هل خفض النمو مُمكن لإنقاذ الكوكب؟
ذات مرّة، وفي حديثه عن افتقار اليسار للخيال السياسي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، قال الناقد الأدبي فريدريك جيمسون إن «تخيّل نهاية العالم أسهل من تخيّل نهاية الرأسمالية». أطلق الفيلسوف مارك فيشر على هذا الوضع اسم «الواقعية الرأسمالية» في كتاب له صدر في العام 2009، وتردّد صدى هذه الفكرة على نطاق واسع في ذلك الوقت الذي ساد فيه شعور عام بالعجز. استمر بعض المفكّرين في انتقاد النيوليبرالية - بسبب الخصخصة ورفع القيود والضوابط والتقشّف - خصوصاً بعد الأزمة المالية لعام 2008، لكن حتى اليسار نفسه اعتقد في حينها أن لا بديل حقيقي للرأسمالية.
تغيّر الوضع منذ العام 2010، وشكّل العقد المنصرم عصراً جديداً للثورات منذ انهيار الاتحاد السوفياتي. بدأ مع الربيع العربي في العام 2011، وأطلق شرارة حركة «احتلال وول ستريت» وحركة M-15 في إسبانيا. وعلى الرغم من فشل الكثير من هذه الجهود، فإن تأييدها للسياسات الانتخابية ساهم بشكل كبير في دعم الأحزاب والسياسيين التقدّميين أمثال سيريزا وبوديموس وجيريمي كوربين وبيرني ساندرز، كما ساهم في توجيه الحراك المباشر للمواطنين كما في حركة «أيام الجمعة من أجل المستقبل» (Fridays for Futures)، وحركة «التمرد ضد الانقراض» (Extinction Rebellion)، وحركة «حياة السود مهمة» (Black Lives Matter). أصبح جلياً أن الأجيال الشابة على وجه الخصوص لم تعد تخشى تحدّي الرأسمالية، فضخّت دماء جديدة في فكرة الاشتراكية وحتى في الشيوعية.
الجدال الساخن بشأن ما بعد الرأسمالية داخل اليسار يتمحور حول الصراع الدائر بين جماعتين تدعو إحداهما إلى تخفيض النمو والأخرى إلى الحداثة البيئية
ولكن كيف سيبدو المستقبل التحرّري الجديد؟
يلخّص أوليفر إيغلتون المسألة في مقالة صادرة في The Ideas Letter، بالإشارة إلى أن الجدال الساخن بشأن ما بعد الرأسمالية داخل اليسار يتمحور حول الصراع الدائر بين جماعتين تدعو إحداهما إلى تخفيض النمو والأخرى إلى الحداثة البيئية، ويشكّل هذا تحوّلاً ملحوظاً مقارنة بالنقاش الذي كان يدور سابقاً بشأن الاشتراكية البيئية. في القرن العشرين، انتقد أنصار البيئة، في الغالب، الماركسية بشدّة لتفاؤلها الساذج في التركيز على الإنتاجية وعدم اكتراثها للمسائل البيئية. واتهم الاشتراكيون دعاة البيئة بالنزعة البورجوازية لتهميش اللامساواة الاقتصادية والصراع الطبقي. كانت حركة الاشتراكية البيئية رائدة في التخفيف من حدة التوتر بين الاشتراكيين والإيكولوجيين.
صاغ الماركسيون الإيكولوجيون أمثال جون بيلامي فوستر وبول بوركيت مفهوم «الصدع الأيضي». وبالاستلهام من نقد ماركس الإيكولوجي للرأسمالية في كتاب «رأس المال»، أثبتوا بشكل مقنع أن التوسّع الرأسمالي وتسارعه يقوّض حتماً الظروف المادية للإنتاج المستدام. إن الإنتاج الرأسمالي غير المخطّط والمدفوع برغبة جامحة في تحقيق الربح المستمر هو السبب الرئيس في تدمير البيئة (كما أوضحت الأزمة البيئية العالمية المتفاقمة). أصرّت الاشتراكية البيئية على أن التحالف بين الحمر والخضر هو خيار سياسي حقيقي لأن استغلال الطبقة العاملة والاستيلاء على الطبيعة وجهان لقضية مشتركة.
