مقاومة المضادات الحيوية في شرق المتوسط قد تقتل 18 مليون إنسان في ربع قرن
تكشف دراسة نشرتها مجلة «ذا لانسيت» العلمية ان منطقة شرق المتوسط باتت تمثّل بؤرة خطيرة لانتشار ميكروبات مقاومة للمضادات الحيوية، فالافراط في تناول الادوية المضادة للالتهابات والفوضى الشائعة في تجارة الدواء وتدهور الانظمة الصحية بسبب تراجع دور الدولة وسياسات التقشّف القاسية… تؤدّي الى توطّن ميكروبات لا تستجيب للأدوية التي كانت تشفيها سابقاً، ما يحوّل العدوى الروتينية إلى أمراض طويلة الأمد، ويزيد خطر تسمّم الدم والوفاة، ويرفع التكاليف على الأسر والأنظمة الصحّية.
وتتوقع هذه الدراسة ان يتفاقم هذا الخطر بسرعة كبيرة في ربع القرن المقبل (2025-2050)، ليرتفع عدد الوفيات المنسوبة مباشرة الى مقاومة المضادات الحيوية او المرتبطة بها من 472 الف وفاة مسجّلة في عام 2021 الى 939 الف وفاة محتملة في عام 2050، منها 187 الف وفاة منسوبة مباشرة الى الميكروبات المقاومة بالمقارنة مع 92 الفا و800 وفاة في عام 2021، بالاضافة الى 752 الف وفاة مرتبطة بهذه الميكروبات بالمقارنة مع 380 الف وفاة في عام 2021. ووفق هذا السيناريو المقلق، سيواجه نحو 18.8 مليون انسان في شرق المتوسط خطر الموت في غضون السنوات الـ25 المقبلة.
تتناول الدراسة عبء المقاومة للمضادات الحيوية في 22 دولة من إقليم شرق المتوسط، التي تضم جميع الدول العربية بالاضافة الى ايران وباكستان وافغانستان، وتحلل البيانات المتاحة للفترة بين عامي 1990 و2021. وتبيّن هذه الدراسة كيف أصبحت مقاومة المضادات الحيوية عبئاً ثقيلاً يتركّز ضرره في البلدان الأضعف صحياً. كما ينتقل مركز الثقل في هذا العبء تدريجياً من الأطفال إلى فئة كبار السن. ويضع هذه البلدان أمام تحدٍ هائل لتعبئة التمويل والرقابة والتنفيذ القادر على كبح منحنى الوفيات والاستثمار في عكس اتجاهه.
1- الخسائر اليوم مرتفعة وستكون غداً أكثر ارتفاعاً
تقيس الدراسة عبء البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية بطريقتين متكاملتين: الوفيات المنسوبة مباشرة إلى المقاومة، أي تلك التي كان يمكن تجنّبها لو كانت العدوى قابلة للعلاج. والوفيات المرتبطة بالمقاومة، أي تلك التي كان يمكن تجنّبها لو لم تحدث العدوى أصلاً.
منذ العام 1990 ارتفعت الوفيات المنسوبة بنحو 11%، بينما ظلّت الوفيات المرتبطة ثابتة على مستوى مرتفع. تشير التوقّعات إلى أنّ الوفيات السنوية ستتضاعف بحلول العام 2050 (+93% للوفيّات المنسوبة و+90% للوفيّات المرتبطة)، أي أنّ العبء الكبير اليوم سيتحوّل إلى عبء هائل في جيلٍ واحد.
تجسّد أنماط الدول هذه الاتجاهات بوضوح. ففي العام 2021، بلغ عدد الوفيات المنسوبة لكل 100,000 نسمة نحو 29 في مصر، و25 في باكستان، و14 في لبنان، بينما كانت الكويت الأدنى بنحو 6. وعلى الرغم من اعتراف دول المنطقة رسمياً بمقاومة الميكروبات كتهديدٍ صحي منذ 2015، فإن الأنظمة الصحية التي أنهكها التقشّف والحروب لم تتمكّن من التحرّك على نطاقٍ واسع، وهو ما تعكسه الزيادة المستمرّة في منحنى الوفيات المنسوبة والتوقّعات الحادّة للسنوات المقبلة.
ثانياً، الأفقر يدفعون الثمن الأعلى
تتضاعف الوفيات الناجمة عن المقاومة في الدول الهشّة، إذ تُظهر البيانات ارتباطاً عكسياً قوياً بين مستوى التنمية الاجتماعية والديموغرافية ومعدّل وفيات مقاومة الميكروبات. بمعنى آخر، كلما ارتفعت التنمية انخفضت وفيات المقاومة للمضادات الحيوية. في العام 2021، سجّلت الدول منخفضة الدخل أعلى المعدلات، حيث بلغت في الصومال نحو 62 وفاة منسوبة لكل 100,000 نسمة. أمّا في الدول متوسطة الدخل فكانت المعدلات تتراوح بين 29 وفاة في مصر، و25 في الأردن وباكستان، و15 وفاة في العراق، و14 في لبنان. في المقابل، كانت المعدلات في دول مجلس التعاون الخليجي الغنيّة أدنى بكثير بمتوسط يقارب 9.7 وفيّات لكل 100,000 نسمة.
