الفصل الطبقي: حالة المجمّعات المسوّرة
- في نقده للاقتصاد السياسي، لم يفرد ماركس حيّزاً كافياً لتحليل دور الدولة في السوق، وهو إغفال فوّت عليه بصيرة استشراف الدور الحاسم للدولة في إنقاذ الرأسمالية من أزماتها.
- لا يقتصر الأمر على مجرّد وجود بعض أثرى من بعض، بل بتقسيم مكاني بين الأغنياء والفقراء. أهذه نيوليبرالية؟ لعلّها ليست كذلك في تعريفها الاصطلاحي. لكن ما لا يمكن إنكاره أنها ظاهرة طبقية.
لطالما كانت التساؤلات المتعلّقة بتحديد مَن يسيطر على آليّات إعادة توزيع الثروة، وكيفية إسفار هذه السيطرة عن تباينات اجتماعية، محطّ جدالات محورية على الصعيدين النظري والسياسي. ومن هذه الجدالات الجدال في ظاهرة المجمّعات المسوّرة (كمباوندات تعزلها الجدران عن الأحياء العادية) في بعض بلدان الجنوب العالمي كالبرازيل والمكسيك وباكستان ومصر.
يمثّل صعود المجمّعات المسوّرة، حتّى في الولايات المتّحدة، انعكاساً ملموساً لتحوّلات في الديناميات الاجتماعية والسكنية. تشير الأبحاث إلى أن عدد قاطني المجمّعات المسوّرة في الولايات المتّحدة لم يتجاوز 4 ملايين في العام 1995، لكنّه ارتفع إلى قرابة 16 مليون شخصٍ بحلول أواخر التسعينيّات. وقد كشفت إحدى الدراسات أنّ للمنازل في هذه المجمّعات علاوة سعريّة تقارب 30 ألف دولارٍ أميركي بالمقارنة مع نظائرها غير المسوّرة. يذكر المطوّرون ومحلّلو العقارات وجود ما يزيد على 25 ألف مجمّعٍ مسوّرٍ في جميع أنحاء البلاد، مع نموّ مكثّف بوجه خاصّ في ولايات «الحزام الشمسي» ككاليفورنيا وفلوريدا وتكساس.
تذهب إحدى الحجج الشائعة إلى القول بعدم جواز وصف ما يحدث في هذه البلدان بالنيوليبرالية، فالدولة فيها تؤدّي دوراً محورياً في إدارة الموارد وتوزيعها. وهو ما يفضي، بدوره، إلى ما يراه بعض المجادلين الليبراليين قصوراً في كثير من تحليل اليسار لظواهر كثيرة في الجنوب العالمي؛ ويكمن هذا القصور في خطأه في تحديد أنّ الدولة ذاتها، لا البنية الطبقيّة، الموقع الأساس للنقد.
وفي سياق الاشتباك النظري مع هذه الدعوى، نورد ثلاث نقاط نظريّة قد تعين على إثراء جدال مهمّ.
أولاً، لم تشتغل النيوليبرالية تاريخيّاً في غياب الدولة، بل قلّما اشتغلت من دون سلطة قمعيّة تقوى على فرض سياسات أو إصلاحات نيوليبرالية. ففي تشيلي، أشهر التجارب النيوليبرالية وأولها، قام النموذج على انقلاب عسكري ونظام عسكري قمعي تزعّمه الجنرال أوغستو بينوشيه. وبدافع من اعتبارات قوميّة أو سلطوية، رفض الجنرال نفسه خصخصة النحاس، على الرغم من التزامه التام بالسياسات النقديّة للاقتصاديين النيوليبراليين المعروفين بـ«صبيان شيكاغو». بل إنّ فريدريش هايك، أحد مهندسي النيوليبرالية الفكريين وصاحب كتابيْ «طريق القنانة» و«دستور الحرية»، دافع عن القمع البينوشي، وعدّه ضرورياً لبلوغ الحريّة في المدى الطويل.
لم تشتغل النيوليبرالية تاريخيّاً في غياب الدولة، بل قلّما اشتغلت من دون سلطة قمعيّة تقوى على فرض سياسات أو إصلاحات نيوليبرالية
ظهرت الديناميّة ذاتها في الأرجنتين العام 1978، حيث استُخدِم مصنعٌ لشركة فورد لاحتجاز العمّال وتعذيبهم. ولم تكن حالة بريطانيا في عهد تاتشر استثناءً، إذ عسكرت تاتشر السياسة البريطانية عبر حملتين رئيستين: حملة فوكلاند العسكريّة في العام 1982، وسحق إضراب عمّال مناجم الفحم في العام 1984.
