Preview الفقر في لبنان

هل تعمّد البنك الدولي تخفيض خطّ الفقر في لبنان؟

44% من السكّان في لبنان يعيشون بأقل من 1.6 دولار للفرد يومياً. هذا ما يُعلنه تقرير البنك الدولي الأخير بعنوان «تقييم وضع الفقر والإنصاف في لبنان 2024: التغلّب على أزمة طال أمدها». الرقم مرتفع بلا شك ويثير قلقاً كبيراً، ولكن خطّ الفقر المُعتمد متدنٍ للغاية وفق ما يجمع عليه العديد من الاقتصاديين والمُتخصّصين في هذه القضايا، وقد يكون هدفه تقليص نسبة مُستحقّي الدعم في برامج الفقر الذين يروّج لها البنك الدولي ويحصر المستفيدين منها بالأشدّ فقراً بينهم، فيما يقصي شريحة أوسع من المحرومين من حاجاتهم الأساسية عن أي دعم. والأهم أنه يحيّد جانباً التفكير بأي سياسة بديلة تعيد التفكير بالنظام الاقتصادي ككلّ، ودور الدولة في حماية مجتمعها وبناء اقتصادها لتجاوز الأزمات السابقة ومنع تكرارها، ووضع سياسات تشمل جميع المقيمين وفق منطق تثبيت الحقوق وإحقاق العدالة بعيداً من منطق العطايا وتوزيع المساعدات النقدية المحصور والمقيّد عددياً. 

فهل تعمّد البنك الدولي فعلاً تخفيض خط الفقر المُدقع إلى 1.6 دولار يومياً في محاولة يائسة لتخفيض أعداد الفقراء المستحقّين للدعم وفق برامجه القائمة على منح قروض لتوزيع المساعدات النقدية وحصرها بالأفراد الأشدّ فقراً؟ 

قبل الإجابة، لا بدّ بداية من عرض أبرز ما جاء في التقرير.

يُعدّ تقرير البنك الدولي الأول التفصيلي عن الفقر في لبنان بعد الانهيار النقدي والاقتصادي في العام 2019، وإذ يقدّم مؤشّرات ومعطيات كارثية عن أحوال الناس مع مرور أربع سنوات على الأزمة، إلا أن هذه المعطيات تتعلّق حصراً بالمقيمين في 5 محافظات وهي عكار وشمال لبنان والبقاع وبيروت والجزء الأكبر من جبل لبنان، وتستثني المقيمين في 3 محافظات رئيسة وهي الجنوب والنبطية وبعلبك الهرمل، بالإضافة إلى الضاحية الجنوبية لبيروت، حيث يعيش نحو 40% من السكّان (نحو 2.16 مليون إنسان).

يستند التقرير إلى دراسة استقصائية للأسر المعيشية في لبنان في الفترة الممتدّة بين كانون الأول/ديسمبر 2022 وأيار/مايو 2023، وقد شملت عيّنة من 4,200 أسرة من اللبنانيين والسوريين وسواهم من الرعايا باستثناء الفلسطينيين في المخيّمات والتجمّعات، واعتمد خطّ فقر جديد غير رسمي لعام 2022 وفقاً لأنماط الاستهلاك السائدة بعد العام 2019 والمتأثّرة بالتضخّم وتأكل القدرة الشرائية للمداخيل المقوّمة بالليرة اللبنانية، وبلغت قيمته 53.4 مليون ليرة سنوياً، أو 1.6 دولاراً في اليوم للفرد بأسعار كانون الثاني/يناير 2023.

في غضون عقدٍ من الزمن، ارتفع الفقر النقدي نحو 3.7 ضعفاً، من 12% في 2012 إلى 44% في 2022. وفي حين تتراوح نسبة اللبنانيين الذين يعيشون بأقل من 1.6 دولاراً بين 2% في بيروت وترتفع إلى 14% و26% في جبل لبنان والبقاع على التوالي ووصولاً إلى 52% في شمال لبنان و62% في عكار، فإن هذه النسبة لا تقل عن 79% بالنسبة للسوريين، وتشمل أولئك المقيمين في بيروت وتصل إلى 96% بالنسبة للمقيمين منهم في عكار. 

منذ بدء الأزمة في العام 2019، تمكّنت الأسر الغنيّة من حماية نفسها من مخاطر التضخّم نظراً لحصولها على أكثر من نصف دخلها بالدولار، أما الأسر الفقيرة فقد كانت ترزح تحت عبء التضخّم الذي قوّض قدرتها الشرائية، وتسبّب بتراجع استهلاكها بنحو 35% بين عامي 2012 و2022، فضلاً عن ازدياد انعدام الأمن الغذائي لديها. تكفي الإشارة إلى أن 3 من كل 5 أسر مقيمة في لبنان تتبّع حالياً إستراتيجيات لتخفيض غذائها بسبب عجزها عن تأمين كلفته، فضلاً عن التخلّي عن تنوّع غذائها عبر تخفيض استهلاك اللحوم والأسماك والخضروات والفاكهة واللجوء إلى المزيد من الخبز والحبوب. 

