Preview 5 اساطير

5 أوهام عن الاستيراد وتعافي الاقتصاد

وفق إحصاءات إدارة الجمارك اللبنانية، ساهمت الأزمة الاقتصادية في لبنان بانخفاض قيمة الواردات السلعية من 19.9 مليار دولار إلى 11.3 مليار بين عامي 2018 و2020، وهو انخفاض كبير بنسبة 30%. إلا أنها عادت وارتفعت قليلاً إلى 13.6 مليار دولار في العام 2021، وقفزت الى 19 مليار دولار في العام 2022 لتلامس مستويات ما قبل الأزمة، ثم انخفضت قليلاً إلى 17.5 مليار دولار في العام 2023.  

مع ذلك، لا يزال الإنفاق على الواردات مرتفعاً، لا سيما أن قيمة الصادرات السلعية اللبنانية بقيت متواضعة جدّاً على الرغم من انهيار سعر الصرف بنسبة 98%. وبلغت نحو 2.9 مليار دولار فقط في العام 2023، ما أدّى إلى عجز في تجارة السلع بقيمة 14.5 مليار دولار، أي ما يوازي ثلثي الناتج المحلي الإجمالي تقريباً.

يدّعي البعض أن ارتفاع قيمة الواردات السلعية في عامي 2022 و2023 هو مؤشّر على تعافي الاقتصاد اللبناني وعودة الاستهلاك إلى ما كان عليه قبل انفجار الأزمة في العام 2019. ولكن هل هذا صحيح؟ 

1. ارتفاع أسعار الواردات وانخفاض الكميات

صحيح أن الواردات السلعية ارتفعت قيمتها في العامين الماضيين، إلا أن كمّياتها انخفضت، فأوزان الواردات في العام 2023 باتت أقل بنسبة 40% عمّا كانت عليه في العام 2019. وهذا المؤشر، أي انخفاض الكميات المستوردة، يعكس تقديرات البنك الدولي الأخيرة عن انخفاض الاستهلاك الأسري في لبنان بنسبة 32% في السنوات الأخيرة، وبالتالي يدحض أسطورة التعافي من الأزمة، التي تستند بدورها إلى أسطورة قديمة تعتبر أن محرّك النمو الاقتصادي في لبنان هو الاستهلاك وليس الإنتاج، وبالتالي تربط بين زيادة الاستيراد ونمو الناتج المحلي.

يمكن تفسير ارتفاع قيمة الواردات في مقابل انخفاض كمّياتها بجملة من العوامل، منها تضخم الأسعار في بلدان المنشأ وأسواق السلع العالمية. ولكن معدّلات «التضخم المستورد» لا يبرّر ارتفاع متوسط سعر استيراد الطن الواحد بنسبة 96.8%، أي الضعف بين عامي 2020 و2022، من 839 دولاراً في العام 2020 إلى 1,651 دولاراً في العام 2022. وفي العام 2023 انخفض متوسط سعر الطن المستورد قليلاً إلى 1,489 دولاراً، ولكنه لا يزال أعلى بنسبة 77.5% مما كان عليه في العام 2020، وأعلى بنسبة 50% عمّا كان عليه في العام 2019 ( 994 دولاراً). 

هناك اعتقاد شائع في لبنان أن الاستيراد كان أحد قنوات تهريب الأموال إلى الخارج عقب انهيار الليرة وتوقف المصارف عن الدفع والتحويل، وهذا إذا كان صحيحاً قد يفسّر جزءاً من ارتفاع سعر الواردات، ولكن إمعان النظر في تغيّرات بنية الاستيراد، أو أصناف الواردات، يفسّر الجزء الأكبر من تغيرّات السعر، إذ ارتفعت حصّة المشتقات النفطية إلى 27% من مجمل الواردات في العام 2023، وهي سلع استهلاكية غير مرنة تُستهلك في إنتاج الطاقة والنقل، وكذلك تضاعفت حصّة الذهب والأحجار الكريمة إلى 15% من مجمل الواردات، وهي سلع يتم استعمالها لحفظ قيمة الأموال بدلاً من الإيداعات والاستثمارات. وبات هذين الصنفين من الواردات يمثلان وحدها نحو 42% من مجمل الواردات. وبالتالي، إذا استثنينا هذين الصنفين ستتراجع قيمة الوارادات من 11.7 مليار دولار في العام 2019 إلى 10.3 مليار دولار في العام 2023، أي أن استيراد السلع الاستهلاكية والسلع الوسيطة والمواد الخام انخفض بالقيمة والكمية.