بغضّ النظر عن الموقف من النيوليبرالية، فإنّه وإنْ كان تعريفها النظري يدعو إلى انسحاب الدولة من السوق، فإنّها لم تعْن قطّ الفوضوية أو التحرّرية بمفهوم تفكيك الدولة أو تقليصها. وهذا أمرٌ أثبتته السجلات التاريخية، وإنْ كان يحقّ، بالطبع، للمنظّرين النيوليبراليين القول بأنّ هذه التجارب لا تعبّر عن نظريّتهم الخالصة، على غرار قول الاشتراكيين بأنّه ما من تجربة اشتراكية فعلية تمثّل الاشتراكية الحقّة.
ثانياً، يتمثّل الانقسام النظريّ بشأن الدولة والطبقة فيما يلي: لم ينكر كارل ماركس وجود الدولة، بل رآها ذراعاً للطبقة الحاكمة تنفّذ بها سياساتها. غير أنّ هذا التحليل الماركسي يعترضه إشكالان: أولهما، أنّه يقلّل من شأن حقيقة أنّ للدولة وظائف وتجلّيات تتجاوز مهمّتها الطبقيّة (ماركس نفسه تناول في مرحلة لاحقة الدولة بطريقة أعمق، كما في «الثامن عشر من برومير» و«الحرب الأهلية في فرنسا»)؛ وثانيهما، أنّه في نقده للاقتصاد السياسي، لم يفرد ماركس حيّزاً كافياً لتحليل دور الدولة في السوق، وهو إغفالٌ، في تقديري، فوّت عليه بصيرة استشراف الدور الحاسم للدولة في إنقاذ الرأسمالية من أزماتها بين عامي 1929 و1932، ومرّة أخرى في العام 2008، فضلاً عن مناسبات عدة فيما بينهما.
وعلى النقيض، فإنّ للناس في أصقاع كثيرة من الجنوب العالمي ضرباً من العلاقة المرضيّة بالدولة: يريدون منها أن تكفّ عن التسلّط، لكنّهم يتطلّعون إليها في الوقت نفسه لتضطلع بدور تنموي وقومي ينهض بهم ويحقّق لهم مكانة دولية. ولذلك يميل كثيرٌ من المثقّفين إلى رؤية هيغليّة فيبريّة للدولة. بل إنّ جلّ الأعلام البارزين في تيّار نقد التراث الفكري العربي الإسلامي الذي ازدهر في البلدان الناطقة بالعربيّة عقب هزيمة العرب أمام إسرائيل في العام 1967، كانوا هيغليّين سياسيّاً، إمّا صراحةً أو ضمناً، من أمثال عبد الله العروي وعزيز العظمة.
الإشكالي في المقاربة الهيغلية الفيبرية أنّها تقف على النقيض من مقاربة ماركس: إذ ترى الدولة منفصلةً تماماً عن الطبقة، وكياناً مستقلّاً عقلانياً، قد يكون سلطوياً، لكنّه مستقلٌّ بذاته. وهذا، ببساطة، ليس بأفضل حال من الاختزالية الطبقية. فالدولة، من منظور سوسيولوجي، ذات دورٍ محوري في خدمة المصالح الطبقيّة، بل وأبعد من ذلك، في الحفاظ على البنية الطبقيّة نفسها. وهذا ما حدث في مصر في ظلّ نظام عبد الناصر الذي ازدرتْه الأرستقراطية القديمة بحق ولا تزال تهزأ به، وهو أيضاً ما حدث مع فرانكلين روزفلت في الولايات المتّحدة الذي لا يزال كبار رجال الأعمال ينقمون عليه. أما أنا فأرى أنّ الدولة ليست مجرّد ذراع للطبقة الحاكمة، وليست في الوقت نفسه منفصلة عنها أو عن مصالحها بأي حال من الأحوال.
