النظام السياسي والأخلاقي للكوليرا
كان لانهيار البنية التحتية في لبنان تأثير كبير على الصحّة العامّة نتيجة انتشار دواخين المولّدات الخاصّة في المناطق المُكتظّة بالسكّان وتهالك شبكة إمدادات المياه. مؤخّراً، ظهرت الكوليرا من جديد وأخذت تتفشّى في العديد من المناطق اللبنانية، وهي من الأوبئة المُعدية التي تنتج عن بكتيريا تشبه الضمّة أو الفاصلة، تسبّب الإسهال الحادّ والتشنّجات والعطش والحمّة ورطوبة الجلد والقيء، وتنتقل عن طريق البراز إلى الفمّ. طبعاً، لن أقدّم وصفاتٍ طبيّة جاهزة عن كيفية إدارة الكوليرا وضبط تفشّيها وحجمه، بل سأفكّر في الطرق التي تعلّمنا سبل استعادة الحياة الجماعية مدفوعين بمخاوفنا من المرض أو الموت.
عندما يتعلّق الأمر بالأمراض المُعدِية، لا سيّما التي تذكّرنا بأوقات بائسة مضت، تُردّد المعزوفة نفسها: "لقد تمّ التغلّب على هذا المرض ذات مرّة، ولكنه يعود الآن بقوّة أكبر". كيف؟ ومن أين؟ لا أحد يقدّم الإجابات. وهو ما يحجب بعض الديناميكيّات النمطيّة التي تشكّل مسارات المرض وطرق انتشاره. من المعروف أنّ التفاوتات الاجتماعية تساهم في ظهور الأمراض المُعدِية، وتشكّل سبل توزّعها، واتجاهاتها وتطوّرها لدى المصابين. لتفشّي الأمراض عوالم وحيوات أخرى لا تفنى، سواء في الطريقة التي تغيّر بها الحياة اليومية، أو في العلامات التي تتركها في المجتمعات المتضرّرة، أو في القلق الذي تولّده تجاه فئات اجتماعية معيّنة وممارساتها. في هذا السياق، يُعدُّ مرض الكوليرا عنصراً أساسياً في رواية غابرييل غارسيا ماركيز الشهيرة "الحبّ في زمن الكوليرا"، التي تسلّط الضوء على مجتمعات أميركا اللاتينية ومدن البحر الكاريبي في القرن التاسع عشر إبّان الحروب الأهلية وتكرار تفشّي الأوبئة، حيث شكّل طاعون الكوليرا قوّة اجتماعية جارفة غيّرت مواقف الناس تجاه الحياة، لدرجة أصبحت أعراضه مساوية لأعراض الحبّ. يقود الدكتور أوربينو، أحد أبطال الرواية، حملة ضدّ الكوليرا عبر فرض قوانين الحجر الصحّي وعادات النظافة الشخصية المتشدّدة، ووضع قيود على السوق الشعبية في المدينة. تتشابه هذه المبادئ التوجيهية في القضاء على الكوليرا مع الطريقة التي ينظر فيها للدكتور أوربينو إلى الحبّ أيضاً بوصفه أحد أشكال الاتصال المُنفصل والمُعقّم الذي لن يزعج أبداً هياكل السلطة المُهيمنة والعلاقات ضمنها. بالنسبة إلى أوربينو، الحبّ الشغوف والمتغيّر هو ببساطة نتيجة خطأ تجريبي.
توضح الكوليرا كيف يلعب العنف البنيوي دوراً رئيسياً في تفشّي الأمراض المعدية. تجبرنا الكوليرا، بطبيعتها، وسيولة ناقلاتها، على إعادة التفكير في طرق مقاومة هذا العنف
غالباً تُربط الثقافات العشوائية وغير المضبوطة للأحياء الشعبية، ومخيّمات اللاجئين، ومدن الصفيح، وأحزمة البؤس، وكذلك فقراء العالم بـ"نتانة" يجب إدارتها وتغطيتها والتعامل معها بشكل عاجل. يكشف بحث سريع عبر الإنترنت عن قائمة البلدان التي تفشّى فيها وباء الكوليرا مؤخراً وهي: الكونغو، وملاوي، وموزمبيق، والصومال، وجنوب السودان، وزامبيا، وأفغانستان، وبنغلاديش، والهند، والعراق، ونيبال، وباكستان، واليمن وسوريا. ألا تُحرّك هذه القائمة المُخيلة قليلاً؟ ألا تثير بعض الأفكار "القاتمة"؟ في الواقع، يشير تكرّر تفشّي مرض الكوليرا إلى سيطرة نظام اقتصادي سياسي أخلاقي عالمي، يشبه إلى حدّ كبير الطريقة التي ضربت بها جائحة كورونا قلب الرأسمالية. غالباً تُحدّد الأمراض المعدّية ويتمّ تعقّب موجات ظهورها واختفائها عبر ترسيم حدود وطنية لها. لكن ماذا لو صغنا مجموعة من الأسئلة الصعبة، وبدلاً من استكشاف الحدود الوطنية للكوليرا، حقّقنا في الحدود الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للوباء؟ وبأي طريقة يمكن أن يؤدّي انعدام المساواة الاجتماعية دوراً مُعدياً فعلياً؟
