معاينة ترامب: الأجندة النيوليبرالية بأدوات مباشرة

ترامب: الأجندة النيوليبرالية بأدوات مباشرة

  • جاء استقلال القرار الاقتصادي من تشاؤم النيوليبراليين «التقليديين» من قدرة الساسة والأحزاب المحافظة من شاكلتهم على الظفر بالسلطة السياسية والاحتفاظ بها. فدفعوا نحو استقلال الهيئات الاقتصادية درءاً لنتائج «سيئة» إذا آلت السلطة إلى قوى غير ودودة.

  • يتمثّل الفارق الجوهري بين ترامب والنيوليبراليين «التقليديين» في ان ترامب متفائل. يثق بأنّ النيوليبراليين و«ماغا» سيحكمون العالم، وعلى الأقل يحكمون الولايات المتحدة ردحاً من الزمن. إذا صحّ ذلك، فلماذا لا يحكمون الاحتياطي الفدرالي أيضاً؟

دعْ لبرهةٍ ضجّةَ ترامب والاحتياطي الفدرالي الأميركي الدائرةَ الآن جانباً. ارجع إلى الوضع كما كان قبل 6 أشهر، وإلى ما ساد طوال السنوات الخمسين الماضية.

برَزَ على الساحة معسكرٌ كبيرٌ مهمٌ من النيوليبراليين. وكما يوضح كوين سلوبوديان في كتابه الرائع «العولميون: نهاية الإمبراطورية وولادة النيوليبرالية» (وقد علَّقت عليه هنا)، راود النيوليبراليين المجتمعين في جمعية مون بيليران شكٌ في قدرة الساسة المؤيدين للرأسمال على الفوز بالانتخابات، ومن ثم التحكّم في مقاليد السلطتين التشريعية والتنفيذية. خَشُوا (ولهم ما يبرّر خشيتهم) أن تنجح في الغالب الأحزاب اليسارية والاشتراكية والشعبوية في الانتخابات، فتصل إلى السلطة. فكيف تُصان إذاً صناعة السياسة الاقتصادية من نزعات تلك الأحزاب الاشتراكية؟ تمثّل الحل في إعفاء كثير من وظائف الدولة تدريجياً من إشراف السلطتين التشريعية والتنفيذية، وتحويلها إلى هيئات تقنية خالصة. فإذا صُوِّرت السياسات النقدية والمالية وتنظيم الأعمال على أنّها مسائل فنية يجب أن يبت فيها أهل الاختصاص، تصبح القرارات مستقلة عن الحزب الحاكم، وتتمكّن الهيئات من الحفاظ على السياسات «الصحيحة» بما يخدم مصالح ملاك رأس المال.

استند استقلال البنوك المركزية إلى هذه الأيديولوجيا، وكذلك استقلال سائر الأذرع الاقتصادية للدولة. ويعني «الاستقلال»، هنا، الاستقلال عن ممثّلي الشعب المنتخبين. صاغ النيوليبراليون ذلك، كما يكتب سلوبوديان، في تمييز بين «الدومينيوم»؛ مجال يتولّى فيه أهل الخبرة زمام السلطة الاقتصادية، و«الإمبيريوم»؛ مجال يقتصر فيه عمل المنتخبين على وظائف رمزية منها رفع الأعلام الوطنية وإحياء الاحتفالات والمسيرات، من دون أي تأثير في السياسات التي تحدد أسعار الفائدة والضرائب وتنظيم الأعمال وحركة رؤوس الأموال. أما الأعمال الحقيقية فتقوم كلها في مجال «الدومينيوم».

تحوّل هذا النهج إلى «دولي» في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي. وتحت قيادة البنك وصندوق النقد الدوليين زاد تبنّي «نزع التسييس» عن البنوك المركزية، وبقدرٍ أقلّ عن سائر القطاعات التقنية في صنع القرار الاقتصادي. ويُظهر الرسم أدناه المأخوذ من مقال حديث لآدم توز زيادةً لافتة في استقلال البنوك المركزية داخل البلدان الغنية بين أواخر التسعينيات وبين العام 2008 (لا غرابة) زمن «الأزمة المالية العالمية». كان ذلك جزءاً لا يتجزّأ من العولمة النيوليبرالية، واقتدت به بلدان نامية كثيرة. وغدا استقلال البنك المركزي، في تلك الرؤية للعالم، ضرورة حاسمة.

