معاينة archive map

الجنوب العالمي وصياغة النظام ما بعد الغربي
العقوبات شكلٌ جديد من الحرب الحضارية

يصف القادة الغربيون العقوبات الاقتصادية على أنها أدوات سلمية للدبلوماسية، بديل ناعم عن الحرب. لكن الواقع يكشف أنّها غدت من أكثر الأسلحة تدميراً في الجغرافيا السياسية الحديثة. فهي لا تُوجَّه ضدّ الحكومات أو النخب وحدها، بل تطال حياة الشعوب اليومية، إذ تحرمها من الدواء والغذاء والموارد المالية والتجارة. بهذه الطريقة، تؤدّي العقوبات وظيفة السلاح الجماعي للعقاب. وبعيداً من صورتها كأدوات محايدة في القانون الدولي، باتت تُمارَس بوصفها حرباً حضارية، أي وسيلة تستخدمها القوى الغربية لفرض الانصياع الأيديولوجي ولقمع كلّ مقاومة لتفوّقها العالمي.

يكشف تاريخ العقوبات عن امتدادها لجذور أعمق في ممارسات الإكراه الاستعمارية، إذ كثيراً ما استخدمت القوى الاستعمارية الحصار الاقتصادي لتجويع الشعوب وإخضاعها. فقد تسبب الحصار البريطاني على ألمانيا في خلال الحرب العالمية الأولى في مجاعة كبرى، في حين كان الحظر الأميركي المفروض على كوبا منذ العام 1960 يهدف إلى معاقبة دولة أعلنت استقلالها السياسي. منذ نهاية الحرب الباردة، أصبحت العقوبات أداة رئيسة في السياسة الخارجية الأميركية. فقد فُرضت على العراق وإيران وفنزويلا وروسيا، وكانت النتائج واحدة: تدهور العملات وتقلّص الاقتصادات ونقص السلع وتزايد الفقر. وعلى الرغم من تبرير العقوبات بشعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان، فإنّها تضرّ بالمدنيين أكثر من الأنظمة، بل تعزّز النزعة السلطوية داخل الدول المعاقَبة.

تؤدّي العقوبات وظيفة السلاح الجماعي للعقاب. وبعيداً من صورتها كأدوات محايدة في القانون الدولي، باتت تُمارَس بوصفها حرباً حضارية، أي وسيلة تستخدمها القوى الغربية لفرض الانصياع الأيديولوجي ولقمع كلّ مقاومة لتفوّقها العالمي

يبرز المنطق الحضاري للعقوبات في أوضح صوره في غزّة، حيث تفرض إسرائيل منذ أكثر من 15 عاماً، بدعم من الحكومات الغربية، حصاراً شاملاً يقيّد تدفّق الطاقة والوقود والمواد الغذائية والإمدادات الطبية إلى أكثر من مليوني فلسطيني. لا يهدف هذا الحصار إلى تغيير سياسة حكومة في المعنى الضيّق، بل يرمي إلى كسر إرادة شعب بأكمله، وجعل الحياة الجماعية غير محتملة، وترسيخ فكرة أنّ فئات بشرية يمكن حرمانها من الكرامة وسبل البقاء من دون عواقب.

هذه هي ماهية الحرب الحضارية: تقرير أيّ المجتمعات تُعتبَر مشروعة، وأيّها يُحكَم عليه بالاحتواء والحرمان والتدمير البطيء.

ومع ذلك، فالصورة أعقد من مجرّد انقسام بسيط بين الغرب والجنوب العالمي. فروسيا مثلاً لا تنتمي إلى الجنوب العالمي، بل سعت في مطلع الألفية الجديدة إلى شراكة مع الغرب. لكن عندما أُغلِق ذلك الباب، بدأت موسكو تدريجياً تعيد تعريف نفسها كقوّة تناهض الهيمنة الغربية. لم تتحمّل روسيا والصين الكلفة التي دفعتها دول مثل إيران أو قوى المقاومة الأخرى دفاعاً عن تعدّد الأقطاب، غير أنّ الحرب في أوكرانيا دفعت بروسيا إلى واجهة الصدام مع الهيمنة الغربية.

