لتُعين الأسر الهشّة والمؤسسات الصغيرة على تجاوز ركود ما بعد الحرب.
أرغمت الأزمة الحكومة على إعادة ترتيب أولوياتها الاقتصادية. إذ علّق وزير الاقتصاد الإيراني الجديد، سيد علي مدني زاده، عملياً أجندته الإصلاحية بعيدة المدى، ليتفرّغ لمعالجة الاستقرار العاجل. وقد آثر إذ أُنيطت به مهمّة كبح التضخّم وحماية سلاسل الإمداد في خضمّ الاضطراب المعالجات البراغماتية على التحوّلات البنيوية الكبرى. وأشار إلى أنّه بفضل «إجراءات خاصة وتنسيق بين الهيئات»، بلغ حجم الواردات الأساسية خلال أسبوع 14 إلى 20 حزيران نحو 980 ألف طن، أي بزيادة 53% عن الأسبوع السابق، ما ضمن توفّر الغذاء والسلع الضرورية رغم النزاع. وتُبرز هذه الجهود أنّ الحفاظ على صمود الاقتصاد غدا الهدف الأسمى، متقدّماً مؤقتاً على سائر أهداف التنمية.
نظرة مستقبلية
مع أواخر حزيران/يونيو، أسدل وقف إطلاق النار ستار القتال، فبدأ الاقتصاد يشقّ طريقه نحو التعافي. عاد السكان الفارون من المدن الكبرى على دفعات، واستعادت طهران - القلب التجاري للبلاد - شيئاً من نبضها في الأسواق والمكاتب والمصانع. وأعلنت الحكومة حزمَ تعويض للمؤسسات والأفراد، شملت تأجيل سداد القروض والضرائب. ورغم تمكّن بعض المنشآت من الاستفادة من هذه الحزم، فإنّ كثيراً من أموالها علقت في دهاليز البيروقراطية، فخفّ أثر المبادرة. وما زال المسؤولون يضعون الخطط لتأمين السلع الحيوية في حال تجدّد المواجهات. تمتلك إيران في هذا السياق ميزة جغرافية واضحة، إذ تحدّها سبع دول براً، وتطلّ بحرياً على أكثر من ذلك، ما يتيح لها تنوّع الشركاء والمسارات التجارية. وإذا أحسنت استخدام هذه القنوات البديلة، فبإمكانها التقليل من وطأة أي حصار أو صدمة في الإمدادات مستقبلاً.
بيد أنّ المستقبل لا يزال غامضاً. فقد كشفت خسائر البلاد الهائلة في خلال هذا الصراع القصير عن حاجةٍ ملحّة إلى سلامٍ مستدامٍ وإصلاحاتٍ هيكلية تعالج مواطن الضعف التي عرّتها الحرب. وعلى الرغم من إظهار الاقتصاد الإيراني صموداً يُحمد في وجه القصف الأخير، فإنّ النهوض الحقيقي الذي يفتح أمامه آفاق الازدهار لن يتحقّق بمجرد إسكات المدافع، بل بإنهاء الحرب الاقتصادية التي تشنّها عليه بالعقوبات كلٌ من الولايات المتحدة وأوروبا وسواهما.
نُشِر هذا المقال في 24 تشرين الأول/أكتوبر 2025 في Phenomenal World، وتُرجِم إلى العربية ونُشِر في موقع «صفر» بموجب اتفاق مع الجهة الناشرة.