
الرأسمالية والاقتصاد السياسي للنوم
- مراجعة لكتاب المؤرخ روجر إكيرش، «التحوّل العظيم في النوم: كيف غيّرت الثورة الصناعية ليالينا»، الذي يكشف أن وباء الأرق اليوم ليس خللاً فردياً، بل نتيجة هيكلية لنمط إنتاج يعبث بإيقاعاتنا الطبيعية ثم يبيعنا الراحة التي سلبها. وبحسب إكيرش فإن النوم المتواصل لثماني ساعات ليس تقليداً قديماً، بل نتاج الثورة الصناعية التي حوّلت الليل إلى زمن إنتاج واستهلاك وفرضت الانضباط الزمني على البشر، بعدما كان النوم سابقاً مجزأ. فمع صعود الرأسمالية ارتبط النوم المتقطع بالكسل والفقر، فيما تحوّل النوم نفسه إلى سلعة تُسوَّق عبر الأدوية والأجهزة وسياحة النوم وقد وصل اقتصاد النوم حالياً إلى أن نحو 600 مليار دولار.
تحت ثقل الواقع، دائماً يُخيل للإنسان، أن الحاضر الذي تحكمه الرأسمالية في جميع مناحيه، كأنه ترتيب عفوي لنظام الأشياء. لكن مع البحث البسيط يتكشف للمرء أن غالبية أشكال الاجتماع البشري السائدة اليوم، ليست إلا تجلٍ لنظام اقتصادي وفكري حديث النشأة والعمر في مسار البشرية الطويل. تظهر هذه المفارقة بوضوح، وكأنها بداهة، في كتاب المؤرخ روجر إكيرش، «التحوّل العظيم في النوم: كيف غيّرت الثورة الصناعية ليالينا»، الذي يقارب تاريخ النوم بين عصرين، ما قبل الرأسمالية وما بعدها، مبدِّداً كثيراً من الأوهام عما نعرفه عن النوم، وأشكاله، وكيف كان، وكيف أصبح، وكيف تأثر بالتحوّل الجذري في نمط الإنتاج.
في البداية كان إكيرش مهتماً بتاريخ الليل، لكن مطالعته الطويلة لسجّلات المحاكم وعقود الزواج ووثائق الكنائس واليوميات والأدلة الطبية والأدب، جعلته يكتشف أن نومنا المعاصر المتواصل لثماني ساعات لم يكن إلا وليد نمط عيشنا الحالي، وليس جزءاً من تقاليد البشر الطويلة في النوم منذ عصور ما قبل التاريخ حتى منتصف القرن التاسع عشر. لذلك إذا وجدت نفسك يوماً مستيقظاً في الثانية صباحاً، فلا تلجأ إلى الأدوية أو تُصاب بالذعر. ربما ببساطة تمر بنمط طبيعي قديم مُتأصل بيولوجياً فيك. يعتقد إكيرش أن نوم البشر قبل منتصف القرن التاسع عشر، كان مجزأً، حيث ينامون أولاً عند الغسق بسبب قلة الإضاءة، ثم يستيقظون لساعة أو ساعتين، ثم يغرقون في نومٍ ثانٍ، وهكذا يظل نومهم على فترات طوال اليوم. لكن الثورة الصناعية التي نقلت نمط الإنتاج كماً ونوعاً إلى مستوى غير مسبوق، وتحول طبيعة العمل والتطور التقني، دفعوا البشر إلى تغيير نمط نومهم والتأقلم مع نمط جديد.