انخفاض الكمّيات المستوردة بنسبة 39% بين عامي 2019 و2023

2. تخفيض سعر الليرة لم يزد الصادرات

يفترض التيار السائد في الاقتصاد أن انخفاض سعر العملة المحلية يحفّز صادرات البلد، إذ يؤدي إلى تخفيض كلفة الإنتاج وزيادة القدرة التنافسية للمصدّرين في الأسواق الخارجية. في الحالة اللبنانية، أدّى انهيار الليرة بنسبة 98% منذ العام 2019 إلى خفض الأجور الحقيقية وخفض أعباء الديون ولكنه لم يزد قيمة الصادرات، إذ بلغت 2.9 مليار دولار، وهو المستوى نفسه في العام 2018 قبل الانهيار، على الرغم من ارتفاعها قليلاً عن هذا المستوى في الأعوام بين 2019 و2022.

تبيّن دراسة أجراها بنك التسويات الدولية أن تخفيض قيمة العملة لا ينتج منه «تعافي» الصادرات دائماً، ولا سيما في البلدان التي تعتمد على الدولار في عملياتها التجارية. فضعف العملة المحلية يؤدّي إلى زيادة كلفة الواردات، بما في ذلك أسعار المواد الخام والسلع الوسيطة التي تحتاج إليها الصناعة والزراعة، كما أن ارتفاع سعر الدولار إزاء العملة المحلية يرفع كلفة الوصول إليه. إضافةً إلى ذلك، يعتمد لبنان منذ فترة طويلة على السلع المستوردة لتلبية جزء كبير من احتياجاته، ما أدّى إلى تراجع الاستثمار في قطاعات الإنتاج المحلية، إذ بقيت الخدمات تاريخياً تساهم بأكثر من ثلاثة أرباع الناتج المحلي. إلا ان انكماش الناتج المحلي الإجمالي وارتفاع أسعار الواردات في السنوات الخمس الماضية ساهم في زيادة حصّة الزراعة من الناتج المحلي الإجمالي من نحو 3% عامي 2018 و2019 إلى 8% في العام 2021، وكذلك ارتفعت حصة الصناعة من نحو 10% إلى 20% في خلال الفترة نفسها، وفق الحسابات القومية الصادرة عن إدارة الإحصاء المركزي. 

هذا التحسّن في مساهمة الزراعة والصناعة نتج على الأرجح من عمليات التكيّف الاستهلاكي التي أجبرت الكثير من الأسر على استبدال السلع المستوردة بالسلع المنتجة محلياً، علماً أن تضخّم أسعار الاستيراد والإنتاج خفّضا معاً الاستهلاك الأسري، ويتبيّن من استقصاء سريع وعشوائي لبعض السلع في السويرماركت أن أسعار بعض السلع المنتجة محلياً أعلى من أسعار نظيرتها المستوردة، ما ساهم بإبقاء الطلب على الأخيرة.

المنتج المحلي أغلى من المنتج المستورد!

3. سياسة «اللاسياسة» في خدمة النموذج الاقتصادي المأزوم

لم تقدّم الحكومة اللبنانية الدعم للمنتجين المحليين، وفي حين تقدّم دول مثل فرنسا إعانات سنوية لمزارعيها لتعزيز القدرة التنافسية، ودعم الزراعة في البلاد، وتعزيز التنمية الريفية، فإن مثل هذه المبادرات لم تؤخذ بالاعتبار في لبنان. وغالباً ما تفرض الدول تعرفات جمركية على السلع المستوردة للحفاظ على قدرة المنتجات المحلية على المنافسة ومنحها ميزة في الأسواق المحلية. ولكن الدولة في لبنان لا تزال تتعرّض منذ فترة طويلة لانتقادات بسبب معدّلات الرسوم الجمركية المنخفضة إذ يدفع حوالي 83% من المستوردين رسوماً جمركية بنسبة 5% أو أقل، على الرغم من فرض ضريبة استيراد إضافية مؤخراً بنسبة 2%، وهي نسبة منخفضة نسبياً بالمقارنة مع معدلات التعرفة الجمركية التي تفرضها بلدان أخرى. 

لا يأتي «التعافي» من تلقاء نفسه، ولا شيء أفدح من ترداد عبارة أن «الأسواق تصحّح نفسها»، لأن ذلك سيعني أن أكثرية الناس الفقراء والضعفاء سيدفعون ثمن الأزمة. إن هيكل الاقتصاد اللبناني لم يجعل المنتجات المحلية أقل قدرة على المنافسة فحسب، بل جعل الأمر أكثر ملاءمة للشركات اللبنانية لإنتاج منتجاتها في الخارج حيث أن الوصول إلى المواد الخام الرخيصة يمكن أن يخفض تكاليف الإنتاج بشكل كبير، كما أن البنية التحتية والخدمات اللوجستية الأفضل المتاحة في الخارج تعزّز الكفاءة التشغيلية. ولذلك، تقوم العديد من الشركات اللبنانية بإنتاج منتجاتها في دول أجنبية وشحنها إلى لبنان، ما يزيد من الإنفاق على الواردات. 