معاينة ترامب: الأجندة النيوليبرالية بأدوات مباشرة

نلحظ، عَرَضاً، أنّ هذا النهج يقارب النهج الصيني الراهن. ويمكن الزعم (وقد زعم تونغدونغ باي في كتابه «ضدّ المساواة السياسية»، وقد علّقتُ عليه هنا) أنّه من الأفضل ترك الدائرة السياسية كلّها لإدارة تقنية يتولاها محترفون رفيعو الكفاءة. ولا يحتاج الأمر إلى رقابة شعبية؛ إذ لا تجلب تلك الرقابة سوى الإضرار بالكفاءة. نحن لا نعرض قرارات الأطباء لتصويتٍ شعبي، وكذلك الشؤون الاقتصادية والسياسية البالغة التعقيد: فلنتركها لأهل العلم والكفاية. المشكلة مع الحكومات المنتخبة أنّها لا تكفّ عن التدخّل في هذا الضرب من صناعة القرار؛ وتتفاقم حين ينتخبها شعب يجهل الاقتصاد والسياسة.

وقف ضد هذا التصوّر النيوليبرالي كثيرون طوال نصف قرن. فلنسمِّهم «المعسكر الديمقراطي». جادل هذا المعسكر بأنّ قرارات الاقتصاد تحتاج، كي تكتسب الشرعية، إلى الختم الانتخابي والديمقراطي نفسه الذي تناله سائر قرارات الحكم: فقد تزيد الهيئات التشريعية سنّ الاقتراع أو تخفضه مثلما قد تحدد سعر الفائدة صعوداً أو هبوطاً. ورأى أن تُخضَع الشؤون الاقتصادية لرقابة الشعب أكثر من غيرها، لأنّ أثرها يعمّ الناس كلّهم. إذا حسمت الطبقة المهنية-الإدارية عدداً متزايداً من القضايا، فأيّ معنى يبقى للديمقراطية وللمسؤولين المنتخبين؟ أيُكلّف هؤلاء بقيادة الجماهير في أثناء إنشاد الأناشيد الوطنية؟

هكذا اصطفّ المعسكران.

يدخل ترامب. يريد أن يسيطر على الاحتياطي الفدرالي الأميركي. أَيُدخله ذلك في المعسكر الديمقراطي؟ لا قطعاً. إنّما يعزّز الأجندة النيوليبرالية. ولكي يتّضح المعنى، انظر كيف صار استقلال القرار الاقتصادي جزءاً من تلك الأجندة، فقد جاء من تشاؤم النيوليبراليين «التقليديين» من قدرة الساسة والأحزاب المحافظة من شاكلتها على الظفر بالسلطة السياسية والاحتفاظ بها. فدفعوا نحو استقلال الهيئات الاقتصادية درءاً لنتائج «سيئة» إذا آلت السلطة إلى قوى غير ودودة.

لا يقف ترامب موقف نيوليبرالي متشائم ودفاعي؛ بل يجترح نيوليبرالية متفائلة هجومية. يملك اليوم سلطةً سياسية، ويظفر أمثالُه بها غداً؛ فلماذا لا يبسطون أيديهم على سائر المؤسسات الاقتصادية أيضاً؟ كان ميـسِس وهايك ليرضَيا بذلك، لولا تشكّكهما العميق في قدرة أمثال هؤلاء الساسة على البقاء في الحكم. أمّا ترامب فلا يتشكك.

يتمثّل الفارق الجوهري بين ترامب والنيوليبراليين «التقليديين» في التفاؤل والتشاؤم حيال دوام السيطرة على جهاز الدولة، لا في الموقف من وجوب إمساك النيوليبراليين بمقاليد المؤسسات الاقتصادية. يتشاءم «التقليديون»؛ ويتفاءل ترامب. يثق بأنّ النيوليبراليين و«ماغا» سيحكمون العالم، وعلى الأقل يحكمون الولايات المتحدة ردحاً من الزمن. وإذا صحّ ذلك، فلماذا لا يحكمون الاحتياطي الفدرالي أيضاً؟

نُشِر هذا المقال في 29 آب/أغسطس 2025 على مدوّنة الكاتب، وترجم إلى العربية ونشر في موقع «صفر» بموافقة منه.

    علاء بريك هنيدي

    مترجم، حاصل على ماجستير في المحاسبة، وشارك في تأسيس صحيفة المتلمِّس. صدر له ترجمة كتاب ديفيد هارفي «مدخل إلى رأس المال» عن دار فواصل السورية، وكتاب جوزيف ضاهر «الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني» عن دار صفصافة المصرية، وكتاب بيتر درَكر «الابتكار وريادك الأعمال» عن دار رف السعودية، وكانت أولى ترجماته مجموعة مقالات لفلاديمير لينين عن ليف تولستوي صدرت ضمن كراس عن دار أروقة اليمنية. كما نشر ترجمات عدّة مع مواقع صحافية عربية منها مدى مصر، وإضاءات، وذات مصر، وأوان ميديا.