تفتح غزّة نافذة على جانب آخر من المشهد. فبينما تواصل الحكومات الغربية انحيازها لإسرائيل، يسير الرأي العام الأوروبي في اتجاه مغاير. خرجت منذ اندلاع الحرب في تشرين الأول/أكتوبر 2023 تظاهرات غاضبة عمّت العواصم الأوروبية، وتزايدت الاحتجاجات الأخلاقية إلى حدّ دفع بعض الحكومات إلى استقالات وزارية كما حدث في هولندا. لا يعني ذلك أنّ هناك استراتيجية رسمية منسّقة ضدّ إسرائيل، لكنّه يكشف أنّ العقوبات والحصارات باتت تصطدم أكثر فأكثر بضمير إنساني عالمي يرفض منطق التجويع والعقاب الجماعي.

إلى جانب الحكومات، أدّى المجتمع المدني دوراً من خلال حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS)، الهادفة إلى زيادة الكلفة الاقتصادية والثقافية على إسرائيل. تختلف هذه المقاطعة عن العقوبات الرسمية، إذ تمثّل شكلاً من العقوبات المضادة التي تمكّن الشعوب الضعيفة من محاسبة القوى المهيمنة. ويُظهر انتشارها عالمياً أنّ العقوبات يمكن أن تكون أيضاً أداة للمقاومة، لا وسيلة للسيطرة فحسب.

على الرغم من تبرير العقوبات بشعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان، فإنّها تضرّ بالمدنيين أكثر من الأنظمة، بل تعزّز النزعة السلطوية داخل الدول المعاقَبة

تكشّفت تناقضات نظام العقوبات أيضاً في عهد ترامب، حين دعت بعض الأصوات التقدّمية إلى فرض عقوبات على الولايات المتحدة نفسها. والمفارقة هنا بالغة الدلالة: باتت واشنطن، التي طالما قدّمت نفسها بوصفها حامية المبادئ الليبرالية وجاذبة للمنشقّين عن المعسكر السوفياتي، تُتّهم اليوم بتقويض تلك المبادئ ذاتها. فقد شكّل جدار ترامب على الحدود المكسيكية، ومقاربته الأيديولوجية في السياسة الخارجية، انحرافاً عن العالمية التي وعدت بها الليبرالية. وفي المقابل، تبدو الصين، على الرغم من سلطويتها الداخلية، وكأنّها تصوغ علاقاتها الخارجية بمنطق التجارة والتعاون البراغماتي، أقرب في الممارسة إلى رؤية آدم سميث الليبرالية منها إلى النهج الإقصائي المتزايد لواشنطن. تُظهر هذه المفارقات أنّ أزمة الليبرالية ليست خارج الغرب فحسب، بل تنبع من داخله أيضاً.

تُعرّي العقوبات تناقضات النظام الليبرالي العالمي. تقدّم الليبرالية نفسها حارسة للحقوق الكونية وحرية الأسواق ومبدأ المساواة بين البشر. غير أنّ العقوبات تكشف الطابع الانتقائي والإقصائي الكامن في هذا الخطاب. فعندما تستطيع الولايات المتحدة أن تجمّد احتياطات أفغانستان المالية من جانبٍ واحد، أو أن تصادر عائدات النفط الفنزويلية، أو أن تعزل المصارف الإيرانية عن النظام المالي العالمي، يتّضح أن التمويل الدولي ليس ساحة محايدة، بل سلاح بيد الأقوياء ضد الأضعف، يُبرَّر بلغة الشرعية، لكنه يعمل كأداة للهيمنة. ينهار عند هذه النقطة الادّعاء الليبرالي بالعالمية حين تُدفَع شعوبٌ بأكملها إلى الفقر الممنهج باسم تلك العالمية نفسها.

في مفارقةٍ واضحة، تُعجِّل العقوبات بالتحوّلات نفسها التي يُفترض أن تمنعها. فبدل أن تُكرّس الهيمنة الغربية، تُسهم في تسريع تراجعها. إذ بدأت دولاً كثيرة في الجنوب العالمي، بعد استبعادها من الشبكات الماليّة المرتبطة بالدولار، تتّجه إلى بدائل جديدة. يعبّر توسّع مجموعة البريكس وتصاعد نفوذ منظمة شنغهاي للتعاون وظهور أشكال متجدّدة من التعاون بين دول الجنوب، عن سعي واضح لتقليص الارتهان للأنظمة الخاضعة للغرب.