مع صعود الرأسمالية الصناعية أصبحت الساعة هي المُنظِّم العالمي للعمل. واحتاج أصحاب المصانع إلى وصول العمال في وقت محدد، والعمل لفترات محددة، فأصبح الوقت سلعة
يتتبّع الباحث في أرشيفات ومصادر متقاطعة ظاهرة النوم المجزأ، التي تظهر لها شواهد في ملحمة هوميروس وفي روايات القرن التاسع عشر، مثل رواية «بارنابي رادج: حكاية من شغب الثمانين» لتشارلز ديكنز، وفي أشهر كتب العصر الأوروبي الوسيط «حكايات كانتربري»، التي ألفها الشاعر جيفري تشوسر. وتوسيعاً لأفق البحث يؤكد إكيرش أن هذا النوع من النوم لم يكن حكراً على بريطانيا أو العالم الغربي، بل كان منتشراً على نطاق واسع في جميع أنحاء العالم ما قبل الصناعي. حيث وجد أدلة على هذه العادة في أماكن بعيدة مثل أفريقيا وجنوب شرق آسيا وأستراليا وأميركا الجنوبية والشرق الأوسط. وبين النوم الأول والثاني كان الناس ينخرطون في الصلاة والتأمل والكتابة والمحادثة، أو حتى في العلاقة الحميمة. بل إن بعض النصوص الطبية، التي تعود للقرن السادس عشر، كانت تنصح الأزواج بممارسة العلاقة بين النومين لأن ذلك يسهلّ الحمل، حسب زعمها. وبالنسبة إلى الفلاحين، كان الاستيقاظ يعني الخروج لتفقد الحيوانات أو القيام بالأعمال المنزلية، مثل ترقيع الملابس أو تمشيط الصوف أو تقشير القصب، لأن النهار كان مخصّصاً بالكامل للعمل في الحقل. واللافت أنه لم يكن هناك جزع عند الناس - بحسب إكيرش - من فكرة العودة للنوم بعد الاستراحة، ولا من شبح أن يطير النوم من جفونهم. وعلى الرغم من أن الباحث لم يتهم كثيراً بالأدبيات غير الغربية في إثبات نظيرته، إلا أن المصادر العربية تحفل بوصف لممارسات النوم على شوطين، لاسيما ما بعد بداية التدوين في العصر الأموي وصولاً إلى العصر العثماني، فضلاً عن الأدبيات الدينية، عن النوم المجزأً، وخصوصاً للصلاة.
لكن مع نهاية القرن السابع عشر بدأنا نشهد تحولاً تدريجياً من نمط النوم المجزأ إلى النوم المتواصل. فقد أدّت الثورة الصناعة دوراً أساسياً في هذا التحوّل. أولاً من خلال تأخير وقت النوم منذ الغسق إلى الربع الأول من الليل، بسبب تطوّر الإضاءة. فقد تحوّل الليل، الذي كان مرتبطاً في السابق بالخطر وسوء السمعة، إلى مساحة للتجارة والترفيه والإنتاج، من خلال ظهور المقاهي وتحسين الإضاءة العمومية في المدن الأوروبية الكبرى. ففي مدن مثل لندن وباريس، اُستغلت شبكات الغاز، وشبكات الكهرباء لاحقاً، لإدخال الليل في مدار التراكم، ما أدّى إلى إطالة ساعات الإنتاج والاستهلاك.
في المقابل، خلقت الرأسمالية الصناعية الناشئة انضباطاً زمنياً جديداً في نمط العمل. وهنا يستند روجر إكيرش إلى العمل المرجعي لإدوارد بالمر تومبسون «الوقت وانضباط العمل والرأسمالية الصناعية» (1967)، الذي يجادل بأن الرأسمالية الصناعية لم تخلق آلات أو مصانع جديدة فحسب، بل وعياً جديداً بالوقت. ففي المجتمعات الزراعية والحرفية ما قبل الصناعية، كان الوقت مرتبطاً بالمهام. فقد كان الناس يعملون وفقاً لإيقاعات طبيعية مثل ضوء النهار أو الفصول أو إنجاز وظائف محددة. وكان يُنظر إلى الوقت على أنه سلس ومرن، متأصلاً في السياقات الاجتماعية والطبيعية. لكن مع صعود الرأسمالية الصناعية، استُبدلت هذه العلاقة العضوية مع الوقت بالوقت الميكانيكي. حيث أصبحت الساعة هي المُنظِّم العالمي للعمل. واحتاج أصحاب المصانع إلى وصول العمال في وقت محدد، والعمل لفترات محددة، فأصبح الوقت سلعة. ويُوسّع إكيرش نطاق جدلية تومبسون ليشمل الليل. حيث يتطلب يوم العمل الصناعي وقت انطلاق دقيق وانتباهاً مستمراً، فأصبح النوم المتقطع مُزعجاً، بل وخطيراً، للعامل المعاصر.