توضح الكوليرا كيف يلعب العنف البنيوي دوراً رئيسياً في تفشّي الأمراض المُعدية. تجبرنا الكوليرا، بطبيعتها، وسيولة ناقلاتها، على إعادة التفكير في طرق مقاومة هذا العنف - غالباً يرحّب بالتكنولوجيا والعلوم الأساسية كعلاج لجميع أنواع العلل. طبعاً الأمر ليس خاطئاً ولكنّه ليس كافياً. في الواقع، على الرغم من أن الكوليرا قد تسبّب الموت السريع إلا أنّه يمكن علاجها بسهولة تامّة أيضاً. فلماذا إذن يموت الكثير من الناس في جميع أنحاء العالم من عدوى بكتيرية موروثة من ماضي البشرية البائس؟ تنطوي الكوليرا على تأثيرات أكبر وأكثر ضرراً في بعض الأجسام دون غيرها، وقد يؤدي الافتقار إلى البيئات الآمنة والمحمية إلى تحويل الحيّ الذي ترعرع به البعض إلى مكان خطرٍ ومميت، أيضاً قد يؤدّي غياب البنية التحتية العامّة والموثوقة إلى الحدّ من إمكانية الوصول إلى المياه النظيفة، وبالتالي تسهيل انتقال المرض، فأنظمة الرعاية الصحية الخاصّة، الباهظة الثمن وغير المتاحة للجميع، تمنع الوصول إلى الرعاية المناسبة في الوقت المناسب، ما يجعلها قاتلة أيضاً.
قبل بضعة سنوات، كنت أتمشّى مع صديقتي في راس بيروت، وعندما وصلنا إلى شارع بليس لَمَحَتْ رجلاً طويلاً شائباً، يرتدي نظّارات مستديرة، ويشقّ طريقه للخروج من البوابة الرئيسية للجامعة الأميركية في بيروت، فأشارت إليه قائلة: "هل تعرفين من هو؟" وقبل أن أجيب، أضافت: "الطبيب الذي ابتكر أملاح معالجة الجفاف عن طريق الفمّ للتصدّي للكوليرا. وأيضاً أنقذ أرواح ملايين البشر لأنّه رفض تسجيل براءة اختراع لإبداعه". عندما تصيب الكوليرا الأمعاء فإنها تسبّب جفافاً شديداً، وإذا تُرِك من دون علاج فقد يؤدّي إلى عواقب وخيمة. لذلك، تعتبر معالجة الجفاف من أكثر الوسائل فعالية للقضاء على الكوليرا. لكن إلى حين ابتكار علاج الجفاف الفموي، كانت الطريقة الوحيدة لإعادة ترطيب طفل أو بالغ يعاني من الجفاف الشديد هي بإعطائه السوائل عن طريق الوريد. بالنسبة للعديد من الأشخاص في البلدان النامية، يمكن أن تتحوّل الكوليرا (أو أي نوع آخر من أمراض المسبّبة للإسهال الحاد) إلى عقوبة إعدام بسبب تكلفة العلاج الوريدي وتخصّصه وعدم إمكانية الوصول إليه. اكتشفت لاحقاً أن القصّة التي أخبرتني إياها صديقتي لم تكن صحيحة بالكامل، فقد محت عن غير قصد تاريخاً طويلاً من تطوّر علاج الجفاف عن طريق الفم، ومن ضمنه التعاون الطبّي الطويل بين باحثين ومؤسّسات من جميع أنحاء العالم خلال فترات الحروب وفي سياقات مكافحة الفقر والتصدّي للأزمات الكبرى. كان الطبيب الأميركي التي أخبرتني عنه واحداً من بين العديد من الأطباء والممرّضات والطواقم الطبّية والمرضى الذين عملوا للوصول إلى هذا العلاج.
أصبحت معالجة الجفاف عن طريق الفمّ ممارسة طبية فعّالة ومُعترف بها رسمياً منذ أوائل سبعينيات القرن الماضي، خصوصاً بعد أن تعاون الأطباء العاملون في مناطق مختلفة من القارة الأفريقية مع الفرق الطبّية التي قدّمت الإغاثة في جنوب شرق آسيا خلال حرب التحرير البنغلاديشيّة والنضال من أجل الاستقلال، التي أدّت إلى نزوح أكثر من 40 مليون شخص. وصف الطاقم الطبّي الذي عمل في تلك القرى والمخيّمات الأطفال وهم يسبحون في براز آبائهم الملوّث بالكوليرا، ما حال دون التمكّن من إعطائهم الأمصال عبر الأوردة الدموية، وأجبروا بالتالي على التفكير في بدائل عنها بسبب نقص الموارد البشرية والمادية. من هنا، ظهرت تركيبة السكر والأملاح والماء التي يتمّ ارتشافها عبر الفمّ مباشرة. ساهم المرضى والعائلات في تطوير هذا العلاج، وأثبتوا فعاليته من خلال تناول هذه التركيبة بأنفسهم أو إعدادها وإعطائها إلى بعضهم البعض. هكذا، برزت هذه التقنية كنتاج ثانوي للعمل الجماعي في بيئة دمّرتها الحرب، وأكّدت على استحالة حماية العلاجات ببراءات الاختراع.