ثالثاً، لنتّخذ مصر مثالاً. يسعك القول جزماً إنّ المشكلة في المؤسّسة العسكرية، أو في الخراب الذي ألحقتْه الناصرية بالمجتمع المدني والبرجوازية المصرية في الخمسينيات والستينيات، أو لعلّها تكمن فيما يسمّيه أصحاب النزعة الثقافوية السلطانية العربية الإسلامية أو تراث التسلّط. بيد أنّك لا تقوى على إنكار حقيقة واحدة ملموسة (وأنا أقول حقيقة هنا، لا رأياً):
التسارع المذهل في تراكم الثروة لدى شريحة ضئيلة من كبار رجال الأعمال منذ اعتلاء النظام الحالي سدّة الحكم في العام 2014 في أعقاب انقلاب عسكري. على سبيل المثال نجيب ساويرس، أثرى رجال الأعمال في مصر وكبير مستثمري العقارات والإنشاءات والاتّصالات، قد ضاعف ثروته وفقاً لمجلّة فوربس حتّى بلغت 5 مليارات دولار. ودخل حوت العقارات هشام طلعت مصطفى بين عشيّة وضحاها نادي المليارديرات، إذ ارتفعت القيمة السوقية لحصّته السهمية من نحو 250 مليون دولارٍ إلى 1.3 مليار دولار. ترافق ذلك مع إفقار مذهل بالقدر نفسه للطبقات الدنيا (ارتفع معدّل الفقر من 25% في 2013 إلى 35% في 2023، بحسب الأرقام الرسمية).
الدولة، من منظور سوسيولوجي، ذات دورٍ محوري في خدمة المصالح الطبقيّة، بل وأبعد من ذلك، في الحفاظ على البنية الطبقيّة نفسها
سواءٌ اخترت تسمية هذا نيوليبرالية أم لا، يظل الأمر مسألة اصطلاحية، لكن لا يسعك أن تزعم أنّ المشكلة في التحليل اليساري، وتنكر في الوقت نفسه وجود ظاهرة طبقية خطيرة في مصر.
نحن إزاء تشكيلة اجتماعية اقتصادية تدير فيها الدولة آليّات تفضي بوضوحٍ إلى اللامساواة وتراكم الثروات الهائل لدى شريحة الواحد بالمئة العلْيا؛ والعنصر الطبقي في هذه العلاقة لا يمكن إسقاطه.
وظاهرة المجمّعات المسوّرة نتاج مباشر لهذه اللحظة. ففي أحياء القاهرة المعروفة بالثراء تقليديّاً، كالمعادي ومصر الجديدة والمهندسين، لم توجد في الماضي بوّابات أو أسيجة. ولم تكنْ هناك جدران تحيط بالمنتجعات الصيفية الراقية كالعجمي وهانوفيل وميامي، أو حتى بمنتجعات النخبة في شرم الشيخ والغردقة ومرسى علم. أمّا الآن، فتهيمن المجمّعات المسوّرة على أماكن كالساحل الشمالي والجونة على صعيد المنتجعات، وعلى مدينة الشيخ زايد والقاهرة الجديدة.
نحن لا نواجه مجرّد فجوة طبقية، بل «فصلاً طبقيّاً»، ويمكننا تسميته من باب التهذيب الفصل العنصري الطبقي أو النسخة الطبقية من الفصل العنصري التاريخي (المستمر في أشكال مستترة). لا يقتصر الأمر هنا على مجرّد وجود بعض أثرى من بعض، بل يتعلّق بتقسيم مكاني بين الأغنياء والفقراء. أهذه نيوليبرالية؟ حسناً، لعلّها ليست كذلك في تعريفها الاصطلاحي الحرفي. لكن ما لا يمكن إنكاره أنّها، أولاً، ظاهرة طبقية لا مجرّد ظاهرة سياسية دولتية، وأنّها، ثانياً، ظاهرة مستجدّة في مصر، لا موروثة تاريخياً.
تمثّل الهند حالة مشابهة. فهل الهند رأسمالية كألمانيا؟ قطعاً لا؛ فالفارق في البنى الاجتماعية والاقتصادية هائل. ولكن، هل ينكر أحدٌ أنّ الهند اليوم رأسمالية، وأنّ حكومة فاشية تحكمها في الآن ذاته؟ لا. وهل يكمن الإشكال في مجرّد أن الهند فيها أغنياء وفقراء، شأنها شأن ألمانيا أو فرنسا أو المملكة المتّحدة؟ لا أيضاً. تشهد الهند فصلاً مكانياً وثقافياً حادّاً بين الطبقات.
نُشِر هذا المقال في 28 تشرين الأول/أكتوبر 2025 على مدوّنة الكاتب، وتُرجِمت إلى العربية ونُشِرت في موقع «صفر» بموافقة منه.