تُعرّي العقوبات تناقضات النظام الليبرالي العالمي. تقدّم الليبرالية نفسها حارسة للحقوق الكونية وحرية الأسواق ومبدأ المساواة بين البشر. غير أنّ العقوبات تكشف الطابع الانتقائي والإقصائي الكامن في هذا الخطاب

تتزايد المبادلات بين روسيا والصين بعملاتهما الوطنيّة، وانضمّت إيران إلى منظمة شنغهاي، فيما بدأت دولٌ طالما ارتبطت بالغرب، مثل السعودية، تبحث عن شراكات جديدة. لا تعبّر هذه التحوّلات عن تكتيك ظرفي فحسب، بل عن رفض أعمق لافتراض قديم مفاده أنّ الغرب وحده من يضع قواعد النظام العالمي.

يؤدّي منطق الحرب الحضارية إلى نشوء مقاومة من الطبيعة نفسها. فدول الجنوب العالمي، على اختلاف خلفيّاتها، يجمعها شعور بالتهميش والضغط المستمر. وقد أسهمت العقوبات الاقتصادية، التي تستهدف بنى هذه المجتمعات، في تعزيز أشكال من التضامن الدولي وفي بلورة تصوّر لنظام عالمي متعدّد الأقطاب لا يحتكر فيه طرف واحد الشرعية أو النفوذ.

وعلى الرغم من أنّ شكل هذا النظام الجديد لم يتبلور بعد، فإنّ صعوده يبيّن أنّ الإكراه يفتح الطريق أمام البدائل. فكلّما زاد اعتماد الغرب على سلاح العقوبات، ازداد سعي الدول الأخرى إلى ابتكار تحالفات وأدوات مالية وسياسية جديدة.

لا يعني ذلك أنّ النظام ما بعد الغربي سيكون خالياً من التناقضات أو اللامساواة، فـتعدّد الأقطاب لا يضمن العدالة تلقائياً. لكنّه يشكّل مع ذلك تحوّلاً جذرياً: اعترافاً بأنّ احتكار الغرب لوضع المعايير وفرض الانصياع لها بدأ يتآكل.

لقد أظهرت العقوبات، التي صُمِّمت لإخضاع الدول المتمرّدة، هشاشة القيادة الغربية وحدود خطابها الأيديولوجي. فهي تكشف نظاماً مستعداً للتضحية بكرامة الإنسان في سبيل مكاسب جيوسياسية. وفي هذا بالذات، تقوّي عزيمة أولئك الذين يسعون إلى طريقٍ مغاير.

تمثّل العقوبات اليوم ساحة المعركة التي تتواجه فيها الحضارات من دون حرب مفتوحة. فهي تسلّح الاقتصاد لفرض تراتبية للقيمة، تحدّد من يُسمح له بالازدهار ومن يُدفَع إلى التهميش والانكماش

تمثّل العقوبات اليوم ساحة المعركة التي تتواجه فيها الحضارات من دون حرب مفتوحة. فهي تسلّح الاقتصاد لفرض تراتبية للقيمة، تحدّد من يُسمح له بالازدهار ومن يُدفَع إلى التهميش والانكماش. غير أنّ في هذا العنف نفسه تكمن بذور التحوّل. إذ إنّ العقوبات، بكشفها تناقضات الليبرالية وإجبارها الجنوب العالمي على تخيّل بدائل جديدة، قد تُسهم في نهاية المطاف في ولادة نظام عالمي جديد.

إنّ النضال ضدّ العقوبات لا يتعلّق فقط بالسيادة أو البقاء، بل بإعادة تعريف مبادئ العدالة والتعايش في عالمٍ متعدّد الأقطاب. وعلى الرغم من أنّ مآل هذا الصراع ما يزال غامضاً، إلّا أنّ حقيقة واحدة أصبحت جليّة: إنّ الحرب الحضارية عبر العقوبات لا يمكنها أن تُخمد إلى الأبد تطلّع الشعوب إلى الكرامة والاستقلال ومستقبل يتجاوز الهيمنة الغربية.

نُشِر هذا المقال في 15 أيلول/سبتمبر 2025 في Foreign Policy in Focus، وتُرجِم إلى العربية ونُشِر في موقع «صفر» بموافقة مسبقة من الجهة الناشرة.