4. البحث عن الذهب

انعدام الثقة في البنوك والنظام المصرفي دفع المدخرين للبحث عن طرق بديلة لتخزين القيمة، مثل شراء الذهب والفضة والمعادن الثمينة الأخرى والأحجار الكريمة. ويمكن ملاحظة أن الإنفاق على هذا الصنف من الواردات ارتفع من 931 مليون دولار في العام 2019 إلى 2.5 مليار دولار في العام 2023. ويمكن أن يفسر ذلك أيضاً ارتفاع متوسط سعر الطن من الواردات، إذ أن طن الذهب قيمته أعلى بكثير من طن مستوردات أخرى مثل الخضار مثلاً.

اللافت أن الذهب والأحجار الكريمة تمثّل أيضاً ربع الصادرات في العام 2023، علماً أن هذه الحصة ارتفعت إلى نحو 40% من قيمة الصادرات بين عامي 2019 و2020، ما يعني أن تهريب الأموال من لبنان في ظل الأزمة تم أيضا عبر التجارة بالمعادن الثمينة.

هذا الارتفاع في قيمة واردات الذهب وصادراته لا يعني أن الاقتصاد يتعافى، ولا يعني أن الاستهلاك عاد إلى مستواه كما يدعي البعض.

قفزة في أسعار اللؤلؤ والأحجار الكريمة والمعادن الثمينة والمصوغات

5. «تعافي» الفقر!

لنشرح مسألة مهمّة في سياق دحض أوهام «التعافي»، فإذا كان مستهلك ما يشتري كمية من البيض في العام 2017 في مقابل 4 دولارات، بات الآن يشتري ثلاثة أرباع الكمية في مقابل 6 دولارات، ما يشير إلى زيادة في السعر حتى مع استهلاك أقل.

السلع الغذائية الستوردة

وبحسب البنك الدولي، فإن واحداً من كل ثلاثة لبنانيين و44% من السكان يقعون تحت خط الفقر، ما يعني أن نصف السكان في لبنان عاجزين عن استهلاك حاجاتهم الاساسية. وبالنظر إلى «حركة الاستيراد والتصدير الشهرية من العام 2018 حتى العام 2023»، يتبيّن أن اللؤلؤ والمعادن الثمينة تشكل 14% من إجمالي الواردات. ما يعني أنه لا يتم استهلاك 17.5 مليار دولار من الاستيراد، ما يدحض الادعاء بأن الاستهلاك قد ارتفع منذ بداية الأزمة حتى الآن.

ووفقاً للبنك الدولي، فإن أولئك الذين لم يتأثروا بالأزمة هم أعلى 10% من السكان، وبالتالي فإن الادعاء بأن الاستهلاك قد ارتفع أو عاد إلى طبيعته لا ينطبق إلا على أعلى 10% من السكان وليس على 90% من باقي السكان.

تطور استيراد السلع غير الاستهلاكية في 2023

تحويل الثروة من الدائنين إلى المدينين

يشرح أستاذ الاقتصاد في الجامعة اللبنانية الأميركية، غسان ديبة، أن الأزمة تسبّبت في تحويل الثروة من الدائنين (البنوك بشكل رئيسي) إلى المدينين. ويوضح أنه في خلال فترات التضخّم، يستفيد المدينون لأن الفائدة التي يدفعونها على قروضهم أقل فعلياً من سعر الفائدة الحقيقي، إذ يتجاوز التضخّم سعر الفائدة الاسمي. ثم يربط ذلك بحالة لبنان، حيث قام المدينون بتسوية الالتزامات المتضخمة بالليرة اللبنانية والالتزامات المدفوعة بالدولار بأسعار فائدة أقل بكثير من سعر السوق للدولار. وقد أدّى هذا التحوّل في الثروة إلى ارتفاع استهلاك فئات الدخل الأعلى، لأن المستهلكين لديهم ميل أكبر للاستهلاك من الريعيين والرأسماليين الريعيين مثل البنوك. علاوة على ذلك، كانت هناك زيادة في ربحية الشركات بسبب انخفاض الأجور والضرائب وعبء الديون ما أدى إلى زيادة إنفاق بعض الشركات على الواردات.  

قام الكثير من المدينين بتسديد ديونهم وقروض الإسكان المستحقة عليهم. لذلك، عندما يتوقف هؤلاء الأشخاص عن دفع جزء كبير من رواتبهم على أعباء الديون، تصبح لديهم قدرة شرائية أعلى، وبالتالي يكونون قادرين على إنفاق هذا المبلغ من المال على أشياء أخرى، ما يؤدي أيضاً إلى زيادة الإنفاق على الواردات.

النقطة المهمة التي يثيرها الدكتور ديبة هي استغلال هذه الأزمة كفرصة لزيادة قدرة لبنان الإنتاجية سواء للصادرات أو الإنتاج المحلي. لذلك يدعو  إلى وضع سياسة صناعية من الدولة لخلق اقتصاد منتج على أنقاض الرأسمالية الريعية التي انتهت في العام 2019. ويؤكد أن مثل هذه السياسة تحتاج إلى إعادة العمالة المتوسطة والعالية المهارة المهاجرة وخلق اقتصاد ديناميكي ومتقدم تكنولوجياً.