معاينة federal US

حذارِ من استقلالية المصارف المركزية

  • يُفترض باستقلالية البنوك المركزية أن تُحسّن نوعية السياسة النقدية وأثرها في النمو والإنصاف، لكنّها، في الواقع، خدمت أساساً المصالح المالية النافذة، بسياسات انكماشية وتراجعية أفضت إلى نمو متفاوت وأبطأ.
  • بارتفاع البطالة، يزداد خطر فقدان العمال الفقراء وظائفهم. وفي مثل هذه الظروف تجني المصارف أرباحاً وفيرة، نتيجة ازدياد الإقراض وارتفاع أسعاره.

جدَّدت هجمات الرئيس الأميركي دونالد ترامب اللاذعة على رئيس بنك الاحتياطي الفدرالي، جيروم باول، الدعوات إلى استقلالية المصرف المركزي التي طالما استغلّتها القوى المالية النافذة ضدّ النمو والعدالة.

يُفترض باستقلالية البنوك المركزية أن تُحسّن نوعية السياسة النقدية وأثرها في النمو والإنصاف، لكنّها، في الواقع، خدمت أساساً المصالح المالية النافذة، بسياسات انكماشية وتراجعية أفضت إلى نمو متفاوت وأبطأ.

مستقلة عمَّن؟

أُنشئت المصارف المركزية لتحديد السياسة النقدية وصياغة الشروط المالية لتحقيق الأهداف الاقتصادية الوطنية.

في العقود الأخيرة ترسّخ عرفٌ سياساتي جديد: إسناد السياسة النقدية إلى مصارف مركزية مستقلة. فخضعت بهذا لتأثير المصالح المالية النافذة، وفي البلدان النامية الصغيرة المنفتحة كانت في أغلب الأحيان مصالح أجنبية.

وفي خلال نصف القرن المنصرم غيّرت حكومات كثيرة قوانينها، بضغطٍ من المؤسسات المالية الدولية، لتشريع استقلال المصارف المركزية عن الحكومات القائمة، ولا سيما السلطتين التنفيذية والتشريعية.

ساوَت معظم المصارف المركزية بين الاستقرار المالي واستقرار الأسعار، إذ صار «استهداف التضخّم» هوساً سياساتياً

وبالتوازي، ساوَت معظم المصارف المركزية بين الاستقرار المالي واستقرار الأسعار، إذ صار «استهداف التضخّم» هوساً سياساتياً.

حين يرتفع التضخّم، ترفع المصارف المركزية أسعار الفائدة، فينكمش النشاط الاقتصادي. لكنّ بعض المصارف في الاقتصادات المنفتحة (وخصوصاً المرتبطة عملاتها بعملات دولية كبرى) تستهدف سعر الصرف.

وبالتالي، يفاقم خفض التضخّم بالوسائل التقليدية الضغوط الانكماشية. وتواجه حكوماتٌ كثيرة اليوم شبح «الركود التضخّمي»، أي الجمع بين الانكماش والتضخّم. تدرك المصارف المركزية هذه المفاضلة بين هبوط النمو وهبوط التضخّم.

وبما أنّ إدارة سعر الفائدة أداتها الأساسية، فقد ترفع الفائدة استباقاً للتضخّم على الرغم من ما يجرّه ذلك من آثار سلبية على النمو والدخل والتوظيف.

لقد خفضت هذه السياسات الانكماشية الأجور وقللت الوظائف في العالم أجمع. ولم يشذّ عن هذا إلا قلةٌ من الاقتصادات المتقدمة الكبرى أعطت الأولوية للنمو أو التوظيف.

والمفارقة أنّ انتهاء نظام «بريتون وودز» لأسعار الصرف الثابتة، والثورة المضادة على الكينزية منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، جعلا تشديد ميلتون فريدمان النقدي على استهداف عرض النقود بلا أهمية أو صلة بالواقع. 

تفاقم الإجحاف

تستجيب المصارف المركزية في العالم للتضخّم، أو تتوقّعه، برفع أسعار الفائدة لكبحه.

بيد أنّ «استهداف التضخّم» يخلّف أضراراً جسيمة جانبية، تتمثّل عادةً في خفض النمو والدخل والتوظيف. وتتعرّض دخول الأسر الفقيرة للهبوط أكثر، ولا سيما مع تحييد العمالة بالتطورات التقنية كالميكنة والأتمتة وتطبيقات الذكاء الاصطناعي.

يتمتع الاحتياطي الفدرالي الأميركي بتأثير قويّ على المصارف المركزية في العالم. فمنذ 2023 أضرّت زياداته في الفائدة، استجابةً لضغوط تضخمية طفيفة، بالبلدان النامية ولا سيما البلدان الأفقر

وبارتفاع البطالة، يزداد خطر فقدان العمال الفقراء وظائفهم، لتقع الأذية الأشدّ على الأسر الأفقر. وفي مثل هذه الظروف تجني المصارف أرباحاً وفيرة، على الرغم من تدهور أحوال معظم الناس.