أدّت جداول العمل الشاقة والإرهاق والأمسيات الطويلة تحت الضوء الساطع إلى ظهور «صحة النوم»، ما فتح أسواقاً خصبة للعلاجات والأدوية والعيادات الطبية، ليصبح النوم نفسه سلعة
وقد أدّت البرجوازية الأوروبية دوراً ثقافياً مؤثراً في ترويج ثقافة النوم الجديدة. مستندةً إلى تحالف مع الأطباء، الذين صوّروا النوم المتواصل على أنه أساسي للكفاءة الصحية والإنتاجية. وأصبحت الراحة نفسها أداةً تُنظّمها احتياجات الإنتاج بدلاً من إيقاعات الجسم الطبيعية. وينقل إكيرش، أن إحدى المجلات الطبية البارزة، الصادرة في العام 1829، وبخت الآباء لسماحهم لأطفالهم بأخذ قيلولة ثانية، واصفة ذلك بالإفراط في النوم. وظهرت في العصر الفيكتوري موجة كتيبات المساعدة الذاتية والإرشادات المنزلية التي تصف عادات النوم الجيدة. لم تكن هذه القواعد محايدة. بل عكست مُثُل الطبقات البرجوازية والوسطى، وهي ترفٌ افتقرت إليه الكثير من عائلات الطبقة العاملة. حيث أصبح النوم المتواصل لمدة 8 ساعات مؤشراً على الاحترام، بينما ارتبطت الأنماط غير المنتظمة أو المتقطعة بالرذيلة أو الفقر أو الضعف الأخلاقي. وبحلول منتصف القرن التاسع عشر، أصبح الأرق مشكلة طبية متكررة. فقد أدّت جداول العمل الشاقة والإرهاق والأمسيات الطويلة تحت الضوء الساطع إلى ظهور «صحة النوم»، ما فتح أسواقاً خصبة للعلاجات والأدوية والعيادات الطبية، ليصبح النوم نفسه سلعة. فقد وعدت الأدوية الحاصلة على براءات اختراع بليالٍ هانئة وأعصاب سليمة. واليوم تناهز قيمة اقتصاد النوم العالمي حوالي 600 مليار دولار، مع الترويج الواسع للأجهزة القابلة للارتداء عالية التقنية، ومراتب مراقبة النوم، والبطانيات المرجحة، والميلاتونين، والمغنيسيوم، وشاي النوم، وشريط النوم، والتنويم المغناطيسي، وأقنعة النوم، ومخاريط الأنف، وغيرها من منتجات تحسين النوم. كما بدأت سياحة النوم، التي تتعلق بتوفير تجربة سفر يكون تحسين النوم جوهرها، في الرواج. وقد قُدِّر حجم سوقها العالمي بنحو 74.54 مليار دولار في العام 2024، ومن المتوقع أن يصل إلى 148.98 مليار دولار بحلول العام 2030. وهنا يظهر جلياً كيف يعيد المستهلكون شراء النوم الذي سلبتهم إياه الرأسمالية.
يعتقد إكيرش - مستنداً إلى أبحاث طبية - أن الوقت المستقطع المفقود بين النومين كان يؤدي وظيفة نفسية حيوية، تمنح البشر استراحة هادئة للتأمل، وتنظيم المشاعر، كسرها نمط الحياة المعاصرة، والاستلاب الذي يعانيه الإنسان اليوم. وعلى الرغم من أن هذا الاعتقاد يحتاج بحثاً أعمق من البحث التاريخي، يتعلق بالطب وعلوم الأعصاب وعلم النفس، إلا أن عمل روجر إكيرش، عن كيف غيّرت الثورة الصناعية ليالينا، يساعدنا على رؤية أن وباء الأرق، الذي غرق فيه الإنسان المعاصر، ليس مجرد اضطرابات فردية ولكنه نتيجة هيكلية لنمط الإنتاج المهيمن، الذي لا يكتفي بالعبث بالساعة البيولوجية للفرد، بل يحمله عبء المشكلة، فيدفعه لشراء وسادة أفضل، أو تحميل تطبيق للتأمل الذهني، أو طلب وصفة طبية. فإضفاء طابع طبي على النوم يُضفي طابعاً فردياً على ما هو في جوهره اضطراب جماعي. فليالينا تُنظمها أنظمة تستخلص اليوم قيمة اقتصادية من الراحة نفسها التي عطّلتها.