ومع ذلك، انقسم الاشتراكيون الإيكولوجيون بشأن السبل المثلى لتنظيم الإنتاج. جادل البعض بأن التخطيط الاشتراكي الإيكولوجي يساعد على التطوّر السريع للتكنولوجيات الخضراء الجديدة واستخدامها بطريقة أكثر فعالية. تؤمن الحداثة البيئية بإمكانية السيطرة على الطبيعة، في الأقل بمجرّد تحرير نفسها من الضغط اللاعقلاني للتراكم الرأسمالي اللانهائي.
ويصرّ فريق آخر من أنصار الاشتراكية الإيكولوجية على أنه لا يمكن الاستغناء عن إصلاح جذري في التفاعل الأيضي للبشر مع البيئة. إن التقنيات المطوّرة رأسمالياً مدمّرة بطبيعتها، ولا يمكن لطابعها الجوهري أن يتغيّر حتى في ظل الاشتراكية الإيكولوجية. لا يمكن تجاوز القوانين الطبيعية من خلال تطوير قوى إنتاجية أكثر كفاءة، بل يجب أن تولي الاشتراكية الإيكولوجية اهتماماً أكبر للحدود التي تفرضها الطبيعة.
يزعم إيغلتون أن تقليص النمو أو تخفيضه هو أمر ساذج ورومانسي بشكل خطير عندما يفترض أن الطبيعة البرية متناغمة ومنسجمة طالما لا يتدخل البشر. لقد أحدث الأنثروبوسين1 بالفعل تغييرات لا رجعة فيها. وإذا كان طموح حركة تخفيض النمو هو ببساطة العودة إلى الطبيعة فإن المشروع مستحيل سياسياً وخاطئ علمياً.
إن الإنتاج الرأسمالي غير المخطّط والمدفوع برغبة جامحة في تحقيق الربح المستمر هو السبب الرئيس في تدمير البيئة
ومن ناحية أخرى، يرى إيغلتون أن الحداثة البيئية ساذجة بالقدر نفسه، في تبجحها بفكرة الإمكانات التحريرية للتكنولوجيات الرأسمالية. تستخدم التكنولوجيات الخضراء الموارد بكثافة، والموارد التي تتطلبها غالباً ما تكون في البلدان الفقيرة. ومن المرجّح أن يؤدي النمو الأخضر إلى تعزيز التبادل غير المتكافئ بيئياً باسم التنمية المستدامة، والذي لا يؤدي في الواقع إلا إلى الدفاع عن نمط العيش الإمبريالي في دول الشمال على حساب الناس والبيئة في دول الجنوب.
انتقادات إيغلتون لكل من حركة خفض النمو والحداثة الايكولوجية مشروعة، إلا أنه يتوقف عندهما من دون أن يحاول بالفعل التغلّب على التوتر الحاصل بين المفهومين. بدلاً من ذلك، وبالاستناد إلى جيمسون، يجادل بأن على المرء مقاومة إغراء التوليف بين المدينة (الحداثة الإيكولوجية) والقرية (تخفيض النمو). ووفق هذه الحجة، لا تتعلّق يوتوبيا ما بعد الرأسمالية بتقديم مقترحات ملموسة لمجتمع جديد؛ بل تتعلق برفض «صدّ المستقبل».
لكن مواقف إيغلتون (وجيمسون) عالقة في الاعتقاد الماركسي التقليدي الذي يمنع التفكير في صيغة بدائل الرأسمالية بعبارات ملموسة. يكتب إيغلتون: «لا تتعلّق اليوتوبيا برسم مخطط إيجابي أو خلق مخطط سياسي مثالي». ومع ذلك، يبدو هذا الموقف غير مسؤول في مواجهة حالة الطوارئ التي تمثلها أزمة المناخ. هناك ضرورة للاستجابة من أجل الأجيال الشابة التواقة إلى كشف الستار عن القيمة الحقيقية لما بعد الرأسمالية.