فمع ارتفاع أسعار الإقراض، تجني المصارف فوائد أكبر، إذ لا تزداد أسعار الاقتراض بالتوازي. ويستشهد ماكس لوسون بدراسة لصندوق النقد الدولي تؤكّد أنّ الآثار السلبية لرفع الفائدة «لا يعوّضها أي أثر إيجابي لانخفاضها».

يتمتع الاحتياطي الفدرالي الأميركي بتأثير قويّ على المصارف المركزية في العالم. فمنذ 2023 أضرّت زياداته في الفائدة، استجابةً لضغوط تضخمية طفيفة، بالبلدان النامية ولا سيما البلدان الأفقر.

وإذ تراكمت على شركات وحكومات الجنوب العالمي ديونٌ مقوَّمة بالدولار، رفعت مصارفها المركزية أسعار الفائدة لتجنب خروج الرساميل.

التيسير الكمي

يعني مصطلح «التيسير الكمّي» تدخّل المصرف المركزي في السوق عبر شراء الأصول المالية. جاءت هذه التدخلات لصعوبة خفض الفائدة إلى ما دون الصفر لإحياء الاقتصاد. بدا التيسير الكمي حلاً مناسباً.

حين يرفع المصرف المركزي الفائدة، تحصل المصارف التجارية على عائد أعلى على ودائعها لديه. فتنال بذلك مدفوعات فائدة إضافية كبيرة، خالية من المخاطر.

تستهدف برامج التيسير الكمي رفع أسعار الأصول. يشتري المركزي ديوناً حكومية وغيرها من الأصول المالية، فيحفّز المستثمرين في القطاع الخاص على اقتناء أصولٍ أشدّ مخاطرة. لا تزال ديون الحكومة الأميركية أهم أصلٍ مالي في النظام النقدي الدولي.

بهذا يحاول التيسير الكمي تحفيز النمو، مع افتراض استمرار السياسات الانكماشية في «تهذيب» التضخّم. قُدِّم ذلك على أنه حذرٌ رشيد حين كانت معدلات التضخّم دون الهدف رغم اقتراب الفائدة من الصفر.

ترفع تدخلات التيسير الكمي أسعار الأصول، فتُغني مالكيها، وخصوصاً الأثرياء منهم لوفرة حيازاتهم. فمع صعود الأسعار ترتفع قيمتها. وهكذا تُغني هذه التدخلات الغني

اعتمدت كبريات المصارف المركزية الغربية هذا الحل بعد أزمة 2008–2009 المالية. وزادت عدة حكومات إنفاقاتها لمواجهة جائحة كوفيد-19 منذ 2020.

استهدفت هذه الجهود كسر دوّامة هبوط أسعار الأصول. وفي الولايات المتحدة شمل تدخّل الاحتياطي الفدرالي «إعادة توازن المحافظ». إذ اشترى ما يفوق 600 مليار دولار من سندات الخزانة ونحو 300 مليار دولار من أوراقٍ مالية مدعومة بالرهن العقاري.

الحال أنّ قلة قليلة في كل مجتمع تتركّز الثروة في يديها. يُظهر بحث جوردي بوش امتلاك أعلى 10% ثروةً تعادل 11 ضعف ثروة النصف الأدنى في منطقة اليورو، أما الخُمس الأدنى فديونه تفوق أصوله.

ترفع تدخلات التيسير الكمي أسعار الأصول، فتُغني مالكيها، وخصوصاً الأثرياء منهم لوفرة حيازاتهم. فمع صعود الأسعار ترتفع قيمتها. وهكذا تُغني هذه التدخلات الغني.

وأمام تحديات اللحظة الراهنة، لا ينبغي لنا القفز من المقلاة إلى النار التي أوقدتها استقلالية المصارف المركزية.

نُشِر هذا المقال في 23 أيلول/سبتمبر 2025 في Inter Press Service، وترجم إلى العربية ونشر في موقع «صفر» بموافقة مسبقة من الكاتب.

    علاء بريك هنيدي

    مترجم، حاصل على ماجستير في المحاسبة، وشارك في تأسيس صحيفة المتلمِّس. صدر له ترجمة كتاب ديفيد هارفي «مدخل إلى رأس المال» عن دار فواصل السورية، وكتاب جوزيف ضاهر «الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني» عن دار صفصافة المصرية، وكتاب بيتر درَكر «الابتكار وريادك الأعمال» عن دار رف السعودية، وكانت أولى ترجماته مجموعة مقالات لفلاديمير لينين عن ليف تولستوي صدرت ضمن كراس عن دار أروقة اليمنية. كما نشر ترجمات عدّة مع مواقع صحافية عربية منها مدى مصر، وإضاءات، وذات مصر، وأوان ميديا.