يقول التقرير أيضاً إنه ما عدا الأسر الـ 20% الأكثر ثراءً، تهاوت مداخيل الأسر المقيمة في لبنان، وبات الأثرياء يستحوذون على حصّة أكبر من الدخل وبمستويات أعلى بكثير من السابق. ففي العام 2014، تفيد دراسة للباحثة ليديا أسود استند إليها التقرير، أن شريحة الـ 1% الأغنى كانت تستحوذ على 25% من الدخل القومي وشريحة الـ 10% الأغنى على 55% منه. وقبل انفجار الأزمة في العام 2019، كان لبنان يحل في المرتبة 12 عالمياً كأكثر الدول لا مساواة في الدخل. أمّا اليوم، فقد ارتفع مؤشر جيني الذي يقيس التفاوت في دخل الأسر اللبنانية إلى 0.61 بالمقارنة مع 0.42 في العام 2012. وبحسب هذا المؤشر كلّما كانت النتيجة أقرب إلى 0 كان التفاوت أقل، بمعنى أن 0 يعني أن الجميع يتقاضى مداخيل متساوية، في حين أن 1 يعني أن الأغنى يستحوذون على مجمل الدخل.

لا شك أن هذه الوقائع صادمة ومخيفة وتضع لبنان في مصافي الدول الفقيرة، إذ ليس من السهل تصوّر أن ما يقرب من نصف السكان باتوا يعيشون بنحو 1.6 دولاراً في اليوم، فهذا يُعبّر عن تحوّلات جارفة في المجتمع خلقتها الأزمة الأخيرة، وقد تكون الأكثر إيلاماً في المرحلة التي تلت فترة إعادة الإعمار بعد الحرب اللبنانية. لكن لا بدّ من الإشارة إلى بعض الملاحظات على تقرير البنك الدولي وهي كفيلة بتوضيح الكثير من هذه التساؤلات التي تخلقها الأوهام الحسابية، وبالتالي الإجابة عن الإشكالية الأساسية: هل تعمّد البنك الدولي فعلاً تخفيض خط الفقر المُدقع إلى 1.6 دولار يومياً لتخفيض أعداد مستحقّي الدعم وفق منطقه ومقارباته لمعالجة قضايا الفقر؟

1. خط الفقر لا يكفي الحاجات الأساسية

من أكثر الانتقادات التي وجِّهت إلى نظرة البنك الدولي نحو مسائل الفقر تتركّز على كيفية تحديده خطوط الفقر. في العام 1985، وضِع خط الفقر الدولي للمرّة الأولى وحدِّد بدولار واحد، وبسبب التضخّم عُدِّلت قيمته مراراً، واعتباراً من خريف 2022 تم تحديده بنحو 2.15 دولار للفرد يومياً. وعلى هذا الأساس بات الفقير بحسابات هذه المؤسّسة ونظرتها هو من يستهلك أقل من 2.15 دولاراً في اليوم، وغير الفقير هو من يستهلك بما يتجاوز هذا الخط، أي أن البنك الدولي ميّز بين طبقتين أو قطبين: غالبية السكان من جهة والأشدّ فقراً من جهة ثانية. ومن هنا، صيغ العديد من السرديات التي تتحدّث عن تراجع مستوى الفقر في العالم كإحدى أبرز نجاحات النظام الرأسمالي وإنجازاته، في مفارقة غريبة نظراً لاستمرار ارتفاع عدد الجياع. 

بالعودة إلى لبنان، حدّد البنك الدولي خطّاً جديداً غير رسمي للفقر في العام 2022، وبلغ نحو 53.4 مليون ليرة لبنانية وفق سعر الصرف في كانون الثاني/يناير 2023، وهو ما يساوي 1.6 دولار للفرد في اليوم أي 48 دولاراً شهرياً، أو 240 دولاراً شهرياً لأسرة فقيرة من 5 أفراد. وفي حين يفترض بخط الفقر أن يشمل الحاجات الأساسية للفرد بما فيها الغذاء والسكن والنقل والصحة والكهرباء، من اللافت أن هذا المبلغ يشكّل نحو نصف الحدّ الأدنى لفترة ما قبل الأزمة، ويقل بأكثر من 40% عن تكلفة سلّة الحدّ الأدنى من الإنفاق اللازم للبقاء على الحياة التي يرصدها برنامج الأغذية العالمي. إذ بلغت في آذار/مارس 2024 نحو 36.5 مليون ليرة لبنانية شهرياً، أي 403 دولارات أميركية لأسرة مكوّنة من 5 أفراد، في حين أن تكلفة السلة الغذائية وحدها من دون الحاجات الأساسية الأخرى مُقدّرة بنحو 3.1 مليون ليرة للفرد الواحد شهرياً، أي 34.5 دولاراً أميركياً. هذا يعني أن خط الفقر المعتمد هو بكلّ المعايير غير كافٍ لسدّ الاحتياجات الأساسية لعائلة مقيمة في لبنان في ظل ارتفاع أسعار سلّة الاستهلاك بما لا يقلّ عن 5,808% في نيسان/ أبريل 2024 بالمقارنة مع أيلول/سبتمبر 2019، وفق إدارة الإحصاء المركزي.