تفاقم النزاعات طويلة الأمد جميع عوامل المقاومة، من تدهور خدمات المياه والصرف الصحي إلى إنهاك المستشفيات وفوضى صرف المضادات الحيوية. تصف الدراسة «الظروف الاجتماعية والاقتصادية القاسية، بما فيها الحروب والصراعات» كعوامل جوهرية تضع الأنظمة الصحية تحت الضغط وترفع معدلات العدوى، وهي البيئات التي تنتشر فيها الميكروبات المقاومة بأسرع وتيرة. في اليمن، أدّت الانهيارات المتكرّرة للنظام الصحي ونقص المستلزمات إلى ترسيخ العدوى المكتسبة في المستشفيات؛ وفي سوريا، أضعفت سنوات الدمار وهجرة الكوادر منظومات الرقابة؛ أمّا في الصومال فرافقت الاضطرابات المزمنة أعلى معدلات الوفيات المنسوبة في الإقليم، ما يُظهر كيف تُغذّي الحروب وانهيار أنظمة الصحّة العامة نمو البكتيريا القاتلة المقاومة للعلاج.
ثالثاً، انتقال عبء العدوى من الأطفال إلى كبار السن
في أنحاء الإقليم تغيّر التوزيع العمري للعبء جذرياً: بين 1990 و2021 انخفضت الوفيات بين الأطفال دون الخامسة بنحو 50%، بينما ارتفعت بين من تجاوزوا السبعين بنحو 85–100%. عملياً، يتركز العبء اليوم لدى كبار السن المصابين بأمراض مزمنة والمعرّضين للاستشفاء بشكل متكرّر، ما يرفع خطر التعرّض للبكتيريا المقاومة.
يعود هذا التحوّل جزئياً إلى شيخوخة السكان، لكنه ليس السبب الوحيد. يدفع ضُعف الوصول إلى خدمات فعّالة الناس إلى تأخير العلاج أو التداوي الذاتي أو اللجوء إلى صيدليات غير منظّمة. لا تزال المضادات تُباع من دون وصفة طبيّة في بلدانٍ عدّة، ما يؤدّي إلى الإفراط وسوء الاستخدام في منتصف العمر، لتظهر المقاومة للمضادات بقوة في المراحل المتأخّرة من الحياة.
رابعاً، الخطط من دون تمويل ولا رقابة لا تُنقذ الأرواح
تعترف معظم دول الإقليم بمشكلة الجراثيم المقاومة للمضادات الحيوية، لكن التنفيذ يبقى متأخّرا. منذ العام 2015، وضعت أغلب البلدان خططاً وطنية لمكافحة المقاومة للمضادات، إلا أنّ القليل منها مموّل بالكامل أو يُنفَّذ تحت رقابةٍ رسميّة. حيثما فُعّلت الخطط ومُوّلت، كانت الوفيات أدنى بكثير؛ وحيثما لم تكن كذلك، بقيت مرتفعة. ويعكس هذا التفاوت مستويات التنمية بدقّة: دول مجلس التعاون ذات الوفيات المنسوبة المنخفضة هي التي نفّذت خططها بفعالية.
في قطر والكويت، حيث تُنظَّم مبيعات المضادات وتُموَّل برامج الرقابة وتُراجع المستشفيات بانتظام، لا تتجاوز المعدلات 8 و6 لكل 100,000 نسمة. في المقابل، تسجّل مصر (≈29) والأردن (≈25) وباكستان (≈25) والعراق (≈15) ولبنان (≈14) معدلات أعلى بسبب ضعف التمويل، وتغطية المراقبة المحدودة، والرقابة المتساهلة على بيع الأدوية. أمّا في بلدان النزاع مثل الصومال (≈62) واليمن، فتعوق البنية التحتية المدمّرة وفقدان الكوادر واضطراب الإمدادات أيّ تنفيذٍ فعلي للخطط.
خامسا، سدّ هذه الفجوة يتطلّب تحويل الخطط إلى تدخلات ملموسة
الأولويات واضحة وقابلة للقياس: تمويلٌ محصّن ضدّ الاقتطاعات، تعزيز القدرات المخبرية الوطنية مع ضمان الجودة الخارجية، فرض معايير إلزامية للرقابة ومكافحة العدوى في المستشفيات مرتبطة بالاعتماد، تطبيق مبدأ «صرف المضاد بوصفةٍ طبية فقط» مع تفتيش الصيدليات، نشر تقارير دورية عن مقاومة البكتيريا واستهلاك المضادات، توسيع حملات التطعيم، وضبط استخدام المضادات في الزراعة.
إنّ مقاومة المضادات الحيوية ليست مجرّد أزمة دوائية، بل هي مرآةٌ لانعدام المساواة في التنمية والإدارة الصحيّة. إذا لم تُعالَج هذه المشكلة اليوم بجدّية وتمويلٍ كافٍ، فسوف تتحوّل مع حلول منتصف القرن من العبء الخفيّ إلى وباءٍ متفشّي يودي بحياة نحو 18 مليون إنسان في شرق المتوسط وحده.