لا بدّ من إعادة ماركس إلى الواجهة، فهو ضروري مرة أخرى اليوم. على عكس جيمسون، لطالما طالب بتجاوز العداء بين المدينة والقرية. وكما جادلتُ في «ماركس في الأنثروبوسين» (2023) و«التباطؤ» (2024)، تقدّم فكرة ماركس عن «شيوعية تخفيض النمو» توليفة تجمع بين الحداثة البيئية وتخفيض النمو من خلال استئصال التناقض الحاصل في الاشتراكية البيئية.
دعوني أفكّك هذا الاقتران.
إن إضافة كلمة «الشيوعية» إلى «تخفيض النمو» يزيل الغموض عن الفكرة القائلة بأن تخفيض النمو يتعلّق بالعودة إلى الحالة الأصيلة للطبيعة. تقول إحدى وجهات نظر ماركس الأساسية إن تطوير قوى الإنتاج في ظل الرأسمالية يخلق الظروف المادية لتحقيق تنمية حرّة ومستدامة لجميع البشر. لا يمكن للقرى الإيكولوجية المحلّية المنبثقة من القاعدة والحدائق المشتركة أن تحمينا من كارثة بيئية كوكبية. من الضروري إجراء تغيير شامل. ويمكن للسياسة الاشتراكية أن تساعد في توسيع نطاق تخفيض النمو من أجل تحدّي النظام الرأسمالي من خلال تعميم وسائل الإنتاج والتخطيط الديمقراطي والخدمات العامة.
الوفرة والثراء الرأسمالي لا يمكن أن يؤسّسا لرؤية جديدة لمجتمع مستقبلي، نحن بحاجة إلى إعادة تحديد جذري لفهمنا للازدهار
إن إضافة «تخفيض النمو» إلى «الشيوعية» يخلّص الماركسية من تركيزها الضيّق على الإنتاجية من خلال الاعتراف بحدود الطبيعة التي لا يمكن التغلّب عليها. لا يمكن دعم قوى الإنتاج أو استدامتها بعد حدّ معين بغض النظر عن نمط الإنتاج. فأي مجتمع، سواء كان رأسمالياً أو شيوعياً، يسعى إلى تحقيق نمو لانهائي يستنفد الموارد في نهاية المطاف. وعلى النقيض من ذلك، يسعى تخفيض النمو إلى تحقيق اقتصاد ما بعد الندرة من خلال تشجيع المشاركة والتعاون المتبادل.
يعتقد الجغرافي مات هوبر والصحافي لي فيليبس بأن شيوعية تخفيض النمو هي مجرّد دعوة طوباوية للعودة إلى الطبيعة كما كانت في البداية، فضلاً عن كونها شكلاً من أشكال المالتوسية الجديدة، أو القبول المتشائم بحياة مقتصدة (أو حتى فقيرة) أمام الحدود الطبيعية التي لا مفر منها. الأمر ليس كذلك.
لا تعني شيوعية تخفيض النمو العودة إلى الطبيعة، وهي ليست مناهضة للتكنولوجيا، لأنها تعترف بالضرورة الملحّة للاستثمار على نطاق واسع في التقنيات الخضراء الجديدة مثل الطاقة المتجدّدة والمركبات الإلكترونية لتخليص الاقتصاد بأكمله من غاز الكربون بأسرع ما يمكن. ومع ذلك، لا ينبغي الاعتماد على التكنولوجيات المستقبلية الحالمة مثل الاندماج النووي وتعدين الكويكبات. وبدلاً من ذلك، دعونا نتمهل. أمام الحدود الطبيعية التي لا يمكن التغلب علّيها، يعتبر التخلّي عن الأشياء التي لا تستلزمها الحياة الكريمة فعل ثوري حقاً: مثل الإنفاق العسكري، والطائرات الخاصّة، وسيارات الدفع الرباعي، والإعلانات التي تخلق رغبات مصطنعة، والاستهلاك المفرط للحوم.
هذا الاقتراح ليس مانيفستو من أجل التقشّف البيئي. بل يفترض ببساطة أن الوفرة والثراء الرأسمالي لا يمكن أن يؤسّسا لرؤية جديدة لمجتمع مستقبلي، نحن بحاجة إلى إعادة تحديد جذري لفهمنا للازدهار. هنا يكمن الإسهام الرئيس لحركة تخفيض النمو في الشيوعية: إنها تقدم، خصوصاً لشعوب دول الشمال، قيماً ومعايير وممارسات مختلفة. على سبيل المثال، أهمية تخفيض ساعات العمل من أجل المزيد من الوقت المتاح والحرّ، والعمل المنتج المكفول بالرعاية والحفظ، والتقاليد الأصلية والتآزر المتبادل.