Previewالفقر في لبنان

2. التركيز على الفقر النقدي وتجاهل الفقر وفق المقياس المُتعدّد الأبعاد. لا شك أن ما يملكه المرء من مال يبقى المحدّد الأساسي لمدى فقره وغناه، ولكن في سياقات معيّنة قد يتجاوز الفقر امتلاك المال نفسه، لتصبح انعدام القدرة على الحصول على الحاجات الأساسية نظراً لعدم توافرها هي المحدّد الأساسي لفقره وحرمانه. في العموم، يتميّز قياس الفقر النقدي عن قياس الفقر المتعدّد الأبعاد بأنهما طريقتين مختلفتين لاحتساب الفقر ونظرتين مُختلفين إليه، وليس تعريفين أو نوعين له بحسب ما يرد في ورقة مرجعية أعدّها المتخصّص في قضايا الفقر والتنمية أديب نعمة. وفي هذا السياق، يشير تقرير البنك الدولي إلى أن 79% من سكان لبنان المشمولين بدراسته يعانون من فقر مُتعدّد الأبعاد، من ضمنهم 73% من الأسر اللبنانية و100% من الأسر غير اللبنانية، إلا أن هذه الإشارة تأتي هامشية في معرض التقرير، ويبقى تركيزه الأساسي على الفقر النقدي. ومن المعروف أن الفقر المتعدّد الأبعاد لا يحصر الفقر بافتقار الفرد إلى المال الكافي لسدّ حاجاته، إنما يعاين أيضاً مظاهر أخرى من الحرمان مثل عدم قدرته على الحصول على الرعاية الصحية بسبب انقطاع الأدوية، أو حرمانه من الكهرباء بسبب انقطاعها وعدم توافر بدائل أخرى عنها، وهو ما ينسحب أيضاً على السكن والتعليم والعمل والخدمات العامة الأخرى. وهذا الرقم الذي يضعه البنك الدولي وفق المقياس المتعدّد الأبعاد يبقى أقرب إلى الواقع من مقباس الفقر النقدي.

Previewالفقر في لبنان

3. احتساب معدل الفقر وفق استهلاك الفرد وليس دخله. الملاحظة الثالثة التي يمكن الإشارة إليها تكمن باحتساب البنك الدولي معدّل الفقر وفق استهلاك الفرد وليس دخله. في الواقع، يذكر البنك الدولي أنه بنتيجة الأزمة وانفلات التضخّم وتقوّض القدرة الشرائية للأسر، لجأت 92% من الأسر الفقيرة إلى الصرف من مدّخراتها لتعزيز استهلاكها وتأمين مستوى عيش شبيه بما كان قبل الأزمة، وفي المقابل اعتمدت 63% من الأسر على المساعدة من الأهل والأقرباء، و67% على المساعدات من جهات غير حكومية، فيما لجأت 45% من الأسر إلى الاقتراض الرسمي ونحو 74% إلى الاقتراض بشكل غير رسمي. من الواضح أن لجوء الأسر إلى هذه المصادر المتنوّعة لتمويل استهلاكها يعني أن دخلها الأساسي لا يسمح لها بالحفاظ على المستوى نفسه من الاستهلاك، وبالتالي لو تم احتساب الفقر وفق الدخل وليس الاستهلاك لكانت نسبة الفقراء ضمن خطّ الفقر المُحدّد ارتفعت أكثر.  

من الواضح أن حصر الفقراء بالأشد فقراً بحسب خطّ الفقر المعتمد والمتدني بكل المعايير يستبعد شريحة أوسع من السكان العاجزة عن تلبية احتياجاتها في ظل الأزمة المتعدّدة الأوجه، والتي تعاني من حرمان مُتعدّد الأبعاد، وبالتالي لا يسمح بمعالجة الفقر المتفشّي في لبنان، كما يجعل منطق توزيع المساعدات النقدية غير نافع، فالمسألة تتطلّب التفكير بما هو أبعد من خط الفقر، أي بسياسات جذرية تقضي على الفقر ولا ترقّعه، وبدلاً من حصر السياسات المموّلة بقروض من البنك الدولي بالمدفوعات النقدية للأشدّ فقراً، يجدر أن تشمل السياسات توفير ودعم الاحتياجات الأسرية المختلفة، ولا سيما التغطية الصحية الشاملة والتعليم المجاني والنقل المنخفض الكلفة والسكن الاجتماعي… إلخ.

Previewالفقر في لبنان