إذا انتشرت الأمراض المُعدية مثل الكوليرا من دون القدرة على ضبطها، تأتي براءات الإختراع لتمنع إضفاء الطابع الديمقراطي على المعرفة الصيدلانية والتحسينات الرائدة في البحوث الطبية.
في ظل الرأسمالية وشروطها، غالباً يتم التهليل للابتكارات بوصفها اختراعاً لطرق جديدة تسمح باشتقاق المزيد من القيمة من الموارد المهمّة لتأمين الرفاه الاجتماعي والجماعي. في الواقع، تمنح براءات اختراع الأدوية "المُخترع"، وعادةً يكون شركة أدوية، الحقّ الحصري في منع الآخرين من صنع أو استخدام أو بيع أو استيراد منتجه أو استخدام الآليات التي يستند إليها "اختراعه". لذلك، عندما تطوّر شركة أدوية دواءً جديداً لاستخدامه في حالة مرضية فإنها تبيعه كعلامة تجارية مشمولة بحماية براءات الاختراع - ما يعني أن شركة الأدوية تحدّد السعر الذي تريده له، وبالطريقة التي ترغب في تسويقه وتحقيق الربح منه. في معظم البلدان، تصل مدة براءة الاختراع الأساسية إلى 20 سنة منذ تسجيلها. عادةً، وقبل انتهاء صلاحيتها الرئيسية، تجد شركات الأدوية طرقاً للحصول على المزيد من براءات الاختراع لحماية عقاقيرها الناجحة تجارياً، سواء من خلال تغطية العنصر النشط في المكوّن الدوائي، أو الجرعات، أو إخفاء طرق التصنيع، وغيرها من الجوانب التي تسمح بإنتاج الدواء.
بالتالي، إذا انتشرت الأمراض المُعدية مثل الكوليرا من دون القدرة على ضبطها، تأتي براءات الاختراع لتمنع إضفاء الطابع الديمقراطي على المعرفة الصيدلانية والتحسينات الرائدة في البحوث الطبية. وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل عن المستفيدين من المعرفة العلمية، وأسباب استفادتهم منها، فضلاً عن الأسس الأخلاقية والسياسية التي تحوّل التقدّم في المعرفة إلى سلعة مدرجة في علاقات التبادل النقدي الجارية. ألا ينبغي اعتبار أشكال المعرفة المُنقذة للحياة وكذلك البنية التحتية والثروة من المنافع العامة؟
أعود إلى الفكرة التي انطلقت منها، أي دور التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية الراسخ في ظهور الأمراض المعدية وانتشارها. إذا كانت الكوليرا مرضاً يمكن علاجه بسهولة، فمن الممكن أيضاً الوقاية منه بسهولة أكبر. كتب عالم الأنثروبولوجيا المثير للجدل برونو لاتور، في بحث أجراه على أعمال نُشرت خلال حقبة باستور في فرنسا (عندما ظهرت نظرية الجراثيم)، أنه لا يوجد فرق جوهري بين العلوم الإنسانية والاجتماعية والعلوم الطبيعية والدقيقة. يمكن للعلوم الاجتماعية أن تعبّر عن المجتمع وتناقش مشكلاته وتتوصّل إلى حلول لها عبر استخدام الآليات نفسها التي يستخدمها علماء الأحياء الدقيقة عند التعامل مع الجراثيم. أظنني سأستخدم مقولة لاتور كحجّة لتوسيع صلاحيات العلوم الاجتماعية ومسؤولياتها لا العكس.
بالنظر إلى هذه التطوّرات عند التفكير في العلوم بشكل عام، يأتي هذا المقال الخجول كحجّة إضافية للضغط من أجل تشكيل إطار اجتماعي اقتصادي أوسع عند التعامل مع مسائل الصحة والرعاية الصحية، خصوصاً أن ما من مبرّر لإبعاد هذه المواضيع إلى هوامش البحث الاجتماعي والاقتصادي في الخطابات العامة. مع ذلك، لن يحل هذا الإطار الاجتماعي والاقتصادي المهمّ محل الأساليب المُعتمدة من قبل خبراء من تخصّصات مختلفة مهتمين بالأمراض المُشتعبة، بل على العكس، يكمّل هذا الإطار ويعزّز فعالية التقنيات العلمية ومدى وصولها، خصوصاً أن الفهم التاريخي للبنى الاجتماعية والاقتصادية التي يندرج ضمنها المرض هو أمر بالغ الأهمية. في الواقع، يمكن لا بل يجب على الاستقصاء الاقتصادي، بصفته العلم الاجتماعي الرائد والأكثر موثوقية، وأحد أشكال العمل السياسي، أن يساهم في تشكيل السياسات الصحية وسبل تحسين رفاهيتنا.