ترحّب شيوعية تخفيض النمو بالتكنولوجيات الجديدة من دون أن تؤمن بسذاجة بأنها تستطيع أن تتجاوز القيود التي تفرضها الطبيعة. بينما تعمل الرأسمالية على خلق أشكالاً كثيرة من الندرة المصطنعة من خلال تسليع كل شيء في العالم تقريباً. تعِد الشيوعية خلافاً لذلك بخلق وفرة جوهرية من خلال تعميم السلع والخدمات الأساسية مثل التعليم والرعاية الصحية والإسكان والنقل.
شيوعية تخفيض النمو ليست مجرّد يوتوبيا. يمكن للبضائع والخدمات غير المسلّعة أن تقدم سياسات مغرية للطبقة العاملة من دون المطالبة بتكنولوجيات الأحلام مثل الاندماج النووي والهندسة الجيولوجية واللحوم المصنعة.
إن قراءة ماركس عمل سياسي، وشيوعية تخفيض النمو هي أحد الأسباب التي تجعل ماركس يستحق قراءة جديدة اليوم
يتوفر التعليم المجاني والرعاية الصحية الشاملة في الدول الإسكندنافية وأماكن أخرى في أوروبا. وتم تطبيق نظام العمل لمدة أربعة أيام في الأسبوع بشكل جزئي في القارة. بعض الرحلات الجوية القصيرة محظورة في فرنسا، ولمحاربة السياحة المفرطة، منعت أمستردام بناء فنادق جديدة.
تمثّل هذه التدابير قيوداً داخل الرأسمالية، ولكن لديها القدرة على تحدي الرأسمالية نفسها بشكل جوهري، ورغبتها النهمة في الربح، من خلال تحديد أولويات واضحة تحركها دوافع اجتماعية.
لم يقترح أحدٌ من قبل شيوعية تخفيض النمو لأنه كان يُفترض أن تخفيض النمو والماركسية لا يتوافقان. أعتقد أن كتابات ماركس اللاحقة تخالف ذلك. ولا يزال الكثيرون لا يوافقون على الأمر. قال فوستر في مقابلة أجريت معه العام الماضي إنه «لا يمكن العثور على أي دليل ملموس على أن ماركس كان يدعو بالفعل إلى ما يمكن أن يسمّى بشكل معقول بشيوعية تخفيض النمو»، وأن إسناد فكرة شيوعية تخفيض النمو إليه «غير تاريخية إلى حد كبير».
من الطبيعي أن ماركس لم يتوقع كل شيء. لقد كان مقيداً بحدوده، ولم يستطيع صياغة رؤية كاملة لمجتمع المستقبل. الأمر متروك لنا أن نناقش أفكاره وندفع بها - معه أو حتى ضده - قدر الإمكان. سنكون متشبّثين إن أردنا أن نمنع الماركسيين من أن يقولوا اليوم ما لم يقله ماركس في عصره. إن قراءة ماركس عمل سياسي، وشيوعية تخفيض النمو هي أحد الأسباب التي تجعل ماركس يستحق قراءة جديدة اليوم.
كان ماركس يعلم أن مشروعه لم يكتمل. وأعتقد أنه سيرحّب بشيوعية تخفيض النمو لأنها تجمع بين النظرية والتطبيق، وتتجاوز الصورة التقليدية للاشتراكية التي مضى عليها الآن 150 عاماً. واليوم هو الوقت المناسب لشيوعية تخفيض النمو لأن الرأسمالية وصلت إلى حدودها القصوى، وتهدّد بتدمير الأرض نفسها.
نشر المقال في The Ideas Letter في 30 أيار/مايو 2024، وتُرجم إلى العربية وأعيد نشره في موقع «صفر» بموافقة مسبقة من الكاتب.
- 1العصر الجيولوجي الذي يعتبر فيه الإنسان العنصر المسيطر (المترجم)